١٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ ...}.

وهذه الاَية أنزلت إعلاما من اللّه جل ثناؤه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنـين به، أخلاقَ الذين هموا ببسط أيديهم إلـيهم من الـيهود. كالذي:

٩١٠٥ـ حدثنا الـحرث بن مـحمد، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا مبـارك، عن الـحسن فـي قوله: ولقَدْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ قال: الـيهود من أهل الكتاب.

وأن الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بـينهم وبـينه من صفـاتهم وصفـات أوائلهم وأخلاقهم وأخلاق أسلافهم قديـما، واحتـجاجا لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم علـى الـيهود بـاطلاعه إياه علـى ما كان علـمه عندهم دون العرب من خفـيّ أمورهم ومكنون علومهم، وتوبـيخا للـيهود فـي تـماديهم فـي الغيّ، وإصرارهم علـى الكفر مع علـمهم بخطإ ما هم علـيهم مقـيـمون. يقول اللّه لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: لا تستعظموا أمر الذين هموا ببسط أيديهم إلـيهم من هؤلاء الـيهود بـما هموا به لكم، ولا أمر الغدر الذي حاولوه وأرادوه بكم، فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسلافهم، لا يعدُون أن يكونوا علـى منهاج أوّلهم وطريق سلفهم. ثم ابتدأ الـخبر عزّ ذكره عن بعض غدراتهم وخياناتهم وجراءتهم علـى ربهم ونقضهم ميثاقهم الذي واثقهم علـيه بـارئهم، مع نعمه التـي خصهم بها، وكراماته التـي طوّقهم شكرها،

فقال: ولقد أخذ اللّه ميثاق سلف من همّ ببسط يده إلـيكم من يهود بنـي إسرائيـل يا معشر الـمؤمنـين بـالوفـاء له بعهوده وطاعته فـيـما أمرهم ونهاهم. كما:

٩١٠٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربـيع، عن أبـي العالـية فـي قوله: وَلَقَدْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ قال: أخذ اللّه مواثـيقهم أن يخـلصوا له ولا يعبدوا غيره.

وَبَعَثْنا مِنْهُمْ اثْنَى عَشَرَ نَقِـيبـا يعنـي بذلك: وبعثنا منهم اثنـي عشر كفـيلاً، كفلوا علـيهم بـالوفـاء لله بـما واثقوه علـيه من العهود فـيـما أمرهم به، وفما نهاهم عنه. والنقـيب فـي كلام العرب، كالعريف علـى القوم، غير أنه فوق العريف، يقال منه: نَقَبَ فلان علـى بنـي فلان فهو يَنْقُب نقبـا، فإذا أريد أنه لـم يكن نقـيبـا فصار نقـيبـا،

قـيـل: قد نَقُب فهو يَنْقب نَقَابة، ومن العريف: عَرُف علـيهم يَعْرُف عِرَافَةً. فأما الـمناكب فإنهم كالأعوان يكونون مع العرفـاء، واحدهم مَنْكِب. وكان بعض أهل العلـم بـالعربـية

يقول: هو الأمين الضامن علـى القوم. فأما أهل التأويـل فإنهم قد اختلفوا بـينهم فـي تأويـله،

فقال بعضهم: هو الشاهد علـى قومه. ذكر من قال ذلك:

٩١٠٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَلَقَدْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنِـي إسْرائيـل وَبَعَثْنا مِنْهُمْ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا: من كلّ سبط رجل شاهد علـى قومه.

وقال آخرون: النقـيب: الأمين. ذكر من قال ذلك:

٩١٠٨ـ حُدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: النقبـاء: الأمناء.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

وإنـما كان اللّه أمر موسى نبـيه صلى اللّه عليه وسلم ببعثه النقبـاء الأثنـي عشر من قومه بنـي إسرائيـل إلـى أرض الـجبـابرة بـالشام لـيتـجسسوا لـموسى أخبرهم إذ أراد هلاكهم، وأن يورّث أرضهم وديارهم موسى وقومه، وأن يجعلها مساكن لبنـي إسرائيـل بعد ما أنـجاهم من فرعون وقومه، وأخرجهم من أرض مصر، فبعث موسى الذين أمره اللّه ببعثهم إلـيها من النقبـاء. كما:

٩١٠٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: أمر اللّه بنـي إسرائيـل بـالسير إلـى أريحاء، وهي أرض بـيت الـمقدس، فساروا حتـى إذا كانوا قريبـا منهم بعث موسى اثنـي عشر نقـيبـا من جميع أسبـاط بنـي إسرائيـل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الـجبـابرة، فلقـيهم رجل من الـجبـارين يقال له عاج، فأخذ الاثنـي عشر، فجعلهم فـي حُجْزته وعلـى رأسه حزمة حطب، فـانطلق بهم إلـى امرأته،

فقال: انظري إلـى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بـين يديها،

فقال: ألا أطحنهم برجلـي؟ فقالت امرأته: بل خـلّ عنهم حتـى يخبروا قومهم بـما رأوا ففعل ذلك. فلـما خرج القوم، قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبرتـم بنـي إسرائيـل خبر القوم، ارتدّوا عن نبـيّ اللّه علـيه السلام، لكن اكتـموه وأخبروا انِـيَ اللّه ، فـيكونان فـيـما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم علـى بعض الـميثاق بذلك لـيكتـموه. ثم رجعوا فـانطلق عشرة منهم فنكثوا العهد، فجعل الرجل يخبر أخاه وأبـاه بـما رأى من عاج، وكتـم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون، فأخبروهما الـخبر، فذلك حين يقول اللّه : وَلَقَدْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا.

٩١١٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا من كلّ سبط من بنـي إسرائيـل رجل أرسلهم موسى إلـى الـجبـارين، فوجدوهم يدخـل فـي كمّ أحدهم اثنان منهم يـلفونهم لفّـا، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بـينهم فـي خشبة، ويدخـل فـي شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربع. فرجع النقبـاء كلّ منهم ينهي سبطه عن قتالهم إلا يُوشَع ابن نون وكالب بن يوقنا يأمران الأسبـاط بقتال الـجبـابرة وبجهادهم، فعصوا هذين وأطاعوا الأخرين.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بنـحوه، إلا أنه قال: من بنـي إسرائيـل رجال، وقال أيضا: يـلقونهما.

٩١١١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: أمر موسى أن يسير ببنـي إسرائيـل إلـى الأرض الـمقدسة، وقال: إنـي قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلاً، فـاخرج إلـيها وجاهد من فـيها من العدوّ، فإنـي ناصركم علـيهم، وخذ من قومك اثنـي عشر نقـيبـا من كلّ سبط نقـيبـا يكون علـى قومه بـالوفـاء منهم علـى ما أمروا به، وقل لهم إن اللّه يقول لكم: إنّـي معكُمْ لِئن أقمتُـم الصّلاةَ وآتـيتـمُ الزكاة... إلـى قوله: فقدْ ضلّ سواءَ السّبِـيـلِ. وأخذ موسى منهم اثنـي عشر نقـيبـا اختارهم من الأسبـاط كُفلاء علـى قومهم بـما هم فـيه علـى الوفـاء بعهده وميثاقه، وأخذ من كلّ سبط منهم خيرهم وأوفـاهم رجلاً. يقول اللّه عزّ وجلّ: ولَقَدْ أَخَذَ اللّه ميثاقَ بَنِـي إسْرائِيـل وبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنـي عَشرَ نَقِـيبـا فسار بهم موسى إلـى الأرض الـمقدسة بأمر اللّه ، حتـى إذا نزل التـيه بنـي مصر والشام، وهي بلاد لـيس فـيها شجر ولا ظلّ، دعا موسى ربه حين آذاهم الـحرّ، فظلّل علـيهم بـالغمام، ودعا لهم بـالرزق، فأنزل اللّه علـيهم الـمنّ والسلوى. وأمر اللّه موسى فقال: أرسل رجالاً يتـجسسون إلـى أرض كنعان التـي وهبت لبنـي إسرائيـل، من كلّ سبط رجلاً. فأرسل موسى الرءوس كلهم الذين فـيهم، وهذه أسماء الرهط الذين بعث اللّه من بنـي إسرائيـل إلـى أرض الشام، فـيـما يذكر أهل التوراة لـيجوسوها لبنـي إسرائيـل: من سبط روبـيـل: شامون بن ركون، ومن سبط شمعون سافـاط بن حربـي، ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا، ومن سبط كاذ ميخائيـل بن يوسف، ومن سبط يوسف وهو سبط إفرائيـم يوشع بن نون، ومن سبط بـينامين فلط بن ذنون، ومن سبط ربـالون كرابـيـل بن سودي، ومن سبط منشا بن يوسف حدي بن سوشا، ومن سبط دان حملائل بن حمل، ومن سبط أشار سابور بن ملكيـل، ومن سبط نفتالـي مـحرّ بن وقسي، ومن سبط يساخر حولايـل بن منكد. فهذه أسماء الذين بعثهم موسى يتـجسسون له الأرض، ويومئذٍ سَمّى يوشع بن نون: يوشع بن نون، فأرسلهم وقال لهم: ارتفعوا قبل الشمس، فـارقوا الـجبل، وانظروا ما فـي الأرض، وما الشعب الذي يسكنونه، أقوياء هم أم ضعفـاء؟ أقلـيـل هم أم هم كثـير؟ وانظروا أرضهم التـي يسكنون أشمسة هي أم ذات شجر؟ واحملوا إلـينا من ثمرة تلك الأرض وكان فـي أوّل ما سَمّى لهم من ذلك ثمرة العنب.

٩١١٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا فهم من بنـي إسرائيـل، بعثهم موسى لـينظروا له إلـى الـمدينة. فـانطلقوا فنظروا إلـى الـمدينة، فجاءوا بحبة من فـاكهتهم وِقْرَ رجل،

فقالوا: قدروا قوّة قوم وبأسهم هذه فـاكهتهم. فعند ذلك فتنوا،

فقالوا: لا نستطيع القتال فَـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلاَ إنّا هَهُنا قَاعِدونَ.

٩١١٣ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج الـمروزي، قال: سمع أبـا معاذ الفضل بن خالد يقول فـي قوله: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَـيْ عَشَرَ نَقِـيبـا أمر اللّه بنـي إسرائيـل أن يسيروا إلـى الأرض الـمقدّسة مع نبـيهم موسى صلى اللّه عليه وسلم فلـما كانوا قريبـا من الـمدينة، قال لهم موسى: ادخـلوها فأبوا وجبنوا، وبعثوا اثنـي عشر نقـيبـا لـينظروا إلـيهم. فـانطلقوا فنظروا، فجاءوا بحبة من فـاكهتهم بوِقْر الرجل،

فقالوا: قدرّوا قوّة قوم وبأسهم، هذه فـاكهتهم فعند ذلك قالوا لـموسى: اذْهَبْ أنْتَ ورَبّكَ فَقَاتِلاَ.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَقالَ اللّه إنّـي مَعَكُمْ لَئِنْ أقَمْتُـمُ الصّلاةَ وآتَـيْتُـمُ الزّكاةَ وآمَنْتُـمْ بِرُسُلِـي وَعَزّرْتـمُوهُمْ وأقْرَضْتُـمُ اللّه قَرْضا حَسَنَا.

يقول اللّه تعالـى ذكره وَقالَ اللّه لبنـي إسرائيـل إنّـي مَعَكُمْ

يقول: إنى ناصركم علـى عدوّكم وعدوي الذين أمرتكم بقتالهم إن قاتلتـموهم ووفـيتـم بعهدي وميثاقـي الذي أخذته علـيكم. وفـي الكلام مـحذوف استُغنـي بـما ظهر من الكلام عما حذف منه، وذلك أن معنى الكلام: وقال اللّه لهم: إنـي معكم، فترك ذكر (لهم)، استغناء بقوله: وَلَقَدْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ إذ كان متقدم الـخبر عن قوم مسمّين بأعيانهم كان معلوما أن سياق ما فـي الكلام من الـخبر عنهم، إذ لـم يكن الكلام مصروفـا عنهم إلـى غيرهم. ثم ابتدأ ربنا جل ثناؤه القسم،

فقال: قسم لَئِنْ أقَمْتُـمْ معشر بنـي إسرائيـل الصّلاةَ وآتَـيْتُـمُ الزّكاةَ: أي أعطيتـموها من أمرتكم بـاعطائها، وآمَنْتُـمْ بِرُسُلِـي

يقول: وصدّقتـم بـما آتاكم به رسلـي من شرائع دينـي. وكان الربـيع بن أنس

يقول: هذا خطاب من اللّه للنقبـاء الاثنـي عشر.

٩١١٤ـ حُدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: أن موسى صلى اللّه عليه وسلم قال للنقبـاء الاثنـي عشر: سيروا إلـيهم يعنـي إلـى الـجبـارين فحدثونـي حديثهم، وما أمَرُهم، ولا تـخافوا إن اللّه معكم ما أقمتـم الصلاة وآتـيتـم الزكاة وآمنتـم برسلـي وعزّرتـموهم وأقرضتـم اللّه قرضا حسنا.

ولـيس الذي قاله الربـيع فـي ذلك ببعيد من الصواب، غير أن من قضاء اللّه فـي جميع خـلقه أنه ناصرٌ من أطاعه، وولـىّ من اتبع أمره وتـجنب معصيته وجافـي ذنوبه. فإذ كان ذلك كذلك، وكان من طاعته: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيـمان بـالرسل، وسائر ما ندب القوم إلـيه كان معلوما أن تكفـير السيئات بذلك وإدخال الـجنات به لـم يخصص به النقبـاء دون سائر بنـي إسرائيـل غيرهم، فكان ذلك بأن يكون ندبـا للقوم جميعا وحضّا لهم علـى ما حضهم علـيه، أحقّ وأولـى من أن يكون ندبـا لبعض وحضّا لـخاصّ دون عام.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَعَزّرْتُـمُوهُمْ

فقال بعضهُم: تأويـل ذلك: ونصرتـموهم. ذكر من قال ذلك:

٩١١٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : وَعَزّرْتُـمُوهُمْ قال: نصرتـموهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٩١١٦ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: قوله: وَعَزّرْتُـمُوهُمْ قال: نصرتـموهم بـالسيف.

وقال آخرون: هو الطاعة والنصرة. ذكر من قال ذلك:

٩١١٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول فـي قوله: وَعَزّرْتـموهُم قال: التعزر والتوقـير: الطاعة والنصرة.

واختلف أهل العربـية فـي تأويـله، فذكر عن يونس الـحِرمرِي أنه كان

يقول: تأويـل ذلك: أثنـيتـم علـيهم.

٩١١٨ـ حُدثت بذلك عن أبـي عبـيدة معمر بن الـمثنى عنه.

وكان أبو عبـيدة

يقول: معنى ذلك نصرتـموهم وأعنتـموهم ووقرتـموهم وعظمتـموهم وأيدتـموهم، وأنشد فـي ذلك:

وكَمْ مِنْ ماجِدٍ لَهُمُ كَرِيـمٍومِنْ لَـيْثٍ يُعَزّزُ فـي النّدِيّ

وكان الفرّاء

يقول: العزر الردّ عزررته رددته: إذا رأيته يظلـم، فقلت: اتق اللّه أو نهيته، فذلك العزر.

وأولـى هذه الأقوال عندي فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: نصرتـموهم، وذلك أن اللّه جل ثناؤه قال فـي سورة الفتـح: إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدا وَمُبَشّرا وَنَذِيرا لِتُؤْمِنُوا بـاللّه وَرَسُولِهِ وتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ. فـالتوقـير: هو التعظيـم. وإذا كان ذلك كذلك، كان القول فـي ذلك إنـما هو بعض ما ذكرنا من الأقوال التـي حكيناها عمن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه التعظيـم، وكان النصر قد يكون بـالـيد واللسان فأما بـالـيد فـالذبّ بها عنه بـالسيف وغيره، وأما بـاللسان فحسن الثناء، والذبّ عن العرض، صحّ أنه النصر إذ كان النصر يحوي معنى كلّ قائل قال فـيه قولاً مـما حكينا عنه.

وأما قوله: وأقْرَضْتُـمُ اللّه قَرْضا حَسَنا فإنه

يقول: وأنفقتـم فـي سبـيـل اللّه ، وذلك فـي جهاد عدوّه وعدوّكم، قَرْضا حَسَنا

يقول: وأنفقتـم ما أنفقتـم فـي سبـيـله، فأصبتـم الـحقّ فـي إنفـاقكم ما أنفقتـم فـي ذلك، ولـم تتعدّوا فـيه حدود اللّه وما ندبكم إلـيه وحثكم علـيه إلـى غيره.

فإن قال لنا قائل: وكيف قال: وأقْرَضْتُـمْ اللّه قَرْضا حَسَنا ولـم يقل: إقراضا حسنا، وقد علـمت أن مصدر أقرضت: الإقراض؟

قـيـل: لو قـيـل ذلك كان صوابـا، ولكن قوله: قَرْضا حَسَنا أخرج مصدرا من معناه لا من لفظه، وذلك أن فـي قوله: أقرض معنى قرض، كما فـي معنى أعطى أخذ، فكان معنى الكلام: وقرضتـم اللّه قرضا حسنا، ونظير ذلك: واللّه أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرضِ نَبَـاتا إذ كان فـي أنبتكم معنى فنبتـم، وكما قال امرؤ القـيس:

(وَرُضْتُ فَذَلّتْ صَعْبَةً أيّ إذْلالِ )

إذ كان فـي رضت معنى أذللت، فخرج الإذلال مصدرا من معناه لا من لفظه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ وَلأُدْخِـلَنّكُمْ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ.

يعنـي جل ثناؤه بذلك بنـي إسرائيـل، يقول لهم جلّ ثناؤه: لئن أقمتـم الصلاة أيها القوم الذين أعطونـي ميثاقهم بـالوفـاء بطاعتـي، واتبـاع أمري، وآتـيتـم الزكاة، وفعلتـم سائر ما وعدتكم علـيه جنتـي لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتَكُمْ

يقول: لأغطين بعفوي عنكم وصفحي عن عقوبتكم، علـى سالف إجرامكم التـي أجرمتـموها فـيـما بـين وبـينكم علـى ذنوبكم التـي سلفت منكم من عبـادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم ولأدْخِـلَنّكُمْ مع تغطيتـي علـى ذلك منكم بفضلـي يوم القـيامة جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأَنْهارُ فـالـجنات: البساتـين.

وإنـما قلت: معنى قوله: لأُكَفّرَنّ: لأغطينّ، لأن الكفر معناه الـجحود والتغطية والستر، كما قال لبـيد:

(فِـي لَـيْـلَةٍ كَفَرَ النّـجومَ غَمامُها )

يعنـي: (غطاها). التفعيـل من الكَفْر.

واختلف أهل العربـية فـي معنى (اللام) التـي فـي قوله: لأُكَفّرَنّ فقال بعض نـحويـيّ البصرة: اللام الأولـى علـى معنى القَسَم، يعنـي اللام التـي فـي قوله: لَئِنْ أقَمْتُـمْ الصّلاةَ قال: والثانـية معنى قسم آخر.

وقال بعض نـحويـيّ الكوفة: بل اللام الأولـى وقعت موقع الـيـمين، فـاكتفـى بها عن الـيـمين، يعنـي بـاللام الأولـى: لئن أقمتـم الصلاة

قال: واللام الثانـية، يعنـي قوله: لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتَكُمْ جواب لها، يعنـي للام التـي فـي قوله: لَئِنْ أقَمْتُـمُ الصّلاةَ. واعتلّ لقـيـله ذلك بأن قوله: لَئِنْ أقَمْتُـمُ الصّلاةَ غير تام ولا مستغن عن قوله: لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ. وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز أن يكون قوله: لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ قسما مبتدأ، بل الواجب أن يكون جوابـا للـيـمين إذ كانت غير مستغنـية عنهوقوله: تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ

يقول: يجري من تـحت أشجار هذه البساتـين التـي أدخـلكموها الأنهار.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِـيـلِ.

يقول عزّ ذكره: فمن جحد منكم يا معشر بنـي إسرائيـل شيئا مـما أمرته به، فتركه، أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الـميثاق علـيه بـالوفـاء لـي بطاعتـي واجتناب معصيتـي، فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِـيـلِ

يقول: فقد أخطأ قصد الطريق الواضح، وزلّ عن منهج السبـيـل القاصد. والضلال: الركوب علـى غير هدى وقد بـينا ذلك بشاهده فـي غير هذا الـموضعوقوله: سَوَاءَ يعنـي به: وسط السبـيـل، وقد بـيّنا تأويـل ذلك كله فـي غير هذا الـموضع، فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

﴿ ١٢