١٤٨

القول في تأويل قوله تعالى: {لاّ يُحِبّ اللّه الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّه سَمِيعاً عَلِيماً }.

اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار بضمّ الظاء.

وقرأه بعضهم: (إلاّ مَنْ ظَلَمَ) بفتح الظاء. ثم اختلف الذين قرءوا ذلك بضمّ الظاء في تأويله

فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحب اللّه تعالى ذكره أنيجهر أحدنا بالدعاء على أحد، وذلك عندهم هو الجهر بالسوء إلاّ مَنْ ظُلِم

يقول: إلا من ظُبم فيدعو على ظالمه، فإن اللّه جل ثناؤه لا يكره له ذلك، لأنه قد رخص له في ذلك. ذكر مَن قال ذلك:

٨٥٤٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: لا يُحبّ اللّه الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ

يقول: لا يحبّ اللّه أنيدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظَلَمَه، وذلك قوله: إلاّ مَنْ ظُلِمَ وإن صبر فهو خير له.

٨٥٤٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: لا يُحِبّ اللّه الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلَمَ فإنه يحبّ الجهر بالسوء من القول.

٨٥٤٨ـ حدثنا بشر ين معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لايُحِبّ اللّه الجِهْرَ بالسّوءِ منَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ وكانَ اللّه سَمِعَا عَليما عذر اللّه المظلوم كما تسمعون أن يدعو.

٨٥٤٩ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا أبو عبيد، قال: ثناهشيم، عن يونس، عن الحسن، قال: هو الرجل يظلم الرجل، فلا يدْعُ عليه، ولكن ليقل: اللهمّ أعنيعليه اللهمّ استخرج لي حقي اللهمّ حل بينه وبين ما يريد ونحوه من الدعاء.

ف (مَنْ) على قول ابن عباس هذا في موضع رفع، لأنه وجه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء، واستثنى المظلوم منه، فكان معنى الكلام على قوله: لا يحبّ اللّه أن يجهر بالسوء من القول، إلا المظلوم فلا حرج عليهخ في الجهر به. وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية، وذلك أن (مَنُ) لا يجوز أن يكون رفعا عندهم باجهر،لأنها في صلة (أنْ)، وأنْ لم ينله الجحد فال يجوز العطف عليه من الخطإ عندهم أن يقال: لا يعجبني أن يقوم إلا ريد. وقد يحتمل أن تكون (مَنْ) نصبا على تأويل قول ابن عباس، ويكون قوله: لا يُحِبّ اللّه الجَهْرِ بالسّوءِ منَ القَوْلِ لاما تامّا، ثم قيل: إلاّ مَنْ ظُلِمَ فلا حرد عليه، فيكون (مَنْ) استثناء من الغعل، وإن لم يكن قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه، كما قال جلّ ثناؤه: لَسْتُ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ.

إلاّ مَنْ تَوَلى وكَفَرَ وكقولهم: إني لأكره الخصومة والمراء، اللهمّ إلا رجلاً يريد اللّه بذلك. ولم يذكر قبله شيء من الأسماء. و(مَنْ) على قول الحسن هذا نصب على أنه مستثنى من معنى الكلام، لا من الاسم كما ذكرنا قبلُ في تأويل اللّه خيرا فعل كذا وكذا.

وقال آخرون: بل معنىذلك: لا يحبّ اللّه الجهر بالسوء من القول، إلا من ظُلم فيُخبر بما نيل منه. ذكر من قال ذلك:

٨٥٥٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيع، عن مجاهد، قال: هو الرجل ينزل بالرجل، فلا يحسن ضيافته، فيخرج من عنده، ف

يقول: أساء ضيافتي ولم يحسن.

٨٥٥١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال: إلا من أثَر ما قيل له.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن محمد بن إسحاق، عن عبد اللّه بن أبي نجيع، عن مجاهد: لايُحِبّ اللّه الجِهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال: هو الضيف المحوّل رحله، فإنه يجهر لصاحيه بالسوء من القول.

وقال آخرون: عنى بذلك الرجل ينزل بالرجل فلا يَقرِيه، فينال من الذب لم يَقْرِه. ذكر من قال لك:

٨٥٥٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيع، عن مجاهد في قوله: إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال: من ظُلم فانتصر يجهر بالسوء.

حدثني المثنى، قال: ثن أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيع، مثله.

٨٥٥٣ـ وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيع، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد. وعن حميد الأعرج، عن مجاهد: لا يُهِبّ اللّه الجَهْرَ بالسّوء مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ

قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه، فقد رخص اللّه له أنَ يقول فيه.

حدثنيأحمد بن حماد الدّولابيّ، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيع، عن إبراهيم بن أبي بكر،عن مجاهد: لا يُحِبّ اللّه الجَهْرِ بالسّوءِ منَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال: هو في الضيافة يأتي الرجل القوم فينزل عليهم فلا يضيفونه، رخص اللّه له أن يقول فيهم. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الـمثنى بن الصبـاح، عن مـجاهد فـي قوله: لا يُحِبّ اللّه الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ... الاَية، قال: ضاف رجل رجلاً، فلـم يؤدّ إلـيه حقّ ضيافته، فلـما خرج أخبر الناس،

فقال: ضفت فلانا فلـم يودّ حقّ ضيافتـي، فذلك جهر بـالسوء إلاّ مَنْ ظُلِـمَ حين لـم يودّ إلـيه ضيافته.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: إلا من ظلـم فـانتصر يجهر بسوء. قال مـجاهد: نزلت فـي رجل ضاف رجلاً بفلاة من الأرض فلـم يضفه، فنزلت إلاّ مَنْ ظُلِـمَ ذكر أنه لـم يضفه، لا يزيد علـى ذلك.

وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من ظُلـم فـانتصر من ظالـمه، فإن اللّه قد أذن له فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:

٨٥٥٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: لا يُحِبّ اللّه الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِـمَ

يقول: إن اللّه لا يحبّ الـجهر بـالسوء من أحدٍ من الـخـلق، ولكن من ظلـم فـانتصر بـمثل ما ظلـم، فلـيس علـيه جناح.

ف (مَنْ) علـى هذه الأقوال التـي ذكرناها سوى قول ابن عبـاس فـي موضع نصب علـى انقطاعه من الأول، والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد إلا فـي الاستثناء الـمنقطع فكان معنى الكلام علـى هذه الأقوال سوى قول ابن عبـاس : لا يحبّ اللّه الـجهر بـالسوء من القول، ولكن من ظُلـم فلا حرج علـيه أن يخبر بـما نـيـل منه أو ينتصر مـمن ظلـمه.

وقرأ ذلك آخرون بفتـح الظاء: (إلاّ مَنْ ظَلَـمَ) وتأوّلوه: لا يحبّ اللّه الـجهر بـالسوء من القول، إلا من ظَلـم، فلا بأس أن يُجهر له بـالسوء من القول. ذكر من قال ذلك:

٨٥٥٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان أبـي يقرأ: (لا يُحِبّ اللّه الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَـمَ) قال ابن زيد:

يقول: إلا من أقام علـى ذلك النفـاق فـيجهر له بـالسوء حتـى ينزع

قال: وهذه مثل: وَلا تَنابَزُوا بـالألْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ أن تسميه بـالفسق بَعْدَ الإيـمانِ بعد إذ كان مؤمنا، وَمَنْ لَـمْ يَتُبْ من ذلك العمل الذي قـيـل له، فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِـمُونَ قال: هو أشرّ مـمن قال ذلك له.

٨٥٥٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: (لا يُحِبّ اللّه الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَـمَ) فقرأ: إنّ الـمُنافِقِـينَ فِـي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ حتـى بلغ: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّه الُـمؤْمِنِـينَ أجْرا عَظِيـما ثم قال بعد ما قال: هم فـي الدرك الأسفل من النار. ما يَفْعَلُ اللّه بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُـمْ وآمَنْتُـمْ وكانَ اللّه شاكِرا عَلـيـما (لا يُحِبّ اللّه الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَـمَ) قال: لا يحبّ اللّه أن يقول لهذا: ألست نافقت؟ ألست الـمنافق الذي ظلـمت وفعلت وفعلت؟ من بعد ما تاب، (إلاّ مَنْ ظَلَـم)، إلا من أقام علـى النفـاق

قال: وكأن أبـي يقول ذلك له ويقرؤها: (إلاّ مَنْ ظَلَـمَ).

(مَنْ) علـى هذا التأويـل نصب لتعلقه بـالـجهر. وتأويـل الكلام علـى قول قائل هذا القول. لا يحبّ اللّه أن يجهر أحد لأحد من الـمنافقـين بـالسوء من القول (إلاّ مَنْ ظَلَـمَ) منهم، فأقام علـى نفـاقه فإنه لا بأس بـالـجهر له بـالسوء من القول.

قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأ: إلاّ مَنْ ظُلِـمَ بضمّ الظاء، لإجماع الـحجة من القرّاء وأهل التأويـل علـى صحتها، وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بـالفتـح. فإذ كان ذلك أولـى القراءتـين بـالصواب، فـالصواب فـي تأويـل ذلك: لا يحبّ اللّه أيها الناس أن يجهر أحد لأحد بـالسوء من القول إلاّ مَنْ ظُلِـمَ بـمعنى: إلا من ظُلـم فلا حرج علـيه أن يخبر بـما أسيء إلـيه. وإذا كان ذلك معناه، دخـل فـيه إخبـار من لـم يُقْرَ أو أسيء قِرَاه، أو نـيـل بظلـم فـي نفسه أو ماله عَنوة من سائر الناس، وكذلك دعاؤه علـى من ناله بظلـم أن ينصره اللّه علـيه، لأن فـي دعائه علـيه إعلاما منه لـمن سمع دعاءه علـيه بـالسوء له. وإذ كان ذلك كذلك، ف (مَنْ) فـي موضع نصب، لأنه منقطع عما قبله، وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها، فهو نظير قول: لَسْتَ عَلَـيْهِمْ بِـمُسَيْطِرٍ إلاّ مَنْ تَوَلـىّ وكَفَرَ.

وأما قوله: وكانَ اللّه سَمِيعا عَلِـيـما فإنه يعنـي: وكان اللّه سميعا لـمِا يجهرون به من سوء القول لـمن يجهرون له به، وغير ذلك من أصواتكم وكلامكم، علـيـما بـما تـخفون من سوء قولكم وكلامكم لـمن تـخفون له به، فلا تـجهرون له به، مـحصٍ كلّ ذلك علـيكم حتـى يجازيَكم علـى ذلك كله جزاءكم الـمسيء بـاساءته والـمـحسن بإحسانه.

﴿ ١٤٨