١٤٦

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ ...}.

وهذا استثناء من اللّه جل ثناؤه، استثنى التائبين من نفاقهم إذا أصلحوا وأخلصوا الدين لله وحده وتبرّءوا من الاَلهة والأنداد، وصدّقوا رسوله، أن يكونوا مع المصرّين على نفاقهم، حتى يوفيهم مناياهم فِي الاَخرة، وأن يدخلوا مداخلهم من جهنم. بل وعدهم جل ثناؤه أن يُحلهم مع المؤمنين محلّ الكرامة، ويسكنهم معهم مساكنهم في الجنة، ووعدهم من الجزاء على توبتهم الجزيل من العطاء،

فقال: {وَسَوْفَ يُؤْتِي اللّه المُؤمِنِينَ أجْرا عَظِيما}.

فتأويل الاَية: {إلاّ الّذِينَ تَابُوا} أي راجعوا الحقّ، وأبوا إلا الإقرار بوحدانية اللّه وتصديق رسوله وما جاء به من عند ربه، من نفاقهم. {وأَصْلَحُوا}: يعني وأصلحوا أعمالهم، فعملوا بما أمرهم اللّه به وأدّوا فرائضه، وانتهوا عما نهاهم عنه وانزجروا عن معاصيه. {واعْتَصمُوا بالله}

يقول: وتمسكوا بعهد اللّه . وقد دللنا فيما مضى قبل، على أن الاعتصام: التمسك والتعلق، فالاعتصام بالله: التمسك بعهده وميثاقه الذي عهد في كتابه إلى خلقه من طاعته وترك معصيته. {وأخْلَصوا دِينَهُمْ لِلّهِ}

يقول: وأخلصوا طاعتهم وأعمالهم التي يعملونها لله، فأرادوه بها، ولم يعملوها رئاء الناس ولا على شكّ منهم في دينهم وامتراء منهم، في أن اللّه محصٍ عليهم ما عملوا، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته¹ ولكنهم عملوها على يقين منهم في ثواب المحسن على إحسانه وجزاء المسيء على إساءته، أو يتفضل عليه ربه فيعفو، متقرّبين بها إلى اللّه مريدين بها وجه اللّه ¹ فذلك معنى إخلاصهم لله دينهم. ثم قال جلّ ثناؤه: {فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ}

يقول: فهؤلاء الذين وصف صفتهم من المنافقين بعد توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم باللّه وإخلاصهم له مع المؤمنين في الجنة، لا مع المنافقين الذي ماتوا على نفاقهم، الذي أوعدهم الدّرْكَ الأسفل من النار. ثم قال: {وَسَوْفَ يُؤْتِي اللّه المُؤْمِنِينَ أجْرا عَظِيما}

يقول: وسوف يعطي اللّه هؤلاء الذين هذه صفتهم على توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم باللّه وإخلاصهم دينهم له على إيمانهم، ثوابا عظيما، وذلك درجات في الجنة، كما أعطى الذين ماتوا على النفاق منازل في النار، وهي السفلى منها¹ لأن اللّه جل ثناؤه وعد عباده المؤمنين أن يؤتيهم على إيمانهم ذلك، كما أوعد المنافقين على نفاقهم ما ذكر في كتابه. وهذا القول، هو معنى قول حذيفة بن اليمان الذي:

٨٥٤٤ـ حدثنا به ابن حميد وابن وكيع، قالا: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال حذيفة: ليدخلنّ الجنة قوم كانوا منافقين! فقال عبد اللّه : وما علمك بذلك؟ فغضب حذيفة، ثم قام فتنحّى. فلما تفرّقوا مرّ به علقمة فدعاه،

فقال: أما إنّ صاحبك يعلم الذي قلت! ثم قرأ {إلاّ الّذِينَ تابُوا وأصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا باللّه وأخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤتِي اللّه المُؤمِنِينَ أجْرا عَظِيما}.

﴿ ١٤٦