تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

 للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

 إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة التوبة

مدنية وآياتها تسع وعشرون ومائة

القول في تفسير السورة التي يذكر فيها التوبة.

١

{بَرَآءَةٌ مّنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ }.

يعني بقوله جل ثناؤه: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسولِهِ هذه براءة من اللّه ورسوله. ف (براءة) مرفوعة بمحذوف، وهو (هذه) ، كما في قوله: سُورَةٌ أنْزَلْناها مرفوعة بمحذوف هو (هذه) ، ولو قال قائل: براءة مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله: إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ وجعلها كالمعرفة ترفع ما بعدها، إذ كانت قد صارت بصلتها وهي قوله: مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ كالمعرفة، وصار معنى الكلام: براءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين كان مذهبا غير مدفوعة صحته، وإن كان القول الأول أعجب إليّ، لأن من شأن العرب أن يضمروا لكل معاين نكرة كان أو معرفة ذلك المعاين، هذا وهذه، فيقولون عند معاينتهم الشيء الحسن: حسن والله، والقبيح: قبيح والله، يريدون: هذا حسن والله، وهذا قبيح واللّه فلذلك اخترت القول الأوّل. وقال: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ والمعنى: إلى الذين عاهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المشركين لأن العهود بين المسلمين والمشركين على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يكن يتولى عقدها إلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو من يعقدها بأمره، ولكنه خاطب المؤمنين بذلك لعلمهم بمعناه، وأن عقود النبيّ صلى اللّه عليه وسلم على أمته كانت عقودهم، لأنهم كانوا لكل أفعاله فيهم راضين، ولعقوده عليهم مسلمين، فصار عقده عليهم كعقودهم على أنفسهم، فلذلك قال: إلى الّذِينَ عاهَدْتُم مِنَ المُشْرِكِينَ لما كان من عقد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعهده.

وقد اختلف أهل التأويل فيمن برىء اللّه ورسوله إليه من العهد الذي كان بينه وبين رسول اللّه من المشركين فأذن له في السياحة في الأرض أربعة أشهر،

فقال بعضهم: صنفان من المشركين: أحدهما: كانت مدة العهد بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أقلّ من أربعة أشهر، وأمهل بالسياحة أربعة أشهر، والاَخر منهما كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه، ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيثما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب. ذكر من قال ذلك:

١٢٧٨٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر الصدّيق رضي اللّه عنه أميرا على الحاجّ من سنة تسع ليقيم للناس حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم. فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين، ونزلت سورة براءة في نقض ما بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم: أن لا يصدّ عن البيت أحد جاءه، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدا عامّا بينه وبين الناس من أهل الشرك، وكانت بين ذلك عهود بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى أجل مسمى، فنزلت فيه وفيمن تخلف عنه من المنافقين في تبوك وفي قول من قال منهم، فكشف اللّه فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون، منهم من سمي لنا، ومنهم من لم يسمّ لنا، فقال: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ أي لأهل العهد العام من أهل الشرك من العرب، فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ... إلى قوله: أنّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ أي بعد هذه الحجة.

وقال آخرون: بل كان إمهال اللّه عزّ وجلّ بسياحة أربعة أشهر من كان من المشركين بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد، فأما من لم يكن له من رسول اللّه عهد فإنما كان أجله خمسين ليلة، وذلك عشرون من ذي الحجة والمحرّم كله. قالوا: وإنما كان ذلك كذلك، لأن أجل الذين لا عهد لهم كان إلى انسلاخ الأشهر الحرم، كما قال اللّه : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ... الآية، قالوا: والنداء ببراءة كان يوم الحجّ الأكبر، وذلك يوم النحر في قول قوم وفي قول آخرين: يوم عرفة، وذلك خمسون يوما. قالوا: وأما تأجيل الأشهر الأربعة، فإنما كان لأهل العهد بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يوم نزلت براءة. قالوا: ونزلت في أوّل شوّال، فكان انقضاء مدة أجلهم انسلاخ الأشهر الحرم. وقد كان بعض من يقول هذه المقالة

يقول: ابتداء التأجيل كان للفريقين واحدا، أعني الذي له العهد والذي لا عهد له غير أن أجل الذي كان له عهد كان أربعة أشهر، والذي لا عهد له: انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك انقضاء المحرّم. ذكر من قال ذلك:

١٢٧٨٤ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ قال: حدّ اللّه للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون فيها حيثما شاءوا، وحدّ أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم، فذلك خمسون ليلة فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره بأن يضع السيف فيمن عاهد.

١٢٧٨٥ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما نزلت بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه ... إلى: وأنّ اللّه مُخْزِي الْكافِرِينَ

يقول: براءة من المشركين الذين كان لهم عهد، يوم نزلت براءة. فجعل مدة من كان له عهد قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر، وأمرهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر، وجعل مدة المشركين الذين لم يكن لهم عهد قبل أن ينزل براءة انسلاخ الأشهر الحرم، وانسلاخ الأشهر الحرم من يوم أُذن ببراءة إلى انسلاخ المحرّم وهي خمسون ليلة: عشرون من ذي الحجة، وثلاثون من المحرّم. فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ إلى قوله: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصدٍ

يقول: لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة، وانسلخ الأشهر الحرم، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول ربيع الاَخر، فذلك أربعة أشهر.

١٢٧٨٦ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قبل أن تنزل براءة عاهد ناسا من المشركين من أهل مكة وغيرهم، فنزلت براءة من اللّه إلى كل أحد ممن كان عاهدك من المشركين فإني أنقض العهد الذي بينك وبينهم، فأؤجلهم أربعة أشهر يسيحون حيث شاءوا من الأرض آمنين، وأجل من لم يكن بينه وبين النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم أذن ببراءة وأذن بها يوم النحر، فكان عشرين من ذي الحجة والمحرّم ثلاثين، فذلك خمسون ليلة. فأمر اللّه نبيه إذا انسلخ المحرّم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبين نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة من يوم النحر أن يضع فيهم السيف أيضا يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. فكانت مدة من لا عهد بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمسين ليلة من يوم النحر، ومدة من كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر يخلون من شهر ربيع الاَخر.

١٢٧٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسولِهِ... إلى قوله: وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ ألِيمٍ قال: ذكر لنا أن عليّا نادى بالأذان، وأمر على الحاج أبو بكر رضي اللّه عنهما، وكان العام الذي حجّ فيه المسلمون والمشركون، ولم يحجّ المشركون بعد ذلك العام. قوله: الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ... إلى قوله: إلى مُدّتِهِمْ قال: هم مشركو قريش الذين عاهدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر وأمر اللّه نبيه أن يوفي بعهدهم إلى مدتهم ومن لا عهد له انسلاخ المحرم، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ، ولا يقبل منهم إلا ذلك.

وقال آخرون: كان ابتداء تأخير المشركين أربعة أشهر، وانقضاء ذلك لجميعهم وقتا واحدا. قالوا: وكان ابتداؤه يوم الحجّ الأكبر، وانقضاؤه انقضاء عشر من ربيع الاَخر. ذكر من قال ذلك:

١٢٧٨٨ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قال: لما نزلت هذه الآية، بريء من عهد كلّ مشرك، ولم يعاهد بعدها إلا من كان عاهد، وأجرى لكل مدتهم. فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ لمن دخل عهده فيها من عشر ذي الحجة والمحرّم، وصفر وشهر ربيع الأوّل، وعشر من ربيع الاَخر.

١٢٧٨٩ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا أبو معشر، قال: حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره، قالوا: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع، وبعث عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه بثلاثين أو أربعين آية من براءة، فقرأها على الناس يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة أجل المشركين عشرين من ذي الحجة، والمحرّم، وصفر، وشهر ربيع الأوّل، وعشرا من ربيع الاَخر، وقرأها عليهم في منازلهم، وقال: لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ولا يطوفنّ بالبيت عريان.

١٢٧٩٠ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من ربيع الاَخر كان ذلك عهدهم الذي بينهم.

١٢٧٩١ـ حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسولِهِ إلى أهل العهد: خزاعة، ومدلج، ومن كان له عهد من غيرهم. أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تبوك حين فرغ، فأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحجّ، ثم قال: (إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة، فلا أحبّ أن أحجّ حتى لا يكون ذلك) . فأرسل أبا بكر وعليا رضي اللّه عنهما، فطافا بالناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الاَخر، ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلها بالقتال إلا أن يؤمنوا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قال: أهل العهد مدلج، والعرب الذين عاهدهم، ومن كان له عهد. قال: أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها وأراد الحجّ، ثم قال: (إنّهُ يَحْضُرُ البَيْتَ مُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ عُرَاةً فَلا أُحِبّ أنْ أحجّ حتى لا يكُون ذلكَ) فأرسل أبا بكر وعليا رضي اللّه عنهما، فطافا بالناس بذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالموسم كله، وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر، في الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الاَخر، ثم لا عهد لهم. وآذان الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا، فآمن الناس أجمعون حينئذ ولم يسح أحد. وقال: حين رجع من الطائف مضى من فوره ذلك، فغزا تبوك بعد إذ جاء إلى المدينة.

وقال آخرون ممن قال: (ابتداء الأجل لجميع المشركين وانقضاؤه كان واحدا) . كان ابتداؤه يوم نزلت براءة، وانقضاؤه انقضاء الأشهر الحرم، وذلك انقضاء المحرم. ذكر من قال ذلك:

١٢٧٩٢ـ حدثنا محمد بن الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الأزهري: فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ قال: نزلت في شوّال، فهذه الأربعة الأشهر: شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرّم.

وقال آخرون: إنما كان تأجيل اللّه الأشهر الأربعة المشركين في السياحة لمن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد مدته أقلّ من أربعة أشهر، أما من كان له عهد مدته أكثر من أربعة أشهر فإنه أمر صلى اللّه عليه وسلم أن يتمّ له عهده إلى مدته. ذكر من قال ذلك:

١٢٧٩٣ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد دون الأربعة الأشهر، فأتمّ له الأربعة. ومن كان له عهدا أكثر من أربعة أشهر فهو الذي أمر أن يتمّ له عهده، وقال: أتِمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ.

قال أبو جعفر رحمه اللّه : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله اللّه لأهل العهد من المشركين وأذن لهم بالسياحة فيه ب قوله: فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن اللّه جل ثناؤه أمر نبيه صلى اللّه عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته ب قوله: إلا الذين عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكينَ ثُمّ لَمْ يُنْقُصُوكُمْ شِيْئا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا فَأتمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ إنّ اللّه يُحِبّ المُتّقِينَ.

فإن ظنّ ظانّ أن قول اللّه تعالى ذكره: فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يدلّ على خلاف ما قلنا في ذلك، إذ كان ذلك ينبىء عن أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم قتل كل مشرك، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تنبىء عن صحة ما قلنا وفساد ما ظنه من ظنّ أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو لم يكن له منه عهد، وذلك قوله: كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّه وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنّ اللّه يُحِبّ المُتّقِينَ فهؤلاء مشركون، وقد أمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم وترك مظاهرة عدوّهم عليهم. وبعد: ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه حين بعث عليّا رضي اللّه عنه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم، ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد، فعهده إلى مدته أوضح الدليل على صحة ما قلنا وذلك أن اللّه لم يأمر نبيه صلى اللّه عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهده بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود، فأما من كان أجل عهده محدودا ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلاً، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا، بذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب.

١٢٧٩٤ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قيس، عن مغيرة، عن الشعبيّ، قال: ثني محرر بن أبي هريرة، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: كنت مع عليّ رضي اللّه عنه حين بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم ينادي، فكان إذا صَحِلَ صوته ناديت، قلت: بأي شيء كنتم تنادون؟ قال: بأربع: لا يطف بالكعبة عريان، ومن كان له عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا قيس بن الربيع، قال: حدثنا الشيباني، عن الشعبيّ، قال: أخبرنا المحرر بن أبي هريرة، عن أبيه، قال: كنت مع عليّ رضي اللّه عنه، فذكر نحوه، إلا أنه قال: (ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلمعهد فعهده إلى أجله) .

وقد حدث بهذا الحديث شعبة، فخالف قيسا في الأجل.

فحدثني يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن المثنى، قالا: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن الشعبيّ، عن المحرّر بن أبي هريرة، عن أبيه، قال: كنت مع عليّ حين بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة، فكنت أنادي حتى صحل صوتي، فقلت: بأي شيء كنت تنادي؟ قال: أمرنا أن ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فأجله إلى أربعة أشهر، فإذا حلّ الأجل فإن اللّه بريء من المشركين ورسوله، ولا يطف بالبيت عريان، ولا يحجّ بعد العام مشرك.

قال أبو جعفر رحمه اللّه : وأخشى أن يكون هذا الخبر وهما من ناقله في الأجل، لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه مع خلاف قيس شعبة في نفس هذا الحديث على ما بينته.

١٢٧٩٥ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن الحرث الأعور عن عليّ رضي اللّه عنه، قال: أمرت بأربع: أمرت أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطف رجل بالبيت عريانا، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، وأن يتمّ إلى كل ذي عهد عهده.

١٢٧٩٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع قال: نزلت براءة، فبعث بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر، ثم أرسل عليّا فأخذها منه. فلما رجع أبو بكر، قال: هل نزل فيّ شيء؟ قال: لا، ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي. فانطلق إلى مكة، فقام فيهم بأربع: أن لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا، ولا يطف بالكعبة عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول اللّه عهد فعهده إلى مدته.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن عليّ، قال: بعثني النبي صلى اللّه عليه وسلم حين أنزلت براءة بأربع: أن لا يطف بالبيت عريان، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عبد الأعلى، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن عليّ رضي اللّه عنه، قال: بعثت إلى أهل مكة بأربع، ثم ذكر الحديث.

١٢٧٩٧ـ حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا حسين بن محمد، قال: حدثنا سليمان بن قرم، عن الأعمش عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا بكر ببراءة، ثم أتبعه عليّا، فأخذها منه، فقال أبو بكر رضي اللّه عنه: يا رسول اللّه حدث فيّ شيء؟ قال: (لا، أنْتَ صَاحِبي فِي الغارِ وعَلى الحَوْضِ، ولاَ يُؤَدّي عَنّي إلاّ أنا أوْ عليّ) ، وكان الذي بعث به عليّا أربعا: لا يدخلَ الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فهو إلى مدته.

١٢٧٩٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن عامر، قال: بعث النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عليّا رضي اللّه عنه، فنادى: ألا لا يحجنّ بعد العام مشرك، ولا يطف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فأجله إلى مدته، واللّه بريء من المشركين ورسولُه.

١٢٧٩٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن عليّ بن حسين بن عليّ، قال: لما نزلت براءة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه ليقيم الحجّ للناس

قيل له: يا رسول اللّه لو بعثت إلى أبي بكر فقال: (لا يُؤَدّي عَنّي إلاّ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ بَيْتِي) ثم دعا عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه فقال: (اخْرُجْ بِهَذِهِ القِصّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةَ، وأذّن في النّاسِ يَوْمَ النّحْرِ إذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى: أنّه لا يَدْخُلُ الجَنّة كافِرٌ، ولاَ يَحُجّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ، ولاَ يَطُفْ بالبَيْتِ عُرْيانٌ، وَمَنْ كانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم عَهْدٌ فَهُوَ إلى مُدّتِهِ) فخرج عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه على ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العضباء، حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق فلما رآه أبو بكر، قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور. ثم مضيا رضي اللّه عنهما، فأقام أبو بكر للناس الحجّ والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحجّ التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر، قام عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فأذّن في الناس بالذي أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطف بالبيت عريان، ومن كان له عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهو له إلى مدته فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. ثم قدما على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى.

١٢٨٠٠ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قال: لما نزلت هذه الاَيات إلى رأس أربعين آية، بعث بهنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع أبي بكر وأمرّه على الحجّ، فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة أتبعه بعليّ فأخذها منه، فرجع أبو بكر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء؟ قال: (لا، ولَكِنْ لا يُبَلّغُ عَنّي غَيرِي أوْ رَجُلٌ مِنّي أما تَرْضَى يا أبا بَكْرٍ أنّكَ كُنْتَ مَعِي في الغارِ، وأنّكَ صَاحِبي على الحَوْض؟) قال: بلى يا رسول اللّه . فسار أبو بكر على الحاجّ، وعليّ يؤذن ببراءة، فقام يوم الأضحى، فقال: لا يقربنّ المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوفنّ بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فله عهده إلى مدته، وإن هذه أيام أكل وشرب، وإن اللّه لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما. فقالوا: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب فرجع المشركون فلام بعضهم بعضا، وقالوا: ما تضعون وقد أسلمت قريش؟ فأسلموا.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن عليّ، قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن يتمّ إلى كل ذي عهد عهده قال معمر: وقاله قتادة.

قال أبو جعفر رحمه اللّه ، فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا، وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا، فأما كان عهده إلى مدة معلومة فلم يجعل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وللمؤمنين لنقضه ومظاهرة أعدائهم عليهم سبيلاً، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد وَفّى له عهده إلى مدته عن أمر اللّه إياه بذلك، وعلى ذلك دلّ ظاهر التنزيل وتظاهرت به الأخبار عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم. وأما الأشهر الأربعة فإنها كانت أجلَ من ذكرنا، وكان ابتداؤها يوم الحجّ الأكبر وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الاَخر، فذلك أربعة أشهر متتابعة، جعل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم فيها السياحة في الأرض، يذهبون حيث شاءوا، لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحد بحرب ولا قتل ولا سلب.

فإن قال قائل: فإذا كان الأمر في ذلك كما وصفت، فما وجه قوله: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ وقد علمت أن انسلاخها انسلاخ المحرم، وقد زعمت أن تأجيل القوم من اللّه ومن رسوله كان أربعة أشهر، وإنما بين الحج الأكبر وانسلاخ الأشهر الحرم خمسون يوما أكثره، فأين الخمسون يوما من الأشهر الأربعة؟ قيل: إن انسلاخ الأشهر الحرم إنما كان أجل من لا عهد له من المشركين من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والأشهر الأربعة لمن له عهد، إما إلى أجل غير محدود وإما إلى أجل محدود قد نقضه، فصار بنقضه إياه بمعنى من خيف خيانته، فاستحق النبذ إليه على سواء غير أنه جعل له الاستعداد لنفسه والارتياد لها من الأجل الأربعة الأشهر، ألا ترى اللّه يقول لأصحاب الأشهر الأربعة، ويصفهم بأنهم أهل عهد بَرَاءةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمُ مِنَ المُشْرِكينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجِزِي اللّه ووصف المجعول لهم انسلاخ الأشهر الحرام أجلاً بأنهم أهل شرك لا أهل عهد، فقال: وأذَانٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجّ الأكْبَرِ أنّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ... الآية إلاّ الّذينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ... الآية، ثم قال: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكيِنَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ؟ فأمر بقتل المشركين الذين لا عهد لهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وبإتمام عهد الذين لهم عهد إذا لم يكونوا نقضوا عهدهم بالمظاهرة على المؤمنين وإدخال النقص فيه عليهم.

فإن قال قائل: وما الدليل على أن ابتداء التأجيل كان يوم الحجّ الأكبر دون أن يكون كان من شوّال على ما قاله قائلوا ذلك؟

قيل له: إن قائلي ذلك زعموا أن التأجيل كان من وقت نزول براءة، وذلك غير جائز أن يكون صحيحا لأن المجعول له أجل السياحة إلى وقت محدود إذا لم يعلم ما جعل له، ولا سيما مع عهد له قد تقدم قبل ذلك بخلافه، فكمن لم يجعل له ذلك لأنه إذا لم يعلم ماله في الأجل الذي جعل له وما عليه بعد انقضائه فهو كهيئته قبل الذي جعل له من الأجل، ومعلوم أن القوم لم يعلموا بما جعل لهم من ذلك إلا حين نودي فيهم بالموسم، وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن ابتداءه ما قلنا وانقضاءه كان ما وصفنا.

٢

وأما قوله: فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ فإنه يعني : فسيروا فيها مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأتباعه، يقال منه: ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسُيُوحا وسيحانا.

وأما قوله: واعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مَعْجِزي اللّه فإنه يقول لأهل العهد من الذين كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد قبل نزول هذه الآية: اعملوا أيها المشركون أنكم إن سحتم في الأرض واخترتم ذلك مع كفركم باللّه على الإقرار بتوحيد وتصديق رسوله، غَيْرُ مُعْجِزي اللّه

يقول: غير مفيتيه بأنفسكم لأنكم حيث ذهبتم وأين كنتم من الأرض ففي قبضته وسلطانه، لا يمنعكم منه وزير ولا يحول بينكم وبينه إذا أرادكم بعذاب معقل ولا موئل إلا الإيمان به وبرسوله والتوبة من معصيته.

يقول: فبادروا عقوبته بتوبة، ودعوا السياحة التي لا تنفعكم.

وأما قوله: وأنّ اللّه مُخْزي الكافِرِينَ

يقول: واعلموا أن اللّه مذلّ الكافرين، ومورثهم العار في الدنيا والنار في الاَخرة.

٣

القول في تأويل قوله تعالى:{وَأَذَانٌ مّنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ أَنّ اللّه بَرِيَءٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ...}.

يقول تعالى ذكره: وإعلام من اللّه ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر. وقد بيّنا معنى الأذان فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده.

وكان سليمان بن موسى يقول في ذلك ما:

١٢٨٠١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: زعم سليمان بن موسى الشامي أنه قوله: وأذانٌ مِنَ اللّه ورَسُولِهِ قال: الأذان القصص، فاتحة براءة حتى تختم: وإنْ خفتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ فذلك ثمان وعشرون آية.

١٢٨٠٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وأذانٌ مِنَ اللّه ورَسُولِهِ قال: إعلام من اللّه ورسوله.

ورفع قوله: وأذانٌ مِنَ اللّه عطفا على قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه كأنه قال: هذه براءة من اللّه ورسوله، وأذان من اللّه .

وأما قوله: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ فإنه قيل اختلافا بين أهل العلم،

فقال بعضهم: هو يوم عرفة. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٠٣ـ حدثنا محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، قال: أخبرنا أبو زرعة، وهبة اللّه بن راشد، قالا: أخبرنا حيوة بن شريح، قال: أخبرنا أبو صخر، أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة

يقول: سمعت أبا الصهباء البكري، وهو

يقول: سألت عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه عن يوم الحجّ الأكبر، فقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة رضي اللّه عنه يقيم للناس الحجّ، وبعثني معه بأربعين آية من براءة، حتى أتى عرفة، فخطب الناس يوم عرفة فلما قضى خطبته التفت إليّ، فقال قم يا عليّ وأدّ رسالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة ثم صدرنا حتى أتينا منى، فرميت الجمرة، ونحرت البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم، فمن ثم إخال حسبتم أنه يوم النحر، ألا وهو يوم عرفة.

١٢٨٠٤ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، قال: سألت أبا جحيفة عن يوم الحجّ الأكبر، فقال: يوم عرفة، فقلت: أمن عندك أو من أصحاب محمد؟ قال: كل ذلك.

١٢٨٠٥ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، قال: الحجّ الأكبر: يوم عرفة.

١٢٨٠٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن عمر بن الوليد الشني، عن شهاب بن عباد العصري، عن أبيه، قال: قال عمر رضي اللّه عنه: يوم الحجّ الأكبرّ: يوم عرفة. فذكرته لسعيد بن المسيب، فقال: أخبرك عن ابن عمر أن عمر قال: الحجّ الأكبر: عرفة.

١٢٨٠٧ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن الوليد الشني، قال: حدثنا شهاب بن عباد العصري، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب رحمة اللّه عليه

يقول: هذا يوم عرفة يوم الحجّ الأكبر يصومنه أحد قال: فحججت بعد أبي، فأتيت المدينة، فسألت عن أفضل أهلها، فقالوا: سعيد بن المسيب. فأتيته فقلت: إني سألت عن أفضل أهل المدينة، فقالوا: سعيد بن المسيب، فأخبرني عن صوم يوم عرفة فقال: أخبرك عمن هو أفضل مني أضعافا: عمر أو ابن عمر، كان ينهى عن صومه، و

يقول: هو يوم الحجّ الأكبر.

١٢٨٠٨ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا عبد الصمد بن حبيب، عن معقل بن داود، قال: سمعت ابن الزبير

يقول: يوم عرفة هذا يوم الحجّ الأكبر فلا يصمه أحد.

١٢٨٠٩ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا غالب بن عبيد اللّه ، قال: سألت عطاء عن يوم الحجّ الأكبر: فقال: يوم عرفة، فأفض منها قبل طلوع الفجر.

١٢٨١٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: أخبرني محمد بن قيس بن مخرمة قال: خطب النبي صلى اللّه عليه وسلم عشية عرفة، ثم قال: (أمّا بَعْدُ) وكان لا يخطب إلا قال: (أما بعد) (فإنّ هذَا يَوْم الحَجّ الأكْبَرِ) .

١٢٨١١ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن مجاهد، قال: يوم الحجّ الأكبر: يوم عرفة.

١٢٨١٢ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا إسحاق بن سليمان، عن سلمة بن محب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: يوم الحجّ الأكبر يوم عرفة.

١٢٨١٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني طاوس، عن أبيه، قال: قلنا: ما الحجّ الأكبر؟ قال: يوم عرفة.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطب يوم عرفة فقال: (هَذَا يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ) .

وقال آخرون: هو يوم النحر. ذكر من قال ذلك:

١٢٨١٤ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن عليّ، قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن سلام، عن الأجلح، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا عنبسة، عن أبي إسحاق، عن الحرث، قال: سألت عليا عن الحجّ الأكبر، فقال: هو يوم النحر.

١٢٨١٥ـ حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا سليمان الشيباني، قال: سألت عبد اللّه بن أبي أوفى، عن الحجّ الأكبر، قال: فقال يوم النحر.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عياش العامري، عن عبد اللّه بن أبي أوفى، قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر.

قال: حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد اللّه بن أبي أوفى، قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.

١٢٨١٦ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الملك، قال: دخلت أنا وأبو سلمة على عبد اللّه بن أبي أوفى، قال: فسألته عن يوم الحجّ الأكبر، فقال: يوم النحر، يوم يهراق فيه الدم.

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد اللّه ، قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، عن الشيبانيّ، قال: سألت ابن أبي أوفى عن يوم الحجّ الأكبر؟ قال: يوم النحر.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا الشيباني، عن عبد اللّه بن أبي أوفى، قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.

١٢٨١٧ـ قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك بن عمير، قال: سمعت عبد اللّه بن أبي أوفى، وسئل عن قوله: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ قال: هو اليوم الذي يراق فيه الدم ويحلق فيه الشعر.

١٢٨١٨ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدّث عن عليّ: أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة، فجاءه رجل فأخذ بلجام بغلته، فسأله عن الحجّ الأكبر، فقال: هو يومك هذا، خلّ سبيلها

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن مالك بن مغول وشتير، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن عليّ، قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن عليّ، قال: سئل عن يوم الحجّ الأكبر، قال: هو يوم النحر.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن عليّ، أنه لقيه رجل يوم النحر، فأخذ بلجامه، فسأله عن يوم الحجّ الأكبر، قال: هو هذا اليوم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن عبد الملك بن عمير وعياش العامري، عن عبد اللّه بن أبي أوفى، قال: هو اليوم الذي يهراق فيه الدماء.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أبي أوفى، قال: الحجّ الأكبر، يوم تهراق فيه الدماء، ويحلق فيه الشعر، ويحلّ فيه الحرام.

١٢٨١٩ـ حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن عبد اللّه بن يسار، قال: حدثنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير، فقال: هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحجّ الأكبر.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عبد اللّه بن يسار، قال: خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير، وقال: هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحجّ الأكبر.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عبد اللّه بن يسار، قال: خطبنا المغيرة بن شعبة، فذكر نحوه.

١٢٨٢٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن حماد بن سلمة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الحجّ الأكبر يوم النحر.

١٢٨٢١ـ حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا سليمان الشيباني، قال: سمعت سعيد بن جبير

يقول: الحجّ الأكبر يوم النحر.

١٢٨٢٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبيد اللّه ، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة، قال: الحجّ الأكبر: يوم النحر.

١٢٨٢٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: اختصم عليّ بن عبد اللّه بن عباس ورجل من آل شيبة في يوم الحجّ الأكبر، قال عليّ: هو يوم النحر، وقال الذي من آل شيبة: هو يوم عرفة. فأرسل إلى سعيد بن جبير فسألوه، فقال: هو يوم النحر، إلا ترى أن من فاته يوم عرفة لم يفته الحجّ، فإذا فاته يوم النحر فقد فاته الحجّ؟

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن سعيد بن جبير، أنه قال: الحجّ الأكبر: يوم النحر. قال: فقلت له: إن عبد اللّه بن شيبة ومحمد بن عليّ بن عبد اللّه بن عباس اختلفا في ذلك، فقال محمد بن عليّ: هو يوم النحر، وقال عبد اللّه : هو يوم عرفة. فقال سعيد بن جبير: أرأيت لو أن رجلاً فاته يوم عرفة أكان يفوته الحجّ؟ وإذا فاته يوم النحر فاته الحجّ.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير، قال: الحجّ الأكبر يوم النحر.

١٢٨٢٤ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: قال: المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: ثني رجل، عن أبيه، عن قسس بن عبادة، قال: ذو الحجة العاشر النحر، وهو يوم الحجّ الأكبر.

١٢٨٢٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد اللّه بن شداد، قال: يوم الحجّ الأكبر: يوم النحر، والحجّ الأصغر: العُمرة.

١٢٨٢٦ـ حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عبد اللّه بن شداد بن الهاد، قال: الحجّ الأكبر يوم النحر.

١٢٨٢٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا المحاربي، عن مسلم الحجبي، قال: سألت نافع بن جبير بن مطعم، عن يوم الحجّ الأكبر، قال: يوم النحر.

١٢٨٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: كان يقال: الحجّ الأكبر يوم النحر.

١٢٨٢٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، قال: يوم الحجّ الأكبر يوم يهراق فيه الدم، ويحلّ فيه الحرام.

١٢٨٣٠ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، أنه قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر الذي يحلّ فيه كلّ حرام.

قال: حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي، عن عليّ، قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.

١٢٨٣١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون، قال: سألت محمدا عن يوم الحجّ الأكبر فقال: كان يوما وافق فيه حجّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحجّ أهل الوبر.

١٢٨٣٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكيم بن بشير، قال: حدثنا عمر بن ذرّ، قال: سألت مجاهدا عن يوم الحجّ الأكبر، فقال: هو يوم النحر.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن ثور، عن مجاهد يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.

١٢٨٣٣ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر، قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر وقال عكرمة: يوم الحجّ الأكبر: يوم النحر، يوم يهراق فيه الدماء، ويحلّ فيه الحرام. قال: وقال مجاهد: يوم يجمع فيه الحجّ كله، وهو يوم الحجّ الأكبر.

 

١٢٨٣٤ـ قال: حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن محمد بن عليّ: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.

قال: حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.

قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.

١٢٨٣٥ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، قال: قال عليّ الحجّ الأكبر: يوم النحر. قال: وقال الزهري: يوم النحر: يوم الحجّ الأكبر.

١٢٨٣٦ـ حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنا عمي عبد اللّه بن وهب، قال: أخبرني يونس وعمرو عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع أبي بكر في الحجة التي أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: ألا لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان قال الزهري: فكان حميد

يقول: يوم النحر: يوم الحجّ الأكبر.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الشعبي، عن أبي إسحاق، قال: سألت عبد اللّه بن شداد عن الحجّ الأكبر والحجّ الأصغر، فقال: الحجّ الأكبر: يوم النحر، والحجّ الأصغر: العُمرة.

قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، قال: سألت عبد اللّه بن شداد، فذكره نحوه.

قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، قال: سمعت عبد اللّه بن أبي أوفى

يقول: يوم الحجّ الأكبر: يوم يوضع في الشعر، ويهراق فيه الدم، ويحلّ فيه الحرام.

قال: حدثنا الثوريّ، عن أبي إسحاق، عن عليّ، قال: الحجّ الأكبر يوم النحر.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قيس، عن عياش العامري، عن عبد اللّه بن أبي أوفى، أنه سئل عن يوم الحجّ الأكبر، فقال: سبحان اللّه ، هو يوم يهراق فيه الدماء، ويحلّ فيه الحرام، ويوضع فيه الشعر وهو يوم النحر.

قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن عبد اللّه بن يسار، قال: خطبنا المغيرة بن شعبة على ناقة له، فقال: هذا يوم النحر، وهذا يوم الحجّ الأكبر.

قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا حسن بن صالح، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.

حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، عن إبراهيم بن طهمان، عن مغيرة، عن إبراهيم: يوم الحجّ الأكبر: يوم النحر، ويحلّ فيه الحرام.

١٢٨٣٧ـ حدثني أحمد بن المقدام، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: لما كان يوم ذلك، قعد على بعير له النبيّ، وأخذ إنسان بخطامه أو زمامه، فقال: (أيّ يوْمٍ هَذَا؟) قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه غير اسمه، فقال: (ألَيْسَ يَوْمُ الحَجّ؟) .

١٢٨٣٨ـ حدثنا سهل بن محمد الحساني، قال: حدثنا أبو جابر الحرثي، قال: حدثنا هشام بن الغازي الجرشي، عن نافع، عن ابن عمر، قال: وقف رسوله اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع، فقال: (هَذَا يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ) .

١٢٨٣٩ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن مرّة الهمداني، عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة، فقال: (أتَدْرُونَ أيّ يَوْمٍ يَوْمُكُمْ؟) قالوا: يوم النحر، قال: (صَدَقْتُمْ يَوْمَ الحَجّ الأكْبَر) .

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني عمرو بن مرّة، قال: حدثنا مرّة، قال: حدثنا رجل من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكره نحوه.

١٢٨٤٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه، قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا بأربع كلمات حين حجّ أبو بكر بالناس، فنادى ببراءة: إنه يوم الحجّ الأكبر، ألا إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ألا ولا يطوف بالبيت عريان، ألا ولا يحجّ بعد العام مشرك، ألا ومن كان بينه وبين محمد عهد فأجله إلى مدته، واللّه بريء من المشركين ورَسُولُه.

١٢٨٤١ـ حدثني يعقوب، قال: ثني هشيم، عن حجاج بن أرطاة، عن عطاء، قال: يوم الحجّ الأكبر يوم النحر.

١٢٨٤٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ قال: يوم النحر: يوم يحلّ فيه المحرم، وينحر فيه البدن. وكان ابن عمر

يقول: هو يوم النحر، وكان أبي يقوله. وكان ابن عباس

يقول: هو يوم عرفة. ولم أسمع أحدا يقول إنه يوم عرفة إلا ابن عباس. قال ابن زيد: والحجّ يفوت بفوت يوم النحر ولا يفوت بفوت يوم عرفة، إن فاته اليوم لم يفته الليل، يقف ما بينه وبين طلوع الفجر.

١٢٨٤٣ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قال: يوم الأضحى: يوم الحجّ الأكبر.

حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن شعبة، عن عمرو بن مرّة، قال: ثني رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غرفتي هذه، حسبته قال: خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم النحر على ناقة حمراء مخضرمة، فقال: (أتَدْرُونَ أيّ يَوْمٍ هَذَا؟ هَذَا يَوْمُ النّحْرِ وهَذَا يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ) .

وقال آخرون: معنى قوله: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ حين الحجّ الأكبر ووقته. قال: وذلك أيام الحجّ كلها لا يوم بعينه. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٤٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ حين الحجّ، أيامه كله.

١٢٨٤٥ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: الحجّ الأكبر: أيام مِني كلها، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومجنّة، حين نودي فيهم: أن لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا وأن لا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته.

١٢٨٤٦ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا أبو عبيد، قال: كان سفيان

يقول: يوم الحجّ، ويوم الجمل، ويوم صفين: أي أيامه كلها.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ قال حين الحج، أي أيامه كلها.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا: قول من قال: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ: يوم النحر لتظاهر الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن عليّا نادى بما أرسله به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الرسالة إلى المشركين، وتلا عليهم براءة يوم النحر. هذا مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال يوم النحر: (أتَدْرُونَ أيّ يَوْمٍ هَذَا؟ هَذَا يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ.) وبعد: فإن اليوم إنما يضاف إلى معنى الذي يكون فيه، كقول الناس: يوم عرفة، وذلك يوم وقوف الناس بعرفة، ويوم الأضحى، وذلك يوم يضحون فيه ويوم الفطر، وذلك يوم يفطرون فيه وكذلك يوم الحجّ، يوم يحجون فيه. وإنما يحجّ الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر، لأن في ليلة نهار يوم النحر الوقوف بعرفة كان إلى طلوع الفجر، وفي صبيحتها يعمل أعمال الحجّ فأما يوم عرفة فإنه وإن كان الوقوف بعرفة فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، والحجّ كله يوم النحر.

وأما ما قال مجاهد من أن يوم الحجّ إنما هو أيامه كلها، فإن ذلك وإن كان جائزا في كلام العرب، فليس بالأشهر الأعرف في كلام العرب من معاينه، بل غلب على معنى اليوم عندهم أنه من غروب الشمس إلى مثله من الغد، وإنما محمل تأويل كتاب اللّه على الأشهر الأعرف من كلام من نزل الكتاب بلسانه.

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل لهذا اليوم: يوم الحجّ الأكبر،

فقال بعضهم: سمي بذلك لأن ذلك كان في سنة اجتمع فيها حج المسلمين والمشركين. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٤٧ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، قال: إنما سمي الحجّ الأكبر من أجل أنه حجّ أبو بكر الحجة التي حجها، واجتمع فيها المسلمون والمشركون، فلذلك سمي الحجّ الأكبر، ووافق أيضا عيد اليهود والنصارى.

١٢٨٤٨ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عليّ بن زيد بن جدعان عن عبد اللّه بن الحرث بن نوفل، قال: يوم الحجّ الأكبر كانت حجة الوداع اجتمع فيه حجّ المسلمين والنصارى واليهود ولم يجتمع قبله ولا بعده.

١٢٨٤٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن، قال قوله: يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ قال: إنما سمي الحجّ الأكبر لأنه يوم حجّ فيه أبو بكر، ونبذت فيه العهود.

وقال آخرون: الحجّ الأكبر: القران، والحجّ الأصغر: الإفراد. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٥٠ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو بكر النهشلي، عن حماد، عن مجاهد، قال: كان

يقول: الحجّ الأكبر والحجّ الأصغر فالحجّ الأكبر: القران، والحجّ الأصغر: إفراد الحجّ.

وقال آخرون: الحجّ الأكبر: الحجّ، والحجّ الأصغر: العمرة. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٥١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: الحجّ الأكبر: الحجّ، والحجّ الأصغر: العمرة.

١٢٨٥٢ـ قال: حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر، قال: قلت له: هذا الحجّ الأكبر، فما الحجّ الأصغر؟ قال: العُمرة.

١٢٨٥٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: كان يقال: الحجّ الأصغر: العمرة في رمضان.

١٢٨٥٤ـ قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: كان

يقول: الحجّ الأصغر: العمرة.

١٢٨٥٥ـ قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي أسماء، عن عبد اللّه بن شداد، قال: يوم الحجّ الأكبر: يوم النحر، والحجّ الأصغر: العمرة.

١٢٨٥٦ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: أن أهل الجاهلية كانوا يسمون الحجّ الأصغر: العمرة.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال: الحجّ الأكبر الحجّ لأنه أكبر من العمرة بزيادة عمله على عملها، فقيل له الأكبر لذلك. وأما الأصغر فالعمرة، لأن عملها أقلّ من عمل الحجّ، فلذلك قيل لها الأصغر لنقصان عملها عن عمله.

وأما قوله: أنّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فإن معناه: أن اللّه بريء من عهد المشركين ورسوله بعد هذه الحجة. ومعنى الكلام: وإعلام من اللّه ورسوله إلى الناس في يوم الحجّ الأكبر، أن اللّه ورسوله من عهد المشركين بريئان كما:

١٢٨٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: أنّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ أي بعد الحجة.

القول في تأويل قوله تعالى: فإنْ تُبْتُمْ فهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإنْ تَوَلّيْتُمْ فاعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجِزِي اللّه وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أليمٍ.

يقول تعالى: فإن تبتم من كفركم أيها المشركون، ورجعتم إلى توحيد اللّه وإخلاص العبادة له دون الاَلهة والأنداد، فالرجوع إلى ذلك خير لكم من الإقامة على الشرك في الدنيا والاَخرة. وإنْ تَوَلّيْتُمْ

يقول: وإن أدبرتم عن الإيمان باللّه وأبيتم إلا الإقامة على شرككم. فاعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجِزي اللّه

يقول: فأيقنوا أنكم لا تفيتون اللّه بأنفسكم من أن يحلّ بكم عذابه الأليم وعقابه الشديد على إقامتكم على الكفر، كما فعل بذويكم من أهل الشرك، من إنزال نقمه به وإحلاله العذاب عاجلاً بساحته. وَبَشّر الّذِينَ كَفَرُوا

يقول: واعلم يا محمد الذين جحدوا نبوّتك وخالفوا أمر ربهم بعذاب موجع يحلّ بهم.

١٢٨٥٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قوله: فإنْ تُبْتُمْ قال آمنتم.

٤

القول في تأويل قوله تعالى:{إِلاّ الّذِينَ عَاهَدتّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ ...}.

يقول تعالى ذكره: وأذَانٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجّ الأكْبَرِ أنّ اللّه بَريءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، إلاّ من عهد الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ أيها المؤمنون، ثُمّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا من عهدكم الذي عاهدتموهم، ولَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا من عدوّكم، فيعينوهم بأنفسهم وأبدانهم، ولا بسلاح ولا خيل ولا رجال. فأتِمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ

يقول: قفوا لهم بعدههم الذي عاهدتموهم عليه، ولا تنصبوا لهم حربا إلى انقضاء أجل عهدهم الذي بينكم وبينهم. إنّ اللّه يُحِبّ المُتّقِينَ

يقول: إن اللّه يحبّ من اتقاه بطاعته بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.

١٢٨٥٩ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: فأتِمّوا إلَيْهِمْ عَهْدِهُمْ إلى مُدّتِهِمْ

يقول: إلى أجلهم.

١٢٨٦٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ: أي العهد الخاصّ إلى الأجل المسمى. ثُمّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا... الآية.

١٢٨٦١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا ولَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا... الآية، قال: هم مشركو قريش الذين عاهدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زمن الحديبية. وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، فأمر اللّه نبيه أن يوفي لهم بعهدهم إلى مدتهم، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرّم، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ، وأن لا يقبل منهم إلا ذلك.

١٢٨٦٢ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: مدة من كان له عهد المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر من يوم أذن ببراءة إلى عشر من شهر ربيع الاَخر، وذلك أربعة أشهر، فإن نقض المشركون عهدهم وظاهروا عدوّا فلا عهد لهم، وإن وفوا بعدهم الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يظاهروا عليه عدوّا، فقد أمر أن يؤدي إليهم عهدهم ويفي به.

٥

القول في تأويل قوله تعالى:{فَإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتّمُوهُمْ ...}.

يعني جل ثناؤه ب قوله: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فإذا انقضى ومضى وخرج، يقال منه: سلخنا شهر كذا نسلخه سَلْخا وسُلُوخا، بمعنى: خرجنا منه، ومنه قولهم: شاة مسلوخة، بمعنى: المنزوعة من جلدها المخرجة منه ويعني بالأشهر الحرم: ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرّم، أو إنما أريد في هذا الموضع انسلاخ المحرّم وحده، لأن الأذان كان ببراءة يوم الحجّ الأكبر، فمعلوم أنهم لم يكونوا أجلوا الأشهر الحرم كلها وقد دللنا على صحة ذلك فيما مضى. ولكنه لما كان متصلاً بالشهرين الاَخرين قبله الحرامين وكان هولهما ثالثا وهي كلها متصل بعضها ببعض، قيل: فإذا انسلخ الأشهر الحرم.

ومعنى الكلام: فإذا انقضت الأشهر الحرم الثلاثة عن الذين لا عهد لهم، أو عن الذين كان لهم عهد، فنقضوا عهدهم بمظاهرتهم الأعداء على رسول اللّه وعلى أصحابه، أو كان عهدهم إلى أجل غيره معلوم فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ

يقول: فاقتلوهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ

يقول: حيث لقيتوهم من الأرض في الحرم وغير الحرم في الأشهر الحُرم وغير الأشهر الحرم. وَخُذُوهُمْ

يقول: وأسروهم وَاحْصُرُوهُمْ

يقول: وامنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام ودخول مكة. وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ

يقول: واقعدوا لهم بالطلب لقتلهم أو أسرهم كلّ مرصد، يعني : كلّ طريق ومرقب، وهو مفعل من قول القائل رصدت فلانا أرصُده رَصْدا، بمعنى: رقبته. فإنْ تابُوا

يقول: فإن رجعوا عما نهاهم عليه من الشرك باللّه وجحود نبوّة نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى توحيد اللّه وإخلاص العبادة له، دون الاَلهة والأنداد، والإقرار بنبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلموأقامُوا الصّلاةَ

يقول: وأدّوا ما فرض اللّه عليهم من الصلاة بحدودها وأعْطُوا الزّكاةَ التي أوجبها اللّه عليهم في أموالهم أهلها. فخَلّوا سَبِيلَهُمْ

يقول: فدعوهم يتصرّفون في أمصاركم ويدخلون البيت الحرام. إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب من عباده، فأناب إلى طاعته بعد الذي كان عليه من معصيته، ساتر على ذنبه، رحيم به أن يعاقبه على ذنوبه السالفة قبل توبته، بعد التوبة. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في الذين أُجّلوا إلى انسلاخ الأشهر الحرم.

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٦٣ـ حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسديّ، قال: حدثنا عبد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع، عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ فَارَقَ الدّنْيَا على الإخْلاص للّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ لا يُشْرِكُ بهِ شَيْئا، فَارَقها واللّه عَنْهُ رَاضٍ) قال: وقال أنس: هو دين اللّه الذي جاءت به الرسل، وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب اللّه في آخر ما أنزل اللّه ، قال اللّه : فإنْ تَابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتَوُا الزّكَاةَ فخَلّوا سَبِيلَهُمْ قال: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. ثم قال في آية أخرى: فإنْ تَابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكَاةَ فإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ.

١٢٨٦٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ حتى ختم آخر الآية. وكان قتادة

يقول: خلوا سبيل من أمركم اللّه أن تخلوا سبيله، فإنما الناس ثلاثة رهط: مسلم عليه الزكاة، ومشرك عليه الجزية، وصاحب حرب يأمن بتجارته في المسلمين إذا أعطى عشور ماله.

١٢٨٦٥ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ وهي الأربعة التي عددت لك، يعني عشرين من ذي الحجة والمحرّم وصفر وربيعا الأول وعشرا من شهر ربيع الاَخر.

وقال قائلوا هذه المقالة: قيل لهذه الأشهر الحرم لأن اللّه عزّ وجلّ حرّم على المؤمنين فيها دماء المشركين والعَرْض لهم إلا بسبيل خير. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٦٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن إبراهيم بن أبي بكر، أنه أخبره، عن مجاهد وعمرو بن شعيب، في قوله: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ أنها الأربعة التي قال اللّه : فَسِيحُوا في الأرْضِ قال: هي الحرم من أجل أنهم أومنوا فيها حتى يسيحوها.

١٢٨٦٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إلَى الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ قال: ضرب لهم أجل أربعة أشهر، وتبرأ من كلّ مشرك، ثم أمر إذا انسلخت تلك الأشهر الحرم فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ لا تتركوهم يضربون في البلاد، ولا يخرجون للتجارة، ضيقوا عليهم. بعدها أمر بالعفو: فإنْ تَابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ فَخَلّوا سَبِيلَهُمْ إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ.

١٢٨٦٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ يعني الأربعة التي ضرب اللّه لهم أجلاً لأهل العهد العام من المشركين. فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كْلّ مَرْصَدٍ... الآية.

٦

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّه ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْلَمُونَ }.

يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن استأمنك يا محمد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم أحد ليسمع كلام اللّه منك، وهو القرآن الذي أنزله اللّه عليه. فأجرُهْ

يقول: فأمنه، حتّى يَسمعَ كلامِ اللّه وتتلوه عليه. ثُمّ أبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ

يقول: ثم ردّه بعد سماعه كلام اللّه إن هو أبى أن يسلم ولم يتعظ لما تلوته عليه من كلام اللّه فيؤمن إلى مأمنه،

يقول: إلى حيث يأمن منك وممن في طاعتك حتى يلحق بداره وقومه من المشركين. ذلكَ بأنّهُمْ قَوُمٌ لا يَعْلَمُونَ

يقول: تفعل ذلك بهم من إعطائك إياهم الأمان، ليسمعوا القرآن، وردّك إياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم، من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن اللّه حجة ولا يعلمون ما لهم بالإيمان باللّه لو آمنوا وما عليهم من الوزر والإثم بتركهم الإيمان بالله.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٦٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: وَإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجاركَ: أي من هؤلاء الذين أمرتك بقتالهم، فأجِرْهُ.

١٢٨٧٠ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: فَأجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّه أما كلام اللّه : فالقرآن.

١٢٨٧١ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجاركَ فَأجِرْهُ قال: إنسان يأتيك فيسمع ما تقول ويسمع ما أنزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فيسمع كلام اللّه ، وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.

١٢٨٧٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غازيا، فلقي العدوّ، وأخرج المسلمون رجلاً من المشركين وأشرعوا فيه الأسنة، فقال الرجل: ارفعوا عني سلاحكم، وأسمعوني كلام اللّه تعالى فقالوا: تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله وتخلع الأنداد وتتبرأ من اللات والعُزّى؟ فقال: فإني أشهدكم أني قد فعلت.

١٢٨٧٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ثُمّ أبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ قال: إن لم يوافقه ما تقول عليه وتحدّثه، فأبلغه. قال: وليس هذا بمنسوخ.

واختلف في حكم هذه الآية، وهل هو منسوخ أو هو غير منسوخ؟

فقال بعضهم: هو غير منسوخ، وقد ذكرنا قول من قال ذلك.

وقال آخرون: هو منسوخ. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٧٤ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك : فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ نسختها: فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِدَاءً.

١٢٨٧٥ـ قال: حدثنا سفيان، عن السديّ، مثله.

وقال آخرون: بل نسخ قوله: فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ قوله: فإمّا مَنّا بَعْدُ. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٧٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة: حَتّى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ نسخها قوله: فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.

وقال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: ليس ذلك بمنسوخ، وقد دللنا على أن معنى النسخ هو نفي حكم قد كان ثبت بحكم آخر غيره، ولم تصحّ حجة بوجوب حكم اللّه في المشركين بالقتل بكلّ حال ثم نسخه بترك قتلهم على أخذ الفداء ولا على وجه المنّ عليهم. فإذا كان ذلك كذلك فكان الفداء والمنّ والقتل لم يزل من حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهم من أولّ حرب حاربهم، وذلك من يوم بدر كان معلوما أن معنى الآية: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم للقتل أو المن أو الفداء واحصروهم، وإذا كان ذلك معناه صحّ ما قلنا في ذلك دون غيره.

٧

القول في تأويل قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّه وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...}.

يقول تعالى ذكره: أنى يكون أيها المؤمنون باللّه ورسوله، وبأيّ معنى يكون للكشركين بربهم عهد وذمة عند اللّه وعند رسوله، يوفي لهم به، ويتركوا من أجله آمنين يتصرفون في البلاد وإنما معناه: لا عهد لهم، وأن الواجب على المؤمنين قتلهم حيث وجدوهم إلا الذين أعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم، فإن اللّه جل ثناؤه أمر المؤمنين بالوفاء لهم بعهدهم والاستقامة لهم عليه، ما داموا عليه للمؤمنين مستقيمين.

واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا ب قوله: إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسّجِدِ الحَرَامِ

فقال بعضهم: هم قوم من جذيمة بن الديل. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٧٧ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّه وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ هم بنو جذيمة بن الديل.

١٢٨٧٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، قوله: إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قال: هم جذيمة بكر من كنانة.

١٢٨٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ الذين كانوا وأنتم على العهد العام بأن لا تمنعوهم ولا يمنعوكم من الحرم ولا في الشهر الحرام، عَهْدٌ عِنْدَ اللّه وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وهي قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدتم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين قريش، فلم يكن نقضَها إلا هذا الحيّ من قريش وبنو الديل من بكر، فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ... الآية.

وقال آخرون: هم قريش. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٨٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ هم قريش.

١٢٨٨١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ يعني : أهل مكة.

١٢٨٨٢ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ

يقول: هم قوم كان بينهم وبين النبي صلى اللّه عليه وسلم مدة، ولا ينبغي لمشرك أن يدخل المسجد الحرام ولا يعطي المسلم الجزية. فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ يعني : أهل العهد من المشركين.

١٢٨٨٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قال: هؤلاء قريش. وقد نسخ هذا الأشهر التي ضربت لهم، وغدروا بهم فلم يستقيموا، كما قال اللّه فضرب لهم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم: إما أن يسلموا، وإما أن يلحقوا بأيّ بلاد شاءوا قال: فأسلموا قبل الأربعة الأشهر، وقبل قَتْلٍ.

١٢٨٨٤ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر عن قتادة: إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قال: هم قوم جذيمة. قال: فلم يستقيموا، نقضوا عهدهم أي أعانوا بني بكر حلف قريش على خزاعة حلف النبي صلى اللّه عليه وسلم.

وقال آخرون: هم قوم من خزاعة. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٨٥ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن مجاهد: إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال: أهل العهد من خزاعة.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال: هم بعض بني بكر من كنانة، ممن كان أقام على عهده ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش حين نقضوه بمعونتهم حلفاءهم من بني الديل على حلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من خزاعة.

وإنما قلت هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب لأن اللّه أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام، ما استقاموا على عهدهم. وقد بينا أن هذه الاَيات إنما نادى بها عليّ في سنة تسع من الهجرة، وذلك بعد فتح مكة بسنة، فلم يكن بمكة من قريش ولا خزاعة كافر يومئذ بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده، لأن من كان منهم من ساكني مكة كان قد نقض العهد وحورب قبل نزول هذه الاَيات.

وأما قوله: إنّ اللّه يُحِبّ المُتّقِينَ فإن معناه: إن اللّه يحبّ من اتقى وراقبه في أداء فرائضه، والوفاء بعهده لمن عاهده، واجتناب معاصيه، وترك الغدر بعهوده لمن عاهده.

٨

القول في تأويل قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىَ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ }.

يعني جل ثناؤه ب قوله: كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم أو لمن لا عهد له منهم منكم أيها المؤمنون عهد وذمة، وهم إن يظهروا عليكم يغلبوكم، لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمة. واكتفى ب (كيف) دليلاً على معنى الكلام، لتقدم ما يراد من المعنى بها قبلها وكذلك تفعل العرب إذا أعادت الحرف بعد مضي معناه استجازوا حذف الفعل، كما قال الشاعر:

وخَبّرْتُمَانِي أنّمَا المَوْتُ فِي القُرَىفَكَيْفَ وَهَذِي هَضْبَةٌ وكَثِيبُ

فحذف الفعل بعد كيف لتقدم ما يراد بعدها قبلها.

ومعنى الكلام: فكيف يكون الموت في القرى وهذي هضبة وكثيب لا ينجو فيهما منه أحد.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاّ وَلا ذمّةً

فقال بعضهم: معناه: لا يراقبوا اللّه فيكم ولا عهدا. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٨٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ قال اللّه .

١٢٨٨٧ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن سليمان، عن أبي مجلز، في قوله: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلا ذِمّةً قال: مثل قوله جبرائيل ميكائيل إسرافيل، كأته يقال: يضاف (جبر) و (ميكا) و (إسراف) إلى (إيل) ،

يقول: عبد اللّه لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ كأنه

يقول: لا يرقبون اللّه .

حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثني محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلاّ وَلا ذِمّةً لا يرقبون اللّه ولا غيره.

وقال آخرون: الإلّ: القرابة. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٨٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلا ذِمّةً

يقول: قرابة ولا عهدا.

وقوله: وإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاّ وَلا ذِمّةً قال: الإلّ: يعني القرابة، والذمة: العهد.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: لاَ يَرْقَبُوا إلاّ وَلا ذِمّةً الإلّ: القرابة، والذمة: العهد. يعني : أهل العهد من المشركين،

يقول: ذمتهم.

١٢٨٨٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، وعبدة عن حوشب، عن الضحاك : الإلّ: القرابة.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبد اللّه ، عن سلمة بن كهيل، عن عكرمة، عن ابن عباس: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلاَ ذِمّةً قال: الإلّ: القرابة، والذمة: العهد.

١٢٨٩٠ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاّ وَلاَ ذِمّةً الإلّ: القرابة، والذمة: الميثاق.

١٢٨٩١ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: كَيْفَ وَإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ المشركون، لا يرقبوا فيكم عهدا ولا قرابة ولا ميثاقا.

وقال آخرون: معناه: الحلف. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٩٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لاَ يَرْقَبُوا فِيكُمْ إلاّ ولاَ ذِمّةً قال: الإلّ: الحلف، والذمة: العهد.

وقال آخرون: الإلّ: هو العهد ولكنه كرّر لما اختلف اللفظان وإن كان معناهما واحدا. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٩٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلاّ قال: عهدا.

١٢٨٩٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لاَ يَرْقُبُوا فِيْكُمْ إلاّ وَلاَ ذِمّةً قال: لا يرقبوا فيكم عهدا ولا ذمة. قال: إحداهما من صاحبتها كهيئة (غفور رحيم) ، قال: فالكلمة واحدة وهي تفترق، قال: والعهد هو الذمة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن خصيف، عن مجاهد: وَلا ذِمّةً قال: العهد.

حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا قيس، عن خصيف، عن مجاهد: وَلاَ ذِمّةً قال: الذمة العهد.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن اللّه تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المشركين الذين أمر نبيه والمؤمنين بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم وحصرهم والقعود لهم على كلّ موصد أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم إلاّ، والإلّ: اسم يشتمل على معان ثلاثة: وهي العهد والعقد، والحلف، والقرابة، وهو أيضا بمعنى اللّه . فإذ كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة، ولم يكن اللّه خص من ذلك معنى دون معنى، فالصواب أن يعمّ ذلك كما عمّ بها جل ثناؤه معانيها الثلاثة، فيقال: لا يرقبون في مؤمن اللّه ، ولا قرابة، ولا عهدا، ولا ميثاقا. ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل:

أفْسَدَ النّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُواقَطَعُوا الإلّ وأعْرَاقَ الرّحِيمْ

بمعنى: قطعوا القرابة وقول حسان بن ثابت:

لَعَمْرُكَ إنّ إلّكَ مِنْ قُرَيْشٍكإلّ السّقْبِ مِنْ رَألِ النّعامِ

وأما معناه: إذا كان بمعنى العهد. فقول القائل:

وَجَدْنَاهُمُ كاذِبا إلّهُمْوذُو الإلّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ

وقد زعم بعض من ينسب إلى معرفة كلام العرب من البصريين، أن الإلّ والعهد والميثاق واليمين واحد، وأن الذمة في هذا الموضع: التذمم ممن لا عهد له، والجمع: ذمم. وكان ابن إسحاق

يقول: عنى بهذه الآية: أهل العهد العام.

١٢٨٩٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: كَيْفَ وَإنْ يَظهَرُوا عَلَيْكُمْ أي المشركون الذين لا عهد لهم إلى مدة من أهل العهد العام لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاّ وَلاَ ذِمّةً.

وأما قوله: يَرْضُونَكُمْ بأفْوَاهِهِمْ فإنه

يقول: يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء. وتَأْبَى قُلُوبُهُمْ: أي تأبى عليهم قلوبهم أن يذعنوا لكم بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم. يحذر جل ثناؤه أمرهم المؤمنين ويشحذهم على قتلهم واجتياحهم حيث وجدوا من أرض اللّه ، وألا يقصروا في مكروههم بكل ما قدروا عليه. وأكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ

يقول: وأكثرهم مخالفون عهدكم ناقصون له، كافرون بربهم خارجون عن طاعته.

٩

القول في تأويل قوله تعالى:{اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّه ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.

 

يقول جلّ ثناؤه: ابتاع هؤلاء المشركون الذين أمركم اللّه أيها المؤمنون بقتلهم حيث وجدتموهم بتركهم اتباع ما احتجّ اللّه به عليهم من حججه يسيرا من العوض قليلاً من عرض الدنيا وذلك أنهم فيما ذكر عنهم كانوا نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأكلة أطعمهموها أبو سفيان بن حرب.

١٢٨٩٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: اشْتَرُوا بآياتِ اللّه ثَمَنا قَلِيلاً قال: أبو سفيان بن حرب أطعم حلفاءه، وترك حلفاء محمد صلى اللّه عليه وسلم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وأما قوله: فَصَدّوا عَنْ سَبِيلِهِ فإن معناه: فمنعوا الناس من الدخول في الإسلام، وحاولوا ردّ المسلمين عن دينهم. إنّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْلَمُونَ

يقول جلّ ثناؤه: إن هؤلاء المشركين الذين وصفت صفاتهم، ساء عملهم الذي كانوا يعملون من اشترائهم الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى، وصدّهم عن سبيل اللّه من آمن باللّه ورسوله أو من أراد أن يؤمن.

١٠

القول في تأويل قوله تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ }.

يقول تعالى ذكره: لا يتقي هؤلاء المشركون الذين أمرتكم أيها المؤمنون بقتلهم حيث وجدتموهم في قتل مؤمن لو قدورا عليه إلاّ وَلاَ ذِمّةً

يقول: فلا تبقوا عليهم أيها المؤمنون، كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم. وأُلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ

يقول: المتجاوزون فيكم إلى ما ليس لهم بالظلم والاعتداء.

١١

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }.

 

يقول جلّ ثناؤه: فإن رجع هؤلاء المشركون الذين أمرتكم أيها المؤمنون بقتلهم عن كفرهم وشركهم باللّه إلى الإيمان به وبرسوله وأنابوا إلى طاعته وأقاموا الصلاة المكتوبة فأدّوها بحدودها وآتوا الزكاة المفروضة أهلها فإخْوَانُكُمْ في الدّينِ

يقول: فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم اللّه به، وهو الإسلام. وَنْفَصّلُ الاَياتِ

يقول: ونبين حجج اللّه وأدلته على خلقه، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما بين لهم فنشرحها لهم مفصلة دون الجهال الذين لا يعقلون عن اللّه بيانه ومحكم آياته.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٢٨٩٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فإنْ تَابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتَوُا الزّكَاةَ فإخْوَانَكُمْ فِي الدّينِ

يقول: إن تركوا اللات والعُزّى، وشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه فإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ ونُفَصّلُ الاَياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.

١٢٨٩٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن ليث، عن رجل، عن ابن عباس: فإنْ تابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ قال: حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة.

١٢٨٩٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعا لم يفرق بينهما وقرأ: فإنْ تابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ فإخْوَانُكُمْ في الدّين وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: رحم اللّه أبا بكر ما كان أفقهه.

١٢٩٠٠ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه ، قال: أمرتم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن لم يزكّ فلا صلاة له.

وقيل: فإخْوَانُكُمْ فرفع بضمير: فهم إخوانكم، إذ كان قد جرى ذكرهم قبل، كما قال: فإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فإخْوَانكمْ فِي الدّينِ.

١٢

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن نّكَثُوَاْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوَاْ أَئِمّةَ الْكُفْرِ إِنّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلّهُمْ يَنتَهُونَ }.

يقول تعالى ذكره: فإن نقض هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم من قريش عهودهم من بعد ما عاقدوكم، أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم وَطَعَنُوا فِي دينِكُمْ

يقول: وقدحوا في دينكم الإسلام، فثلموه وعابوه. فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ

يقول: فقاتلوا رؤساء الكفر بالله. إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ

يقول: إن رؤساء الكفر لا عهد لهم. لَعَلّهُمْ يَنْتَهُونَ لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم.

وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف بينهم في المعنيين بأئمة الكفر،

فقال بعضهم: هم أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب ونظراؤهم. وكان حذيفة

يقول: لم يأت أهلها بعد. ذكر من قال هم من سمّيت:

١٢٩٠١ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وَإنْ نَكَثُوا أيمَانَهُمْ مَنْ بَعْد عَهْدِهِمْ... إلى: لَعَلّهُمْ يَنْتَهُونَ يعني : أهل العهد من المشركين، سماهم أئمة الكفر، وهم كذلك. يقول اللّه لنبيه: وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم فقاتل أئمة الكفر، لأنهم لا أيمان لهم، لعلهم ينتهون.

١٢٩٠٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَإنْ نَكَثُوا أيمَانَهُمْ مَنْ بَعْد عَهْدِهِمْ... إلى: يَنْتَهُونَ، فكان من أئمة الكفر: أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان، وسهيل بن عمرو، وهم الذين هموا بإخراجه.

١٢٩٠٣ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: أئمة الكفر: أبو سفيان، وأبو جهل، وأمية بن خلف، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن ربيعة.

١٢٩٠٤ـ حدثنا ابن وكيع وابن بشار، قال ابن وكيع: حدثنا غندر، وقال ابن بشار: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ أنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ قال أبو سفيان منهم.

١٢٩٠٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: وَإنْ نَكَثُوا أيمَانَهُمْ... إلى: يَنْتَهُونَ هؤلاء قريش،

يقول: إن نكثوا عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام وطعنوا فيه، فقاتلوهم.

١٢٩٠٦ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ يعني : رأس المشركين أهل مكة.

١٢٩٠٧ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وسهيل بن عمرو، وهم الذين نكثوا عهد اللّه وهمّوا بإخراج الرسول، وليس واللّه كما تأوّله أهل الشبهات والبدع والفِرَي على اللّه وعلى كتابه.

ذكر الرواية عن حذيفة بالذي ذكرنا عنه:

١٢٩٠٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا حبيب بن حسان، عن زيد بن وهب، قال: كنت عند حذيفة، فقرأ هذه الآية: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ فقال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.

حدثني أبو السائب، قال: حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: قرأ حذيفة: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.

١٢٩٠٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر: إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ لا عهد لهم.

١٢٩١٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: وَإنْ نَكَثُوا أيمَانَهُمْ قال: عهدهم.

١٢٩١١ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: وَإنْ نَكَثُوا أيمَانَهُمْ عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام.

١٢٩١٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صلة، عن عمار بن ياسر، في قوله: لا أيمَانَ لَهُمْ قال: لا عهد لهم.

١٢٩١٣ـ حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة في قوله: فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ قال: لا عهد لهم.

وأما النكث فإن أصله: النقض، يقال منه: نكث فلان قوي حبله إذا نقضها، والأيمان: جمع اليمين.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ فقرأه قرّاء الحجاز والعراق وغيرهم: إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ بفتح الألف من (أيمان) بمعنى: لا عهود لهم على ما قد ذكرنا من قول أهل التأويل فيه. وذُكر عن الحسن البصريّ أنه كان يقرأ ذلك: (إنّهُمْ لا إيمَانَ لَهُمْ) بكسر الألف، بمعنى: لا إسلام لهم. وقد يتوجه لقراءته كذلك وجه غير هذا، وذلك أن يكون أراد بقراءته ذلك كذلك: أنهم لا أمان لهم: أي لا تؤمنوهم، ولكن اقتلوهم حيث وجدتموهم، كأنه أراد المصدر من قول القائل: آمنته، فأنا أومنه إيمانا.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءات في ذلك الذي لا أستجيز القراءة بغيره، قراءة من قرأ بفتح الألف دون كسرها، لإجماع الحجة من القراء على القراءة به ورفض خلافه، ولإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من أن تأويله لا عهد لهم. والأيمان التي هي بمعنى العهد، لا تكون إلا بفتح الألف، لأنها جمع (يمين) كانت على عقدٍ كان بين المتوادعين.

١٣

القول في تأويل قوله تعالى:{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نّكَثُوَاْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمّواْ بِإِخْرَاجِ الرّسُولِ ...}.

يقول تعالى ذكره للمؤمنين باللّه ورسوله حاضّا لهم على جهاد أعدائهم من المشركين: ألا تقاتلون أيها المؤمنون هؤلاء المشركين الذين نقضوا العهد الذي بينكم وبينهم وطعنوا في دينكم وظاهروا عليكم أعداءكم وهموا بإخراج الرسول من بين أظهرهم فأخرجوه وهم بَدَءُوكُمْ أوّلَ مَرّةٍ بالقتال، يعني فعلهم ذلك يوم بدر. وقيل: قتالهم حلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من خزاعة. أتَخْشَوْنَهُمْ

يقول: أتخافونهم على أنفسهم، فتتركوا قتالهم خوفا على أنفسكم منهم؟ فاللّه أحَقّ أنْ تَخْشَوْهُ

يقول: فاللّه أولى بكم أن تخافوا عقوبته بترككم جهادهم، وتحذروا سخطه عليكم من هؤلاء المشركين الذين لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا إلا بإذن اللّه . إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنينَ

يقول: إن كنتم مقرّين أن خشية اللّه لكم أولى من خشية هؤلاء المشركين على أنفسكم.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٢٩١٤ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قوله: ألا تُقاتِلُونَ قَوْما نَكَثُوا أيمَانَهُمْ مَنْ بَعْد عَهْدِهِمْ وَهَمّوا بإخْرَاج الرّسُول

يقول: همّوا بإخراجه فأخرجوه. وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أوّلَ مَرّةٍ بالقتال.

١٢٩١٥ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أوّلَ مَرّةٍ قال: قتال قريش حلفاء محمد صلى اللّه عليه وسلم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

١٢٩١٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أمر اللّه رسوله بجهاد أهل الشرك ممن نقض من أهل العهد ومن كان من أهل العهد العام بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلاً، إلا أن يعودوا فيها على دينهم فيقبل بعد. ثم قال: ألا تُقاتِلوُنَ قَوْما نَكَثُوا أيمَانَهُمْ وَهَمّوا بإخْرَاجِ الرّسُول... إلى قوله: وَاللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.

١٤

القول في تأويل قوله تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مّؤْمِنِينَ }.

يقول تعالى ذكره للمؤمنين باللّه ورسوله حاضّا لهم على جهاد أعدائهم من المشركين: ألا تقاتلون أيها المؤمنون هؤلاء المشركين الذين نقضوا العهد الذي بينكم وبينهم وطعنوا في دينكم وظاهروا عليكم أعداءكم وهموا بإخراج الرسول من بين أظهرهم فأخرجوه وهم بَدَءُوكُمْ أوّلَ مَرّةٍ بالقتال، يعني فعلهم ذلك يوم بدر. وقيل: قتالهم حلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من خزاعة. أتَخْشَوْنَهُمْ

يقول: أتخافونهم على أنفسهم، فتتركوا قتالهم خوفا على أنفسكم منهم؟ فاللّه أحَقّ أنْ تَخْشَوْهُ

يقول: فاللّه أولى بكم أن تخافوا عقوبته بترككم جهادهم، وتحذروا سخطه عليكم من هؤلاء المشركين الذين لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا إلا بإذن اللّه . إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنينَ

يقول: إن كنتم مقرّين أن خشية اللّه لكم أولى من خشية هؤلاء المشركين على أنفسكم.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٢٩١٧ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قوله: ألا تُقاتِلُونَ قَوْما نَكَثُوا أيمَانَهُمْ مَنْ بَعْد عَهْدِهِمْ وَهَمّوا بإخْرَاج الرّسُول

يقول: همّوا بإخراجه فأخرجوه. وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أوّلَ مَرّةٍ بالقتال.

١٢٩١٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أوّلَ مَرّةٍ قال: قتال قريش حلفاء محمد صلى اللّه عليه وسلم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

١٢٩١٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أمر اللّه رسوله بجهاد أهل الشرك ممن نقض من أهل العهد ومن كان من أهل العهد العام بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلاً، إلا أن يعودوا فيها على دينهم فيقبل بعد. ثم قال: ألا تُقاتِلوُنَ قَوْما نَكَثُوا أيمَانَهُمْ وَهَمّوا بإخْرَاجِ الرّسُول... إلى قوله: وَاللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.

١٥

القول في تأويل قوله تعالى:{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّه عَلَىَ مَن يَشَآءُ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره: قاتلوا أيها المؤمنون باللّه ورسوله هؤلاء المشركين الذين نكثوا أيمانهم ونقضوا عهودهم بينكم وبينهم، وأخرجوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بين أظهرهم. يُعَذّبْهُمُ اللّه بأيْدِيكُم

يقول: يقتلهم اللّه بأيديكم. ويُخْزِهِمْ

يقول: ويذلهم بالأسر والقهر. وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ فيعطيكم الظفر عليهم والغلبة. وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ

يقول: ويبرىء داء صدور قوم مؤمنين باللّه ورسوله بقتل هؤلاء المشركين بأيديكم وإذلالكم وقهركم إياهم، وذلك الداء هو ما كان في قلوبهم عليهم من الموجدة بما كانوا ينالونهم به من الأذى والمكروه. وقيل: إن اللّه عنى ب قوله: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ: صدور خزاعة حلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وذلك أن قريشا نقضوا العهد بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمعونتهم بكرا عليهم. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٢٠ـ حدثنا محمد بن المثنى وابن وكيع قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في هذه الآية: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قال: خزاعة.

١٢٩٢١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، عن أسباط، عن السديّ: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قال خزاعة يشف صدورهم من بني بكر.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، مثله.

١٢٩٢٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ خزاعة حلفاء محمد صلى اللّه عليه وسلم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد اللّه بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد اللّه بن كثير، عن مجاهد: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قال: حلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من خزاعة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

يقول اللّه تعالى ذكره: ويذهب وجد قلوب هؤلاء القوم المؤمنين من خزاعة، على هؤلاء القوم الذين نكثوا أيمانهم من المشركين وغمها وكربها بما فيها من الوجد عليهم، بمعونتهم بكرا. كما:

١٢٩٢٣ـ حدثني ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، عن أسباط، عن السديّ: وَيُذْهبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ حين قتلهم بنو بكر وأعانتهم قريش.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، مثله، إلا أنه قال: وأعانهم عليهم قريش.

وأما قوله: وَيَتُوبُ اللّه على مَنْ يَشاءُ فإنه خبر مبتدأ، ولذلك رفع وجزم الأحرف الثلاثة قبل ذلك على وجه المجازاة، كأنه قال: قاتلوهم فإنكم إن تقاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم، ويخزهم، وينصركم عليهم. ثم ابتدأ فقال: وَيَتُوبُ اللّه على مَنْ يَشاءُ لأن القتال غير موجب لهم التوبة من اللّه ، وهو موجب لهم العذاب من اللّه والخزي وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم، فجزم ذلك شرطا وجزاءً على القتال، ولم يكن موجبا القتال التوبة، فابُتِدىء الحكم به ورُفع.

ومعنى الكلام: ويمنّ اللّه على من يشاء من عباده الكافرين، فيقبل به إلى التوبة بتوفيقه إياه، واللّه عليم بسرائر عباده ومن هو للتوبة أهل فيتوب عليه، ومن منهم غير أهل لها فيخذله، حكيم في تصريف عباده من حال كفر إلى حال إيمان بتوفيق من وفقه لذلك، ومن حال إيمان إلى كفر بخذلانه من خذل منهم عن طاعته وتوحيده، وغير ذلك من أمرهم.

١٦

القول في تأويل قوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّه الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ...}.

يقول تعالى ذكره للمؤمنين الذين أمرهم بقتال هؤلاء المشركين، الذين نقضوا عهدهم الذي بينهم وبينه ب قوله: قاتِلوُهُمْ يُعْذّبْهُمُ اللّه بأيْديكُمْ... الآية، حاضّا على جهادهم: أم حسبتم أيها المؤمنون أن يترككم اللّه بغير محنة يمتحنكم بها وبغير اختبار يختبركم به، فيعرف الصادق منكم في دينه من الكاذب فيه. وَلمّا يَعْلَمِ اللّه الّذِينَ جاهَدُوا

يقول: أحسبتم أن تتركوا بغير اختبار يعرف به أهل ولايته المجاهدين منكم في سبيله، من المضيعين أمر اللّه في ذلك المفرّطين. ولَمْ يَتّخِذُوا مِنْ دُون اللّه وَلا رَسُولِهِ

يقول: ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم، والذين لم يتخذوا من دون اللّه ولا من دون رسوله، ولا من دون المؤمنين وَلِيجَةً هو الشيء يدخل في آخر غيره، يقال منه: ولج فلان في كذا يَلِجُهُ فهو وليجة. وإنما عنى بها في هذا الموضع: البطانة من المشركين، نهى اللّه المؤمنين أن يتخذوا من عدوّهم من المشركين أولياء يفشون إليهم أسرارهم. وَاللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

يقول: واللّه ذو خبرة بما تعملون من اتخاذكم من دون اللّه ودون رسوله والمؤمنين به أولياء وبطانة بعد ما قد نهاكم عنه، لا يخفى ذلك عليه ولا غيره من أعمالكم، واللّه مجازيكم على ذلك إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا.

وبنحو الذي قلت في معنى الوليجة قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٢٤ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: وَلا المُؤمِنِينَ وَلِيجَةَ يتولجها من الولاية للمشركين.

١٢٩٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع: وَلِيجَةً قال: دَخَلاً.

١٢٩٢٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تُتْرَكُواإلى قوله: ولِيَجَةً قال: أبي أن يعدهم دون التمحيص، وقرأ: أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنّةَ وَلمّا يَعْلَمِ اللّه الّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وقرأ: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم اللّه الذين جهدوا منكم وَلمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ... الاَيات كلها، أخبرهم أن لا يتركهم حتى يمحصهم ويختبرهم، وقرأ: الم أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ لا يختبرون وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلْيَعْلَمَنّ اللّه الّذِينَ صَدَقُوا وَلْيَعْلَمَنّ الكاذِبِينَ أبى اللّه إلا أن يمحص.

١٢٩٢٧ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: وَلِيجَةً قال: هو الكفر والنفاق، أو قال أحدهما.

وقيل: أمْ حَسِبْتُمْ ولم يقل: (أحسبتم) ، لأنه من الاستفهام المعترض في وسط الكلام، فأدخلت فيه (أم) ليفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ وقد بيّنت نظائر ذلك في غير موضع من الكتاب.

١٧

القول في تأويل قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللّه شَاهِدِينَ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النّارِ هُمْ خَالِدُونَ }.

يقول تعالى ذكره: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر.

يقول: إن المساجد إنما تعمر لعبادة اللّه فيها لا للكفر به، فمن كان باللّه كافرا فليس من شأنه أن يعمر مساجد اللّه .

وأما شهادتهم على أنفسهم بالكفر، فإنها كما:

١٢٩٢٨ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قوله: ما كانَ للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّه شاهِدِينَ على أنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ

يقول: ما ينبغي لهم أن يعمروها. وأما شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ فإن النصرانيّ يسأل: ما أنت؟ ف

يقول: نصراني، واليهودي، ف

يقول: يهودي، والصابىء، ف

يقول: صابىء، والمشرك يقول إذا سألته: ما دينك؟ ف

يقول: مشرك لم يكن ليقوله أحد إلا العرب.

١٢٩٢٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو العنقزي، عن أسباط، عن السديّ: ما كانَ للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّه قال:

يقول: ما كان ينبغي لهم أن يعمروها.

١٢٩٣٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السديّ: شاهِدِينَ على أنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ قال: النصراني يقال له: ما أنت؟ ف

يقول: نصراني، واليهودي يقال له: ما أنت؟ ف

يقول: يهودي، والصابىء يقال له: ما أنت؟ ف

يقول: صابىء.

وقوله: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعمالُهُمْ

يقول: بطلت وذهبت أجورها، لأنها لم تكن لله، بل كانت للشيطان. وفِي النّارِ هُمْ خالِدُونَ

يقول: ماكثون فيها أبدا، لا أحياءً ولا أمواتا.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ما كانَ للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّه فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة: مَساجِدَ اللّه على الجمع. وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: (مَسْجِدَ اللّه ) على التوحيد، بمعنى المسجد الحرام. وهم جميعا مجمعون على قراءة قوله: مَساجِدَ اللّه على الجمع، لأنه إذا قرىء كذلك احتمل معنى الواحد والجمع، لأن العرب قد تذهب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد، كقولهم: عليه ثوب أخلاق.

١٨

القول في تأويل قوله تعالى:{إِنّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّه مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ...}.

يقول تعالى ذكره: إنما يعمر مساجد اللّه المصدّق بوحدانية اللّه ، المخلص له العبادة واليوم الاَخر،

يقول: الذي يصدق ببعث اللّه الموتى أحياء من قبورهم يوم القيامة، وأقام الصلاة المكتوبة بحدودها، وأدّى الزكاة الواجبة عليه في ماله إلى من أوجبها اللّه له. وَلمْ يَخْشَ إلاّ اللّه

يقول: ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه سوى اللّه . فَعَسَى أُولَئِكَ أنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ

يقول: فخليق بأولئك الذين هذه صفتهم أن يكونوا عند اللّه ممن قد هداه اللّه للحقّ وإصابة الصواب.

١٢٩٣١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: حدثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: إنّمَا يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّه مَنْ آمَنَ باللّه واليَوْمِ الاَخِرِ

يقول: من وحد اللّه . وآمن باليوم الاَخر

يقول: أقرّ بما أنزل اللّه . وأقامَ الصّلاةَ يعني الصلوات الخمس. ولَمْ يَخْشَ إلاّ اللّه

يقول: ثم لم يعبد إلا اللّه ، قال: فَعَسَى أُولَئِكَ

يقول: إن أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه: عَسَى أنْ يَبْعَثكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا

يقول: إن ربك سيبعثك مقاما محمودا، وهي الشفاعة، وكل (عسى) في القرآن فهي واجبة.

١٢٩٣٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم ذكر قول قريش: إنا أهل الحرم، وسقاة الحاجّ، وعمّار هذا البيت، ولا أحد أفضل منا فقال: إنّمَا يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّه مَنْ آمَنَ باللّه واليَوْمِ الاَخِرِ: أي إن عمارتكم ليست على ذلك، إنما يعمر مساجد اللّه : أي من عمرها بحقها، مَنْ آمَنَ باللّه واليَوْمِ الاَخِرِ وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاةَ ولَمْ يَخْشَ إلاّ اللّه فأولئك عمارها. فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ و(عسى) من اللّه حق.

١٩

القول في تأويل قوله تعالى:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ...}.

وهذا توبيخ من اللّه تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم جل ثناؤه أن الفخر في الإيمان باللّه واليوم الاَخر والجهاد في سبيله لا في الذي افتخروا به من السدانة والسقاية. وبذلك جاءت الاَثار وتأويل أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٣٣ـ حدثنا أبو الوليد الدمشقي أحمد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: ثني معاوية بن سلام، عن جده أبي سلام الأسود، عن النعمان بن بشير الأنصاريّ، قال: كنت عند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي ألاّ أعمل عملاً بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر: بل الجهاد في سبيل اللّه خير مما قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فاستفتيته فيما اختلفتم فيه قال: ففعل، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ... إلى قوله: وَاللّه لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ.

١٢٩٣٤ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كمَنْ آمَنَ باللّه واليَوْمِ الاَخِرِ قال العباس بن عبد المطلب حين أُسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاجّ، ونفك العاني قال اللّه : أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ... إلى قوله: الظّالِمِينَ. يعني أن ذلك كان في الشرك، ولا أقْبَلُ ما كان في الشرك.

١٢٩٣٥ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ... إلى قوله: الظّالِمِينَ وذلك أن المشركين قالوا: عمارة بيت اللّه وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره. فذكر اللّه استكبارهم وإعراضهم، فقال لأهل الحرم من المشركين: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ على أعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرا تَهْجُرُونَ يعني أنهم يستكبرون بالحرم، وقال: (به سامرا) لأنهم كانوا يسمرون ويهجرون القرآن والنبيّ صلى اللّه عليه وسلم. فخير الإيمان باللّه والجهاد مع نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية. ولم يكن ينفعهم عند اللّه مع الشرك به أن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه، قال اللّه : لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّه وَاللّه لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ يعني : الذين زعموا أنهم أهل العمارة، فسماهم اللّه (ظالمين) بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئا.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن النعمان بن بشير، أن رجلاً قال: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاجّ وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر: الجهاد في سبيل اللّه أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صلى الجمعة دخلنا عليه. فنزلت: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ... إلى قوله: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّه .

١٢٩٣٦ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عمرو، عن الحسن، قال: نزلت في عليّ وعباس وعثمان وشيبة، تكلموا في ذلك فقال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أقِيمُوا على سِقايَتِكُمْ فإنّ لَكُمْ فِيها خَيْرا) .

١٢٩٣٧ـ قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن إسماعيل، عن الشعبيّ، قال: نزلت في عليّ والعباس، تكلما في ذلك.

١٢٩٣٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرت عن أبي صخر، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي

يقول: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار، وعباس بن عبد المطلب، وعليّ بن أبي طالب، فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، لو أشاء بتّ فيه وقال عباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بتّ في المسجد وقال عليّ: ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد فأنزل اللّه : أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ... الآية كلها.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، قال: لما نزلت أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (أقِيمُوا على سِقايَتِكُمْ فإنّ لَكُمْ فِيها خَيْرا) .

١٢٩٣٩ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كمَنْ آمَنَ باللّه وَاليَوْمِ الاَخِرِ وَجاهَد فِي سَبِيلِ اللّه لا يَسْتَوُونَ عنْد اللّه قال: افتخر عليّ وعباس وشيبة بن عثمان، فقال العباس: أنا أفضلكم، أنا أسقي حجاج بيت اللّه وقال شيبة: أنا أعمر مسجد اللّه وقال علي: أنا هاجرت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأجاهد معه في سبيل اللّه فأنزل اللّه : الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه ... إلى: نَعِيمٌ مُقِيمٌ.

١٢٩٤٠ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ... الآية، أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أُسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك، فقال العباس: أما واللّه لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونفك العاني، ونحجب البيت، ونسقي الحاجّ فأنزل اللّه : أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ... الآية.

فتأويل الكلام إذن: أجعلتم أيها القوم سقاية الحاجّ، وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن باللّه واليوم الاَخر وجاهد في سبيل اللّه ، لا يستوون هؤلاء وأولئك، ولا تعتدل أحوالهما عند اللّه ومنازلهما لأن اللّه تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الاَخر عملاً. واللّه لا يَهْدِي القَوْم الظّالِمِينَ

يقول: واللّه لا يوفق لصالح الأعمال من كان به كافرا ولتوحيده جاحدا. ووضع الاسم موضع المصدر في قوله: كمَنْ آمَنَ باللّه إذ كان معلوما معناه، كما قال الشاعر:

لَعَمْرُكَ ما الفِتْيانُ أنْ تَنْبُتَ اللّحَىوَلَكِنّما الفِتْيانُ كُلّ فَتىً نَدِي

فجعل خبر الفتيان (أن) ، وهو كما يقال: إنما السخاء حاتم والشعر زهير.

٢٠

القول في تأويل قوله تعالى:{الّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّه وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }.

وهذا قضاء من اللّه بين فِرَق المفتخرين الذين افتخر أحدهم بالسقاية، والاَخر بالسدانة، والاَخر بالإيمان باللّه والجهاد في سبيله. يقول تعالى ذكره: الذين آمنوا بالله: صدقوا بتوحيده من المشركين، وهاجروا دور قومهم، وجاهدوا المشركين في دين اللّه بأموالهم وأنفسهم، أعظم درجة عند اللّه وأرفع منزلة عنده من سقاة الحاجّ وعمار المسجد الحرام وهم باللّه مشركون. وَأُولِئكَ

يقول: وهؤلاء الذين وصفنا صفتهم أنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا وهُمُ الفَائِزُونَ بالجنة الناجون من النار.

٢١

القول في تأويل قوله تعالى:{يُبَشّرُهُمْ رَبّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مّقِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره: يبشر هؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه ربهم برحمة منه لهم أنه قد رحمهم من أن يعذبهم وبرضوان منه لهم، بأنه قد رضي عنهم بطاعتهم إياه وأدائهم ما كلفهم. وجَنّاتٍ

يقول: وبساتين لهم فيها نعيم مقيم لا يزول ولا يبيد، ثابت دائم أبدا لهم.

١٢٩٤١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الموسوي، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال اللّه سبحانه: أعطيكم أفضل من هذا، فيقولون: ربنا أيّ شيء أفضل من هذا؟ قال: رضواني) .

٢٢

القول في تأويل قوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنّ اللّه عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره: خالِدِينَ فِيها ماكثين فيها، يعني في الجنات. أبَدا لا نهاية لذلك ولا حدّ. إنّ اللّه عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ

يقول: إن اللّه عنده لهؤلاء المؤمنين الذين نعتهم جل ثناؤه النعت الذي ذكر في هذه الآية أجر: ثواب على طاعتهم لربهم وأدائهم ما كلفهم من الأعمال عظيم، وذلك النعيم الذي وعدهم أن يعطيهم في الاَخرة.

٢٣

القول في تأويل قوله تعالى:{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُوَاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إَنِ اسْتَحَبّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ ...}.

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم وتطلعونهم على عورة الإسلام وأهله، وتؤثرون المكث بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام. إنِ اسْتَحَبّوا الكُفْرَ على الإيمَانِ

يقول: إن اختاروا الكفر باللّه على التصديق به والإقرار بتوحيده. وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ

يقول: ومن يتخذهم منكم بطانة من دون المؤمنين، ويؤثر المقام معهم على الهجرة إلى رسول اللّه ودار الإسلام فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ

يقول: فالذين يفعلون ذلك منكم هم الذين خالفوا أمر اللّه ، فوضعوا الولاية في غير موضعها وعصوا اللّه في أمره. وقيل: إن ذلك نزل نهيا من اللّه المؤمنين عن موالاة أقربائهم الذين لم يهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٤٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال: أمروا بالهجرة، فقال العباس بن عبد المطلب: أنا أسقي الحاجّ وقال طلحة أخو بني عبد الدار: أنا صاحب الكعبة فلا نهاجر فأنزلت: لا تَتخِذُوا آباءَكُمْ وإخُوَانَكُمْ أوْلِياءَ... إلى قوله: يَأْتِيَ اللّه بأمره بالفتح، في أمره إياهم بالهجرة، هذا كله قبل فتح مكة.

٢٤

القول في تأويل قوله تعالى:{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ ...}.

يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا محمد للمتخلفين عن الهجرة إلى دار الإسلام المقيمين بدار الشرك: إن كان المقام مع آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم، وكانت أمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا

يقول: اكتسبتموها، وتِجارَةٌ تَخْشَوْن كَسادَها بفراقكم بلدكم، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها فسكنتموها أحَبّ إليكُم من الهجرة إلى اللّه ورسوله من دار الشرك ومن جهاد في سبيله، يعني في نصرة دين اللّه الذي ارتضاه. فَترَبّصُوا

يقول: فتنظّروا، حتى يَأْتيَ اللّه بأمْرِهِ حتى يأتي اللّه بفتح مكة. وَاللّه لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ

يقول: واللّه لا يوفق للخير الخارجين عن طاعته وفي معصيته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٤٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: حتى يَأْتِيَ اللّه بِأمْرِهِ بالفتح.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: فَترَبّصُوا حتى يَأْتِيَ اللّه بِأمْرِهِ فتح مكة.

١٢٩٤٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: وأمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها

يقول: تخشون أن تكسد فتبيعوها. وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها قال: هي القصور والمنازل.

١٢٩٤٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وأمْوَالٌ اقْتَرَفْتَمُوها

يقول: أصبتموها.

٢٥

القول في تأويل قوله تعالى:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ...}.

يقول تعالى ذكره: لقد نصركم اللّه أيها المؤمنون في أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوّكم ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة. وَيَوْمَ حُنَيْنٍ

يقول: وفي يوم حنين أيضا قد نصركم. وحنين: واد فيما ذكر بين مكة والطائف وأُجري لأنه مذكر اسم لمذكر، وقد يترك إجراؤه ويراد به أن يجعل اسما للبلدة التي هو بها، ومنه قول الشاعر:

نَصَرُوا نَبِيّهُمُ وَشَدّوا أزْرَهُبِحُنَيْنَ يَوْمَ تَوَاكُلِ الأبْطالِ

١٢٩٤٦ـ حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثني أبي، قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: حنين: واد إلى جنب ذي المجاز.

إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ وكانوا ذلك اليوم فيما ذكر لنا اثني عشر ألفا. ورُوي أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال ذلكَ اليَوْم: (لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلّةٍ) . وقيل: قال ذلك رجل من المسلمين من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو قول اللّه :إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْن عَنْكُمْ شَيْئا

يقول: فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا. وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ

يقول: وضاقت الأرض بسعتها عليكم. والباء ههنا في معنى (في) ، ومعناه: وضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها، يقال منه: مكان رحيب: أي واسع وإنما سميت الرحاب رحابا لسعتها. ثُمّ وَلّيْتُمْ مُدْبِرِينَ عن عدوّكم منهزمين مدبرين،

يقول: وليتموهم الأدبار، وذلك الهزيمة. يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده، وأنه ليس بكثرة العدد وشدّة البطش، وأنه ينصر القليل على الكثير إذا شاء ويخلي القليل فيهزم الكثير.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٤٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لَقَدْ نَصَركُمُ اللّه في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ حتى بلغ: وَذلكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ قال: وحنين ماء بين مكة والطائف قاتل عليها نبيّ اللّه هوازن وثقيف، وعلى هوازن مالك بن عوف أخو بني نصر، وعلى ثقيف عبد يا ليل بن عمرو الثقفي. قال: وذكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اثنا عشر ألفا، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفان من الطلقاء، وذكر لنا أن رجلاً قال يومئذ: لن نغلب اليوم بكثرة قال: وذُكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس، وجلوا عن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نزل عن بغلته الشهباء. وذُكر لنا أن نبيّ اللّه قال: (أيْ ربّ آتِني ما وعَدْتَنِي) قال: والعباس آخذ بلجام بغلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (نادِ يا مَعْشَرَ الأنْصارِ ويا مَعْشَر المُهاجِرِينَ) فجعل ينادي الأنصار فخذا فخذا، ثم نادي: يا أصحاب سورة البقرة قال: فجاء الناس عُنُقا واحدا. فالتفت نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وإذا عصابة من الأنصار، فقال: (هَلْ مَعَكُمْ غيرُكُمْ؟) فقالوا: يا نبيّ اللّه ، واللّه لو عمدت إلى برك الغماد من ذي يمن لكنا معك ثم أنزل اللّه نصره، وهزم عدوّهم، وتراجع المسلمون. قال: وأخذ رسول اللّه كفّا من تراب، أو قبضة من حصباء، فرمى بها وجوه الكفار، وقال: (شاهَتِ الوُجُوهُ) فانهزموا. فلما جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الغنائم، وأتى الجعرانة، فقسم بها مغانم حنين، وتألف أناسا من الناس فيهم أبو سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس، فقالت الأنصار: حنّ الرجل إلى قومه فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في قبة له من أدم، فقال: (يا مَعْشَر الأنْصارِ، ما هَذا الّذِي بَلَغَنِي؟ ألَمْ تَكُونُوا ضُلاّلاً فَهَدَاكُمُ اللّه ، وكُنْتُمْ أذِلّةً فَأعَزّكُمُ اللّه وكُنْتُمْ وكُنْتُمْ) قال: فقال سعد بن عبادة رحمه اللّه : ائذن لي فأتكلم قال: (تَكَلّمْ) قال: أما قولك: كنتم ضُلاّلاً فهداكم اللّه ، فكنا كذلك، وكنتم أذلة فأعزّكم اللّه ، فقد علمت العرب ما كان حيّ من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منا فقال الرسول: (يا سَعْدُ أتَدْرِي مَنْ تُكَلّمُ؟) فقال: نعم أكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (والّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ سَلَكَتِ الأنْصارُ وَادِيا والنّاسُ وَادِيا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأنْصَارِ، وَلَوْلا الهِجْرةُ لَكُنْتُ امْرأً مِنَ الأنْصَارِ) . وذُكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (الأنْصَارُ كَرِشِي وعَيْبَتِي، فاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وتَجاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ) . ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ أمَا تَرْضَوْنَ أنْ يَنْقَلِبَ النّاسُ بالإبِلِ والشّاءِ، وَتَنْقَلِبُونَ بِرَسُولِ اللّه إلى بُيَوتكُمْ؟) فقالت الأنصار: رضينا عن اللّه ورسوله، واللّه ما قلنا ذلك إلا حرصا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ اللّه وَرَسُولَهُ يُصَدّقانِكُمْ ويَعْذُرَانِكُمْ) .

١٢٩٤٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التي أرضعته أوظئره من بني سعد بن بكر أتته فسألته سبايا يوم حُنين، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّي لا أمْلِكُهُمْ وإنّمَا لي مِنْهُمْ نَصِيِبي، وَلكِنْ ائْتِيِني غَدا فَسَلِيِني والنّاسُ عِنْدِي، فإنّي إذَا أعْطَيْتُكِ نَصِيِبي أعْطاكِ النّاسُ) فجاءت الغد فبسط لها ثوبا، فقعدت عليه، ثم سألته، فأعطاها نصيبه فلما رأى ذلك الناس أعطوها أنصباءهم.

١٢٩٤٩ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: لَقَدْ نَصَركُمُ اللّه في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ... الآية: إن رجلاً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين قال: يا رسول اللّه لن نغلب اليوم من قلة وأعجبته كثرة الناس، وكانوا اثني عشر ألفا. فسار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فوكلوا إلى كلمة الرجل، فانهزموا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، غير العباس وأبي سفيان بن الحرث وأيمن ابن أم أيمن، قُتل يومئذ بين يديه. فنادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أيْنَ الأنْصَارُ؟ أيْنَ الّذِينَ بايَعُوا تَحْتَ الشّجَرَةِ؟) فتراجع الناس، فأنزل اللّه الملائكة بالنصر، فهزموا المشركين يومئذ، وذلك قوله: ثُمّ أنْزَلَ اللّه سَكيِنَتَهُ على رَسُولِهِ وَعلى المُؤْمِنِينَ وأنْزَلَ جُنُودا لَمْ تَرَوْها... الآية.

١٢٩٥٠ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهريّ، عن كثير بن عباس بن عبد المطلب، عن أبيه، قال: لما كان يوم حنين التقى المسلمون والمشركون، فولى المسلمون يومئذ. قال: فلقد رأيت النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وما معه أحد إلا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، آخذا بغَرْز النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، لا يألو ما أسرع نحو المشركين. قال: فأتيت حتى أخذت بلجامه وهو على بغلة له شهباء، فقال: (يا عبّاس نادِ أصحَابَ السّمُرَةِ) وكنتُ رجلاً صَيّتا، فأذنت بصوتي الأعلى: أين أصحاب السمرة؟ فالتفتوا كأنها الإبل إذا حنت إلى أولادها، يقولون: يا لبيك يا لبيك يا لبيك وأقبل المشركون فالتقوا هم والمسلمون، وتنادت الأنصار: يا معشر الأنصار ثم قصرت الدعوة في بني الحرث بن الخزرج، فتنادوا: يا بني الحرث بن الخزرج فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم، فقال: (هَذَا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ) . ثم أخذ بيده من الحصباء فرماهم بها، ثم قال: (انْهَزَمُوا وَرَبّ الكُعْبَةِ انْهَزَمُوا وَرَبّ الكَعْبَةِ) قال: فواللّه ما زال أمرهم مدبرا وحدهم كليلاً حتى هزمهم اللّه . قال: فلكأني أنظر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته.

١٢٩٥١ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب. أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبيّ، ثم جاء قومهم مسلمين بعد ذلك، فقالوا: يا رسول اللّه ، أنت خير الناس وأبرّ الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا. فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ عِنْدِي مَنْ تَرَوْنَ، وإنّ خَيْرَ القَوْلِ أصْدَقُهُ، اخْتارُوا إمّا ذَرَارِيّكُمْ وَنِساءَكُمْ وَإمّا أمْوَالَكُمْ) قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (إنّ هَؤُلاءِ قَدْ جاءُونِي مُسْلِمِينَ، وإنّا خَيّرْناهُمْ بينَ الذّرَارِي والأمْوَالِ فَلَمْ يَعْدِلُوا بالأحْسابِ شَيْئا، فَمَنْ كانَ بِيَدِهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ فَطابَتْ نَفْسُهُ أنْ يَرُدّهُ فَلْيَفْعَلْ ذلكَ، وَمَنْ لا فَلْيُعْطِنا، وَلْيَكُنْ قَرْضا عَلَيْنا حتى نُصِيبَ شَيْئا فَنُعْطيَهَ مَكانَهُ) فقالوا: يا نبيّ اللّه رضينا وسلمنا. فقال: (إنّي لا أدْرِي، لَعَلّ مِنْكُمْ مَنْ لا يَرْضَى، فَمُرُوا عُرَفاءَكُمْ فَلْيَرْفَعُوا ذلكَ إلَيْنا) فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا وسلموا.

١٢٩٥٢ـ حدثنا عليّ بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا يعلى بن عطاء، عن أبي همام، عن أبي عبد الرحمن، يعني الفهري، قال: كنت مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في غزوة حنين فلما ركدت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي، حتى أتيت النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو في ظلّ شجرة، فقلت: يا رسول اللّه قد حان الرواح، فقال: (أجَلْ) فنادى: (يا بِلال يا بلالُ) فقام بلال من تحت سمرة، فأقبل كأن ظله ظل طير، فقال: لبيك وسعديك، ونفسي فداؤك يا رسول اللّه فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (أسْرِجْ فَرَسِي) فأخرج سرجا دفتاه حشوهما ليف، ليس فيهما أشر ولا بطر. قال: فركب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فصاففناهم يومنا وليلتنا فلما التقى الخيلان ولى المسلمون مدبرين، كما قال اللّه ، فنادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا عِبادَ اللّه ، يا مَعْشَرَ المُهاجِرِينَ) قال: ومال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عن فرسه، فأخذ حفنة من تراب فرمى بها وجوههم، فولوا مدبرين. قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي منا أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب.

١٢٩٥٣ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء، وسأله رجل من قيس: فررتم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: لكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يفرّ، وكانت هوازن يومئذ رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، ولقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحرث آخذ بلجامها، وهو

يقول:

أنا النّبِيُ لا كَذِبْأنا ابْنُ عَبْدِ المُطّلِبْ

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: سأله رجل: يا أبا عمارة، وليتم يوم حنين؟ فقال البراء وأنا أسمع: أشهد أن رسول اللّه لم يولّ يومئذ دبره، وأبو سفيان يقود بغلته، فلما غشيه المشركون نزل فجعل

يقول:

أنا النّبِيّ لا كَذْبْأنا ابنُ عَبْدِ المُطّلِبْ

فما رؤي يومئذ أحد من الناس كان أشدّ منه.

١٢٩٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني جعفر بن سليمان، عن عوف الأعرابي، عن عبد الرحمن مولى أم برثن، قال: ثني رجل كان من المشركين يوم حنين، قال: لما التقينا نحن وأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، لم يقفوا لنا حَلَبَ شاة أن كشفناهم. فبينا نحن نسوقهم، إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، فتلقانا رجال بيض حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا، وركَبنا القوم فكانت إياها.

١٢٩٥٥ـ حدثنا ابن حيمد، قال: حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: أمدّ اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين. قال: ويومئذ سمى اللّه الأنصار مؤمنين. قال: فَأنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلى المُؤْمِنِينَ وَأنْزَلَ جُنُودا لَمْ تَرَوْهَا.

١٢٩٥٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا قال: كانوا اثني عشر ألفا.

١٢٩٥٧ـ حدثنا محمد بن يزيد الاَدمي، قال: حدثنا معن بن عيسى، عن سعيد بن السائب الطائفي، عن أبيه، عن يزيد بن عامر، قال: لما كانت انكشافة المسلمين حين انكشفوا يوم حنين، ضرب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يده إلى الأرض، فأخذ منها قبضة من تراب، فأقبل بها على المشركين وهم يتبعون المسلمين، فحثاها في وجوههم وقال: (ارْجِعُوا شاهَتِ الوُجُوهُ) قال: فانصرفنا ما يلقي أحد أحدا إلا وهو يمسح القذى عن عينيه.

١٢٩٥٨ـ وبه عن يزيد بن عامر السوائي، قال:

قيل له: يا أبا حاجز، الرعب الذي ألقى اللّه في قلوب المشركين ماذا وجدتم؟ قال: وكان أبو حاجز مع المشركين يوم حنين، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطنّ، ثم

يقول: كان في أجوافنا مثل هذا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثني المعتمر بن سليمان، عن عوف، قال: سمعت عبد الرحمن مولى أم برثن أو أم مريم، قال: ثني رجل كان في المشركين يوم حنين، قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين، لم يقوموا لنا حَلَبَ شاة، قال: فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في أدبارهم، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال: فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا، فكانت إياها.

٢٦

القول في تأويل قوله تعالى:{ثُمّ أَنَزلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَىَ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَعذّبَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ }.

يقول تعالى ذكره: ثم من بعد ما ضاقت عليكم الأرض بما رَحُبت وتَوْليتكم الأعداء أدباركم، كشف اللّه نازل البلاء عنكم، بإنزاله السكينة وهي الأمنة والطمأنينة عليكم. وقد بيّنا أنها فعيلة من السكون فيما مضى من كتابنا هذا قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأنْزَلَ جُنُودا لَمْ تَرَوْها وهي الملائكة التي ذُكِرت في الأخبار التي قد مضى ذكرها. وَعَذّبَ الّذِينَ كَفَرُوا

يقول: وعذّب اللّه الذين جحدوا وحدانيته ورسالة رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم بالقتل وسبي الأهلين والذراري وسلب الأموال والذلة. وذلكَ جزاءُ الكافرينَ

يقول: هذا الذي فعلنا بهم من القتل والسبي جزاء الكافرين،

يقول: هو ثواب أهل جحود وحدانيته ورسالة رسوله.

١٢٩٥٩ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: وَعَذّبَ الّذِينَ كَفَرُوا

يقول: قتلهم بالسيف.

١٢٩٦٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو داود الحَفْريّ، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد: وَعَذّبَ الّذِينَ كَفَرُوا قال: بالهزيمة والقتل.

١٢٩٦١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَعَذّبَ الّذِينَ كَفَرُوا وَذلكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ قال: من بقي منهم.

٢٧

القول في تأويل قوله تعالى:{ثُمّ يَتُوبُ اللّه مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَىَ مَن يَشَآءُ وَاللّه غَفُورٌ رّحِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره: ثم يتفضل اللّه بتوفيقه للتوبة والإنابة إليه من بعد عذابه الذي به عذّب من هلك منهم قتلاً بالسيف على من يشاء أي يتوب اللّه على من يشاء من الأحياء يقبل به إلى طاعته واللّه غَفُورٌ لذنوب من أناب وتاب إليه منهم ومن غيرهم منها، رَحِيمٌ بهم فلا يعذبهم بعد توبتهم، ولا يؤاخذهم بها بعد إنابتهم.

٢٨

القول في تأويل قوله تعالى:{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـَذَا ...}.

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله وأقرّوا بوحدانيته: ما المشركون إلا نجس.

واختلف أهل التأويل في معنى النجَس وما السبب الذي من أجله سماهم بذلك،

فقال بعضهم: سماهم بذلك لأنهم يُجْنِبون فلا يغتسلون، فقال: هم نجس، ولا يقربوا المسجد الحرام، لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٦٢ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، في قوله: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ: لا أعلم قتادة إلا قال: النجَس: الجنابة.

١٢٩٦٣ـ وبه عن معمر، قال: وبلغني أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لقي حذيفة، وأخذ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بيده، فقال حذيفة: يا رسول اللّه إني جُنُب فقال: (إنّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُس) .

١٢٩٦٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ: أي أجناب.

وقال آخرون: معنى ذلك: ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب. وهذ قول رُوي عن ابن عباس من وجه غير حميد، فكرهنا ذكره.

وقوله: فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا يقول للمؤمنين: فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرَم. وإنما عني بذلك منعهم من دخول الحرَم، لأنهم إذا دخلوا الحرَم فقد قربوا المسجد الحرام.

وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلناه. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٦٥ـ حدثنا بشر وابن المثنى، قالا: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الحرَم كله قبلة ومسجد، قال: فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ لم يعن المسجد وحده، إنما عنى مكة والحرَم. قال ذلك غير مرة.

وذُكر عن عمر بن عبد العزيز في ذلك ما:

١٢٩٦٦ـ حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال: ثني الوليد بن مسلم، قال: حدثنا أبو عمرو: أن عمر بن عبد العزيز كتب: أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع في نهيه قول اللّه :إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ.

١٢٩٦٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن الحسن: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال: لا تصافحوهم، فمن صافحهم فليتوضأ.

وأما قوله: بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا فإنه يعني : بعد العام الذي نادى فيه عليّ رحمة اللّه عليه ببراءة، وذلك عامَ حجّ بالناس أبو بكر، وهي سنة تسع من الهجرة. كما:

١٢٩٦٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر، ونادى عليّ رحمة اللّه عليهما بالأذان وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وحجّ نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم من العام المقبل حِجة الوداع لم يحجّ قبلها ولا بعدها.

وقوله: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً يقول للمؤمنين: وإن خفتم فاقة وفقرا، بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام. فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ يقال منه: عال يَعِيل عَيْلَةً وعُيُولاً، ومنه قول الشاعر:

وَما يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غناهُوَما يَدْرِي الغَنيّ مَتَى يَعِيلُ

وقد حُكي عن بعضهم أن من العرب من يقول في الفاقة: عال يَعُول بالواو. وذكر عن عمر بن فائد أنه كان تأوّل قوله: وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً بمعنى: وإذ خفتم، و

يقول: كان القوم قد خافوا، وذلك نحو قول القائل لأبيه: إن كنت أبي فأكرمني، بمعنى: إذ كنت أبي. وإنما قيل ذلك لهم، لأن المؤمنين خافوا بانقطاع المشركين عن دخول الحرم انقطاع تجاراتهم ودخول ضرر عليهم بانقطاع ذلك، وأمّنهم اللّه من العَيْلة وعوّضهم مما كانوا يكرهون انقطاعه عنهم ما هو خير لهم منه، وهو الجزية، فقال لهم: قاتلُوا الّذِينَ لا يُؤْمنُونَ باللّه وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّه وَرَسُولُهُ... إلى: صَاغِرُونَ.

وقال قوم بإدرار المطر عليهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٦٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال: لما نفى اللّه المشركين عن المسجد الحرام ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن، قال: من أين تأكلون وقد نُفي المشركون وانقطعت عنكم العِير؟ فقال اللّه : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ فأمرهم بقتال أهل الكتاب، وأغناهم من فضله.

حدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت، ويجيئون معهم بالطعام ويَتّجرون فيه فلما نهُوُا أن يأتوا البيت قال المسلمون: من أين لنا طعام؟ فأنزل اللّه : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ فأنزل عليهم المطر، وكثر خيرهم حين ذهب عنهم المشركون.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن عليّ بن صالح، عن سماك، عن عكرمة: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ... الآية، ثم ذكر نحو حديث هناد، عن أبي الأحوص،

١٢٩٧٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن واقد، عن سعيد بن جبير، قال: لما نزلت: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا شقّ ذلك على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقالوا: من يأتينا بطعامنا، ومن يأتينا بالمتاع؟ فنزلت: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ.

١٢٩٧١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن واقد مولى زيد بن خلدة، عن سعيد بن جبير، قال: كان المشركون يقدمون عليهم بالتجارة، فنزلت هذه الآية: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ... إلى قوله: عَيلَةً قال: الفقر. فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ.

١٢٩٧٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية العوفيّ، قال: قال المسلمون: قد كنا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم، فنزلت: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ... إلى قوله: مِنْ فَضْلِهِ.

١٢٩٧٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، أحسبه قال: أنبأنا أبو جعفر، عن عطية، قال: لما قيل: ولا يحجّ بعد العام مشرك قالوا: قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم. قال: فنزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ يعني : بما فاتهم من بياعاتهم.

١٢٩٧٤ـ حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: حدثنا ابن يمان، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ قال: بالجزية.

١٢٩٧٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يمان وأبو معاوية، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك ، قال: أخرج المشركون من مكة، فشقّ ذلك على المسلمين، وقالوا: كنا نصيب منهم التجارة والمِيرة. فأنزل اللّه : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّه وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ.

١٢٩٧٦ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ كان ناس من المسلمين يتألفون العير فلما نزلت براءة بقتال المشركين حيثما ثُقِفوا، وأن يقعدوا لهم كل مرصد، قذف الشيطان في قلوب المؤمنين. فمن أين تعيشون وقد أمرتم بقتال أهل العِير؟ فعلم اللّه من ذلك ما علم، فقال: أطيعوني، وامضوا لأمري، وأطيعوا رسولي، فإني سوف أغنيكم من فضلي فتوكل لهم اللّه بذلك.

١٢٩٧٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ... إلى قوله: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ قال: قال المؤمنون: كنا نصيب من متاجر المشركين. فوعدهم اللّه أن يغنيهم من فضله عوضا لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام. فهذه الآية من أوّل براءة في القراءة، ومن آخرها في التأويل: قاتِلُوا الّذِينَ لا يؤمِنُونَ باللّه وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ... إلى قوله: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.

١٢٩٧٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما نفى اللّه المشركين عن المسجد الحرام، شقّ ذلك على المسلمين، وكانوا يأتون ببياعات ينتفع بذلك المسلمون، فأنزل اللّه تعالى ذكره: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ فأغناهم بهذا الخراج الجزية الجارية عليهم، يأخذونها شهرا شهرا، عاما عاما. فليس لأحد من المشركين أن يقرَب المسجد الحرام بعد عامهم بحال إلا صاحب الجزية، أو عبد رجل من المسلمين.

١٢٩٧٩ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللّه يقول في قوله: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة.

١٢٩٨٠ـ قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال: إلا صاحب جزية، أو عبدا لرجل من المسلمين.

حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا حجاج، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللّه يقول في هذه الآية: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الجزية.

١٢٩٨١ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ قال: أغناهم اللّه بالجزية الجارية شهرا فشهرا وعاما فعاما.

١٢٩٨٢ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عباد بن العوّام، عن الحجاج، عن أبي الزبير، عن جابر: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال: لا يقرب المسجد الحرام بعد عامه هذا مشرك ولا ذميّ.

 

١٢٩٨٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً وذلك أن الناس قالوا: لُتْقَطَعنّ عنا الأسواق ولَتهلِكنّ التجارة وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المرافق فنزل: وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ من وجه غير ذلك إنْ شاءَ... إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ، ففي هذا عوض مما تخوّفتم من قطع تلك الأسواق. فعوّضهم اللّه بما قطع عنهم من أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية.

وأما قوله: إنّ اللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ فإن معناه: إن اللّه عليم بما حدثْتكم به أنفسكم أيها المؤمنون من خوف العيلة عليها بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام، وغير ذلك من مصالح عباده، حكيم في تدبيره إياهم وتدبير جميع خلقه.

٢٩

القول في تأويل قوله تعالى:{قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّه وَرَسُولُهُ ...}.

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله صلى اللّه عليه وسلم: قاتِلُوا أيها المؤمنون القوم الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّه وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ

يقول: ولا يصدّقون بجنة ولا نار، وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّه وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينونَ دِينَ الحَقّ

يقول: ولا يطيعون اللّه طاعة الحقّ، يعني : أنهم لا يطيعون طاعة أهل الإسلام مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وهم اليهود والنصارى، وكل مطيع ملكا أو ذا سلطان، فهو دائن له، يقال منه: دان فلان لفلان فهو يدين له دينا، قال زهير:

لَئِنْ حَلَلْتَ بِجَوَ فِي بَنِي أسَدٍفِي دِينَ عَمْروٍ وَحالَتْ بيْنَنا فَدَكُ

وقوله: مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يعني : الذين أعطوا كتاب اللّه ، وهم أهل التوراة والإنجيل. حتى يُعُطُوا الجِزْيَةَ والجزية: الفعلة من جَزَى فلان فلانا ما عليه: إذا قضاه، يجزيه. والجزية مثل القِعْدة والجِلْسة.

ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعا عنها.

وأما قوله: عَنْ يَدٍ فإنه يعني : من يده إلى يد من يدفعه إليه، وكذلك تقول العرب لكل معطٍ قاهرا له شيئا طائعا له أو كارها: أعطاه عن يده وعن يد وذلك نظير قولهم: كلمته فما لفم ولقيته كفة لكفة، وكذلك أعطيته عن يد ليد.

وأما قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ فإن معناه: وهم أذلاء مقهورون، يقال للذليل الحقير: صاغر. وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أمره بحرب الروم، فغزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد نزولها غزوة تبوك. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٨٤ـ حدثني محمد بن عروة، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّه وَاليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّه وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.

واختلف أهل التأويل في معنى الصغار الذي عناه اللّه في هذا الموضع،

فقال بعضهم: أن يعطيها وهو قائم والاَخذ جالس. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٨٥ـ حدثني عبد الرحمن بن بشر النيسابوري، قال: حدثنا سفيان، عن ابن سعد، عن عكرمة: حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قال: أي تأخذها وأنت جالس وهو قائم.

وقال آخرون: معنى قوله: حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ عن أنفسهم بأيديهم يمشون بها وهم كارهون، وذلك قول رُوي عن ابن عباس من وجه فيه نظر.

وقال آخرون: إعطاؤهم إياها هو الصغار.

٣٠

القول في تأويل قوله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه وَقَالَتْ النّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ...}.

اختلف أهل التأويل في القائل: عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه

فقال بعضهم: كان ذلك رجلاً واحدا، هو فنحاص. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٨٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سمعت عبد اللّه بن عبيد بن عمير، قوله: وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه ، قال: قالها رجل واحد، قالوا: إن اسمه فنحاص، وقالوا: هو الذي قال: إنّ اللّه فَقِيرٌ ونَحنُ أغْنِياءُ.

وقال آخرون: بل كان ذلك قول جماعة منهم. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٨٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلامُ بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن اللّه ؟ فأنزل في ذلك من قولهم: وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه وَقالَتِ النّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّه ... إلى: أنّى يُؤْفَكُونَ.

١٢٩٨٨ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه وإنما قالوا: هو ابن اللّه من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء اللّه أن يعملوا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحقّ. وكان التابوت فيهم فلما رأى اللّه أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء، رفع اللّه عنهم التابوت، وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، وأرسل اللّه عليهم مرضا، فاستطلقت بطونهم، حتى جعل الرجل يمشي كَبِدُه، حتى نسوا التوراة، ونسخت من صدورهم، وفيهم عزير. فمكثوا ما شاء اللّه أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم، وكان عزير قبل من علمائهم، فدعا عزير اللّه وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخ من صدره من التوراة. فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى اللّه ، نزل نور من اللّه فدخل جوفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فأذن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني اللّه التوراة، وردّها إليّ فعلق يعلمهم، فمكثوا ما شاء اللّه وهو يعلمهم. ثم إن التابوت نزل بعد ذلك، وبعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم، فوجدوه مثله، فقالوا: واللّه ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن اللّه .

١٢٩٨٩ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه إنما قالت ذلك، لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم، وأخذوا التوراة، وذهب علماؤهم الذين بقوا فدفنوا كتب التوراة في الجبال. وكان عزير غلاما يتعبد في رءوس الجبال لا ينزل إلا يوم عيد، فجعل الغلام يبكي و

يقول: ربّ تركت بني إسرائيل بغير عالم فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه. فنزل مرّة إلى العيد فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يا مطعماه، ويا كاسياه فقال لها: ويحك، من كان يطعمك ويكسوك ويسقيك وينفعك قبل هذا الرجل؟ قالت: اللّه . قال: فإن اللّه حيّ لم يمت. قالت: يا عزير، فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: اللّه . قالت: فلم تبكي عليهم؟ فلما عرف أنه قد خُصِم ولى مدبرا، فدعته فقالت: يا عزير إذا أصبحت غدا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه، ثم اخرج فصلّ ركعتين، فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذه فلما أصبح، انطلق عزير إلى ذلك النهر، فاغتسل فيه، ثم خرج فصلى ركعتين، فجاءه الشيخ فقال: افتح فمك ففتح فمه، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرار. فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة، فقال: يا بني إسرائيل، إني قد جئتكم بالتوراة. فقالوا يا عزير ما كنت كذّابا. فعمد فربط على كلّ أصبع له قلما، وكتب بأصابعه كلها، فكتب التوراة كلها. فلما رجع العلماء أخبروا بشأن عزير، فاستخرج أولئك العلماء كتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال، وكانت في خوابٍ مدفونة، فعارضوها بتوراة عزير فوجدوها مثلها، فقالوا: ما أعطاك اللّه هذا إلا أنك ابنه.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين: (وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه ) لا ينوّنون (عزيرا) . وقرأه بعض المكيين والكوفيين: عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه بتنوين (عزير) . قال: هو اسم مجرى وإن كان أعجميا لخفته، وهو مع ذلك غير منسوب إلى اللّه ، فيكون بمنزلة قول القائل: زيد بن عبد اللّه ، وأوقع الابن موقع الخبر، ولو كان منسوبا إلى اللّه لكان الوجه فيه إذا كان الابن خبرا: الإجراء والتنوين، فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه. وأما من ترك تنوين (عزير) ، فإنه لما كانت الباء من ابن ساكنة مع التنوين الساكن والتقى ساكنان فحذف الأوّل منهما استثقالاً لتحريكه، قال الراجز:

لَتَجِدَنّي بالأَمِيرِ بَرّاوبالقَناةِ مِدْعَسا مِكَراإذا غَطَيْفُ السّلَمِيّ فَرّا

فحذف النون للساكن الذي استقبلها.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه بتنوين (عزير) لأن العرب لا تنوّن الأسماء إذا كان الابن نعتا للاسم، كقولهم: هذا زيد بن عبد اللّه ، فأرادوا الخبر عن عُزير بأنه ابن اللّه ، ولم يريدوا أن يجعلوا الابن له نعتا. والابن في هذا الموضع خبر لعزير، لأن الذين ذكر اللّه عنهم أنهم قالوا ذلك، إنما أخبروا عن عزير أنه كذلك، وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على اللّه مفترين. وَقالَتِ النّصَارَى المسِيحُ ابْنُ اللّه ذلكَ قَوْلُهُمْ بأفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يعني قول اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه .

يقول: نسبة قول هؤلاء في الكذب على اللّه والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابن ككذب اليهود وفريتهم على اللّه في نسبتهم عزير إلى أنه لله ابن، ولا ينبغي أن يكون لله ولد سبحانه، بل له ما في السموات والأرض، كلّ له قانتون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٢٩٩٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ

يقول: يشبهون.

١٢٩٩١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم.

١٢٩٩٢ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ النصارى يضاهئون قول اليهود في عزير.

١٢٩٩٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ

يقول: النصارى يضاهئون قول اليهود.

١٢٩٩٤ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ

يقول: قالوا مثل ما قال أهل الأوثان.

وقد قيل: إن معنى ذلك: يحكون بقوله م قول أهل الأديان الذين قالوا: اللات والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق: (يُضَاهُونَ) بغير همز. وقرأه عاصم: يُضَاهِئُونَ بالهمز، وهي لغة لثقيف. وهما لغتان، يقال: ضاهيته على كذا أضاهيه مضاهاة وضاهأته عليه مضاهأة، إذا مالأته عليه وأعنته.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ترك الهمز، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار واللغة الفصحى.

وأما قوله: قاتَلَهُمُ اللّه فإن معناه فيما ذكر عن ابن عباس، ما:

١٢٩٩٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: قاتَلَهُمُ اللّه

يقول: لعنهم اللّه ، وكلّ شيء في القرآن (قتل) فهو لعن.

وقال ابن جريج في ذلك، ما:

١٢٩٩٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: قاتَلَهُمُ اللّه يعني النصارى، كلمةٌ من كلام العرب.

فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون معناه: قتلهم اللّه ، والعرب تقول: قاتعك اللّه ، وقاتعها اللّه بمعنى: قاتلك اللّه ، قالوا: وقاتعك اللّه أهون من قاتله اللّه . وقد ذكروا أنهم يقولون: شاقاه اللّه ما باقاه، يريدون: أشقاه اللّه ما أبقاه. قالوا: ومعنى قوله: قاتَلَهُمُ اللّه ك قوله: قُتِلَ الخَرّاصُونَ وقُتِلَ أصَحابُ الأُخْدُودِ واحد، وهو بمعنى التعجب. فإن كان الذي قالوا كما قالوا، فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس، لأن فاعلت لا تكاد أن تجيء فعلاً إلا من اثنين، كقولهم: خاصمت فلانا وقاتلته، وما أشبه ذلك. وقد زعموا أن قولهم: عافاك اللّه منه، وأن معناه: أعفاك اللّه ، بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يعفيه من السوء.

وقوله: أنّى يُؤْفَكُونَ

يقول: أيّ وجه يذهب بهم ويحيدون، كيف يصدّون عن الحقّ، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل.

٣١

القول في تأويل قوله تعالى:{اتّخَذُوَاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّه وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ...}.

 

يقول جلّ ثناؤه: اتخذ اليهود أحبارهم، وهم العلماء. وقد بينت تأويل ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا. قيل واحدهم حِبْر وحَبْر بكسر الحاء منه وفتحها. وكان يونس الجرميّ فيما ذكر عنه يزعم أنه لم يسمع ذلك إلا (حِبر) بكسر الحاء، ويحتجّ بقول الناس: هذا مداد حِبْر، يراد به: مداد عالم. وذكر الفراء أنه سمعه حِبرا وحَبرا بكسر الحاء وفتحها. والنصارى رهبانهم، وهم أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم منهم. كما:

١٢٩٩٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك : اتّخَذُوا أحبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ قال: قرّاءهم وعلماءهم.

أرْبابا مِنْ دُونِ اللّه يعني : سادة لهم من دون اللّه يطيعونهم في معاصي اللّه ، فيحلون ما أحلوه لهم مما قد حرّمه اللّه عليهم ويحرّمون ما يحرّمونه عليهم مما قد أحله اللّه لهم. كما:

١٢٩٩٨ـ حدثني الحسن بن يزيد الطحان، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي، عن غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عديّ بن حاتم، قال: انتهيت إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّه فقال: (أَما إنّهُمْ لم يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، ولَكِنْ كَانُوا يُحِلّونَ لهم فَيُحِلّونَ) .

حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: حدثنا مالك بن إسماعيل، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد جميعا عن عبد السلام بن حرب، قال: حدثنا غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عديّ بن حاتم، قال: أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: (يا عَدِيّ اطْرَحْ هذا الوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ) قال: فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّه قال: قلت: يا رسول اللّه إنا لسنا نعبدهم فقال: (أليس يَحرّمونَ ما أحَلّ اللّه فَتُحَرّمُونَهُ، ويُحِلّونَ ما حَرّمَ اللّه فَتُحِلّونَهُ؟) قال: قلت: بلى. قال: (فَتِلكَ عِبادَتُهُمْ) واللفظ لحديث أبي كريب.

حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: حدثنا بقية عن قيس بن الربيع، عن عبد السلام بن حرب النهدي، عن غطيف، عن مصعب بن سعد، عن عديّ بن حاتم، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ سورة براءة فلما قرأ: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّه قلت: يا رسول اللّه ، أما إنهم لم يكونوا يصلون لهم؟ قال: (صَدَقْتَ، ولَكِنْ كانُوا يُحِلّونَ لَهُمْ ما حَرّمَ اللّه فَيَسْتَحِلّونَهُ، ويُحَرّمُونَ ما أحَلّ اللّه لَهُمْ فَيُحَرّمُونَهُ) .

١٢٩٩٩ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، عن حذيفة، أنه سئل عن قوله: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّه كانوا يعبدونهم؟ قال: لا، كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن أبي البختريّ، قال: قيل لأبي حذيفة فذكر نحوه، غير أنه قال: ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيستحلونه، ويحرّمون عليهم الحلال فيحرّمونه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن العوّام بن حوشب، عن حبيب، عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة: أرأيت قول اللّه :اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ؟ قال: أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم، ولا يصلون لهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئا أحله اللّه لهم حرّموه، فتلك كانت ربوبيتهم.

١٣٠٠٠ـ قال: حدثنا جرير وابن فضيل، عن عطاء، عن أبي البختري: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّه قال: انطلقوا إلى حلال اللّه فجعلوه حراما، وانطلقوا إلى حرام اللّه فجعلوه حلالاً، فأطاعوهم في ذلك، فجعل اللّه طاعتهم عبادتهم، ولو قالوا لهم اعبدونا لم يفعلوا.

حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، قال: سأل رجل حذيفة، فقال: يا أبا عبد اللّه أرأيت قوله: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّه أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه.

١٣٠٠١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن أشعث، عن الحسن: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا قال: في الطاعة.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّه

يقول: وزينوا لهم طاعتهم.

١٣٠٠٢ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّه قال عبد اللّه بن عباس: لم يأمروهم أن يسجدوا لهم، ولكن أمروهم بمعصية اللّه ، فأطاعوهم، فسماهم اللّه بذلك أربابا.

١٣٠٠٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن نمير، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا قال: قلت لأبي العالية: كيف كانت الربوبية التي كانت في بني إسرائيل؟ قال قالوا: ما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنا انتهينا لقولهم: وهم يجدون في كتاب اللّه ما أمروا به وما نهوا عنه، فاستنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم.

١٣٠٠٤ـ حدثني بشر بن سويد، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري، عن حذيفة: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّه قال: لم يعبدوهم، ولكنهم أطاعوهم في المعاصي.

وأما قوله: والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فإن معناه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا من دون اللّه .

وأما قوله: وَما أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلَها وَاحِدا فإنه يعني به: وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبار والرهبان والمسيح أربابا إلا أن يعبدوا معبودا واحدا، وأن يطيعوا إلا ربّا واحدا دون أرباب شتى وهو اللّه الذي له عبادة كلّ شيء وطاعة كلّ خلق، المستحقّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية، لا إله إلا هو. يقول تعالى ذكره: لا تنبغي الألوهة إلا لواحد الذي أمر الخلق بعبادته، ولزمت جميع العباد طاعته. سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ

يقول: تنزيها وتطهيرا لله عما يشرك في طاعته وربوبيته القائلون عزير ابن اللّه ، والقائلون المسيح ابن اللّه ، المتخذون أحبارهم أربابا من دون اللّه .

٣٢

القول في تأويل قوله تعالى:{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّه بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىَ اللّه إِلاّ أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }.

يقول تعالى ذكره: يريد هؤلاء المتخذون أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّه بأفْوَاهِهِمْ يعني : أنهم يحاولون بتكذيبهم بدين اللّه الذي ابتعث به رسوله وصدّهم الناس عنه بألسنتهم أن يبطلوه، وهو النور الذي جعله اللّه لخلقه ضياء. ويَأبَى اللّه إلاّ أنْ يُتِمّ نُورَهُ يعلو دينه وتظهر كلمته، ويتمّ الحقّ الذي بعث به رسوله محمدا صلى اللّه عليه وسلم، ولو كره إتمام اللّه إياه الكافرون، يعني : جاحديه المكذّبين به.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٠٥ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّه بأفْوَاهِهِمْ

يقول: يريدون: أن يطفئوا الإسلام بكلامهم.

٣٣

القول في تأويل قوله تعالى:{هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىَ وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }.

يقول تعالى ذكره: اللّه الذي يأبى إلا إتمام دينه ولو كره ذلك جاحدوه ومنكروه، الذي أرسل رسوله محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالهدى، يعني : ببيان فرائض اللّه على خلقه، وجميع اللازم لهم، وبدين الحقّ وهو الإسلام، لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ

يقول: ليعلى الإسلام على الملل كلها، ولو كَرِهَ المُشْرِكُونَ باللّه ظهوره عليها.

وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ

فقال بعضهم: ذلك عند خروج عيسى حين تصير الملل كلها واحدة. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٠٦ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا شقيق، قال: ثني ثابت الحداد أبو المقدام، عن شيخ، عن أبي هريرة في قوله: لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ قال: حين خروج عيسىَ ابن مريم.

١٣٠٠٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن فضيل بن مرزوق، قال: ثني من سمع أبا جعفر: لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ قال: إذا خرج عيسى عليه السلام اتبعه أهل كل دين.

وقال آخرون: معنى ذلك: ليعلمه شرائع الدين كلها فيطلعه عليها. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٠٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ قال: ليظهر اللّه نبيه على أمر الدين كله، فيعطيه إياه كله، ولا يخفى عليه منه شيء. وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك.

٣٤

القول في تأويل قوله تعالى:{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ كَثِيراً مّنَ الأحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ...}.

يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله وأقرّوا بوحدانية ربهم، إن كثيرا من العلماء والقرّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى لَيَأْكُلُونَ أموَالَ النّاسِ بالباطِلِ

يقول: يأخذون الرشا في أحكامهم، ويحرّفون كتاب اللّه ، ويكتبون بأيديهم كتبا ثم يقولون: هذه من عند اللّه ، ويأخذون بها ثمنا قليلاً من سفلتهم. وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه

يقول: ويمنعون من أراد الدخول في الإسلام الدخول فيه بينهم إياهم عنه.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٠٩ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّ كَثِيرا مِنَ الأحْبارِ وَالرّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوَالَ النّاسِ بالباطِلِ أما الأحبار، فمن اليهود وأما الرهبان: فمن النصارى وأما سبيل اللّه : فمحمد صلى اللّه عليه وسلم.

القول في تأويل قوله تعالى: وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالفِضّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ.

يقول تعالى ذكره: إنّ كَثِيرا مِنَ الأحْبارِ وَالرّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوَالَ النّاسِ بالباطِلِ ويأكلها أيضا معهم وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالفِضّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ

يقول: بشر الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه ، بعذاب أليم لهم يوم القيامة موجع من اللّه .

واختلف أهل العلم في معنى الكنز،

فقال بعضهم: هو كلّ مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤدّ زكاته. قالوا: وعنى ب قوله: ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه ولا يؤدون زكاتها. ذكر من قال ذلك:

١٣٠١٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا، وكلّ مال لم تؤدّ زكاته فهو الكنز الذي ذكره اللّه في القرآن يُكْوَى به صاحبه وإن لم يكن مدفونا.

حدثنا الحسين بن الجنيد، قال: حدثنا سعيد بن مسلمة، قال: حدثنا إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: كلّ مال أدّيت منه الزكاة فليس بكنز وإن كان مدفونا، وكلّ مال لم تؤدّ منه الزكاة وإن لم يكن مدفونا فهو كنز.

حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أيما مال أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض، وأيما مال لم تؤدّ زكاته فهو بكنز يكوى به صاحبه، وإن كان على وجه الأرض.

١٣٠١١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي وجرير، عن الأعمش، عن عطية، عن ابن عمر، قال: ما أدّيت زكاته فليس بكنز.

قال: حدثنا أبي، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا.

١٣٠١٢ـ قال: حدثنا جرير، عن الشيباني، عن عكرمة، قال: ما أدّيت زكاته فليس بكنز.

١٣٠١٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قال: أما الذين يكنزون الذهب والفضة فهؤلاء أهل القبلة. والكنز: ما لم تؤدّ زكاته وإن كان على ظهر الأرض وإن قلّ وإن كان كثيرا قد أدّيت زكاته، فليس بكنز.

١٣٠١٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل. عن جابر، قال: قلت لعامر: مالٌ على رفّ بين السماء والأرض لا تؤدّى زكاته، أكنز هو؟ قال: يكوى به يوم القيامة.

وقال آخرون: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم، فهو كنز، أدّيت منه الزكاة أو لم تؤدّ. ذكر من قال ذلك:

١٣٠١٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن عليّ رحمه اللّه عليه قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة، فما كان أكثر من ذلك فهو كنز.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن عليّ، مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الشعبيّ، قال: أخبرني أبو حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن عليّ رحمة اللّه عليه، في قوله: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة، وما فوقها كنز.

وقال آخرون: الكنز كلّ ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه. ذكر من قال ذلك:

١٣٠١٦ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن معاذ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا شعبة، عن أنس، عن عبد الواحد أنه سمع أبا مجيب قال: كان نعل سيف أبي هريرة من فضة، فنهاه عنها أبو ذرّ، وقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: مَنْ تَرَكَ صَفْرَاءَ أوْ بَيْضَاءَ كُوِيَ بِهَا.

١٣٠١٧ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن الأعمش وعمرو بن مرّة، عن سالم بن أبي الجعد، قال: لما نزلت: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (تَبّا للذّهَبِ تَبَا للفِضّةِ) يقولها ثلاثا. قال: فشقّ ذلك على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قالوا: فأيّ مال نتخذه؟ فقال عمر: أنا أعلم لكم ذلك. فقال: يا رسول اللّه إن أصحابك قد شقّ عليهم وقالوا: فأيّ المال نتخذ، فقال: (لسانا ذَاكِرا، وَقَلْبا شَاكِرا، وَزَوْجَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على دِينِهِ) .

١٣٠١٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، بمثله.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن منصور، عن عمرو بن مرّة، عن سالم بن أبي الجعد، قال: لما نزلت هذه الآية: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه قال المهاجرون: وأيّ المال نتخذ؟ فقال عمر: أسأل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عنه. قال: فأدركته على بعير، فقلت: يا رسول اللّه إن المهاجرين قالوا: فأيّ المال نتخذه؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لِسانا ذَاكِرا، وقَلْبا شَاكِرا، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على دِينِهِ) .

١٣٠١٩ـ حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، قال: توفي رجل من أهل الصّفّة، فوجد في مئزره دينار، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (كَيّةٌ) ثم توفي آخر، فوجد في مئزره ديناران، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (كَيّتانِ) .

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن صدى بن عجلان أبي أمامة، قال: مات رجل من أهل الصفة، فوجد في مئزره دينار، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (كَيّةٌ) ثم توفي آخر، فوجد في مئزره ديناران فقال نبيّ اللّه : (كَيّتانِ) .

 

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن ثوبان، قال: كنا في سفر ونحن نسير مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال المهاجرون: لوددنا أنا علمنا أيّ المال خير فنتخذه إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل، فقال عمر: إن شئتم سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك. فقالوا: أجل. فانطلق فتبعته أوضع على بعيري، فقال: يا رسول اللّه إن المهاجرين لما أنزل اللّه في الذهب والفضة ما أنزل قالوا: وددنا أنا علمنا أيّ المال خير فنتخذه، قال: (نَعَمْ، فَيَتّخِذُ أحَدُكُمْ لِسانا ذَاكِرا، وَقَلْبا شَاكِرا، وَزَوْجَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على إيمَانِهِ) .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة: القول الذي ذُكِر عن ابن عمر من أن كلّ مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كلّ ما لم تؤدّ زكاته فصاحبه معاقب مستحقّ وعيد اللّه إلا أن يتفضل اللّه عليه بعفوه وإن قل إذا كان مما يجب فيه الزكاة. وذلك أن اللّه أوجب في خمس أواق من الوَرِق على لسان رسوله ربع عشرها، وفي عشرين مثقالاً من الذهب مثل ذلك ربع عشرها. فإذ كان ذلك فرض اللّه في الذهب والفضة على لسان رسوله، فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوف ألوف لو كان، وإن أدّيت زكاته من الكنوز التي أوعد اللّه أهلها عليها العقاب، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من ربع العشر، لأن ما كان فرضا إخراج جميعه من المال وحرام اتخاذه فزكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا ربع عشره، وذلك مثل المال المغصوب الذي هو حرام على الغاصب إمساكه وفرض عليه إخراجه من يده إلى يده، فالتطهر منه ردّه إلى صاحبه. فلو كان ما زاد من المال على أربعة آلاف درهم، أو ما فضل عن حاجة ربه التي لا بد منها مما يستحق صاحبه باقتنائه إذا أدّى إلى أهل السهمان حقوقهم منها من الصدقة وعيد اللّه لم يكن اللازم ربه فيه ربع عشره، بل كان اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله وصرفه فيما يجب عليه صرفه، كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصب رجل ماله ردّه على ربه. وبعد، فإن فيما:

١٣٠٢٠ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، قال: قال معمر: أخبرني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: (ما مِنْ رَجُلٍ لا يُؤَدّي زَكَاةَ مالِهِ إلاّ جُعِلَ يَوْمَ القِيَامَةِ صفَائِحَ مِنْ نارٍ يُكْوَى بِها جَنْبُهُ وجَبْهَتُهُ وظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألُفَ سَنَةٍ حتى يُقْضَى بينَ النّاسِ ثُمّ يَرَى سَبِيلَه وَإنْ كانَتْ إبِلاً إلاّ بُطِحَ لَهَا بِقاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهُ بأخْفَافِها) حسبته قال: (وَتَعَضّهُ بأفْوَاهِها، يَرِدُ أُولاها على أُخْرَاها، حتى يُقْضَى بينَ النّاسِ ثُمّ يَرَى سَبِيلَهُ. وَإنْ كانَتْ غَنَما فَمِثْلُ ذلكَ، إلا أنّها تَنْطَحُهُ بقُرُونِها، وَتَطَؤُهُ بأظْلاَفِها) .

وفي ذلك نظائر من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها الدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من اللّه على الأموال التي لم تؤدّ الوظائف المفروضة فيها لأهلها من الصدقة، لا على اقتنائها واكتنازها.

وفيما بينا من ذلك البيان الواضح على أن الآية لخاصّ كما قال ابن عباس، وذلك ما:

١٣٠٢١ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ

يقول: هم أهل الكتاب، وقال: هي خاصة وعامة.

يعني ب قوله: هي خاصة وعامة هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤدّ زكاة ماله منهم، وعامة في أهل الكتاب لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا.

يدلّ على صحة ما قلنا في تأويل قول ابن عباس هذا ما:

١٣٠٢٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها... إلى قوله: هَذَا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذَوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ قال: هم الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم. قال: وكلّ مال لا تؤدّى زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها فهو كنز، وكل مال تؤدّى زكاته فليس بكنز كان على ظهر الأرض أو في بطنها.

١٣٠٢٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ قال: الكنز: ما كنز عن طاعة اللّه وفريضته، وذلك الكنز. وقال: افترضت الزكاة والصلاة جميعا لم يفرق بينهما.

وإنما قلنا ذلك على الخصوص، لأن الكنز في كلام العرب: كلّ شيء مجموع بعضه على بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها، يدلّ على ذلك قول الشاعر:

لا دَرّ دَرّى إنْ أطْعَمْتُ نازِلَهُمقِرْفَ الحَتِيّ وعنْدي البُرّ مَكْنُوزُ

يعني بذلك: وعند البرّ مجموع بعضه على بعض، وكذلك تقول العرب للبدن المجتمع: مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض. وإذا كان ذلك معنى الكنز عندهم، وكان قوله: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ معناه: والذين يجمعون الذهب والفضة بعضها إلى بعض، ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه وهو عامّ في التلاوة، لم يكن في الآية بيان كم ذلك القدر من الذهب والفضة الذي إذا جمع بعضه إلى بعض استحقّ الوعيد كان معلوما أن خصوص ذلك إنما أدرك بوقف الرسول عليه، وذلك كما بينا من أنه المال الذي لم يؤدّ حقّ اللّه منه من الزكاة دون غيره لما قد أوضحنا من الدلالة على صحته.

وقد كان بعض الصحابة

يقول: هي عامة في كلّ كنز، غير أنها خاصة في أهل الكتاب وإياهم عنى اللّه بها. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٢٤ـ حدثني أبو حصين عبد اللّه بن أحمد بن يونس، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا حصين عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة، فلقيت أبا ذرّ، فقلت: يا أبا ذرّ، ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشأم، فقرأت هذه الآية: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ... الآية، فقال معاوية: ليست هذه الآية فينا، إنما هذه الآية في أهل الكتاب. قال: فقلت إنها لفينا وفيهم. قال: فارتفع في ذلك بيني وبينه القول، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليّ عثمان: أن أقبل إليّ قال: فأقبلت فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي: تنحّ قريبا قلت: واللّه لن أدع ما كنت أقول.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع، قالوا: حدثنا ابن إدريس، قال حدثنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررنا بالربذة، ثم ذكر عن أبي ذرّ نحوه.

١٣٠٢٥ـ حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أشعث، وهشام، عن أبي بشر، قال: قال أبو ذرّ: خرجت إلى الشام فقرأت هذه الآية: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه فقال معاوية: إنما هي في أهل الكتاب، قال: فقلت: إنها لفينا وفيهم.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذرّ، قال: قلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه قال: فقال: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم. ثم ذكر نحو حديث هشيم عن حصين.

فإن قال قائل: فكيف قيل: ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه فأخرجت الهاء والألف مخرج الكناية عن أحد النوعين؟ قيل: يحتمل ذلك وجهين: أحدهما أن يكون الذهب والفضة مرادا بها الكنوز، كأنه قيل: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الكنوزولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه لأن الذهب والفضة هي الكنوز في هذا الموضع. والاَخر أن يكون استغنى بالخير عن إحداهما في عائد ذكرهما من الخبر عن الأخرى، لدلالة الكلام على الخبر عن الأخرى مثل الخبر عنها. وذلك كثير موجود في كلام العرب وأشعارها، ومنه قول الشاعر:

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنا وأنْتَ بِمَاعِنْدَكَ رَاضٍ والرأْيُ مُخْتَلِفُ

فقال: راض، ولم يقل: رضوان. وقال الاَخر:

إنّ شَرْحَ الشّبابِ والشّعَرَ الأسْ

وَدَ مَا لَمْ يُعاصَ كَانَ جُنُونَا

فقال: يعاص، ولم يقل: (يعاصيا) في أشياء كثيرة. ومنه قول اللّه :وإذَا رأَوْا تِجَارَةً أوْ لَهْوا انْقَضّوا إلَيْها ولم يقل: (إليهما)

٣٥

القول في تأويل قوله تعالى:{يَوْمَ يُحْمَىَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنّمَ فَتُكْوَىَ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ ...}.

يقول تعالى ذكره: فبشر هؤلاء الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا يخرجون حقوق اللّه منها يا محمد بعذاب أليم يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا في نارِ جَهَنّم فاليوم من صلة العذاب الأليم، كأنه قيل: يبشرهم بعذاب أليم يعذّبهم اللّه به في يوم يحمى عليها. ويعني ب قوله: يُحْمَى عَلَيْهَا تدخل النار فيوقد عليها أي على الذهب والفضة التي كنزوها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وكل شيء أدخل النار فقد أُحمي إحماء، يقال منه: أحميت الحديدة في النار أحميها إحماء.

وقوله: فَتُكْوَى بها جبِاهُهُمْ يعني بالذهب والفضة المكنوزة. يحمى عليها في نار جهنم يكوي اللّه بها،

يقول: يحرق اللّه جباه كانزيها وجنوبهم وظهورهم. هَذَا ما كَنَزْتُمْ ومعناه: ويقال لهم: هذا ما كنزتم في الدنيا أيها الكافرون الذين منعوا كنوزهم من فرائض اللّه الواجبة فيها لأنفسكم فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ

يقول: فيقال لهم: فأطعموا عذاب اللّه بما كنتم تمنعون من أموالكم حقوق اللّه وتكنزونها مكاثرة ومباهاة. وحذف من قوله (هذا ما كنزتم) و (يقال لهم) لدلالة الكلام عليه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٢٦ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن حميد بن هلال، قال: كان أبو ذرّ

يقول: بشر الكنازين بكي في الجباه وكيّ في الجنوب وكيّ في الظهور، حتى يلتقي الحرّ في أجوافهم.

١٣٠٢٧ـ قال: حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن الأحنف بن قيس، قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب، خشن الجسد، خشن الوجه، فقام عليهم، فقال: بشر الكنازين برَضْفٍ يُحْمَى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل قال: فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا. قال: وأدبر فاتبعته، حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئا.

 

١٣٠٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم، قال: ثني عمرو بن قيس، عن عمرو بن مرة الجملي، عن أبي نصر عن الأحنف بن قيس، قال: رأيت في مسجد المدينة رجلاً غليظ الثياب رثّ الهيئة، يطوف في الحلق وهو

يقول: بشر أصحاب الكنوز بكيّ في جنوبهم، وكيّ في جباههم، وكيّ في ظهورهم ثم انطلق وهو يتذمر

يقول: ما عسى تصنع بي قريش؟.

١٣٠٢٩ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قال أبو ذرّ: بشر أصحاب الكنوز بكيّ في الجباه، وكيّ في الجنوب، وكيّ في الظهور.

١٣٠٣٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا في نارِ جَهَنّم قال: حية تنطوي على جبينه وجبهته، تقول: أنا مالك الذي بخلت به.

١٣٠٣١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان، أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنْزا مُثّلَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعا أقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتانِ، يَتْبَعُهُ

يَقُولُ: وَيْلَكَ ما أنْتَ؟ فَ

يَقُولُ: أنا كِنْزُكَ الّذِي تَرَكْتُهُ بَعْدَكَ فَلا يَزَالُ يَتْبَعُهُ حتى يُلْقِمَهُ يَدَهُ فَيَقْضِمَها ثُمّ يَتْبَعَهُ سائِرُ جَسَدِهِ) .

١٣٠٣٢ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن طاوس، عن أبيه: قال: بلغني أن الكنوز تتحوّل يوم القيامة شجاعا يتبع صاحبه، وهو يفرّ منه و

يقول: أنا كنزك لا يدرك منه شيئا إلا أخذه.

١٣٠٣٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عبد اللّه بن مرّة، عن مسروق، عن عبد اللّه قال: والذي لا إله إلا غيره، لا يكوى عبد بكنز فيمسّ دينار دينارا ولا درهم درهما، ولكن يوسع جلده فيوضع كلّ دينار ودرهم على حدته.

قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد اللّه بن مرّة، عن مسروق، عن عبد اللّه ، قال: ما مِنْ رجل يكوى بكنز فيوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم، ولكن يوسع جلده.

٣٦

القول في تأويل قوله تعالى:{إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِندَ اللّه اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّه يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَات وَالأرْضَ ...}.

يقول تعالى ذكره: إنّ عِدّةَ الشّهُورِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّه الذي كتب فيه كلّ ما هو كائن في قضائه الذي قضى، يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ

يقول: هذه الشهور الاثنا عشر، منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن وتحرّمهن وتحرّم القتال فيهنّ، حتى لو لقي الرجل منهم فيهنّ قاتل أبيه لم يهجه. وهن: رجب مضر وثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

١٣٠٣٤ـ حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: ثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر، قال: خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق، فقال: (يا أيّها النّاسُ، إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّه السّمَوَاتِ والأرْضَ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّه اثُنَا عَشَرَ شَهْرا، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، أوّلَهُنّ رَجَبُ مُضْرَ بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ وَذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجّةِ وَالمُحَرّمُ) .

١٣٠٣٥ـ حدثنا محمد بن معمر، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا أشعث، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّه السّمَوَاتِ والأرْضَ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّه اثُنَا عَشَرَ شَهْرا في كِتَابِ اللّه يَوْمَ خَلَق السّمَوَاتِ والأرْضَ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِياتٌ وَرَجَبُ مُضْرَ بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ) .

١٣٠٣٦ـ حدثنا يعقوب، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي بكرة: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم خطب في حجة الوداع، فقال: (ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّه السّمَوَاتِ والأرْضَ، السّنَةُ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِياثٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجّةِ، وَالمُحَرّمُ، وَرَجَبُ مُضْرَ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ) .

١٣٠٣٧ـ حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سليمان التيمي، قال: ثني رجل بالبحرين، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: (ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّه السّمَوَاتِ والأرْضَ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّه اثُنَا عَشَرَ شَهْرا، مِنْهَا ثَلاثَةٌ مُتَوَالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجّةِ، وَالمُحَرّمُ، وَرَجَبُ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ) .

١٣٠٣٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، قوله: إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّه يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ إن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال: (ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجّةِ، والمُحَرّمُ، وَرَجَبُ الّذِي بينَ جُمادى وَشَعْبَانَ) .

١٣٠٣٩ـ حدثنا قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في خطبته يوم منى: (ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّه السّمَوَاتِ والأرْضَ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّه اثُنَا عَشَرَ شَهْرا، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجّةِ، وَالمُحَرّمُ، وَرَجَبُ مُضْرَ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ) .

وهو قول عامة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٤٠ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّه يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ أما أربعة حرم: فذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب. وأما كتاب اللّه : فالذي عنده.

١٣٠٤١ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول اللّه :إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنا عَشَرَ شَهْرا قال: يعرف بها شأن النسيء ما نقص من السنة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قول اللّه :إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّه قال: يذكر بها شأن النسيء.

وأما قوله: ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ. فإن معناه: هذا الذي أخبرتكم به، من أن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه ، وأن منها أربعة حرما: هو الدين المستقيم، كما:

١٣٠٤٢ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ

يقول: المستقيم.

١٣٠٤٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله: ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ قال: الأمر القيم

يقول: قال تعالى: واعلموا أيها الناس أن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه الذي كتب فيه كل ما هو كائن، وأن من هذه الاثني عشر شهرا أربعة أشهر حرما ذلك دين اللّه المستقيم، لا ما يفعله النسيء من تحليله ما يحلل من شهور السنة وتحريمه ما يحرمه منها.

وأما قوله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهنّ أنفُسَكُمْ فإن معناه: فلا تعصوا اللّه فيها، ولا تحلوا فيهنّ ما حرّم اللّه عليكم، فتكسبوا أنفسكم ما لا قبل لها به من سخط اللّه وعقابه. كما:

١٣٠٤٤ـ حدثني يونس، قال: قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال: الظلم: العمل بمعاصي اللّه والترك لطاعته.

ثم اختلف أهل التأويل في الذي عادت عليه الهاء والنون في قوله: فيهنّ،

فقال بعضهم: عاد ذلك على الاثني عشر شهرا، وقال: معناه: فلا تظلموا في الأشهر كلها أنفسكم. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٤٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّه يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ فلاَ تَظْلِمُوا فِيهنّ أنْفُسَكُمْ في كلهن. ثم خص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرما وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم.

١٣٠٤٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن سلمة، عن عليّ بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهنّ أنْفُسَكُمْ قال: في الشهور كلها.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرم أنفسكم، والهاء والنون عائدة على الأشهر الأربعة. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٤٧ـ حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، أما قوله: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ولكن اللّه يعظم من أمره ما شاء وقال: إن اللّه اصطفى صفايا من خلقه اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم اللّه ، فإنما تعظم الأمور بما عظمها اللّه عند أهل الفهم وأهل العقل.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في تصييركم حرام الأشهر الأربعة حلالاً وحلاها حراما أنفسكم. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٤٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنا عَشَرَ شَهْرا... إلى قوله: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ: أي لا تجعلوا حرامها حلالاً، ولا حلالها حراما، كما فعل أهل الشرك فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا... الآية.

١٣٠٤٩ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال: ظلم أنفسكم: أن لا تحرّموهن كحرمتهن.

حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز. قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد بن عليّ: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال: ظلم أنفسكم أن لا تحرّموهن كحرمتهن.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد، بنحوه.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها، فإن اللّه عظمها وعظّم حرمتها.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويله ل قوله: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ فأخرج الكناية عنه مخرج الكناية عن جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة، وذلك أن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة إذا كَنَتْ عنه: فعلنا ذلك لثلاث ليال خلون، ولأربعة أيام بقين، وإذا أخبرت عما فوق العشرة إلى العشرين، قالت: فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت، ولأربع عشرة مضت. فكان في قوله حلّ ثناؤه: فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ وإخراجه كناية عدد الشهور التي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فِيهن مخرج عدد الجمع القليل من الثلاثة إلى العشرة الدليل الواضح على أن الهاء والنون من ذكر الأشهر الأربعة دون الاثني العشر لأن ذلك لو كان كناية عن الاثني عشر شهرا لكان: فلا تظلموا فيها أنفسكم.

فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكون ذلك كناية عن الاثني عشر، وإن كان الذي ذكرت هو المعروف في كلام العرب، فقد علمت أن المعروف من كلامها إخراج كناية ما بين الثلاث إلى العشر بالهاء دون النون، وقد قال الشاعر:

أصْبَحْنَ فِي قُرْحَ وفي دَارَاتِهاسَبْعَ لَيالٍ غَيْرَ مَعْلُوفاتِها

ولم يقل: معلوفاتهن، وذلك كناية عن السبع؟ قيل: إن ذلك وإن كان جائزا فليس الأصح الأعرف في كلامها، وتوجيه كلام اللّه إلى الأفصح الأعرف أولى من توجيهه إلى الأنكر.

فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فقد يجب أن يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهنّ من سائر شهور السنة؟ قيل: ليس ذلك كذلك، بل ذلك حرام علينا في كل وقت وزمان، ولكن اللّه عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهن على سائر شهور السنة، فخصّ الذنب فيهنّ بالتعظيم كما خصهنّ بالتشريف، وذلك نظير قوله: حافِظُوا على الصّلَوَاتِ والصّلاةِ الوُسْطَى ولا شكّ أن اللّه قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها ب قوله: حافِظُوا على الصّلَوَاتِ ولم يبح ترك المحافظة عليهن بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى، ولكنه تعالى ذكره زادها تعظيما وعلى المحافظة عليها توكيدا وفي تضييعها تشديدا، فكذلك ذلك في قوله: مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ.

وأما قوله: وَقاتِلُوا المُشْرِكينَ كافّةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافّةً فإنه

يقول جلّ ثناؤه: وقاتلوا المشركين باللّه أيها المؤمنون جميعا غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعا مجتمعين غير متفرقين. كما:

١٣٠٥٠ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافّةً أما كافة فجميع وأمركم مجتمع.

١٣٠٥١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: وقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كافّةً

يقول: جميعا.

١٣٠٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً: أي جميعا.

والكافّة في كلّ حال على صورة واحدة لا تذكر ولا تجمع، لأنها وإن كانت بلفظ فاعلة فإنها في معنى المصدر كالعافية والعاقبة، ولا تدخل العرب فيها الألف واللام لكونها آخر الكلام مع الذي فيها من معنى المصدر، كما لم يدخلوها إذا قالوا: قاموا معا وقاموا جميعا.

وأما قوله: واعْلَمُوا أنّ اللّه مَعَ المُتّقِينَ فإن معناه: واعلموا أيها المؤمنون باللّه أنكم إن قاتلتم المشركين كافّة، واتقيتم اللّه فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم ولم تخالفوا أمره فتعصوه، كان اللّه معكم على عدوّكم وعدُوه من المشركين ومن كان اللّه معه لم يغلبه شيء، لأن اللّه مع من اتقاه فخافه وأطاعه فيما كلفه من أمره ونهيه.

٣٧

القول في تأويل قوله تعالى:{إِنّمَا النّسِيَءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلّونَهُ عَاماً ...}.

يقول تعالى ذكره: ما النسيء إلا زيادة في الكفر، والنسيء مصدر من قول القائل: نسأت في أيامك ونسأ اللّه في أجلك: أي زاد اللّه في أيام عمرك ومدة حياتك حتى تبقى فيها حيّا. وكل زيادة حدثت في شيء، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه نسيء ولذلك قيل للبن إذا كثر بالماء نسيء، وقيل للمرأة الحبلى نسوء، ونُسئت المرأة، لزيادة الولد فيها وقيل: نسأت الناقة وأنسأتها: إذا زجرتها ليزداد سيرها. وقد يحتمل أن النسيء فعيل صرف إليه من مفعول، كما قيل: لعين وقتيل، بمعنى: ملعون ومقتول، ويكون معناه: إنما الشهر المؤخر زيادة في الكفر. وكأنّ القول الأول أشبه بمعنى الكلام، وهو أن يكون معناه: إنما التأخير الذي يؤخره أهل الشرك باللّه من شهور الحرم الأربعة وتصييرهم الحرام منهن حلالاً والحلال منهنّ حراما، زيادة في كفرهم وجحودهم أحكام اللّه وآياته. وقد كان بعض القرّاء يقرأ ذلك: (إنّمَا النّسي) بترك الهمز وترك مده: يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا.

واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة الكوفيين: يُضِلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا بمعنى: يضل اللّه بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه الذين كفروا. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: يَضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا بمعنى: يزول عن حجة اللّه التي جعلها لعباده طريقا يسلكونه إلى مرضاته الذين كفروا. وقد حُكي عن الحسن البصري: يُضِلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا بمعنى: يضلّ بالنسيء الذي سنة الذين كفروا، الناس.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هما قراءتان مشهورتان، قد قرأت بكلّ واحدة القرّاء أهل العلم بالقرآن والمعرفة به، وهما متقاربتا المعنى، لأن من أضله اللّه فهو ضالّ ومن ضلّ فبإضلال اللّه إياه وخذلانه له ضلّ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو للصواب في ذلك مصيب. وأما الصواب من القراء في النسيء، فالهمز، وقراءته على تقدير فعيل، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا يجوز خلافها فيما أجمعت عليه.

وأما قوله: يُحِلّونَهُ عاما فإن معناه: يحلّ الذين كفروا النسيء، والهاء في قوله: يُحِلّونَهُ عائدة عليه.

ومعنى الكلام: يحلون الذين أخروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم عاما ويحرّمونه عاما، لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّه

يقول: ليوافقوا بتحليلهم ما حللوا من الشهور وتحريمهم ما حرّموا منها، عدّة ما حرّم اللّه فَيْحِلّوا ما حَرّمَ اللّه زُيّنَ لَهُمْ سُوءُ أعمالِهِمُ

يقول: حسن لهم وحبّب إليهم سيىء أعمالهم وقبيحها وما خولف به أمر اللّه وطاعته. وَاللّه لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينِ

يقول: واللّه لا يوفّق لمحاسن الأفعال وحلها وما لله فيه رضا، القوم الجاحدين توحيده والمنكرين نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم، ولكنه يخذلهم عن الهدى كما خذل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٥٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال: النسيء: هو أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يْحَابُ ولا يعاب، ألا وإن صفر العام الأوّل حلال فيحلّه الناس، فيحرّم صفر عاما، ويحرّم المحرّم عاما، فذلك قوله تعالى: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ... إلى قوله: الكَافِرينَ.

وقوله: إنّمَا النّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ

يقول: يتركون المحرّم عاما، وعاما يحرّمُونه.

قال أبو جعفر: وهذا التأويل من تأويل ابن عباس يدلّ على صحة قراءة من قرأ (النسي) بترك الهمزة وترك المدّ، وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه فعل من قول القائل: نسيت الشيء أنساه، ومن قول اللّه :نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ بمعنى: تركوا اللّه فتركهم.

١٣٠٥٤ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال: فهو المحرّم كان يحرّم عاما وصفر عاما، وزيد صفر آخر في الأشهر الحرم، وكانوا يحرّمون صفرا مرّة ويحلونه مرّة، فعاب اللّه ذلك، وكانت هوزان وغطفان وبنو سليم تفعله.

١٣٠٥٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال: كان النسيء رجلاً من بني كنانة، وكان ذا رأي فيهم، وكان يجعل سنة المحرّم صفرا، فيغزون فيه فيغتنمون فيه ويصيبون، ويحرّمه سنة.

قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي وائل: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ... الآية، وكان رجل من بني كنانة يسمى النسيء، فكان يجعل المحرّم صفر ويستحل فيه الغنائم، فنزلت هذه الآية.

١٣٠٥٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قال: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام في الموسم على حمار له، ف

يقول: أيها الناس إني لا أُعاب ولا أُحاب، ولا مردّ لما أقول إنا قد حرّمنا المحرّم، وأخرنا صفر ثم يجيء العام المقبل بعده، فيقول مثل مقالته، و

يقول: إنا قد حرمنا صفر، وأخرنا المحرّم فهو قوله: لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّه قال: يعني الأربعة، فيحلوا ما حرّم اللّه لتأخير هذا الشهر الحرام.

١٣٠٥٧ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ النسيء: المحرّم، وكان يحرّم المحرّم عاما ويحرّم صفرا عاما، فالزيادة صفر، وكانوا يؤخرون الشهور حتى يجعلون صفر المحرّم، فيحلوا ما حرّم اللّه ، وكانت هوزان وغطفان وبنو سليم يعظمونه، هم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية.

١٣٠٥٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ... إلى قوله: الكافِرِينَ عمد أناس من أهل الضلالة، فزادوا صفرا في الأشهر الحرم، فكان يقوم قائمهم في الموسم، ف

يقول: ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرّم فيحرّمونه ذلك العام. ثم يقول في العام المقبل ف

يقول: ألا إن آلهتكم قد حرّمت صفر فيحرّمونه ذلك العام. وكان يقال لهما: الصفران. قال: فكان أوّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة: أبو ثمامة صفوان بن أمية أحد بني فقيم بن الحرث، ثم أحد بني كنانة.

١٣٠٥٩ـ حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال: فرض اللّه الحجّ في ذي الحجة. قال: وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة، والمحرّم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوّال، وذو القعدة، وذو الحجة، يحجون فيه مرّة ثم يسكتون عن المحرّم فلا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفر صفر، ثم يسمون رجب جمادى الاَخرة، ثم يسمون شعبان ورمضان، ثم يسمون رمضان شوالاً، ثم يسمون ذا القعدة شوّالاً، ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرّم ذا الحجة فيحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا بمثل هذه القصة، فكانوا يحجون في كل شهر عامين، حتى وافق حجة أبي بكر رضي اللّه عنه الاَخر من العامين في ذي القعدة. ثم حجّ النبي صلى اللّه عليه وسلم حجته التي حجّ، فوافق ذا الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى اللّه عليه وسلم في خطبته: إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّه السّمَوَاتِ والأرْضَ.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال: حجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرّم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين، حتى وافقت حجة أبي بكر الاَخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنة. ثم حجّ النبي صلى اللّه عليه وسلم من قابل في ذي الحجة. فذلك حين يقول النبي صلى اللّه عليه وسلم في خطبته: إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّه السّمَوَاتِ والأرْضَ.

١٣٠٦٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك: إنّمَا النّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشرا شهرا، فيجعلون المحرّم صفرا، فيستحلون فيه الحرمات. فأنزل اللّه : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ.

١٣٠٦١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا... الآية. قال: هذا رجل من بني كنانة يقال له القَلَمّس، كان في الجاهلية، وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام، يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمدّ إليه يده. فلما كان هو، قال: اخرجوا بنا قالوا له: هذا المحرم. فقال: ننسئه العام، هما العام صفران، فإذا كان عام قابل قضينا فجعلناهما محرمين قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل، قال: لا تغزوا في صفر حرّموه مع المحرّم، هما محرّمان المحرم أنسأناه عاما أوّل ونقضيه ذلك الإنساء. وقال شاعرهم:

(وَمِنّا مُنْسِيءُ الشّهْرِ القَلَمّسْ

وأنزل اللّه : إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ... إلى آخر الآية.

وأما قوله: زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ فإن معناه: زيادة كفر بالنسيء إلى كفرهم بالله. وقيل ابتداعهم النسيء كما:

١٣٠٦٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ

يقول: ازدادوا به كفرا إلى كفرهم.

وأما قوله: لِيُوَاطِئُوا فإنه من قول القائل: واطأت فلانا على كذا أواطئه مواطأة: إذا وافقته عليه، معينا له، غير مخالف عليه.

ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما:

١٣٠٦٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّه

يقول: يشبهون.

وذلك قريب المعنى مما بيّنا، وذلك أن ما شابه الشيء فقد وافقه من الوجه الذي شابهه.

وإنما معنى الكلام: أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرّمونها عدة الأشهر الأربعة التي حرّمها اللّه ، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها، وإن قدّموا وأخّروا فذلك مواطأة عدتهم عدّة ما حرّم اللّه .

٣٨

القول في تأويل قوله تعالى:{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّه اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ ...}.

وهذه الآية حثّ من اللّه جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم، وذلك غزوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تبوك.

يقول جلّ ثناؤه: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله ما لَكُمْ أيّ شيء أمركم، إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّه

يقول: إذا قال لكم رسول اللّه محمد: انفروا أي اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم. وأصل النفر: مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاجه على ذلك، ومنه نفور الدابة غير أنه يقال من النفر إلى الغزو: نفر فلان إلى ثغر كذا يَنْفِرُ نَفْرا ونَفِيرا، وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرقون بها بين اختلاف المخبر عنه وإن اتفقت معاني الخبر فمعنى الكلام: ما لكم أيها المؤمنون إذ قيل لكم: اخرجوا غزاه في سبيل اللّه أي في جهاد أعداء اللّه ، اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ يقول تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها. وقيل: (اثّاقلتم) لأنه أدغم التاء في الثاء. فأحدث لها ألف ليتوصل إلى الكلام بها. لأن التاء مدغمة في الثاء، ولو أسقطت الألف وابتدىء بها لم تكن إلا متحركة، فأحدثت الألف لتقع الحركة بها، كما قال جلّ ثناؤه: حتى إذَا ادّاركُوا فِيهَا جَمِيعا وكما قال الشاعر:

تُولي الضجيجَ إذا ما اسْتافَها خَصِراعَذْبَ المَذاقِ إذَا ما اتّابَعَ القُبَلُ

فهو بني الفعل افتعلتم من التثاقل.

وقوله: أرَضِيتُمْ بالحَياةِ الدّنْيَا مِنَ الاَخِرَةِ يقول جلّ ثناؤه، أرضيتم بحظّ الدنيا والدعة فيها عوضا من نعيم الاَخرة وما عند اللّه للمتقين في جنانه؟ فَمَا مِتَاعُ الحَياةِ الدّنْيَا فِي الاَخِرةِ

يقول: فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذّاتها في نعيم الاَخرة والكرامة التي أعدّها اللّه لأوليائه وأهل طاعته إلاّ قَلِيلٌ يسير. يقول لهم: فاطلبوا أيها المؤمنون نعيم الاَخرة وترف الكرامة التي عند اللّه لأوليائه بطاعته، والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوّه.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٦٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ما لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّه اثّاقَلْتُمْ إلى الأرضِ أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد الطائف، وبعد حنين. أمروا بالنفير في الصيف حين خُرِفَت النخل، وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشقّ عليهم المخرج.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّه اثّاقَلْتُمْ إلى الأرض... الآية، قال: هذا حين أُمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين، وبعد الطائف أمرهم بالنفير في الصيف، حين اخْتُرِفَت النخل، وطابت الثمار، واشتهُوا الظلال، وشقّ عليهم المخرج. قال: فقالوا: منا الثقيل، وذو الحجة، والضيّعة، والشغل، والمنتشر به أمره في ذلك. فأنزل اللّه : انْفِرُوا خفافا وثَقالاً.

٣٩

القول في تأويل قوله تعالى:

{إِلاّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرّوهُ شَيْئاً وَاللّه عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله، متوعدهم على ترك النفر إلى عدوّهم من الروم: إن لم تنفروا أيها المؤمنون إلى من استنفركم رسول اللّه ، يعذّبكم اللّه عاجلاً في الدنيا بترككم النفر إليهم عذابا موجعا. وَيَسْتَبْدِلْ قَوْما غيرَكُمْ

يقول: يستبدل اللّه بكم نبيه قوما غيركم، ينفرون إذا استنفروا، ويجيبونه إذا دعوا، ويطيعون اللّه ورسوله. وَلا تَضُرّوه شَيْئا

يقول: ولا تضرّوا اللّه بترككم النفير ومعصيتكم إياه شيئا، لأنه لا حاجة به إليكم، بل أنتم أهل الحاجة إليه، وهو الغنيّ عنكم وأنتم الفقراء واللّه على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

يقول جلّ ثناؤه: واللّه على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم وعلى كل ما يشاء من الأشياء قدير. وقد ذكر أن العذاب الأليم في هذا الموضع كان احتباس القطر عنهم. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٦٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: ثني عبد المؤمن بن خالد الحنفي، قال: ثني نجدة الخراساني، قال: سمعت ابن عباس، سئل عن قوله: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما قال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استنفر حيّا من أحيار العرب، فتثاقلوا عنه، فأمسك عنهم المطر، فكان ذلك عذابهم، فذلك قوله: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبد المؤمن، عن نجدة، قال: سألت ابن عباس، فذكر نحوه، إلا أنه قال: فكان عذابهم أن أمسك عنهم المطر.

١٣٠٦٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما استنفر اللّه المؤمنين في لهبان الحرّ في غزوة تبوك قبل الشأم على ما يعلم اللّه من الجهد.

وقد زعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٦٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصريّ، قالا: قال: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما وقال: ما كانَ لأهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه وَلا يَرْغَبُوا بأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ... إلى قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللّه أحْسَنَ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ فنسختها الآية التي تلتها: ومَا كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً... إلى قوله: لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ.

قال أبو جعفر: ولا خبر بالذي قال عكرمة والحسن من نسخ حكم هذه الآية التي ذكروا يجب التسليم له، ولا حجة تأتي بصحة ذلك، وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عدد من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعد. وجائز أن يكون قوله: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما لخاصّ من الناس، ويكون المراد به من استنفره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلم ينفر على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس. وإذا كان ذلك كذلك، كان قوله: ومَا كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً نهيا من اللّه المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمن مقيم فيها، وإعلاما من اللّه لهم أن الواجب النفر على بعضهم دون بعض، وذلك على من استنفر منهم دون من لم يستنفر. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في إحدى الاَيتين نسخ للأخرى، وكان حكم كل واحدة منهما ماضيا فيما عُنِيَتْ به.

٤٠

القول في تأويل قوله تعالى:{إِلاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ...}.

وهذا إعلام من اللّه أصحاب رسوله صلى اللّه عليه وسلم أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكير منه لهم فعل ذلك به، وهو من العدد في قلة والعدوّ في كثرة، فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدوّ في قلّة؟ يقول لهم جلّ ثناؤه: إلا تنفروا أيها المؤمنون مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه، فاللّه ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم كما نصره إذ أخرجه الذين كفروا باللّه من قريش من وطنه وداره ثانِيَ اثْنَيْنِ

يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين: أي واحد من الاثنين، وكذلك تقول العرب: (هُوَ ثانِيَ اثْنَيْنِ) يعني أحد الاثنين، وثالث ثلاثة، ورابع أربعة، يعني : أحد ثلاثة، وأحد الأربعة، وذلك خلاف قولهم: هو أخو ستة وغلام سبعة، لأن الأخ والغلام غير الستة والسبعة، وثالث الثلاثة: أحد الثلاثة. وإنما عنى جل ثناؤه ب قوله: ثانِيَ اثْنَيْنِ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبا بكر، رضي اللّه عنه، لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش، إذ همّوا بقتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واختفيا في الغار.

وقوله: إذْ هُما فِي الغارِ يقول إذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر رحمة اللّه عليه في الغار والغار: النقب العظيم يكون في الجبل. إذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ

يقول: إذ يقول رسول اللّه لصاحبه أبي بكر: لا تَحْزَنْ وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما، فجزع من ذلك، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لاَ تَحْزَنْ لأنّ اللّه مَعَنا، واللّه ناصِرُنا، فَلَنِ يَعْلَمَ المُشْرِكُونَ بِنا، وَلَنْ يَصِلُوا إلَيْنَا

يقول جلّ ثناؤه: فقد نصره اللّه على عدوّه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد، فكيف يخذله ويحوجه إليكم وقد كثر اللّه أنصاره وعدد جنوده؟.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٦٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلاّ تَنْصُرُوهُ ذكر ما كان في أوّل شأنه حين بعثه يقول اللّه : فأنا فاعل ذلك به وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: إلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه قال: ذكر ما كان في أوّل شأنه حين بعث، فاللّه فاعل به كذلك ناصره كما نصره إذا ذاك ثانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الغارِ.

١٣٠٦٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه ... الآية، قال: فكان صاحبه أبو بكر. وأما الغار: فجبل بمكة يقال له ثور.

١٣٠٧٠ـ حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثني أبي، قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: لما خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر رضي اللّه عنه، وكان لأبي بكر منيحة من غنم تروح على أهله، فأرسل أبو بكر عامر بن فُهيرة في الغنم إلى ثور، وكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي صلى اللّه عليه وسلم بالغار في قور، وهو الغار الذي سماه اللّه في القرآن.

١٣٠٧١ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي، قال: حدثنا عفان وحبان، قالا: حدثنا همام، عن ثابت عن أنس، أن أبا بكر رضي اللّه عنه حدثهم، قال: بينا أنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغار، وأقدام المشركين فوق رُءُوسِنَا، فقلت: يا رسول اللّه ، لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا فقال: (يا أبا بَكْرٍ ما ظَنّكَ باثْنَيْنِ اللّه ثَالِثَهُما) .

١٣٠٧٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، قال: مكث أبو بكر مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في الغار ثلاثا.

١٣٠٧٣ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: إذْ هُما فِي الغارِ قال: في الجبل الذي يسمى ثورا، مكث فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليال.

١٣٠٧٤ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبيه: أن أبا بكر الصديق رحمة اللّه تعالى عليه حين خطب قال: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ قال رجل: أنا، قال: اقرأ فلما بلغ: إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ بكى أبو بكر وقال: أنا واللّه صاحبه.

القول في تأويل قوله تعالى: فأَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَة الّذِينَ كَفَروُا السّفْلَى وكلمةٌ اللّه هِيَ العُلْيا واللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

يقول تعالى ذكره: فأنزل اللّه طمأنينته وسكونه على رسوله وقد قيل: على أبي بكر وأيّدهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا

يقول: وقوّاه بجنود من عنده من الملائكة لم تروها أنتم. وَجَعَلَ كِلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا وهي كلمة الشرك السّفْلَى لأنها قُهرت وأذّلت وأبطلها اللّه تعالى ومحق أهلها، وكلّ مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب والغالب هو الأعلى. وكَلِمَةُ اللّه هِيَ العْلْيَا

يقول: ودين اللّه وتوحيده وقول لا إله إلا اللّه ، وهي كلمته العليا على الشرك وأهله، الغاليةُ. كما:

١٣٠٧٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى وهي: الشرك بالله. وكَلِمَةُ اللّه هِيَ العُلْيا وهي لا إله إلا اللّه .

وقوله: وَكَلِمَةُ اللّه هِيَ العُليا خبر مبتدأ غير مردود على قوله: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى لأن ذلك لو كان معطوفا على الكلمة الأولى لكان نصبا.

وأما قوله: واللّه عَزِيرٌ حَكِيمٌ فإنه يعني : واللّه عزيز في انتقامه من أهل الكفر به، لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب ولا ينصره من عاقبه ناصر، حكيم في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم في مشيئته.

٤١

القول في تأويل قوله تعالى:{انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّه ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }.

واختلف أهل التأويل في معنى الخفة والثّقل اللذين أمر اللّه من كان به أحدهما بالنّفر معه،

فقال بعضهم: معنى الخفة التي عناها اللّه في هذا الموضع: الشباب، ومعنى الثقل: الشيخوخة. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن رجل، عن الحسن، في قوله: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: شيبا وشُبانا.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حفص، عن عمرو، عن الحسن، قال: شيوخا وشبانا.

١٣٠٧٧ـ قال: حدثنا ابن عيينة، عن عليّ بن زيد، عن أنس، عن أبي طلحة: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: كهولاً وشبانا، ما أسمع اللّه عذرَ أحدا فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات.

١٣٠٧٨ـ حدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن المغيرة بن النعمان، قال: كان رجل من النخع وكان شيخا بادِنا، فأراد الغزو فمنعه سعد بن أبي وقاص، فقال: إن اللّه

يقول: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً فأذن له سعد، فقتل الشيخ، فسأل عنه بعد عُمر، فقال: ما فعل الشيخ الذي كان من بني هاشم؟ فقالوا قُتِلَ يا أمير المؤمنين.

١٣٠٧٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قال: الشاب والشيخ.

١٣٠٨٠ـ قال: حدثنا أبو أسامة، عن مالك بن مغول، عن إسماعيل، عن عكرمة، قال: الشاب والشيخ.

١٣٠٨١ـ قال: حدثنا المحاربيّ، عن جويبر، عن الضحاك : كهولاً وشبانا.

١٣٠٨٢ـ قال: حدثنا حَيْوة أبو يزيد، عن يعقوب القُمّي، عن جعفر بن حميد، عن بشر بن عطية: كهولاً وشبانا.

١٣٠٨٣ـ حدثنا الوليد، قال: حدثنا عليّ بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، في قوله: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: شبانا وكهولاً.

١٣٠٨٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: شبابا وشيوخا، وأغنياء ومساكين.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الحسن: شيوخا وشبانا.

١٣٠٨٥ـ حدثني سعيد بن عمرو، قال: حدثنا بقية، قال: حدثنا جرير، قال: ثني حبان بن زيد الشرعبي، قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص قِبَلَ الأفسوس إلى الجراجمة، فلقيت شيخا كبيرا هِمّا، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار، فأقبلت عليه فقلت: يا عمّ لقد أعذرَ اللّه إليك قال: فرفع حاجبيه فقال: يا ابن أخي استنفرنا اللّه خفافا وثقالاً، من يحبه اللّه يبتليه ثم يعيده فيبقيه، وإنما يبتلي اللّه من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا اللّه .

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: كل شيخ وشاب.

وقال آخرون: معنى ذلك مشاغيل وغير مشاغيل. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٨٦ـ حدثنا ابن بشار وابن وكيع، قالا: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن الحكم، في قوله: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: مشاغيل وغير مشاغيل.

وقال آخرون: معناه: انفروا أغنياء وفقراء. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٨٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عمن ذكره، عن أبي صالح: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: أغنياء وفقراء.

وقال آخرون: معناه: نِشَاطا وغير نِشاط. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٨٨ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً

يقول: انفروا نِشَاطا وغير نِشَاط.

١٣٠٨٩ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: خِفافا وَثِقالاً قال: نِشَاطا وغير نِشاط.

وقال آخرون: معناه: ركبانا ومشاة. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٩٠ـ حدثنا عليّ بن سهل، قال: حدثنا الوليد، قال: قال أبو عمرو: إذا كان النفر إلى دروب الشأم نفر الناس إليها خفافا ركبانا، وإذا كان النفر إلى هذه السواحل ونفروا إليها خفافا وثقالاٍ ركبانا ومشاة.

وقال آخرون: معنى ذلك: ذَا ضَيْعة، وغير ذي ضيعة. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٩١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال: الثقيل الذي له الضيعة، فهو ثقيل يكره أن يضيع ضيعته ويخرج، والخفيف الذي لا ضيعة له فقال اللّه : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً.

١٣٠٩٢ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه، قال: زعم حضرميّ أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلاً أو كبيرا، ف

يقول: إني أحسبه قال: أنا لا آثم فأنزل اللّه : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً.

١٣٠٩٣ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن محمد، قال: شهد أبو أيوب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بدرا، ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا وهو في أخرى إلا عاما واحدا وكان أبو أيوب

يقول: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلاً.

١٣٠٩٤ـ حدثنا عليّ بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا جرير، عن عثمان، عن راشد بن سعد، عمن رأى المقداد بن الأسود فارس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على تابوت من توابيت الصيارفة بمحص، وقد فضل عنه من عظمه، فقلت له: لقد أعذر اللّه إليك فقال: أتت علينا سورة البحوث انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً.

حدثنا سعيد بن عمرو السّكونيّ، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا جرير، قال: ثني عبد الرحمن بن ميسرة، قال: ثني أبو رائد الحبرانيّ، قال: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، قد فضل عنه من عظمه، يريد الغزو، فقلت له: لقد أعذر اللّه إليك فقال: أتت علينا سورة البحوث: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن اللّه تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنفر لجهاد أعدائه في سبيله خفافا وثقالاً وقد يدخل في الخفاف كلّ من كان سهلاً عليه النفر لقوّة بدنه على ذلك وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا تيسر بمال وفراغ من الاشتغال وقادرا على الظهر والركاب. ويدخل في الثقال كلّ من كان بخلاف ذلك من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن معمر من المال ومشتغل بضيغة ومعاش، ومن كان لا ظهر له ولا ركاب، والشيخ وذو السنّ والعيال. فإذ كان قد يدخل في الخفاف والثقال من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا ولم يكن اللّه جل ثناؤه خصّ من ذلك صنفا دون صنف في الكتاب، ولا على لسان الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ولا نصب على خصوصه دليلاً، وجب أن يقال: إن اللّه جل ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافا وثقالاً مع رسوله صلى اللّه عليه وسلم على كلّ حال من أحوال الخفة والثقل.

١٣٠٩٥ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن مسلم بن صبيح قال: أوّل ما نزل من براءة: انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً.

١٣٠٩٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، مثله.

١٣٠٩٧ـ حدثنا الحرث، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جرير، عن مجاهد، قال: إن أوّل ما نزل من براءة: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه فِي مَوَاطِنَ كَثِيرةٍ قال: يعرّفهم نصره، ويوطنهم لغزوة تبوك.

القول في تأويل قوله تعالى: وجَاهَدُوا بأمْوَالِكمْ وأنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تعْلَمُونَ.

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: جاهدوا أيها المؤمنون الكفار بأموالكم، فأنفقوها في مجاهدتهم على دين اللّه الذي شرعه لكم، حتى ينقادوا لكم فيدخلوا فيه طوعا أو كرها، أو يعطوكم الجزية عن يد صغارا إن كانوا أهل كتاب، أو تقتلوهم وأنْفُسِكُمْ

يقول: وبأنفسكم فقاتلوهم بأيديكم يخزهم اللّه وينصركم عليهم. ذلكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ

يقول: هذا الذي آمركم به من النفر في سبيل اللّه تعالى خفافا وثقالاً وجهاد أعدائه بأموالكم وأنفسكم خير لكم من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم والخلود إليها والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا عوضا من الاَخرة، إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بين لكم من فضل الجهاد في سبيل اللّه على القعود عنه.

٤٢

القول في تأويل قوله تعالى:{لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاّتّبَعُوكَ وَلَـَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ ...}.

يقول جل ثناؤه للنبي صلى اللّه عليه وسلم، وكانت جماعة من أصحابه قد استأذنوه في التخلف عنه حين خرج إلى تبوك فأذن لهم: لو كان ما تدعو إليه المتخلفين عنك والمستأذنيك في ترك الخروج معك إلى مغزاك الذي استنفرتهم إليه، عَرَضا قَرِيبا

يقول: غنيمة حاضرة، وسَفَرا قاصِدا،

يقول: وموضعا قريبا سهلاً، لاتّبعوكَ ونفروا معك إليهما ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد، وكلفتهم سفرا شاقّا عليهم، لأنك استنهضتهم في وقت الحرّ وزمان القيظ وحين الحاجة إلى الكنّ. وسَيَحْلِفُونَ باللّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يقول تعالى ذكره: وسيحلف لك يا محمد هؤلاء المستأذنوك في ترك الخروج معك اعتذارا منهم إليك بالباطل، لتقبل منهم عذرهم، وتأذن لهم في التخلف عنك باللّه كاذبين: لو استطعنا لخرجنا معكم

يقول: لو أطقنا الخروج معكم بوجود السعة والمراكب والظهور وما لا بدّ للمسافر والغازي منه، وصحة البدن والقوى، لخرجنا معكم إلى عدوّكم. يُهْلِكُونَ أنْفُسَهُمْ

يقول: يوجبون لأنفسهم بحلفهم باللّه كاذبين الهلاك والعطب، لأنهم يورثونها سخط اللّه ويكسبونها أليم عقابه. وَاللّه يَعْلَمُ إنّهُمْ لَكَاذِبُونَ في حلفهم باللّه لو استطعنا لخرجنا معكم لأنهم كانوا للخروج مطيقين بوجود السبيل إلى ذلك بالذي كان عندهم من الأموال مما يحتاج إليه الغازي في غزوه والمسافر في سفره وصحة الأبدان وقوى الأجسام.

وبنحو الذي قلنا ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٠٩٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لَوْ كَانَ عَرَضا قَرِيبا إلى قوله لَكَاذِبُونَ إنهم يستطيعون الخروج، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم والشيطان وزهادة في الخير.

١٣٠٩٩ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وَلَوْ كَانَ عَرَضا قَرِيبا قال: هي غزوة تبوك.

١٣١٠٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: وَاللّه يَعْلَمُ إنّهُمْ لَكَاذِبُونَ إي أنهم يستطيعون. ذكر من قال ذلك

٤٣

{عَفَا اللّه عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ }.

وهذا عتاب من اللّه تعالى ذكره عاتب به نبيه صلى اللّه عليه وسلم في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه حين شخص إلى تبوك لغزو الروم من المنافقين.

يقول جلّ ثناؤه: عَفَا اللّه عَنْكَ يا محمد ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذي استأذنوك في ترك الخروج معك، وفي التخلف عنك من قبل أن تعلم صدقه من كذبه. لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ لأيّ شيء أذنت لهم، حتّى يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الكاذبِينَ

يقول: ما كان ينبغي لك أن تأذن لهم في التخلف عنك، إذ قالوا لك: استطعنا لخرجنا معك، حتى تعرف من له العذر منهم في تخلفه ومن لا عذر له منهم، فيكون إذنك لمن أذنت له منهم على علم منك بعذره، وتعلم من الكاذب منهم المتخلف نفاقا وشكّا في دين اللّه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٠١ـ حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ قال: ناس قالوا: استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.

١٣١٠٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ حتّى يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُوا... الآية، عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل اللّه التي في سورة النور، فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء، فقال: فإذَا اسْتَأذَنُوكَ لبَعْضِ شأْنِهِمْ فأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فجعله اللّه رخصة في ذلك من ذلك.

١٣١٠٣ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن ميمون الأودي، قال: اثنتان فعلهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه من الأسارى، فأنزل اللّه : عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ... الآية.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: قرأت على سعيد بن أبي عروبة، قال: هكذا سمعته من قتادة، قوله: عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ... الآية، ثم أنزل اللّه بعد ذلك في سورة النور: فإذَا اسْتَأذَنُوكَ لبَعْضِ شأْنِهِمْ فأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ... الآية.

١٣١٠٤ـ حدثنا صالح بن مسمار، قال: حدثنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا موسى بن مروان، قال: سألت مورّقا، عن قوله: عَفَا اللّه عَنْكَ قال: عاتبه ربه.

٤٤

القول في تأويل قوله تعالى:{لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاَخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالْمُتّقِينَ }.

وهذا إعلام من اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم سِيما المنافقين أن من علاماتهم التي يعرفون بها تخلفهم عن الجهاد في سبيل اللّه باستئذانهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في تركهم الخروج معه إذا استنفروا بالمعاذير الكاذبة. يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: يا محمد لا تأذننّ في التخلف عنك إذا خرجت لغزو عدوّك لمن استأذنك في التخلف من غير عذر، فإنه لا يستأذنك في ذلك إلا منافق لا يؤمن باللّه واليوم الاَخر، فأما الذي يصدّق باللّه وبقرّ بوحدانيته وبالبعث والدار الاَخرة والثواب والعقاب، فإنه لا يستأذنك في ترك الغزو وجهاد أعداء اللّه بماله ونفسه. وَاللّه عَلِيمٌ بالمُتّقِينَ

يقول: واللّه ذو علم بمن خافه فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه والمسارعة إلى طاعته في غزو عدوّه وجهادهم بماله ونفسه، وغير ذلك من أمره ونهيه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٠٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: لا يَسْتأذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ باللّه فهذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد من غير عذر، وعذر اللّه المؤمنين، فقال: لم يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ.

٤٥

القول في تأويل قوله تعالى:{إِنّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدّدُونَ }.

يقول تعالى ذكره لنبيه صلى اللّه عليه وسلم: إنما يستأذنك يا محمد في التخلف خلافك، وترك الجهاد معك من غير عذر بين الذين لا يصدّقون بالله، ولا يقرّون بتوحيده. وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ

يقول: وشكت قلوبهم في حقيقة وحدانية اللّه ، وفي ثواب أهل طاعته، وعقابه أهل معاصيه. فَهُمْ فِي رَيْبهْمِ يَتردّدوَن

يقول: في شكهم متحيرون، وفي ظلمة الحيرة مترددون، لا يعرفون حقّا من باطل، فيعملون على بصيرة. وهذه صفة المنافقين.

وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الاَيتين منسوختان بالآية التي ذكرت في سورة النور. ذكر من قال ذلك:

١٣١٠٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري، قالا: قوله: لا يَسْتأذِنُكَ الّذِينَ يُؤمِنُونَ باللّه ... إلى قوله: فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَرَدّدُونَ نسختهما الآية التي في النور: إنّمَا المُؤمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا باللّه ... إلى: إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ.

وقد بيّنا الناسخ والمنسوخ بما أغنى عن إعادته ههنا.

٤٦

القول في تأويل قوله تعالى:{وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأعَدّواْ لَهُ عُدّةً وَلَـَكِن كَرِهَ اللّه انبِعَاثَهُمْ فَثَبّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ }.

يقول تعالى ذكره: ولو أراد هؤلاء المستأذنوك يا محمد في ترك الخروج معك لجهاد عدوّك الخروج معك. لاَءَعَدّوا لَهُ عُدّةً

يقول: لأعدّوا للخروج عدّة، ولتأهبوا للسفر والعدوّ أهبتهما. وَلكِنْ كَرِهَ اللّه انْبِعاثَهُمْ يعني : خروجهم لذلك. فَثَبّطَهُمْ

يقول: فثقل عليهم الخروج حتى استخفوا القعود في منازلهم خلافك، واستثقلوا السفر والخروج معك، فتركوا لذلك الخروج. وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ يعني : اقعدوا مع المرضى والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون ومع النساء والصبيان، واتركوا الخروج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمجاهدين في سبيل اللّه . وكان تثبيط اللّه إياهم عن الخروج مع رسوله صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين به، لعلمه بنفاقهم، وغشهم للإسلام وأهله، وأنهم لو خرجوا معهم ضرّوهم ولم ينفعوا. وذكر أن الذين استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في القعود كانوا عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول، والجد بن قيس، ومن كانا على مثل الذي كانا عليه. كذلك:

١٣١٠٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان الذين استأذنوه فيما بلغني من ذوي الشرف منهم عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول، والجد بن قيس، وكانوا أشرافا في قومهم، فثبطهم اللّه لعلمه بهم أن يخرجوا معهم فيفسدوا عليه جنده.

٤٧

القول في تأويل قوله تعالى:{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً ولأوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ }.

يقول تعالى ذكره: لو خرج أيها المؤمنون فيكم هؤلاء المنافقون، ما زَادُوكُمْ إلاّ خَبالاً

يقول: لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادا وضرّا ولذلك ثبطتهم عن الخروج معكم. وقد بيّنا معنى الخبال بشواهده فيما مضى قبل. وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ

يقول: ولأسرعوا بركائبهم السير بينكم. وأصله من إيضاع الخيل والركاب، وهو الإسراع بها في السير، يقال للناقة إذا أسرعت السير: وضعت الناقة تضع وضعا ومَوْضُوعا، وأوضعها صاحبها: إذا جدّ بها وأسرع يُوضِعُها إيضاعا ومنه قول الراجز:

يا لَيْتَنِي فِيها جَذَعْأخُبّ فيها وأضَعْ

وأما أصل الخلال: فهو من الخلل: وهي الفرج تكون بين القوم في الصفوف وغيرها ومنه قول النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (تَرَاصّوا فِي الصّفُوفِ لا يَتَخَلّلُكُمْ أوْلادُ الحَذَفِ) .

وأما قوله: يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ فإن معنى يبغونكم الفتنة: يطلبون لكم ما تفتنون به عن مخرجكم في مغزاكم، بتثبيطهم إياكم عنه، يقال منه: بغيته الشرّ، وبغيته الخير أبغيه بغاءً: إذا التمسته له، بمعنى: بغيت له، وكذلك عكمتك وحلبتك، بمعنى: حلبت لك وعكمت لك، وإذا أرادوا أعنتك على التماسه وطلبه، قالوا: أبغيتك كذا وأحلبتك وأعكمتك: أي أعنتك عليه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٠٨ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ولأَوْضَعُوا خِلالَكُم بينكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ بذلك.

١٣١٠٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ

يقول: ولأوضعوا أسلحتهم خلالكم بالفتنة.

١٣١١٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ يبطئونكم. قال: رفاعة بن التابوت، وعبد اللّه بن أبيّ ابن سلول، وأوس بن قيظي.

١٣١١١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ قال: لأسرعوا الأزقة خلالكم. يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ يبطئونكم، عبد اللّه بن نبتل، ورفاعة بن تابوت، وعبد اللّه بن أبيّ ابن سلول.

قال: حدثنا الحسن، قال: ثني أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ قال: لأسرعوا خلالكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ بذلك.

١٣١١٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زَادُوكُمْ إلاّ خَبالاً قال: هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك، يُسّليّ اللّه عنهم نبيه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين، فقال: وما يُحْزِنكم. ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ الكفر.

وأما قوله: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله،

فقال بعضهم: معنى ذلك: وفيكم سماعون لحديثكم لهم يؤدونه إليهم عيون لهم عليكم. ذكر من قال ذلك:

١٣١١٣ـ حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ يحدّثون بأحاديثكم، عيونٌ غير منافقين.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ قال: محدّثون عيون غير منافقين.

١٣١١٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ يسمعون ما يؤدونه لعدوّكم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيكم من يسمع كلامهم ويطيع لهم. ذكر من قال ذلك:

١٣١١٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وفيكم من يسمع كلامهم.

١٣١١٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم: عبد اللّه بن أبيّ ابن سلولَ والجدّ بن قيس، وكانوا أشرافا في قومهم، فثبطهم اللّه لعلمه بهم أن يخرجوا معهم فيفسدوا عليه جنده، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم، فقال: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ فعلى هذا التأويل: وفيكم أهل سمع وطاعة منكم لو صحبوكم أفسدوهم عليكم بتثبيطهم إياهم عن السير معكم.

وأما على التأويل الأوّل، فإن معناه: وفيكم منهم سماعون يسمعون حديثكم لهم، فيبلغونهم ويؤدونه إليهم عيون لهم عليكم.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندي في ذلك بالصواب تأويل من قال: معناه: وفيكم سماعون لحديثكم لهم يبلغونه عنكم عيون لهم، لأن الأغلب من كلام العرب في قولهم: سماع، وصف من وصف به أنه سماع للكلام، كما قال اللّه جل ثناؤه في غير موضع من كتابه: سمّاعُونَ للْكَذِبِ واصفا بذلك قوما بسماع الكذب من الحديث. وأما إذا وصفوا الرجل بسماع كلام الرجل وأمره ونهيه وقبوله منه، وانتهائه إليه فإنما تصفه بأنه له سامع ومطيع، ولا تكاد تقول: هو له سماع مطيع.

وأما قوله: وَاللّه عَلِيمٌ بالظّالِمِينَ فإن معناه: واللّه ذو علم بمن يوجه أفعاله إلى غير وجوهها ويضعها في غير مواضعها، ومن يستأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعذر ومن يستأذنه شكّا في الإسلام ونفاقا، ومن يسمع حديث المؤمنين ليخبر به المنافقين ومن يسمعه ليسرّ بما سرّ المؤمنين ويساء بما ساءهم، لا يخفى عليه شيء من سرائر خلقه وعلانيتهم. وقد بيّنا معنى الظلم في غير موضع من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

٤٨

القول في تأويل قوله تعالى:{لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلّبُواْ لَكَ الاُمُورَ حَتّىَ جَآءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّه وَهُمْ كَارِهُونَ }.

يقول تعالى ذكره: لقد التمس هؤلاء المنافقون الفتنة لأصحابك يا محمد، التمسوا صدّهم عن دينهم، وحرصوا على ردّهم إلى الكفر بالتخذيل عنه، كفعل عبد اللّه بن أبيّ بك وبأصحابك يوم أُحد حين انصرف عنك بمن تبعه من قومه، وذلك كان ابتغاءهم ما كانوا ابتغوا لأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الفتنة من قبل. ويعني ب قوله: مِنْ قَبْلُ: من قبل هذا. وَقَلّبُوا لَكَ الأُمُورَ

يقول: وأجالوا فيك وفي إبطال الدين الذي بعثك به اللّه الرأي بالتخذيل عنك، وإنكار ما تأتيهم به، وردّه عليك. حَتّى جاءَ الحَقّ

يقول: حتى جاء نصر اللّه ، وَظَهَرَ أمْرُ اللّه

يقول: وظهر دين اللّه الذي أمر به وافترضه على خلقه وهو الإسلام. وَهُمْ كارِهُونَ

يقول: والمنافقون لظهور أمر اللّه ونصره إياك كارهون، وكذلك الاَن يظهرك اللّه ويظهر دينه على الذين كفروا من الروم وغيرهم من أهل الكفر به وهم كارهون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١١٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: وَقَلّبُوا لَكَ الأُمُورَ: أي ليخذلوا عنك أصحابك، ويردّوا عليك أمرك. حتى جاءَ الحَقّ وظَهَرَ أمْرُ اللّه .

وذُكر أن هذه الآية نزلت في نفر مُسَمّيْن بأعيانهم.

١٣١١٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو، عن الحسن، قوله: وَقَلّبُوا لَكَ الأُمُورَ قال: منهم عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول، وعبد اللّه بن نبتل أخو بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن رافع، وزيد بن التابوت القينقاعي.

وكان تخذيل عبد اللّه بن أبيّ أصحابه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذه الغزاة، كالذي:

١٣١١٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهريّ، ويزيد بن رومان، وعبد اللّه بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم، كلّ قد حدّث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدّث ما لم يحدّث بعض، وكلّ قد اجتمع حديثه في هذا الحديث: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس وشدّة من الحرّ وجدب من البلاد، وحين طاب الثمار وأُحِبّت الظلال، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كني عنها وأخبر أنه يريد غير الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدوّ الذي صمد له ليتأهب الناس لذلك أهبته. فأم الناس بالجهاد، وأخبرهم أنه يريد الروم، فتجهز الناس على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه لما فيه، مع ما عظموا من ذكر الروم وغزوهم. ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جدّ في سفره، فأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحضّ أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل اللّه . فلما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول عسكره على ذي حدة أسفل منه نحو ذباب جبلّ بالجبانة أسفل من ثنية الوداع وكان فيما يزعمون ليس بأقلّ العسكرين فلما سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تخلف عنه عبد اللّه بن أبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، وكان عبد اللّه بن أبيّ أخا بني عوف بن الخزرج، عبد اللّه بن نبتل أخا بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت أخا بني قينقاع، وكانوا من عظماء المنافقين، وكانوا ممن يكيد للإسلام وأهله. قال: وفيهم كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن البصريّ أنزل اللّه : لَقَدِ ابْتَغَوُا الفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ... الآية.

٤٩

القول في تأويل قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }.

وذُكر أن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس. ويعني جل ثناؤه ب قوله: وَمِنْهُمْ ومن المنافقين، مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي أُقِمْ فلا أشخص معك، وَلا تَفْتِنّي

يقول: ولا تبتلني برؤية نساء بني الأصفر وبناتهم، فإني بالنساء مغرم، فأخرج وآثم بذلك.

وبذلك من التأويل تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل. ذكر الرواية بذلك عمن قاله:

١٣١٢٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول اللّه :ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنّي قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اغْزُوا تُبُوكَ تَغْنَمُوا بَناتِ الأصْفَرِ وَنِساءَ الرّومِ) فقال الجدّ: ائذن لنا، ولا تفتنا بالنساء.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قالوا: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اغُزُوا تَغْنَمُوا بَناتِ الأصْفَرِ) يعني : نساء الروم، ثم ذكر مثله.

١٣١٢١ـ قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنّي قال: هو الجدّ بن قيس، قال: قد علمت الأنصار أني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي

١٣١٢٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد اللّه بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه للجدّ بن قيس أخي بني سلمة: (هَلْ لَكَ يا جَدّ العامَ فِي جِلادِ بَنِي الأصْفَرِ؟) فقال: يا رسول اللّه ، أو تأذن لي ولا تفتني؟ فواللّه لقد عرف قومي ما رجل أشدّ عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهنّ فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال: (أذِنْتُ لَكَ) ، ففي الجدّ بن قيس نزلت هذه الآية وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنّي... الآية، أي إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم.

١٣١٢٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنّي قال: هو رجل من المنافقين يقال له: جدّ بن قيس، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العام (نَغْزُو بني الأصفر ونتخذ منهم سرارى ووصفانا) . فقال: أي رسول اللّه ، ائذن لي ولا تفتني، إن لم تأذن لي افتتنت ووقعت فغضب، فقال اللّه : ألاَ فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإنّ جَهَنمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافِرِينَ وكان من بني سلمة، فقال لهم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ سَيّدُكُم يا بَنِي سَلَمَةَ؟) فقالوا: جدّ بن قيس، غير أنه بخيل جبان. فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (وأيّ دَاءٍ أدْوَى مِنَ البُخْلِ، وَلكِنْ سَيّدُكُمُ الفَتى الأبْيَضُ الجَعْدُ الشّعْرِ البَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ) .

١٣١٢٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنّي

يقول: ائذن لي ولا تحرجني. ألاَ في الفِتْنَةِ سَقَطُوا يعني : في الحرج سقطوا.

١٣١٢٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنّي ولا تؤثمني ألا فِي الإثْمِ سَقَطُوا.

وقوله: وَإنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافِرِينَ

يقول: وإن النار لمطيفة بمن كفر باللّه وجحد آياته وكذّب رسله، محدقة بهم جامعة لهم جميعا يوم القيامة.

يقول: فكفي للجدّ بن قيس وأشكاله من المنافقين بصليّها خزيا.

٥٠

القول في تأويل قوله تعالى:{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلّواْ وّهُمْ فَرِحُونَ }.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: يا محمد إن يصبك سرور بفتح اللّه عليك أرض الروم في غزاتك هذه يسؤ الجدّ بن قيس ونظراءه وأشياعه من المنافقين، وإن تصبك مصيبة بفلول جيشك فيها يقول الجدّ ونظراؤه: قَدْ أخَذَنا أمْرَنَا مِنْ قبلُ أي قد أخذنا حذرنا بتخلفنا عن محمد وترك اتباعه إلى عدوّه، مِنْ قَبْلُ

يقول: من قبل أن تصيبه هذه المصيبة. وَيَتَوَلّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ

يقول: ويرتدوا عن محمد، وهم فرحون بما أصاب محمدا وأصحابه من المصيبة بفلول أصحابه وانهزامهم عنه وقَتْل من قُتِل منهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٢٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ

يقول: إن تصبك في سفرك هذا لغزوة تبوك حسنة، تسؤهم. قال: الجدّ وأصحابه.

١٣١٢٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قَدْ أخَذْنا أمْرَنا مِنْ قَبْلُ حذرنا.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قَدْ أخَذْنا أمْرَنا مِنْ قَبْلُ قال: حذرنا.

١٣١٢٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ إن كان فتح للمسلمين كبر ذلك عليهم وساءهم.

٥١

القول في تأويل قوله تعالى:{قُل لّن يُصِيبَنَآ إِلاّ مَا كَتَبَ اللّه لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ }.

يقول تعالى ذكره مؤدّبا نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عنك: لَنْ يُصِيبَنا أيها المرتابون في دينهم إلاّ ما كَتَبَ اللّه لَنا في اللوح المحفوظ وقضاه علينا. هُوَ مَوْلانا

يقول: هو ناصرنا على أعدائه. وَعلى اللّه فَلْيَتَوَكّلِ المُؤْمِنُونَ

يقول: وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون، فإنهم إن يتوكلوا عليه ولم يرجوا النصر من عند غيره ولم يخافوا شيئا غيره، يكفهم أمورهم وينصرهم على من بغاهم وكادهم.

٥٢

القول في تأويل قوله تعالى:{قُلْ هَلْ تَرَبّصُونَ بِنَآ إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّه بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبّصُوَاْ إِنّا مَعَكُمْ مّتَرَبّصُونَ }.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم وبيّنت لك أمرهم: هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخلتين اللتين هما أحسن من غيرهما، إما ظفرا بالعدوّ وفتحا لنا بغلبتناهم، ففيها الأجر والغنيمة والسلامة، وإما قتلاً من عدوّنا لنا، ففيه الشهادة والفوز بالجنة والنجاة من النار، وكلتاهما مما يحبّ، ولا يكره، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده.

يقول: ونحن ننتظر بكم أن يصيبكم اللّه بعقوبة من عنده عاجلة تهلككم أو بأيدينا فنقتلكم. فَتَرَبّصُوا إنّا مَعَكُمْ مُتَرَبّصُونَ

يقول: فانتظروا إنا معكم منتظرون ما اللّه فاعل بنا، وما إليه صائر أمر كلّ فريق منا ومنكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٢٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: هَلْ تَرَبّصُونَ بِنا إلاّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ

يقول: فتح أو شهادة. وقال مرّة أخرى: يقول القتل، فهي الشهادة والحياة والرزق. وإما يخزيكم بأيدينا.

١٣١٣٠ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: هَلْ تَرَبّصُونَ بِنا إلاّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ

يقول: قتل فيه الحياة والرزق، وإما أن يغلب فيؤتيه اللّه أجرا عظيما وهو مثل قوله: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه ... إلى: فَيُقْتَلْ أوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤتِيهِ أجْرا عَظِيما.

١٣١٣١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: إلاّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ قال: القتل في سبيل اللّه والظهور على أعدائه.

قال: حدثنا بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني عن مجاهد، قال: القتل في سبيل اللّه ، والظهور.

حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ القتل في سبيل اللّه والظهور على أعداء اللّه .

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.

قال ابن جريج: قال ابن عباس: بعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ بالموت أو بأيدينا، قال القتل.

١٣١٣٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: هَلْ تَرَبّصُونَ بِنا إلاّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ إلا فتحا أو قتلاً في سبيل اللّه . ونَحْنُ نَترَبّصُ بِكُمْ أنْ يُصِيبَكُمُ اللّه بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أوْ بأيْدِينا: أي قتل.

٥٣

القول في تأويل قوله تعالى:{قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لّن يُتَقَبّلَ مِنكُمْ إِنّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ }.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين: أنفقوا كيف شئتم أموالكم في سفركم هذا وغيره، وعلى أيّ حال شئتم من حال الطوع والكره، فإنكم إن تنفقوها لَن يَتَقَبّل اللّه مِنْكُم نفقاتكم، وأنتم في شكّ من دينكم وجهل منكم بنبوة نبيكم وسوء معرفة منكم بثواب اللّه وعقابه. إنّكُمْ كُنْتُمْ قَوْما فاسِقِينَ

يقول: خارجين عن الإيمان بربكم. وخرج قوله: أنْفِقُوا طَوْعا أوْ كَرْها مخرج الأمر ومعناه الخبر، والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها (إن) التي تأتي بمعنى الجزاء، كما قال جلّ ثناؤه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فهو في لفظ الأمر ومعناه الخبر، ومنه قول الشاعر:

أسِيِئي بِنا أوْ أحْسِني لا مَلُومَةلَدَيْنا وَلا مَقْلِيّةً إنْ تَقَلّتِ

فكذلك قوله: أنْفِقُوا طَوْعا أوْ كَرْها إنما معناه: إن تنفقوا طوعا أو كرها، لَنْ يُتَقَبّلَ مِنْكُمْ. وقيل: إن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس حين قال للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم لما عرض عليه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم الخروج معه لغزو الروم: هذا مالي أعينك به.

١٣١٣٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: قال الجدّ بن قيس: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتّن، ولكن أعينك بمالي قال: ففيه نزلت أنْفِقُوا طَوْعا أوْ كَرْها لَنْ يُتَقَبّلَ مِنْكُمْ قال: ل قوله: أعينك بمالي.

٥٤

القول في تأويل قوله تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاّ أَنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّه وَبِرَسُولِهِ ...}.

يقول تعالى ذكره: وما منع هؤلاء المنافقين يا محمد أن تقبل منهم نفقاتهم التي ينفقونها في سفرهم معك وفي غير ذلك من السبل إلا أنّهُمْ كَفَرُوا باللّه وَبِرَسُولِهِ ف(أن) الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع، لأن معنى الكلام: ما منع قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله. وَلا يَأْتُونَ الصّلاةَ إلاّ وَهُمْ كُسَالَى

يقول: لا يأتونها إلا متثاقلين بها، لأنهم لا يرجون بأدائها ثوابا ولا يخافون بتركها عقابا، وإنما يقيمونها مخافة على أنفسهم بتركها من المؤمنين فإذا أمنوهم لم يقيموها. وَلاَ يُنْفِقُونَ

يقول: ولا ينفقون من أموالهم شيئا، إلاّ وَهُمْ كارِهُونَ أن ينفقونه في الوجه الذي ينفقونه فيه مما فيه تقوية للإسلام وأهله.

٥٥

القول في تأويل قوله تعالى:{فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: معناه: فلا تعجبك يا محمد أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الاَخرة. وقال: معنى ذلك: التقديم وهو مؤخر. ذكر من قال ذلك:

١٣١٣٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فَلا تُعْجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ قال: هذه من تقاديم الكلام،

يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الاَخرة.

١٣١٣٥ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: إنّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الاَخِرَةِ.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، بما ألزمهم فيها من فرائضه. ذكر من قال ذلك:

١٣١٣٦ـ حُدثت عن المسيب بن شريك، عن سلمان الأقصري، عن الحسن: إنّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الحَياةِ الدّنْيا قال: بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل اللّه تعالى.

١٣١٣٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: إنّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الحَياةِ الدّنْيا بالمصائب فيها، هي لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا، التأويل الذي ذكرنا عن الحسن، لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل، فصرف تأويله إلى ما دلّ عليه ظاهره أولى من صرفه إلى باطن لا دلالة على صحته، وإنما وجه من وجه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر، لأنه لم يعرف لتعذيب اللّه المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا وجها يوجهه إليه، وقال: كيف يعذّبهم بذلك في الدنيا، وهي لهم فيها سرور، وذهب عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه إلزامه ما أوجب اللّه عليه فيها من حقوقه وفرائضه، إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيب النفس. ولا راج من اللّه جزاء ولا من الاَخذ منه حمدا ولا شكرا على ضجر منه وكره.

وأما قوله: وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ فإنه يعني : وتخرج أنفسهم، فيموتوا على كفرهم باللّه وجحودهم نبوّة نبيّ اللّه محمد صلى اللّه عليه وسلم، يقال منه: زَهَقَتْ نفس فلان، وزَهِقَتْ، فمن قال: زَهَقَت، قال: تَزْهَقُ، ومن قال: زَهِقَتْ، قال: تَزْهِقُ زُهُوقا ومنه قيل: زَهَق فلان بين أيدي القوم يَزْهَقُ زُهُوقا: إذا سبقهم فتقدمهم، ويقال: زَهَقَ الباطل: إذا ذهب ودرس.

٥٦

القول في تأويل قوله تعالى:{وَيَحْلِفُونَ بِاللّه إِنّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلَـَكِنّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ }.

يقول تعالى ذكره: ويحلف باللّه لكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون كذبا وباطلاً خوفا منكم، إنهم لمنكم في الدين والملة. يقول اللّه تعالى مكذّبا لهم: وَما هُمْ مِنْكُمْ أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم، بل هم أهل شكّ ونفاق. وَلَكِنّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ

يقول: ولكنهم قوم يخافونكم، فهم خوفا منكم يقولون بألسنتهم: إنا منكم، ليأمنوا فيكم فلا يقتلوا.

٥٧

القول في تأويل قوله تعالى:{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدّخَلاً لّوَلّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }.

يقول تعالى ذكره: لو يجد هؤلاء المنافقون ملجأ،

يقول: عَصَرا يعتصرون به من حصن، ومعقلاً يعتقلون فيه منكم، أو مَغَارَاتٍ وهي الغيران في الجبال، واحدتها: مغارة، وهي مفعلة من غار الرجل في الشيء يغور فيه إذا دخل، ومنه قيل: غارت العين: إذا دخلت في الحدقة. أو مُدّخَلاً

يقول: سَرَبا في الأرض يدخلون فيه، وقال: (أو مُدّخلاً) ... الآية، لأنه من ادّخل يدخل.

وقوله: لَوَلّوْا إلَيْهِ

يقول: لأدبروا إليه هربا منكم. وَهُمْ يَجْمَحُونَ

يقول: وهم يسرعون في مشيهم. وقيل: إن الجماح مشى بين المشيين ومنه قول مهلهل:

لَقَدْ جَمَحْتُ جِماحا فِي دِمائهِمُحتى رأيْتُ ذَوِي أحْسابِهِمْ خَمَدوا

وإنما وصفهم اللّه بما وصفهم به من هذه الصفة، لأنهم إنما أقاموا بين أظهر أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم، ولما هم عليه من الإيمان باللّه وبرسوله لأنهم كانوا في قومهم وعشيرتهم وفي دورهم وأموالهم، فلم يقدروا على ترك ذلك وفراقه، فصانعوا القوم بالنفاق ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بالكفر ودعوى الإيمان، وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأهل الإيمان به والعداوة لهم، فقال اللّه واصفهم بما في ضمائرهم: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجأً أوْ مَغارَاتٍ... الآية.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٣٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: لَوْ يَجدُونَ مَلْجأً الملجأ: الحرز في الجبال، والمغارات: الغيران في الجبال.

وقوله: أوْ مُدّخَلاً والمدّخل: السرب.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: لَوْ يَجدُونَ مَلْجأً أوْ مَغارَاتٍ أوْ مُدّخَلاً لَوَلّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ملجأ،

يقول: حرزا، أو مَغَارَاتٍ يعني الغيران. أو مُدّخلاً

يقول: ذهابا في الأرض، وهو النفق في الأرض، وهو السرب.

١٣١٣٩ـ وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: لَوْ يَجدُونَ مَلْجأً أوْ مَغارَاتٍ أوْ مُدّخَلاً قال: حرزا لهم يفرّون إليه منكم.

١٣١٤٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: لَوْ يَجدُونَ مَلْجأً أوْ مَغارَاتٍ أوْ مُدّخَلاً قال: محرزا لهم، لفرّوا إليه منكم. وقال ابن عباس قوله: لَوْ يَجدُونَ مَلْجأً حرزا أو مغارات، قال: الغيران. أوْ مُدّخَلاً قال: ففقا في الأرض.

١٣١٤١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: لَوْ يَجدُونَ مَلْجأً أوْ مَغارَاتٍ أوْ مُدّخَلاً

يقول: لو يجدون ملجأ: حصونا، أو مَغَارَاتٍ غيرانا. أو مدّخلاً أسرابا. لَوَلّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ.

٥٨

القول في تأويل قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مّن يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ }.

يقول تعالى ذكره: ومن المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم في هذه الاَيات مَنْ يَلْمِزُك فِي الصّدَقاتِ

يقول: يعيبك في أمرها ويطعن عليك فيها، يقال منه: لمز فلانا يَلْمِزُه، ويَلْمُزُه: إذا عابه وقرصه، وكذلك همزه. ومنه قيل: فلان هُمَزةُ لمَزة، ومنه قول رؤبة:

قارَبْتُ بينَ عَنَقِي وَجمْزِيفِي ظِلّ عَصْرَيْ باطِليِ ولَمْزِي

ومنه قول الاَخر:

 إذَا لَقِيتُكَ تُبْدِي لي مُكاشَرَةً

وأنْ أغِيبَ فأنْتَ العائِبُ اللّمَزَهْ

فإنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا

يقول: ليس بهم في عيبهم إياك فيها وطعنهم عليك بسببها الدين، ولكن الغضب لأنفسهم، فإن أنت أعطيتهم منها ما يرضيهم رضوا عنك، وإن أنت لم تعطهم منهم سخطوا عليك وعابوك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٤٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ قال: يَرُوزُك.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ يروزك ويسألك.

١٣١٤٣ـ قال ابن جريج: وأخبرني داود بن أبي عاصم، قال: قال أُتي النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بصدقة، فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت، قال: ورآه رجل من الأنصار، فقال: ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية.

١٣١٤٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ

يقول: ومنهم من يطعن عليك في الصدقات. وذُكر لنا أن رجلاً من أهل البادية حديث عهد بأعرابية، أتى نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة، فقال: يا محمد، واللّه لئن كان اللّه أمرك أن تعدل ما عدلت فقال نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (وَيْلَكَ فَمَنْ ذَا يَعْدِلُ عَلَيْكَ بَعْدِي؟) ثم قال نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (احْذَرُوا هَذَا وأشْباهَهُ، فإنّ فِي أُمّتِي أشْباهَ هَذَا يَقْرَءُونَ القُرآنَ لا يُجاوزُ تَرَاقِيَهُمْ، فإذَا خَرَجُوا فاقْتُلُوهُمْ، ثُمّ إذَا خَرَجُوا فاقْتُلُوهُمْ، ثُمّ إذَا خَرَجُوا فاقْتُلُوهُمْ) . وذُكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما أُعْطِيكُمْ شَيْئا وَلا أمْنَعْكُمُوهُ إنّمَا أنا خازِنٌ) .

١٣١٤٥ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ قال: يطعن.

١٣١٤٦ـ قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهريّ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد، قال: بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم قسما، إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول اللّه فقال: (وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إنْ لَمْ أعْدِلْ؟) فقال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه ائذن لي فأضرب عنقه قال: (دعه، فإنّ لَهُ أصَحابا يَحْقِرُ أحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِمْ وَصِيامَهُ مَعَ صِيامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كما يَمْرُقُ السّهُمْ مِنَ الرّمِيّةِ، فَيَنْظُرُ فِي قُذَذهِ فَلا يَنْظُرُ شَيْئا، ثُمّ يَنْظُرُ فِي نَصْلِهِ فَلا يَجِدُ شَيْئا، ثُمّ يَنْظُرُ فِي رَصَافِهِ فَلا يَجِدُ شَيْئا، قَد سَبَقَ الفَرْثَ وَالدّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أسْوَدُ إحْدَى يَدَيْهِ أوْ قالَ: يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ المَرأة أوْ مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ على حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ النّاسِ) . قال: فنزلت: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ. قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأشهد أن عليّا رحمة اللّه عليه حين قتلهم جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

١٣١٤٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ فإنْ أُعُطُوا مِنْها رَضوا وَإنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ قال: هؤلاء المنافقون، قالوا: واللّه ما يعطيها محمد إلا من أحبّ، ولا يؤثر بها إلا هواه فأخبر اللّه نبيه، وأخبرهم أنه إنما جاءت من اللّه ، وأن هذا أمر من اللّه ليس من محمد: إنّمَا الصّدقاتُ للفُقَرَاءِ... الآية.

٥٩

القول في تأويل قوله تعالى:{وَلَوْ أَنّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّه سَيُؤْتِينَا اللّه مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّآ إِلَى اللّه رَاغِبُونَ }.

يقول تعالى ذكره: ولو أن هؤلاء الذين يلمزونك يا محمد في الصدقات رضوا ما أعطاهم اللّه ورسوله من عطاء وقسم لهم من قسم، وَقالُوا حَسْبُنا اللّه

يقول: وقالوا: كافينا اللّه ، سَيُؤْتِينا اللّه مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ

يقول: سيعطينا اللّه من فضل خزائنه ورسوله من الصدقة وغيرها، إنّا إلى اللّه رَاغِبُونَ

يقول: وقالوا: إنا إلى اللّه نرغب في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم.

٦٠

القول في تأويل قوله تعالى:{إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ ...}.

يقول تعالى ذكره: لا تنال الصدقات إلا للفقراء والمساكين ومن سماهم اللّه جلّ ثناؤه.

ثم اختلف أهل التأويل في صفة الفقير والمسكين،

فقال بعضهم: الفقير: المحتاج المتعفف عن المسألة، والمسكين: المحتاج السائل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٤٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن: إنّمَا الصّدَقاتُ للفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال: الفقير: الجالس في بيته، والمسكين: الذي يسعى.

١٣١٤٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: حدثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال: المساكين: الطّوافون، والفقراء فقراء المسلمين.

١٣١٥٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن جرير بن حازم، قال: ثني رجل، عن جابر بن زيد، أنه سئل عن الفقراء، قال: الفقراء: المتعففون، والمساكين: الذين يسألون.

١٣١٥١ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا معقل بن عبيد اللّه الحراني، قال: سألت الزهري عن قوله: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال: الذين في بيوتهم لا يسألون، والمساكين: الذين يخرجون فيسألون.

١٣١٥٢ـ حدثنا الحرث، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الوارث بن سعيد، عن ابن نجيح، عن مجاهد، قال: الفقير الذي لا يسأل، والمسكين: الذي يسأل.

١٣١٥٣ـ قال: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال: الفقراء الذين لا يسألون الناس وهم أهل حاجة، والمساكين: الذين يسألون الناس.

حدثنا الحرث، قال: ثني عبد العزيز، قال: حدثنا عبد الوارث، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الفقراء الذين لا يسألون، والمساكين: الذين يسألون.

وقال آخرون: الفقير هو ذو الزمانة من أهل الحاجة، والمسكين: هو الصحيح الجسم. ذكر من قال ذلك:

١٣١٥٤ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال: الفقير من به زمانة، والمسكين: الصحيح المحتاج.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ أما الفقير: فالزمن الذي به زمانة، وأما المسكين: فهو الذي ليست به زمانة.

وقال آخرون: الفقراء فقراء المهاجرين، والمساكين: من لم يهاجر من المسلمين وهو محتاج. ذكر من قال ذلك:

١٣١٥٥ـ حدثنا الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا جرير بن حازم، عن عليّ بن الحكم، عن الضحاك بن مزاحم: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال: فقراء المهاجرين، والمساكين: الذين لم يهاجروا.

١٣٠٨٣قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ المهاجرين، قال: سفيان: يعني : ولا يعطي الأعراب منها شيئا.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان يقال: إنما الصدقة لفقراء المهاجرين.

قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كانت تجعل الصدقة في فقراء المهاجرين، وفي سبيل اللّه تعالى.

١٣١٥٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي، قالا: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو، فنسبهم اللّه إلى أنهم فقراء، وجعل لهم سهما في الزكاة.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان يقال: إنما الصدقات في فقراء المهاجرين، وفي سبيل اللّه .

وقال آخرون: المسكين: الضعيف الكَسْب. ذكر من قال ذلك:

١٣١٥٧ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا ابن عون، عن محمد، قال: قال عمر: ليس الفقير بالذي لا مال له، ولكن الفقير: الأخْلق الكَسْب. قال يعقوب، قال ابن علية: الأخلق: المُحَارَفُ عندنا.

١٣١٥٨ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب رحمة اللّه تعالى قال ليس المسكين بالذي لا ماله له ولكن المسكين الإخلاق الكسب وقال بعضهم الفقير من المسلمين والمسكين أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:

١٣١٥٩ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن نافع، قال: سمعت عكرمة في قوله: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ والمَساكِينِ قال: لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين، إنما المساكين مساكين أهل الكتاب.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: الفقير: هو ذو الفقر أو الحاجة ومع حاجته يتعفف عن مسألة الناس والتذلل لهم في هذا الموضع، والمسكين: هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم. وإنما قلنا إن ذلك كذلك وإن كان الفريقان لم يعطيا إلا بالفقر والحاجة دون الذلة والمسكنة، لإجماع الجميع من أهل العلم أن المسكين إنما يعطى من الصدقة المفروضة بالفقر، وأن معنى المسكنة عند العرب: الذلة، كما قال اللّه جلّ ثناؤه: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ يعني بذلك الهون، والذلة لا الفقر. فإذا كان اللّه جل ثناؤه قد صنف من قسم له من الصدقة المفروضة قسما بالفقر فجعلهم صنفين، كان معلوما أن كل صنف منهم غير الاَخر. وإذ كان ذلك كذلك كان لا شكّ أن المقسوم له باسم الفقير غير المقسوم له باسم الفقر والمسكنة، والفقير المعطى ذلك باسم الفقير المطلق هو الذي لا مسكنة فيه، والمعطى باسم المسكنة والفقر هو الجامع إلى فقره المسكنة، وهي الذلّ بالطلب والمسألة.

فتأويل الكلام إذ كان ذلك معناه: إنما الصدقات للفقراء المتعفف منهم الذي لا يسأل، والمتذلل منهم الذي يسأل، وقد رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك خبر.

١٣١٦٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لَيْسَ المِسْكِينُ بالّذِي تَرُدّهُ اللّقْمَةُ وَاللّقْمَتانِ والتّمْرَةُ والتّمْرَتانِ، إنّمَا المسْكِينُ المُتَعَفّفُ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ لا يَسْألونُ النّاسَ إلْحافا) .

ومعنى قوله صلى اللّه عليه وسلم: (إنّمَا المِسْكِينُ المُتَعَفّفُ) على نحو ما قد جرى به استعمال الناس من تسميتهم أهل الفقر مساكين، لا على تفصيل المسكين من الفقير. ومما ينبىء عن أن ذلك كذلك، انتزاعه صلى اللّه عليه وسلم لقول اللّه :(اقرءوا إن شِئتم لا يَسأَلُونَ النّاسَ إلْحافا) وذلك في صفة من ابتدأ اللّه ذكره ووصفه بالفقر، فقال للْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التّعَفّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسأَلُونَ النّاسَ إلْحافا.

وقوله: وَالعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة في قبضها من أهلها، ووضعها في مستحقيها يعطون ذلك بالسعاية، أغنياء كانوا أو فقراء.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٦١ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا معقل بن عبيد اللّه ، قال: سألت الزهري عن العاملين عليها، فقال: السعاة.

١٣١٦٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَالعامِلِينَ عَلَيْها قال: جباتها الذين يجمعونها، ويسعون فيها.

١٣١٦٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَالعامِلِينَ عَلَيْها: الذي يعمل عليها.

ثم اختلف أهل التأويل في قدر ما يُعْطَى العامل من ذلك،

فقال بعضهم: يُعْطَى منه الثمن. ذكر من قال ذلك:

١٣١٦٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن بن صالح، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: للعاملين عليها الثمن من الصدقة.

١٣١٦٥ـ حُدثت عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: وَالعامِلِينَ عَلَيْها قال: يأكل العمال من السهم الثامن.

وقال آخرون: بل يعطى على قدر عمالته.

١٣١٦٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن الأخضر بن عجلان، قال: حدثنا عطاء بن زهير العامريّ، عن أبيه، أنه لقي عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فسأله عن الصدقة: أيّ مال هي؟ فقال: مال العرجان والعوران والعميان وكلّ منقطع به. فقال له: إن للعاملين حقّا والمجاهدين. قال: إن المجاهدين قوم أحلّ لهم وللعاملين عليها على قدر عمالتهم. ثم قال: لا تحلّ الصدقة لغنيّ، ولا لذي مِرّة سويّ.

١٣١٦٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: يكون للعامل عليها إن عمل بالحقّ. ولم يكن عمر رحمه اللّه تعالى ولا أولئك يعطون العامل الثمن، إنما يفرضون له بقدر عمالته.

١٣١٦٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن: وَالعامِلِينَ عَلَيْها قال: كان يعطى العاملون.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: يعطى العامل عليها على قدر عمالته أجر مثله.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن اللّه جل ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم وإنما عرّف خلقه أنّ الصدقات لن تجاوز هؤلاء الأصناف الثمانية إلى غيرهم. وإذ كان كذلك بما سنوضح بعد وبما قد أوضحناه في موضع آخر، كان معلوما أن من أُعطي منها حقا، فإنما يعطى على قدر اجتهاد المعطي فيه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان العامل عليها إنما يعطى على عمله لا على الحاجة التي تزول بالعطية، كان معلوما أن الذي أعطاه من ذلك إنما هو عوض من سعيه وعمله، وأن ذلك إنما هو قدر يستحقه عوضا من عمله الذي لا يزول بالعطية وإنما يزول بالعزل.

وأما المؤلّفة قلوبهم، فإنهم قوم كانوا يُتألّفون على الإسلام ممن لم تصحّ نصرته استصلاحا به نفسه وعشيرته، كأبي سفيان بن حرب وعيينة بن بدر والأقرع بن حابس، ونظرائهم من رؤساء القبائل.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٦٩ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمر، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: والمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وهم قوم كانوا يأتون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قد أسلموا، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرا قالوا: هذا دين صالح وإن كان غير ذلك، عابوه وتركوه.

١٣١٧٠ـ حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير: أن المؤلفة قلوبهم من بني أمية: أبو سفيان بن حرب، ومن بني مخزوم: الحرث بن هشام، وعبد الرحمن بن يربوع، ومن بني جمح: صفوان بن أمية، ومن بني عامر بن لؤيّ: سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العُزّى، ومن بني أسد بن عبد العُزّى: حكيم بن حزام، ومن بني هاشم: سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، ومن بني فزارة: عيينة بن حصن بن بدر، ومن بني تميم: الأقرع بن حابس، ومن بني نصر: مالك بن عوف، ومن بني سليم: العباس بن مرداس، ومن ثقيف: العلاء بن حارثة. أعطى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم كلّ رجل منهم مئة ناقة، إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العُزّى، فإنه أعطى كلّ رجل منهم خمسين.

١٣١٧١ـ حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهريّ، قال: قال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليّ.

١٣١٧٢ـ حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: ناس كان يتألفهم بالعطية، عيينة بن بدر ومن كان معه.

١٣١٧٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن: والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ: الذين يؤلفون على الإسلام.

١٣١٧٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وأما المؤلّفة قلوبهم، فأناس من الأعراب ومن غيرهم، كان نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا.

١٣١٧٥ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا معقل بن عبيد اللّه ، قال: سألت الزهريّ عن قوله: والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ فقال: من أسلم من يهودي أو نصراني. قلت: وإن كان غنيا؟ قال: وإن كان غنيا.

١٣١٧٦ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا معقل بن عبيد اللّه الحراني، عن الزهريّ: والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ قال: من هو يهودي أو نصراني.

ثم اختلف أهل العلم في وجود المؤلفة اليوم وعدمها، وهل يعطى اليوم أحد على التألف على الإسلام من الصدقة؟

فقال بعضهم: قد بطلت المؤلّفة قلوبهم اليوم، ولا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها وفي سبيل اللّه أو لعامل عليها. ذكر من قال ذلك:

١٣١٧٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن: والمُؤَلّفَةُ قُلُوبُهُمْ قال: أما المؤلفة قلوبهم فليس اليوم.

١٣١٧٨ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر، قال: لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم، إنما كانوا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: ليس اليوم مؤلفة.

١٣١٧٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، قال: إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فلما وُلي أبو بكر رحمة اللّه تعالى عليه انقطعت الرشا.

وقال آخرون: المؤلفة قلوبهم في كلّ زمان، وحقهم في الصدقات. ذكر من قال ذلك:

١٣١٨٠ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: في الناس اليوم المؤلفة قلوبهم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، مثله.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي: أن اللّه جعل الصدقة في معنيين: أحدهما سدّ خلة المسلمين، والاَخر معونة الإسلام وتقويته فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه فإنه يعطاه الغنيّ والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطي الذي يعطاه بالجهاد في سبيل اللّه ، فإنه يعطي ذلك غنيا كان أو فقيرا للغزو لا لسدّ خلته. وكذلك المؤلفة قلوبهم يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء، استصلاحا بإعطائهموه أمر الإسلام وطلب تقويته وتأييده. وقد أعطى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم، بعد أن فتح اللّه عليه الفتوح وفشا الإسلام وعزّ أهله، فلا حجة لمحتجّ بأن

يقول: لا يتألف اليوم على الإسلام أحد لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم وقد أعطى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت.

وأما قوله: وفِي الرّقابِ فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه، فقال بعضهم، وهم الجمهور الأعظم: هم المكاتبون، يعطون منها في فكّ رقابهم. ذكر من قال ذلك:

١٣١٨١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن الحسين: أن مكاتبا قام إلى أبي موسى الأشعري رحمه اللّه تعالى وهو يخطب الناس يوم الجمعة، فقال له: أيها الأمير حثّ الناس عليّ فحثّ عليه أبو موسى، فألقي الناس عليه عمامة وملاءة وخاتما، حتى ألقوا سوادا كثيرا. فلما رأى أبو موسى ما ألقى عليه، قال: اجمعوه فجمع ثم أمر به فبيع، فأعطى المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل في الرقاب ولم يردّه على الناس، وقال: إنما أعطيَ الناسُ في الرقاب.

١٣١٨٢ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا معقل بن عبيد اللّه ، قال: سألت الزهري عن قوله: وفِي الرّقابِ قال: المكاتبون.

١٣١٨٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وفِي الرّقابِ قال: المكاتَبُ.

١٣١٨٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: وَفِي الرّقابِ قال: هم المكاتبون.

ورُوي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: عنى بالرقاب في هذا الموضع المكاتبون، لإجماع الحجة على ذلك فإن اللّه جعل الزكاة حقا واجبا على من أوجبها عليه في ماله يخرجها منه، لا يرجع إليه منها نفع من عرض الدنيا ولا عوض، والمعتق رقبة منها راجع إليه ولاء من أعتقه، وذلك نفع يعود إليه منها.

وأما الغارمون: فالذين استدانوا في غير معصية اللّه ، ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عرض.

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٨٥ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: الغارمون: من احترق بيته، أو يصيبه السيل فيذهب متاعه، ويدّان على عياله فهذا من الغارمين.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، في قوله: وَالغارِمينَقال: من احترق بيته، وذهب السيل بماله، وادّان على عياله.

١٣١٨٦ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: الغارمين: المستدين في غير سرف، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال.

١٣١٨٧ـ قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا معقل بن عبيد اللّه ، قال: سألنا الزهري، عن الغارمين، قال: أصحاب الدين.

١٣١٨٨ـ قال: حدثنا معقل، عن عبد الكريم، قال: ثني خادم لعمر بن عبد العزيز خدمه عشرين سنة، قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن يعطى الغارمون. قال أحمد: أكثر ظني من الصدقات.

قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: الغارمون: المستدين في غير سرف.

١٣١٨٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أما الغارمون: فقوم غرّقتهم الديون، في غير إملاق ولا تبذير ولا فساد.

١٣١٩٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الغارم: الذي يدخل عليه الغرم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: والغارِمِينَ قال: هو الذي يذهب السيل والحريق بماله، ويدّان على عياله.

قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: المستدين في غير فساد.

قال: ثني أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: الغارمون: الذين يستدينون في غير فساد، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم.

١٣١٩١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: هم قوم ركبتهم الديون في غير فساد ولا تبذير، فجعل اللّه لهم في هذه الآية سهما.

وأما قوله: وفِي سَبِيلِ اللّه فإنه يعني : وفي النفقة في نصرة دين اللّه وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه، وذلك هو غزو الكفار.

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٩٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وفِي سَبِيلِ اللّه قال: الغازي في سبيل اللّه .

١٣١٩٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، قال: قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (لا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِغَنِيّ إلاّ لِخَمْسَةٍ: رَجُلٍ عَمِلَ عَلَيْها، أوْ رَجُلٍ اشْتَرَاها بِمالهِ، أو فِي سَبِيلِ اللّه ، أوِ ابْنِ السّبِيلِ، أوْ رَجُلٍ كانَ لَهُ جارٌ تُصُدّقَ عَلَيْهِ فَأهْدَاها لَهُ) .

١٣١٩٤ـ قال: حدثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِغَنِيّ إلاّ لِثَلاثَةٍ: فِي سَبِيلِ اللّه ، أوِ ابْنِ السّبِيلِ، أوْ رَجُلٍ كانَ لَهُ جارٌ فَتُصُدّقَ عَلَيْهِ فَأهْدَاها لَهُ) .

وأما قوله: وَابْنِ السّبِيلِ فالمسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد، والسبيل: الطريق، وقيل للضارب فيه ابن السبيل للزومه إياه، كما قال الشاعر:

أنا ابْنُ الحَرْبِ رَبّتْني وَليداإلى أنْ شِبْتُ وَاكْتَهَلَتْ لِداتِي

وكذلك تفعل العرب، تسمي اللازم للشيء يعرف بابنه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣١٩٥ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: ابن السبيل: المجتاز من أرض إلى أرض.

١٣١٩٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد: وَابْنِ السّبيلِ قال: لابن السبيل حقّ من الزكاة وإن كان غنيا إذا كان منقطعا به.

١٣١٩٧ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا معقل بن عبيد اللّه ، قال: سألت الزهري، عن ابن السبيل قال: يأتي عليّ ابن السبيل، وهو محتاج، قلت: فإن كان غنيا؟ قال: وإن كان غنيا.

١٣١٩٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَابْنِ السّبِيلِ الضيف جعل له فيها حقّ.

١٣١٩٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن السبيل: المسافر من كان غنيا أو فقيرا إذا أصيبت نفقته، أو فقدت، أو أصابها شيء، أو لم يكن معه شيء، فحقّه واجب.

١٣٢٠٠ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك ، أنه قال في الغنيّ إذا سافر فاحتاج في سفره، قال: يأخذ من الزكاة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: ابن السبيل: المجتاز من الأرض إلى الأرض.

وقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللّه

يقول جلّ ثناؤه: قسم قسمه اللّه لهم، فأوجبه في أموال أهل الأموال لهم، واللّه عليم بمصالح خلقه فيما فرض لهم وفي غير ذلك لا يخفى عليه شيء. فعلى علم منه فرض ما فرض من الصدقة وبما فيها من المصلحة، حكيم في تدبيره خلقه، لا يدخل في تدبيره خلل.

واختلف أهل العلم في كيفية قسم الصدقات التي ذكرها اللّه في هذه الآية، وهل يجب لكل صنف من الأصناف الثمانية فيها حقّ أو ذلك إلى ربّ المال، ومن يتولى قسمها في أن له أن يعطي جميع ذلك من شاء من الأصناف الثمانية؟ فقال عامة أهل العلم: للمتولي قسمها ووضعها في أيّ الأصناف الثمانية شاء، وإنما سمى اللّه الأصناف الثمانية في الآية إعلاما منه خلقه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف الثمانية إلى غيرها، لا إيجابا لقسمها بين الأصناف الثمانية الذين ذكرهم اللّه تعالى. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٠١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن الحجاج بن أرطاة، عن المنهال بن عمرو، عن زرّ بن حبيش، عن حذيفة، في قوله: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها قال: إن شئت جعلته في صنف واحد، أو صنفين، أو لثلاثة.

١٣٢٠٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن المنهال، عن زرّ، عن حذيفة، قال: إذا وضعتها في صنف واحد أجزأ عنك.

١٣٢٠٣ـ قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن عطاء، عن عمر: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال: أيما صنف أعطيته من هذا أجزأك.

١٣٢٠٤ـ قال: حدثنا ابن نمير، عن عبد المطلب، عن عطاء: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ... الآية، قال: لو وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف أجزأك، ولو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحبّ إليّ.

١٣٢٠٥ـ قال: أخبرنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ... وَابْنِ السّبِيلِ فأيّ صنف أعطيته من هذه الأصناف أجزأك.

١٣٢٠٦ـ قال: حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.

١٣٢٠٧ـ قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها قال: إنما هذا شيء أعلمه، فأيّ صنف من هذه الأصناف أعطيته أجزأ عنك.

قال: حدثنا أبي عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال: في أيّ هذه الأصناف وضعتها أجزأك.

قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: إذا وضعتها في صنف واحد مما سمى اللّه أجزأك.

١٣٢٠٨ـ قال: حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: إذا وضعتها في صنف واحد مما سمى اللّه أجزأك.

١٣٢٠٩ـ قال: حدثنا خالد بن حيان أبو يزيد، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ قال: إذا جعلتها في صنف واحد من هؤلاء أجزأ عنك.

١٣٢١٠ـ قال: حدثنا محمد بن بشر، عن مسعود، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ.... الآية، قال: أعلم أهلها من هم.

١٣٢١١ـ قال: حدثنا حفص، عن ليث، عن عطاء، عن عمر: أنه كان يأخذ الفرض في الصدقة، ويجعلها في صنف واحد.

وكان بعض المتأخرين

يقول: إذا تولى ربّ المال قسمها كان عليه وضعها في ستة أصناف وذلك أن المؤلفة قلوبهم عنده قد ذهبوا، وأن سهم العاملين يبطل بقسمه إياها، ويزعم أنه لا يجزيه أن يعطى من كلّ صنف أقلّ من ثلاثة أنفس. وكان

يقول: إن تولى قسمها الإمام كان عليه أن يقسمها على سبعة أصناف، لا يجزي عنده غير ذلك.

٦١

القول في تأويل قوله تعالى:{وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّه ...}.

يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين جماعة يؤذون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويعيبونه، ويقولون: هو أذن سامعة، يسمع من كلّ أحد ما يقول فيقبله ويصدّقه. وهو من قولهم: رجل أذنة مثل فعلة: إذا كان يسرع الاستماع والقبول، كما يقال: هو يَقَنٌ ويَقِنٌ: إذا كان ذا يقين بكلّ ما حدّث. وأصله من أذِنَ له يأْذَنُ: إذا استمع له، ومنه الخبر عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (ما أذِنَ اللّه لِشَيْءٍ كأَذَنِهِ لِنَبيّ يَتَغَنّى بالقُرآنِ) ومنه قول عديّ بن زيد:

أيّها القَلْبُ تَعَلّلْ بِدَدَنْإنّ هَمّي فِي سَماعٍ وأَذَنْ

وذكر أن هذه الآية نزلت في نبتل بن الحرث.

١٣٢١٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ذكر اللّه عيبهم، يعني المنافقين، وأذاهم للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال: وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ... الآية، وكان الذي يقول تلك المقالة فيما بلغني نبتل بن الحرث أخو بني عمرو بن عوف، وفيه نزلت هذه الآية، وذلك أنه قال: إنما محمد أذُن، من حدّثه شيئا صدّقه يقول اللّه :قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ: أي يستمع الخير ويصدّق به.

واختلف القرّاء في قراءة قوله: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ بإضافة الأذن إلى الخير، يعني : قل لهم يا محمد: هو أذن خير لا أذن شرّ. وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك: (قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ) بتنوين (أذن) ، ويصير (خير) خبرا له، بمعنى: قل من يسمع منكم أيها المنافقون ما تقولون ويصدّقكم إن كان محمد كما وصفتموه من أنكر إذا آذيتموه فأنكرتم ما ذكر له عنكم من أذاكم إياه وعيبكم له سمع منكم وصدّقكم، خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل منكم ما تقولون. ثم كذّبهم فقال: بل لا يقبل إلا من المؤمنين، يُؤْمِنُ بِاللّه وَيُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِينَ.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك، قراءة من قرأ: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ بإضافة (الأذن) إلى (الخير) ، وخفض (الخير) ، يعني : قل هو أذن خير لكم، لا أذن شرّ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٢١٣ـ حدثني المثنى، قال: ثني عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ يسمع من كل أحد.

١٣٢١٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قال: كانوا يقولون: إنما محمد أذن لا يحدّث عنا شيئا إلا هو أذن يسمع ما يقال له.

١٣٢١٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد: وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ نقول ما شئنا، ونحلف فيصدّقنا.

حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: هُوَ أُذُنٌ قال: يقولون: نقول ما شئنا، ثم نحلف له فيصدّقنا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.

وأما قوله: يُؤْمِنُ باللّه فإنه

يقول: يصدّق باللّه وحده لا شريك له.

وقوله: وَيُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِينَ

يقول: ويصدّق المؤمنين لا الكافرين ولا المنافقين. وهذا تكذيب من اللّه للمنافقين الذين قالوا: محمد أذن،

يقول جلّ ثناؤه: إنما محمد صلى اللّه عليه وسلم مستمع خير، يصدّق باللّه وبما جاءه من عنده، ويصدّق المؤمنين لا أهل النفاق والكفر بالله. وقيل: ويُؤْمِنُ للمُؤْمِنِينَ معناه: ويؤمن المؤمنين، لأن العرب تقول فيما ذكر لنا عنها: آمنت له وآمنته، بمعنى: صدّقته، كما قيل: رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ومعناه: ردفكم، وكما قال: للّذِينَ هُمْ لِربّهِمْ يَرْهَبُونَ ومعناه: للذين هم ربهم يرهبون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٢١٦ـ حدثني المثنى، قال: ثني عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: يُؤْمِنُ بِاللّه وَيُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِينَ يعني : يؤمن باللّه ويصدّق المؤمنين.

وأما قوله: وَرَحْمَةٌ للّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ فإنّ القرّاء اختلفت في قراءته، فقرأ ذلك عامة الأمصار: وَرَحْمَةٌ للّذِينَ آمَنُوا بمعنى: قل هو أذن خير لكم، وهو رحمة للذين آمنوا منكم. فرفع (الرحمة) عطفا بها على (الأذن) . وقرأه بعض الكوفيين: (وَرَحْمَةٍ) عطفا بها على (الخير) ، بتأويل: قل أذن خير لكم، وأذن رحمة.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ وَرَحْمَةٌ بالرفع عطفا بها على (الأذن) ، بمعنى: وهو رحمة للذين آمنوا منكم، وجعله اللّه رحمة لمن اتبعه واهتدى بهداه وصدّق بما جاء به من عند ربه، لأن اللّه استنقذهم به من الضلالة وأورثهم باتباعه جناته.

القول في تأويل قوله تعالى: والّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّه لَهُمْ عَذَابٌ ألِيم.

يقول تعالى ذكره: لهؤلاء المنافقين الذين يعيبون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ويقولون: هو أذن وأمثالهم من مكذّبيه، والقائلين فيه الهجر والباطل، عذاب من اللّه موجع لهم في نار جهنم.

٦٢

القول في تأويل قوله تعالى:{يَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ }.

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله صلى اللّه عليه وسلم: يحلف لكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون باللّه ليرضوكم فيما بلغكم عنهم من أذاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وذكرهم إياه، بالطعن عليه والعيب له، ومطابقتهم سرّا أهل الكفر عليكم بالله، والأيمان الفاجرة أنهم ما فعلوا ذلك وإنهم لعلى دينكم ومعكم على من خالفكم، يبتغون بذلك رضاكم. يقول اللّه جلّ ثناؤه: وَاللّه وَرَسُولُهُ أحَقّ أنْ يُرْضُوهُ بالتوبة والإنابة مما قالوا ونطقوا، إنْ كانُوا مُؤْمِنينَ

يقول: إن كانوا مصدّقين بتوحيد اللّه ، مقرّين بوعده ووعيده.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٢١٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يَحْلِفُونَ باللّه لكم لِيُرْضُوكُمْ... الآية، ذكر لنا أن رجلاً من المنافقين قال: واللّه إن هؤلاء لخيارنَا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا، لهم شرّ من الحمير قال: فسمعها رجل من المسلمين، فقال: واللّه إن ما يقول محمد حقّ، ولأنت شرّ من الحمار فسعى بها الرجل إلى نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأرسل إلى الرجل فدعاه، فقال له: (ما حَمَلَكَ على الذي قُلْتَ؟) فجعل يلتعن ويحلف باللّه ما قال ذلك، قال: وجعل الرجل المسلم

يقول: اللهم صَدّق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل اللّه في ذلك: يَحْلِفُونَ باللّه لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ واللّه وَرَسُولُهُ أحَقّ أنْ يُرْضُوهُ إنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ.

٦٣

القول في تأويل قوله تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّهُ مَن يُحَادِدِ اللّه وَرَسُولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ }.

يقول تعالى ذكره: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يحلفون باللّه كذبا للمؤمنين ليرضوهم وهم مقيمون على النفاق، أنه من يحارب اللّه ورسوله ويخالفهما فيناوئهما بالخلاف عليهما، فأنّ لَهُ نارَ جَهَنّمَ في الاَخرة، خالِدا فِيها

يقول: لابثا فيها، مقيما إلى غير نهاية. ذلكَ الخِزْيُ العَظِيمُ

يقول: فلبثه في نار جهنم وخلوده فيها هو الهوان والذلّ العظيم. وقرأت القرّاء: فَأنّ بفتح الألف من (أن) بمعنى: ألم يعلموا أن لمن حادّ اللّه ورسوله نار جهنم، وإعمال (يعلموا) فيها، كأنهم جعلوا (أن) الثانية مكرّرة على الأولى، واعتمدوا عليها، إذ كان الخبر معها دون الأولى. وقد كانت بعض نحويي البصرة يختار الكسر في ذلك على الابتداء بسبب دخول الفاء فيها، وأن دخولها فيها عنده دليل على أنها جواب الجزاء، وأنها إذا كانت جواب الجزاء كان الاختيار فيها الابتداء. والقراءة التي لا أستجيز غيرها فتح الألف في كلام الحرفين، أعني (أن) الأولى والثانية، لأن ذلك قراءة الأمصار، وللعلة التي ذكرت من جهة العربية.

٦٤

القول في تأويل قوله تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُوَاْ إِنّ اللّه مُخْرِجٌ مّا تَحْذَرُونَ }.

يقول تعالى ذكره: يخشى المنافقون أن تنزل فيهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم،

يقول: تظهر المؤمنين على ما في قلوبهم. وقيل: إن اللّه أنزل هذه الآية على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لأن المنافقين كانوا إذا عابوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكروا شيئا من أمره وأمر المسلمين، قالوا: لعلّ اللّه لا يفشي سرّنا فقال اللّه لنبيه صلى اللّه عليه وسلم: قل لهم: استهزءوا، متهدّدا لهم متوعدا، إنّ اللّه مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٢١٨ـ حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد يَحْذَرُ المُنافِقُونَ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ قال: يقولون القول بينهم، ثم يقولون: عسى اللّه أن لا يفشي سرّنا علينا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله، إلا أنه قال: سرنا هذا.

وأما قوله: إنّ اللّه مُخْرِجٌ ما تَحْذرُونَ فإنه يعني : إن اللّه مظهر عليكم أيها المنافقون ما كنتم تحذرون أن تظهروه، فأظهر اللّه ذلك عليهم وفضحهم، فكانت هذه السورة تدعى الفاضحة.

١٣٢١٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كانت تسمى هذه السورة الفاضحة فاضحة المنافقين.

٦٥

القول في تأويل قوله تعالى:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّه وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ }.

يقول تعالى جل ثناؤه لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عما قالوا من الباطل والكذب، ليقولنّ لك: إنما قلنا ذلك لعبا، وكنا نخوض في حديث لعبا وهزوا. يقول اللّه لمحمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا محمد أباللّه وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزءون.

وكان ابن إسحاق

يقول: الذي قال هذه المقالة كما:

١٣٢٢٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان الذي قال هذه المقالة فيما بلغني وديعة بن ثابت، أخو بني أمية بن زيد من بني عمرو بن عوف.

١٣٢٢١ـ حدثنا عليّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: حدثنا الليث، قال: ثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم: أن رجلاً من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك: ما لقرّائنا هؤلاء أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنةً وأجبننا عند اللقاء فقال له عوف: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذهب عوف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فقال زيد: قال عبد اللّه بن عمر: فنظرت إليه متعلقا بحقب ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، تنكبه الحجارة،

يقول: إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فيقول له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: أبا للّهِ وآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ما يزيده.

١٣٢٢٢ـ قال: ثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عبد اللّه بن عمر، قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس، ما رأينا مثل قرّائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبلغ ذلك النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، ونزل القرآن، قال عبد اللّه بن عمر: فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، تنكبه الحجارة، وهو

يقول: يا رسول اللّه إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يقول: أباللّه وآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ.

١٣٢٢٣ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، في قوله: وَلَئِنْ سألْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ.... إلى قوله: بأنّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ قال: فكان رجل ممن إن شاء اللّه عفا عنه

يقول: اللهمّ إني أسمع آية أنا أُعْنَى بها، تقشعرّ منها الجلود، وتَجِلُ منها القلوب، اللهمّ فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت قال: فأصيب يوم اليمامة، فما من أحد من المسلمين إلا وجد غيره.

١٣٢٢٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَلَئِنْ سألْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ.... الآية، قال: بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسير في غزوته إلى تبوك، وبين يديه ناس من المنافقين، فقال: أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات فأطلع اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك، فقال نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (احْبِسُوا عَليّ هَؤلاءِ الرّكْبَ) فأتاهم فقال: (قُلْتُمْ كَذَا؟ قُلْتُمْ كَذَا؟) قالوا: يا نبيّ اللّه إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل اللّه تبارك وتعالى فيها ما تسمعون.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وَلَئِنْ سألْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قال: بينما النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك ورَكْبٌ من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا: يظنّ هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها فأطلع اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ما قالوا، فقال: (عليّ بِهَؤلاءِ النّفَرِ) فدعاهم فقال: (قُلْتُمْ كَذَا وكَذَا؟) فحلفوا: ما كنا إلا نخوض ونلعب.

١٣٢٢٥ـ حدثنا الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب وغيره، قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قرّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء فرفع ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فجاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول اللّه ، إنما كنا نخوض ونلعب فقال: أبا للّهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ.... إلى قوله: مُجْرِمِينَ وإن رجليه لتسفعان بالحجارة، وما يلتفت إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو متعلق بنسعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

١٣٢٢٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قال: قال رجل من المنافقين: يحدّثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وما يدريه ما الغيب

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.

٦٦

القول في تأويل قوله تعالى:{لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَآئِفَةً بِأَنّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: قل لهؤلاء الذين وصفت لك صفتهم: لا تَعْتَذِرُوا بالباطل، فتقولوا كنا نخوض ونلعب. قَدْ كَفَرْتُمْ

يقول: قد جحدتم الحقّ بقولكم ما قلتم في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين به بَعْدَ إيمَانِكُمْ

يقول: بعد تصديقكم به وإقراركم به. إنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذّبْ طائِفَةً وذُكر أنه عنى بالطائفة في هذا الموضع رجل واحد.

وكان ابن إسحاق يقول فيما:

١٣٢٢٧ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان الذي عفي عنه فيما بلغني مخشي بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة، وذلك أنه أنكر منهم بعض ما سمع.

١٣٢٢٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا زيد بن حبان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب: إنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ قال: طائفة: رجل.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: معناه: إن نَعْفُ عن طائفة منكم بإنكاره ما أنكر عليكم من قبل الكفر، نعذّب طائفة بكفره واستهزائه بآيات اللّه ورسوله. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٢٩ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال بعضهم: كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث، فيسير مجانبا لهم، فنزلت: إنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذّبْ طائِفَةً فسمي طائفة وهو واحد.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن تتب طائفة منكم فيعفو اللّه عنه، يعذّب اللّه طائفة منكم بترك التوبة.

وأما قوله: إنّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ فإن معناه: نعذّب طائفة منهم باكتسابهم الجرم، وهو الكفر بالله، وطعنهم في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٦٧

القول في تأويل قوله تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ... }.

يقول تعالى ذكره: المُنافِقُونَ وَالمُنافِقاتُ وهم الذين يظهرون للمؤمنين الإيمان بألسنتهم ويسرّون الكفر باللّه ورسوله بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ

يقول: هم صنف واحد، وأمرهم واحد، في إعلانهم الإيمان واستبطانهم الكفر، يأمرون من قبل منهم بالمنكر، وهو الكفر باللّه وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبما جاء به وتكذيبه. ويَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ

يقول: وينهونهم عن الإيمان باللّه ورسوله وبما جاءهم به من عند اللّه .

وقوله: وَيَقْبِضُونَ أيْديهُمْ

يقول: ويمسكون أيديهم عن النفقة في سبيل اللّه ويكّفونها عن الصدقة، فيمنعون الذين فرض اللّه لهم في أموالهم ما فرض من الزكاة حقوقهم. كما:

١٣٢٣٠ـ حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: وَيَقْبِضُونَ أيْدِيَهُمْ قال: لا يبسطونها بنفقة في حقّ.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.

١٣٢٣١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَيَقْبِضُونَ أيْدِيَهُمْ: لا يبسطونها بخير.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وَيَقْبِضُونَ أيْدِيَهُمْ قال: يقبضون أيديهم عن كلّ خير.

وأما قوله: نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ فإن معناه: تركوا اللّه أن يطيعوه ويتبعوا أمره، فتركهم اللّه من توفيقه وهدايته ورحمته.

وقد دللنا فيما مضى على أن معنى النسيان الترك بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا.

وكان قتادة يقول في ذلك ما:

١٣٢٣٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ نُسُوا من الخير، ولم ينسوا من الشرّ.

 قوله: إنّ المُنافِقِينَ هُمُ الفاسِقُونَ

يقول: إن الذين يخادعون المؤمنين بإظهارهم لهم بألسنتهم الإيمان بالله، وهم للكفر مستبطنون، هم المفارقون طاعة اللّه الخارجون عن الإيمان به وبرسوله.

٦٨

القول في تأويل قوله تعالى:{وَعَدَ اللّه الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفّارَ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّه وَلَهُمْ عَذَابٌ مّقِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره: وَعَدَ اللّه المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والكُفّارَ باللّه نارَ جَهنمَ أن يصليهموها جميعا. خالِدِينَ فِيها

يقول: ماكثين فيها أبدا، لا يحيون فيها ولا يموتون. هِي حَسْبُهُمْ

يقول: هي كافيتهم عقابا وثوابا على كفرهم بالله. ولَعَنَهُمُ اللّه

يقول: وأبعدهم اللّه وأسحقهم من رحمته. ولهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ

يقول: وللفريقين جميعا، يعني من أهل النفاق والكفر عند اللّه ، عذاب مقيم دائم، لا يزول ولا يبيد.

٦٩

القول في تأويل قوله تعالى:{كَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدّ مِنكُمْ قُوّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً ...}.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين قالوا إنما كنا نخوض ونلعب: أبا لله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزءون، كالذين من قبلكم من الأمم الذين فعلوا فعلكم فأهلكهم اللّه ، وعجّل لهم في الدنيا الخزي مع ما أعدّ لهم من العقوبة والنكال في الاَخرة؟ يقول لهم جل ثناؤه: واحذروا أن يحلّ بكم من عقوبة اللّه مثل الذي حلّ بهم، فإنهم كانوا أشدّ منكم قوّة وبطشا، وأكثر منكم أموالاً وأولادا. فاسْتَمْتَعُوا بخَلاقِهِمْ

يقول: فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم، ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضا من نصيبهم في الاَخرة. وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم،

يقول: فعلتم بدينكم ودنياكم كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم الذين أهلكتهم بخلافهم أمري، بخلاقهم،

يقول: كما فعل الذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم ودينهم، وخضتم في الكذب والباطل على اللّه كالذي خاضوا،

يقول: وخضتم أنتم أيها المنافقون كخوض تلك الأمم قبلكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٣٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: (لَتَأْخُذُنّ كمَا أخَذَ الأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ، ذِرَاعا بِذِرَاعٍ، وَشِبْرا بِشِبْرٍ، وَباعا بِباعٍ حتى لَوْ أنّ أحَدا مِنْ أُولَئِكَ دَخَلَ جَحْرَ ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ) . قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم القرآن: كالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أشَدّ مِنْكُمْ قَوّةً وأكْثَرَ أمْوَالاً وأوَلادا فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقهِمْ فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كمَا اسْتَمْتَعَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كالّذِي خاضُوا قالوا: يا رسول اللّه ، كما صنعت فارس والروم؟ قال: (فَهَلِ النّاسُ إلاّ هُمْ) .

١٣٢٣٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج عن عمر بن عطاء، عن عكرمة عن ابن عباس، قوله: كالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.... الآية. قال: قال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة كالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم حُجْرَ ضبّ لدخلتموه

قال ابن جريج: وأخبرنا زياد بن سعد، عن محمد بن زيد بن مهاجر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (وَالّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَتَتّبِعُنّ سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعا بذِرَاعٍ، وَباعا بباعٍ حتى لَوْ دَخَلُوا حُجْرَ ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ) قالوا: وَمن هم يا رسول اللّه ، أهل الكتاب؟ قال: (فَمَهُ؟) .

١٣٢٣٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال أبو سعيد الخدريّ إنه قال: فمن.

١٣٢٣٦ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ قال: بدينهم.

١٣٢٣٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (حِذْرَكُمْ أنْ تُحْدِثُوا في الإسْلامِ حَدَثا) وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوام من هذه الأمة، فقال اللّه في ذلك: فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كمَا اسْتَمْتَعَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كالّذِي خاضُوا وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم، وإن الفتنة عائدة كما بدت.

وأما قوله: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعمالُهُمْ فإن معناه: هؤلاء الذين قالوا إنما كنا نخوض ونلعب، وفعلوا في ذلك فعل الهالكين من الأمم قبلهم، حبطت أعمالهم

يقول: ذهبت أعمالهم باطلاً، فلا ثواب لها إلا النار، لأنها كانت فيما يسخط اللّه ويكرهه. وأُولَئكَ هُمُ الخاسِرُونَ

يقول: وأولئك هم المغبونون صفقتهم ببيعهم نعيم الاَخرة، بخلاقهم من الدنيا اليسير الزهيد.

٧٠

القول في تأويل قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ ...}.

يقول تعالى ذكره: ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين يسرّون الكفر بالله، وينهون عن الإيمان به وبرسوله نَبأُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

يقول: خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم حين عصوا رسلنا، وخالفوا أمرنا ماذا حلّ بهم من عقوبتنا؟ ثم بين جل ثناؤه من أولئك الأمم التي قال لهؤلاء المنافقين ألم يأتهم نبؤهم، فقال: قَوْمُ نُوحٍ ولذلك خفض (القوم) لأنه ترجم بهن عن (الذين) ، و(الذين) في موضع خفض.

ومعنى الكلام: ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر قوم نوح وصنيعي بهم، إذ كذّبوا رسولي نوحا وخالفوا أمري، ألم أغرقهم بالطوفان؟ وعادٍ

يقول: وخبر عاد إذ عصوا رسولي هودا، ألم أهلكهم بريح صرصر عاتية؟ وخبر ثمود إذ عصوا رسولي صالحا، ألم أهلكهم بالرجفة، فأتركهم بأفنيتهم خمودا؟ وخبر قوم إبراهيم إذ عصوه، وردّوا عليه ما جاءهم به من عند اللّه من الحقّ، ألم أسلبهم النعمة وأهلك ملكهم نمروذ؟ وخبر أصحاب مدين بن إبراهيم، ألم أهلكهم بعذاب يوم الظلة، إذ كذّبوا رسولي شعيبا؟ وخبر المنقلبة بهم أرضهم، فصار أعلاها أسفلها، إذ عصوا رسولي لوطا وكذّبوا ما جاءهم به من عندي من الحقّ. يقول تعالى ذكره: أفأمن هؤلاء المنافقون الذين يستهزءون باللّه وبآياته ورسوله، أن يسلك بهم في الانتقام منهم وتعجيل الخزي والنكال لهم في الدنيا سبيل أسلافهم من الأمم، ويحلّ بهم بتكذيبهم رسولي محمدا صلى اللّه عليه وسلم ما حلّ بهم في تكذيبهم رسلنا، إذ أتتهم بالبينات.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٣٨ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وَالمُؤْتَفِكاتِ قال: قوم لوط انقلبت بهم أرضهم، فجعل عاليها سافلها.

١٣٢٣٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَالمُؤْتَفِكاتِ قال: هم قوم لوط.

فإن قال قائل: فإن كان عني بالمؤتفكات قوم لوط، فكيف قيل: المؤتفكات، فجمعت ولم توحد؟ قيل: إنها كانت قريات ثلاثا، فجمعت لذلك، ولذلك جمعت بالتاء على قول اللّه :والمؤتفِكةَ أهْوَى.

فإن قال: وكيف قيل: أتتهم رسلهم بالبينات، وإنما كان المرسل إليهم واحدا؟ قيل: معنى ذلك: أتى كل قرية من المؤتفكات رسول يدعوهم إلى اللّه ، فتكون رسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذين بعثهم إليهم للدعاء إلى اللّه عن رسالته رسلاً إليهم، كما قالت العرب لقوم نسبوا إلى أبي فديك الخارجي الفديكات وأبو فديك واحد، ولكن أصحابه لما نسبوا إليه وهو رئيسهم دعوا بذلك ونسبوا إلى رئيسهم فكذلك قوله: أتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبَيّناتِ. وقد يحتمل أن يقال: معنى ذلك: أتت قوم نوح وعاد وثمود وسائر الأمم الذين ذكرهم اللّه في هذه الآية رسلهم من اللّه بالبينات.

وقوله: فَمَا كانَ اللّه لِيَظْلِمَهُمْ

يقول جلّ ثناؤه: فما أهلك اللّه هذه الأمم التي ذكر أنه أهلكها إلا بإجرامها وظلمها أنفسها واستحقاقها من اللّه عظيم العقاب، لا ظلما من اللّه لهم ولا وضعا منه جل ثناؤه عقوبة في غير من هو لها أهل لأن اللّه حكيم، لا خلل في تدبيره ولا خطأ في تقديره، ولكن القوم الذين أهلكهم ظلموا أنفسهم بمعصية اللّه وتكذيبهم رسله حتى أسخطوا عليهم ربهم فحق عليهم كلمة العذاب فعذّبوا.

٧١

القول في تأويل قوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ...}.

يقول تعالى ذكره: وأما المؤمنون والمؤمنات، وهم المصدّقون باللّه ورسوله وآيات كتابه، فإن صفتهم أن بعضهم أنصار بعض وأعوانهم. يَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ

يقول: يأمرون الناس بالإيمان باللّه ورسوله، وبما جاء به من عند اللّه . وَيُقيِمُونَ الصّلاةَ

يقول: ويؤدّون الصلاةَ المفروضة. وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ

يقول: ويعطون الزكاة المفروضة أهلها. وَيُطيعُونَ اللّه وَرَسُولَهُ فيأتمرون لأمر اللّه ورسوله وينتهون عما نهيناهم عنه. أُولَئِكَ سَيرْحَمُهُمُ اللّه

يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم الذين سيرحمهم اللّه ، فينقذهم من عذابه ويدخلهم جنته، لا أهل النفاق والتكذيب باللّه ورسوله، الناهون عن المعروف، الاَمرون بالمنكر، القابضون أيديهم عن أداء حقّ اللّه من أموالهم. إنّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ

يقول: إن اللّه ذو عزّة في انتقامه ممن انتقم من خلقه على معصيته وكفره به، لا يمنعه من الانتقام منه مانع ولا ينصره منه ناصر، حكيم في انتقامه منهم في جميع أفعاله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٤٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: كلّ ما ذكره اللّه في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف: دعاء من الشرك إلى الإسلام، والنهي عن المنكر: النهي عن عبادة الأوثان والشياطين.

١٣٢٤١ـ قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: يُقِيمُونَ الصّلاةَ قال: الصلوات الخمس.

٧٢

القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَدَ اللّه الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ...}.

يقول تعالى ذكره: وعد اللّه الذين صدقوا اللّه ورسوله وأقرّوا به وبما جاء به من عند اللّه من الرجال والنساء جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ

يقول: بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار، خالِدِينَ فِيها

يقول: لابثين فيها أبدا مقيمين لا يزول عنهم نعيمها. ولا يبيد. وَمَساكِنَ طَيّبَةً

يقول: ومنازل يسكنونها طيبة.

و(طيبها) ، أنها فيما ذُكر لنا كما:

١٣٢٤٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إسحاق بن سليمان، عن الحسن، قال: سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن آية في كتاب اللّه تبارك وتعالى: وَمَساكِنَ طَيّبَةٍ في جَنّاتٍ عَدْنٍ فقالا: على الخبير سقطت، سألنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (قَصْرٌ فِي الجَنّةِ مِنْ لُؤْلُؤٍ، فِيهِ سَبْعُونَ دَارا مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، في كُلّ دارٍ سَبْعُونَ بَيْنا مِنْ زُمُرّدَةٍ خَضْرَاءَ، في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرا) .

١٣٢٤٣ـ حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا قرة بن حبيب، عن حسن بن فرقد، عن الحسن، عن عمران بن حصين وأبي هريرة، قالا: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذه الآية: وَمَساكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ قال: (قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ، فِي ذلكَ القَصْرِ سَبْعُونَ دَارا مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فِي كُلّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتا مِنْ زَبَرْجَدَة خَضْرَاءَ، في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرا، على كُلّ سَرِيرٍ فِرَاشا مِنْ كُلّ لَوْنٍ، على كُلّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الحُورِ العِينِ، في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مائِدَةً، على كُلّ مائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْنا مِنْ طَعامٍ، في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفَةً وَيُعْطَى المُؤْمِنُ مِنَ القُوّةِ في غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ ما يَأتي على ذلكَ كُلّه أجْمَعُ) .

وأما قوله: فِي جَنّاتِ عَدْنٍ فإنه يعني : وهذه المساكن الطيبة التي وصفها جل ثناؤه في جنات عدن وفي من صلة مساكن. وقيل: جنات عدن، لأنها بساتين خلد وإقامة لا يظعن منها أحد. وقيل: إنما قيل لها جنات عدن، لأنها دار اللّه التي استخلصها لنفسه ولمن شاء من خلقه، من قول العرب: عدن فلان بأرض كذا، إذا أقام بها وخلد بها، ومنه المعدن، ويقال: هو في معدن صدق، يعني به أنه في أصل ثابت وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى:

وَإنْ تَسْتَضِيفُوا إلى حُكْمِهِتُضَافُوا إلى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنْ

وينشد: (قد وزن) .

وكالذي قلنا في ذلك، كان ابن عباس وجماعة معه فيما ذكر يتأوّلونه.

١٣٢٤٤ـ حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس: جَنّاتِ عَدْنِ قال: معدن الرجل الذي يكون فيه.

١٣٢٤٥ـ حدثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا الكندي، سعد عن زيادة بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ اللّه يَفْتَحُ الذّكْرَ ثَلاثِ ساعاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللّيْلِ: في السّاعَةِ الأُولى مِنْهُنّ يَنْظُرُ فِي الكِتَابِ الّذِي لا يَنْظُرُ فِيهِ أحَدٌ غيرُهُ فَيَمْحُو ما يَشاءُ ويُثْبِتُ، ثُمّ يَنْزِلُ في السّاعَةِ الثّانِيَةِ إلى جَنّةِ عَدْنِ، وَهيَ دَارُهُ التي لَمْ تَرَها عَيْنٌ ولَمْ تَخْطُرْ على قَلْبِ بَشَرٍ، وَهِيَ مَسْكَنُهُ، وَلا يَسْكُنُ مَعُهُ مِنْ بَنِي آدَمِ غيرَ ثلاثَة: النّبِيّينَ وَالصّدّيقينَ والشّهَدَاءِ، ثُمّ

يَقُولُ: طُوبَى لِمَنْ دَخَلَكِ) وَذَكَرَ فِي السّاعَةِ الثّالِثَةِ.

حدثني موسى بن سهل، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا الليث بن سعد، قال: حدثنا زيادة بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (عَدْنٌ دارُهُ) يعني دار اللّه (التي لم ترها عَيْنٌ ولم تَخْطُرْ على قَلْبٍ بَشَرٍ، وهي مَسْكَنُهُ، ولا يسكنها معه من بني آدم غَيْرُ ثلاثٍ: النبيين، والصدّيقين، والشهداء، يقول اللّه تبارك وتعالى: طُوبَى لمن دَخَلَكَ) .

وقال آخرون: معنى جَنّاتِ عَدْنٍ: جنات أعناب كروم. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٤٦ـ حدثني أحمد بن أبي سريج الرازي، قال: حدثنا زكريا بن عديّ، قال: حدثنا عبيد اللّه بن عمرو، عن زيد ابن أبي أنيسة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد اللّه بن الحرث، أن ابن عباس سأل كَعَبا عن جنات عدن، فقال: هي الكروم والأعناب بالسريانية.

وقال آخرون: هي اسم لُبْطَنان الجنة ووسطها. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٤٧ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا شعبة، عن سليمان الأعمش، عن عبد اللّه بن مرّة، عن مسروق، عن عبد اللّه ، قال: عدن: بُطْنان الجنة.

١٣٢٤٨ـ حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان وشعبة، عن الأعمش، عن عبد اللّه بن مرة، عن مسروق، عن عبد اللّه ، في قوله: جَنّاتِ عَدْنٍ قال: بُطْنان الجنة. قال ابن بشار في حديثه: فقلت: ما بطنانها؟ وقال ابن المثنى، في حديثه: فقلت للأعمش: ما بطنان الجنة؟ قال: وسطها.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد اللّه بن مرة وأبي الضحى، عن مسروق، عن عبد اللّه : جَنّاتِ عَدْنٍ قال: بُطْنان الجنة.

قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد اللّه ، بمثله.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدّي، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد اللّه بن مرة، عن مسروق، عن عبد اللّه ، مثله.

حدثنا أحمد بن أبي سريج، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى وعبد اللّه بن مرّة عنهما جميعا، أو عن أحدهما، عن مسروق، عن عبد اللّه : جَنّاتِ عَدْنٍ قال: بُطْنان الجنة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد اللّه بن مسعود في قول اللّه :جَنّاتِ عَدْنٍ قال: بُطْنان الجنة.

وقال آخرون: عدن: اسم لقصر. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٤٩ـ حدثني عليّ بن سعيد الكندي، قال: حدثنا عبدة أبو غسان، عن عون بن موسى الكناني، عن الحسن، قال: جنات عدن، وما أدراك ما جنات عدن قصر من ذهب لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حكم عدل. ورفع به صوته.

حدثنا أحمد بن أبي سريج، قال: حدثنا عبد اللّه بن عاصم، قال: حدثنا عون بن موسى، قال: سمعت الحسن بن أبي الحسن،

يقول: جنات عدن، وما أدراك ما جنات عدن قصر من ذهب، لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق، أو شهيد، أو حكم عدل ورفع الحسن به صوته.

١٣٢٥٠ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم، عن عبد اللّه بن عمرو، قال: إن في الجنة قصرا يقال له: عدن، حوله البروج والروح، له خمسون ألف باب على كل باب حِبَرَة، لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق.

حدثنا الحسن بن ناجح، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت يعقوب بن عاصم يحدّث، عن عبد اللّه بن عمرو: أن في الجنة قصرا يقال له عدن، له خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حِبَرَة، لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد.

وقيل: هي مدينة الجنة. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٥١ـ حُدثت عن عبد الرحمن المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك : في جَنّاتِ عَدْنٍ قال: هي مدينة الجنة، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد، والجنات حولها.

وقيل: إنه اسم نهر. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٥٢ـ حُدثت عن المحاربي، عن واصل بن السائب الرقاشي، عن عطاء، قال: عدن: نهر في الجنة، جناته على حافتيه.

وأما قوله: وَرِضْوانٌ مِنَ اللّه أكْبَرُ فإن معناه ورضا اللّه عنهم أكبر من ذلك كله، وبذلك جاء الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

١٣٢٥٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ اللّه يَقُولُ لأَهْلِ الجَنّةِ: يا أهْلَ الجَنّةِ فَيَقُولُونَ: لَبّيْكَ رَبّنا وَسَعْدَيْكَ فَ

يَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولونَ: ومَا لَنا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا ما لَمْ تُعْطِ أحَدا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقول أنا أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذلكَ قالُوا: يا رَبّ وأيّ شَيْ أفْضَلُ مِنْ ذلكَ؟ قال: أُحِلّ عَلَيْكُمْ رِضْوَاني فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَدا) .

١٣٢٥٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: ثني يعقوب، عن حفص، عن شمر، قال: يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب إلى الرجل، حين ينشقّ عنه قبره، ف

يقول: أبشر بكرامة اللّه ، أبشر برضوان اللّه فيقول مثلك من يبشر بالخير ومن أنت؟ ف

يقول: أنا القرآن الذي كنت أسْهِر ليلك، وأظمىء نهارك. فيحمله على رقبته، حتى يوافى به ربه، فيمثل بين يديه، ف

يقول: يا ربّ عبدك هذا اجزه عني خيرا، فقد كنت أسهر ليله، وأظمىء نهاره، وآمره فيطيعني ، وأنهاه فيطيعني فيقول الربّ تبارك وتعالى: فله حلة الكرامة ف

يقول: أي ربّ زده، فإنه أهل ذلك ف

يقول: فله رضواني قال: ورضوان من اللّه أكبر.

وابتدىء الخبر عن رضوان اللّه للمؤمنين والمؤمنات أنه أكبر من كلّ ما ذكر جلّ ثناؤه، فرفع، وإن كان الرضوان فيما قد وعدهم، ولم يعطف به في الإعراب على الجنات والمساكن الطيبة، ليعلم بذلك تفضيل اللّه رضوانه عن المؤمنين على سائر ما قسم لهم من فضله وأعطاهم من كرامته، نظير قول القائل في الكلام الاَخر أعطيتك ووصلتك بكذا، وأكرمتك، ورضاي بعد عنك أفضل ذلك.

ذلكَ هُوَ الفَوُزُ العَظِيمُ هذه الأشياء التي وعدت المؤمنين والمؤمنات، هو الفوز العظيم،

يقول: هو الظفر العظيم والنجاء الجسيم، لأنهم ظفروا بكرامة الأبد، ونجوا من الهوان في السفر، فهو الفوز العظيم الذي لا شيء أعظم منه.

٧٣

القول في تأويل قوله تعالى:{يَأَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }.

يقول تعالى ذكره: يا أيها النبيّ جاهد الكفار بالسيف والسلاح والمنافقين.

واختلف أهل التأويل في صفة الجهاد الذي أمر اللّه نبيه به في المنافقين،

فقال بعضهم: أمره بجاهدهم باليد واللسان، وبكل ما أطاق جهادهم به. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٥٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن ويحيى بن آدم، عن حسن بن صالح، عن عليّ بن الأقمر، عن عمرو بن جندب، عن ابن مسعود، في قوله تعالى: جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ قال: بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه.

وقال آخرون: بل أمره بجهاهدهم باللسان. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٥٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله تعالى: يا أيّها النّبي جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ فأمره اللّه بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم.

١٣٢٥٧ـ حدثنا القاسم، قال: ثني الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ قال: الكفار بالقتال، والمنافقين: أن تغلظ عليهم بالكلام.

١٣٢٥٨ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ

يقول: جاهد الكفار بالسيف، وأغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم.

وقال آخرون: بل أمره بإقامة الحدود عليهم. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٥٩ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ قال: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالحدود، أقم عليهم حدود اللّه .

١٣٢٦٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يا أيّها النّبِي جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ قال: أمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يجاهد الكفار بالسيف، ويغلظ على المنافقين في الحدود.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ما قال ابن مسعود، من أن اللّه أمر نبيه صلى اللّه عليه وسلم من جهاد المنافقين، بنحو الذي أمره به من جهاد المشركين.

فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى اللّه عليه وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم؟ قيل: إن اللّه تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهر منهم كلمة الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك. وأما من إذا اطلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها، أنكرها ورجع عنها وقال: إني مسلم، فإن حكم اللّه في كل من أظهر الإسلام بلسانه، أن يحقن بذلك له دمه وماله وإن كان معتقدا غير ذلك، وتوكل هو جل ثناؤه بسرائرهم، ولم يجعل للخلق البحث عن السرائر فلذلك كان النبي صلى اللّه عليه وسلم مع علمه بهم وإطلاع اللّه إياه على ضمائرهم واعتقاد صدورهم، كان يقرّهم بين أظهر الصحابة، ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبه الحرب على الشرك باللّه لأن أحدهم كان إذا اطلع عليه أنه قد قال قولاً كفر فيه باللّه ثم أخذ به أنكره، وأظهر الإسلام بلسانه، فلم يكن صلى اللّه عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله عند حضوره إياه وعزمه على إمضاء الحكم فيه، دون ما سلف من قول كان نطق به قبل ذلك، ودون اعتقاد ضميره الذي لم يبح اللّه لأحد الأخذ به في الحكم وتولّى الأخذ به هو دون خلقه.

وقوله: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ يقول تعالى ذكره: واشدد عليهم بالجهاد والقتال والإرهاب.

وقوله: ومَأْواهُمْ جَهَنّمُ

يقول: ومساكنهم جهنم وهي مثواهم ومأواهم. وَبِئْسَ المَصِيرُ

يقول: وبئس المكان الذي يصار إليه جهنم.

٧٤

القول في تأويل قوله تعالى:{يَحْلِفُونَ بِاللّه مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ...}.

اختلف أهل التأويل في الذي نزلت فيه هذه الآية، والقول الذي كان قاله، الذي أخبر اللّه عنه أنه يخلف باللّه ما قاله.

فقال بعضهم: الذي نزلت فيه هذه الآية: الجُلاس بن سويد بن الصامت.

وكان القول الذي قاله ما:

١٣٢٦١ـ حدثنا به ابن وكيع، قال: حدثنا معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: يَحْلِفُونَ باللّه ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ قال: نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت، قال: إن كان ما جاء به محمد حقّا، لنحن أشرّ من الحمير فقال له ابن امرأته: واللّه يا عدوّ اللّه ، لأخبرنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما قلت، فإني إن لا أفعل أخاف أن تصيبني قارعة وأؤاخذ بخطيئتك فدعا النبي صلى اللّه عليه وسلم الجلاس، فقال: (يا جلاس أقلت كذا وكذا؟) فحلف ما قال، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: يَحْلِفُونَ باللّه ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ وهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّه ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو معاوية الضرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: نزلت هذه الآية: يَحْلِفُونَ باللّه ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ في الجلاس بن سويد بن الصامت، أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء، فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقّا، لنحن أشرّ من حميرنا هذه التي نحن عليها فقال مصعب: أما واللّه يا عدوّ اللّه لأخبرنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما قلت فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم، وخشيت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة أو أن أخلط، قلت: يا رسول اللّه أقبلت أنا والجلاس من قباء، فقال كذا وكذا، ولولا مخافة أن أؤاخذ بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك قال: فدعا الجلاس، فقال له: (يا جلاسُ أقُلْت الّذِي قالَ مُصْعَبُ؟) قال: فحلف، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: يَحْلِفُونَ باللّه ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ... الآية.

١٣٢٦٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان الذي قال تلك المقالة فيما بلغني الجلاس بن سويد بن الصامت، فرفعها عنه رجل كان في حجره يقال له عمير بن سعيد، فأنكر، فحلف باللّه ما قالها فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع وحسنت توبته فيما بلغني.

١٣٢٦٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد كَلِمَةَ الكُفْرِ قال أحدهم: لئن كان ما يقول محمد حقّا لنحن شرّ من الحمير فقال له رجل من المؤمنين: إن ما قال لحقّ ولأنت شرّ من حمار قال: فهمّ المنافقون بقتله، فذلك قوله: وهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.

قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

١٣٢٦٤ـ حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد اللّه بن رجاء، قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا في ظلّ شجرة، فقال: (إنّهُ سَيَأْتِيكُمْ إنْسانٌ فَيَنْظُرُ إلَيْكُمْ بِعَيْنَي شَيْطَانٍ، فإذا جاءَ فَلا تُكَلّمُوهُ) فلم يلبث أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (عَلاَمَ تَشْتُمُني أنْتَ وأصْحَابُكَ؟) فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا باللّه ما قالوا وما فعلوا حتى تجاوز عنهم، فأنزل اللّه : يَحْلِفُونَ باللّه ما قَالُوا ثم نعتهم جميعا، إلى آخر الآية.

وقال آخرون: بل نزلت في عبد اللّه بن أُبيّ ابن سلولَ، قالوا: والكلمة التي قالها ما:

١٣٢٦٥ـ حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يَحْلِفُونَ باللّه ما قَالُوا... إلى قوله: مِنْ وَلِيّ وَلا نَصِيرٍ قال: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا، أحدهما من جهينة والاَخر من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار. وظهر الغفاريّ على الجهني، فقال عبد اللّه بن أبيّ للأوس: انصروا أخاكم، فواللّه ما مَثَلُنا ومَثَلُ محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك وقال: لَئِنْ رَجعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف باللّه ما قاله، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: يَحْلِفُونَ باللّه ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ.

١٣٢٦٦ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: يَحْلِفُونَ باللّه ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ قال: نزلت في عبد اللّه بن أبيّ ابن سلولَ.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن اللّه تعالى أخبر عن المنافقين أنهم يحلفون باللّه كذبا على كلمة كفر تكلموا بها أنهم لم يقولوها. وجائز أن يكون ذلك القول ما رُوي عن عروة أن الجلاس قاله، وجائز أن يكون قائله عبد اللّه بن أبي ابن سلول. والقول ما ذكره قتادة عنه أنه قال ولا علم لنا بأن ذلك من أيّ، إذ كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة ويتوصل به إلى يقين العلم به، وليس مما يُدرك علمه بفطرة العقل، فالصواب أن يقال فيه كما قال اللّه جلّ ثناؤه: يَحْلِفُونَ باللّه ما قَالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ.

وأما قوله: وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا فإن أهل التأويل اختلفوا في الذي كان همّ بذلك وما الشيء الذي كان همّ به.

فقال بعضهم: هو رجل من المنافقين، وكان الذي همّ به قَتْلَ ابن امرأته الذي سمع منه ما قال وخشي أن يفشيه عليه. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٦٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: همّ المنافق بقتله، يعني قتل المؤمن الذي قال له أنت شرّ من الحمار. فذلك قوله: وهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد به

وقال آخرون: كان الذي همّ رجلاً من قريش، والذي همّ به قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٦٨ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا شبل، عن جابر، عن مجاهد، في قوله: وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا قال: رجل من قريش همّ بقتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقال له الأسود.

وقال آخرون: الذي همّ عبد اللّه بن أبيّ ابن سلولَ، وكان همه الذي لم ينله قوله: لَئِنْ رَجعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ.

وقوله: ومَا نَقَمُوا إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّه ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ذكر لنا أن المنافق الذي ذكر اللّه عنه أنه قال كلمة الكفر كان فقيرا، فأغناه اللّه بأن قتل له مولى، فأعطاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ديته. فلما قال ما قال، قال اللّه تعالى: ومَا نَقَمُوا

يقول: ما أنكروا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا، إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّه ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٦٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّه ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ وكان الجلاس قتل له مولى له، فأمر له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بديته، فاستغنى، فذلك قوله: ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّه ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.

١٣٢٧٠ـ قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: قضى النبي صلى اللّه عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا في لبني عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: قضى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بالدية اثنى عشر مولى لبني عديّ بن كعب، وفيه أنزلت هذه الآية: ومَا نَقَمُوا إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّه ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.

١٣٢٧١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ومَا نَقَمُوا إلاّ أنْ أغْناهُمُ اللّه ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ قال: كانت لعبد اللّه بن أبي دية، فأخرجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم له.

١٣٢٧٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن الزبير، عن سفيان، قال: حدثنا عمرو، قال: سمعت عكرمة: أن مولى لبني عديّ بن كعب قتل رجلاً من الأنصار، فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا، وفيه أنزلت: ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّه ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ قال عمرو: لم أسمع هذا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم إلا من عكرمة، يعني الدية اثني عشر ألفا.

١٣٢٧٣ـ حدثنا صالح بن مسمار، قال: حدثنا محمد بن سنان العوفي، قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم جعل الدية اثني عشر ألفا، فذلك قوله: ومَا نَقَمُوا إلا أنْ أغْناهُمُ اللّه ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ قال: بأخذ الدية.

وأما قوله: فإنْ يَتُوبُوا يَكَ خَيْرا لَهُمْ يقول تعالى ذكره: فإن يتب هؤلاء القائلون كلمة الكفر من قيلهم الذي قالوه فرجعوا عنه، يك رجوعهم وتوبتهم من ذلك خيرا لهم من النفاق. وإنْ يَتَوَلّوْا

يقول: وإن يدبروا عن التوبة فيأبوها، ويصرّوا على كفرهم يُعَذّبْهُمُ اللّه عَذَابا ألِيما

يقول: يعذّبهم عذابا موجعا في الدنيا، إما بالقتل، وإما بعاجل خزي لهم فيها، ويعذّبهم في الاَخرة بالنار.

وقوله: ومَا لَهُمْ فِي الأرْضِ من وَلِيّ وَلا نَصِيرٍ

يقول: وما لهؤلاء المنافقين إن عذّبهم اللّه في عاجل الدنيا، من وليّ يواليه على منعه من عقاب اللّه ، ولا نصير ينصره من اللّه ، فينقذه من عقابه وقد كانوا أهل عزّ ومنعة بعشائرهم وقومهم يمتنعون بهم ممن أرادهم بسوء، فأخبر جل ثناؤه أن الذين كانوا يمنعونهم ممن أرادهم بسوء من عشائرهم وحلفائهم، لا يمنعونهم من اللّه ولا ينصرونهم منه إذ احتاجوا إلى نصرهم. وذُكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية تاب مما كان عليه من النفاق. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٧٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: فإنْ يَتُوبُوا يكُ خَيْرا لَهُمْ قال: قال الجلاس: قد استثنى اللّه لي التوبة، فأنا أتوب فقبل منه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: فإنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرا لَهُمْ... الآية، فقال الجلاس: يا رسول اللّه إني أرى اللّه قد استثنى لي التوبة، فأنا أتوب فتاب، فقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه.

٧٥

القول في تأويل قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مّنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ }.

يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم مَنْ عَاهَدَ اللّه ي قوله: أعطى اللّه عهدا، لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ

يقول: لئن أعطانا اللّه من فضله، ورزقنا مالاً، ووسع علينا من عنده لَنَصّدّقَنّ

يقول: لنخرجنّ الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربنا، وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ

يقول: ولنعملنّ فيها بعمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم به وإنفاقه في سبيل اللّه . يقول اللّه تبارك حق اللّه . وَتَوَلّوْا

يقول: وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه اللّه ، وهُمْ مُعْرِضُونَ عنه.

٧٧

فَأعْقَبَهُمُ اللّه نِفاقا فِي قُلُوبِهِمْ ببخلهم بحقّ اللّه الذي فرضه عليهم فيما آتاهم من فضله، وإخلافهم الوعد الذي وعدوا اللّه ، ونقضهم عهده في قلوبهم إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا اللّه ما وَعَدُوهُ من الصدقة والنفقة في سبيله، وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ في قيلهم، وحرّمهم التوبة منه لأنه جل ثناؤه اشترط في نفاقهم أنه أعقبهموه إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا.

واختلف أهل التأويل في المعنى بهذه الآية،

فقال بعضهم: عني بها رجل يقال له ثعلبة بن حاطب من الأنصار. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٧٥ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ... الآية، وذلك أن رجلاً يقال له ثعلبة بن حاطب من الأنصار، أتى مجلسا فأشهدهم، فقال: لئن آتاني اللّه من فضله، آتيت منه كلّ ذي حقّ حقه، وتصدّقت منه، ووصلت منه القرابة فابتلاه اللّه فآتاه من فضله، فأخلف اللّه ما وعده، وأغب اللّه بما أخلف ما وعده، فقصّ اللّه شأنه في القرآن: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه ... الآية، إلى قوله: يَكْذِبُونَ.

١٣٢٧٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا معاذ بن رفاعة السّلَمي، عن أبي عبد الملك عليّ بن يزيد الإلهاني، أنه أخبره عن القاسم بن عبد الرحمن، أنه أخبره عن أبي أمامة الباهلي، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري، أنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ادع اللّه أن يرزقني مالاً فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (وَيحَكَ يا ثَعْلَبَة، قَلِيلٌ تُؤَدّى شُكْرَهُ، خَيْبرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقُه) قال: ثم قال مرّة أخرى، فقال: (أما تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيّ اللّه ؟ فَوَالّذِي نَفُسِي بِيَدِهِ لَوْ شِئْتُ أنْ تَسِيرَ مَعي الجِبَالُ ذَهَبا وَفِضّةً لَسارَتْ) قال: والذي بعثك بالحقّ، لئن دعوت اللّه فرزقني مالاً لأعطينّ كل ذي حقّ حقه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اللّه مّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالاً) . قال: فاتخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها، فنزل واديا من أدويتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود، حتى ترك الجمعة. فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة يسألهم عن الأخبار فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما فَعَلَ ثَعْلَبَةُ؟) فقالوا: يا رسول اللّه اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة، فأخبروه بأمره فقال: (يا ويْحَ ثَعْلَبَةُ يا ويْحَ ثَعْلَبَةُ يا ويْحَ ثَعْلَبَةُ) قال: وأنزل اللّه : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً... الآية. ونزلت عليه فرائض الصدقة، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلين على الصدقة، رجلاً من جهينة، ورجلاً من سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين، وقال لهما: (مُرّا بثعلبة، وبفلان رجل من بني سليم فخُذَا صَدَقَاتِهمَا) فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرغا ثم عودوا إليّ فانطلقا، وسمع بهما السلميّ، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها، فلما رأوها، قالوا: ما يجب عليك هذا، وما تريد أن نأخذ هذا منك. قال: بلى ول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرغا ثم عودوا إليّ فانطلقا، وسمع بهما السلميّ، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها، فلما رأوها، قالوا: ما يجب عليك هذا، وما تريد أن نأخذ هذا منك. قال: بلى أن يكلمهما، ودعا للسلميّ بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، والذي صنع السلميّ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى فيه: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لنصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ... إلى قوله: وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وعند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة، قد أنزل اللّه فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فسأله أن يقبل منه صدقته. فقال: (إنّ اللّه مَنَعَنِي أنْ أقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ) فجعل يحثي على رأسه التراب، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هَذَا عَمَلُكَ، قَدْ أمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي) . فلما أبى أن يقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، رجع إلى منزله، وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يقبل منه شيئا. ثم أتى أبا بكر حين استخلف، فقال: قد علمت منزلتي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا أقبلها؟ فقُبض أبو بكر ولم يقبضها. فلما ولي عمر أتاه فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي فقال: لم يقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولا أبو بكر، وأنا لا أقبلها منك فقُبض ولم يقبلها. ثم ولي عثمان رحمة اللّه عليه، فأتاه فسأله أن يقبل صدقته، فقال: لم يقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولا أبو بكر ولا عمر رضوان اللّه عليهما وأنا لا أقبلها منك فلم يقبلها منه، وهَلك ثعلبة في خلافة عثمان رحمة اللّه عليه.

١٣٢٧٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ... الآية: ذُكر لنا أن رجلاً من الأنصار أتى على مجلس من الأنصار، فقال لئن آتاه مالاً، ليؤدّينّ إلى كلّ ذي حقّ حقه فآتاه اللّه مالاً، فصنع فيه ما تسمعون. قال: فَمَا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ... إلى قوله: وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ذُكر لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حدّث أن موسى عليه الصلاة والسلام لمّا جاء بالتوراة إلى بني إسرائيل قالت بنو إسرائيل: إن التوراة كثيرة، وإنا لا نفرغ لها، فسل لنا ربك جماعا من الأمر نحافظ عليه ونتفرّغ فيه لمعايشنا قال: يا قوم مهلاً مهلاً، هذا كتاب اللّه ، ونور اللّه ، وعصمة اللّه . قال: فأعادوا عليه، فأعاد عليهم، قالها ثلاثا. قال: فأوحى اللّه إلى موسى: ما يقول عبادي؟ قال: يا ربّ يقولون: كيت وكيت. قال: فإني آمرهم بثلاث إن حافظوا عليهنّ دخلوا بهنّ الجنة: أن ينتهوا إلى قسمة الميراث فلا يظلموا فيها، ولا يدخلوا أبصارهم البيوت حتى يؤذن لهم، وأن لا يطعموا طعاما حتى يتوضؤوا وضوء الصلاة. قال: فرجع بهنّ نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى قومه، ففرحوا ورأوا أنهم سيقومون بهنّ، قال: فواللّه ما لبث القوم إلا قليلاً حتى جنحوا، وانقطع بهم فلما حدّث نبيّ اللّه بهذا الحديث عن بني إسرائيل، قال: (تكَفّلُوا لي بستّ أتكفل لكم بالجنة) قالوا: ما هنّ يا رسول اللّه ؟ قال: (إذا حدثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تخلفوا، وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا، وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم وأبصاركم عن الخيانة وأيديكم عن السرقة وفروجكم عن الزنا) .

١٣٢٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ صَارَ مُنافِقا وإنْ صَامَ وصَلّى وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ: إذَا حَدّثَ كَذَبَ، وإذَا اؤتُمِنَ خانَ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ) .

وقال آخرون: بل المعنيّ بذلك: رجلان: أحدهما ثعلبة، والاَخر معتب بن قشير. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ... إلى الاَخر، وكان الذي عاهد اللّه منهم ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، هما من بني عمرو بن عوف.

١٣٢٨٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول اللّه :وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ قال: رجلان خرجا على ملإ قعود، فقالا: واللّه لئن رزقنا اللّه لنصدّقَنّ فلما رزقهم اللّه بخلوا به.

١٣٢٨١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ رجلان خرجا على ملإ قعود، فقالا: واللّه لئن رزقنا اللّه لنصدّقنّ فلما رزقهم بخلوا به، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم بما أخلفوا اللّه ما وعدوه حين قالوا: لنصدّقنّ فلم يفعلوا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد نحوه.

١٣٢٨٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ... الآية، قال: هؤلاء صنف من المنافقين، فلما آتاهم ذلك بخلوا به فلما بخلوا بذلك أعقبهم بذلك نفاقا إلى يوم يلقونه، ليس لهم منه توبة ولا مغفرة ولا عفو، كما أصاب إبليس حين منعه التوبة.

وقال أبو جعفر: في هذه الآية الإبانة من اللّه جل ثناؤه عن علامة أهل النفاق، أعني في قوله: فأعْقَبَهُم نِفَاقا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا اللّه ما وَعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ.

وبنحو هذا القول كان يقول جماعة من الصحابة والتابعين، ووردت به الأخبار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٨٣ـ حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد اللّه : اعتبروا المنافق بثلاث: إذ حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر. وأنزل اللّه تصديق ذلك في كتابه: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ... إلى قوله: يَكْذِبُونَ.

١٣٢٨٤ـ حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن السماك، عن صبيح بن عبد اللّه بن عميرة، عن عبد اللّه بن عمرو، قال: ثلاث من كنّ فيه كان منافقا: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان. قال: وتلا هذه الآية: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ... إلى آخر الآية.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن سماك، قال: سمعت صبيح بن عبد اللّه القيسي

يقول: سألت عبد اللّه بن عمرو، عن المنافق، فذكر نحوه.

١٣٢٨٥ـ حدثني محمد بن معمر، قال: حدثنا أبو هشام المخززمي، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا عثمان بن حكيم، قال: سمعت محمد بن كعب القُرظَيّ،

يقول: كنت أسمع أن المنافق يعرف بثلاث: بالكذب، والإخلاف، والخيانة. فالتمستها في كتاب اللّه زمانا لا أجدها. ثم وجدتها في آيتين من كتاب اللّه ، قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه ... حتى بلغ: وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ،

وقوله: إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ هذه الآية.

١٣٢٨٦ـ حدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: حدثنا أسامة، قال: حدثنا محمد المخرمي، قال: سمعت الحسن

يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ فَهُوَ مُنافِقٌ وَإنْ صَلّى وَصَامَ وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ: إذَا حَدّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤتُمِنَ خانَ) فقلت للحسن: يا أبا سعيد لئن كان لرجل عليّ دين فلقيني، فتقاضاني وليس عندي، وخفت أن يحبسني ويهلكني، فوعدته أن أقضيه رأس الهلال فلم أفعل، أمنافق أنا؟ قال: هكذا جاء الحديث. ثم حدّث عن عبد اللّه بن عمرو أن أباه لما حضره الموت، قال: زوّجوا فلانا فإني وعدته أن أزوجه، لا ألقى اللّه بثلث النفاق قال: قلت: يا أبا سعيد ويكون ثلث الرجل منافقا وثلثاه مؤمن؟ قال: هكذا جاء الحديث. قال: فحججت فلقيت عطاء بن أبي رباح، فأخبرته الحديث الذي سمعته من الحسن، وبالذي قلت له وقال لي. فقال: أعجزت أن تقول له: أخبرني عن إخوة يوسف عليه السلام، ألم يَعِدوا أباهم فأخلفوه وحدّثوه فكذَبوه وأتمنهم فخانوه، أفمنافقين كانوا؟ ألم يكونوا أنبياء أبوهم نبيّ وجدّهم نبيّ؟ قال: فقلت لعطاء: يا أبا محمد حدثني بأصل النفاق، وبأصل هذا الحديث فقال: حدثني جابر بن عبد اللّه : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصة الذين حدّثوا النبيّ فكذبوه، وأتمنهم على سرّه فخانوه، ووعدوه أن يخرجوه معه في الغزو فأخلفوه. قال: وخرج أبو سفيان من مكة، فأتى جبريل النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه: (إنّ أبا سُفْيانَ فِي مَكانِ كَذَا وكَذَا، فاخْرُجُوا إلَيْهِ وَاكْتُمُوا) قال: فكتب رجل من المنافقين إليه أن محمدا يريديكم، فخذوا حذركم، فأنزل اللّه : (لاَ تَخُونُوا اللّه والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وأنزل في المنافقين: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَ وَاكْتُمُوا) قال: فكتب رجل من المنافقين إليه أن محمدا يريديكم، فخذوا حذركم، فأنزل اللّه : لاَ تَخُونُوا اللّه والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ وأنزل في المنافقين: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَسعيد، إن أخاك عطاء يقرئك السلام فأخبرته بالحديث الذي حدّث وما قال لي. فأخذ الحسن بيدي فأمالها وقال: يا أهل العراق أعجزتم أن تكونوا مثل هذا؟ سمع مني حديثا فلم يقبله حتى استنبط أصله، صدق عطاء هكذا الحديث، وهذا في المنافقين خلصة.

١٣٢٨٧ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا يعقوب، عن الحسن، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ وَإنْ صَلّى وَصَامَ وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ فَهُوَ مُنافِقٌ) . ف

قيل له: ما هي يا رسول اللّه ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذَا حَدّثَ كَذَبَ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذَا اؤتُمِنَ خَانَ) .

١٣٢٨٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: حدثنا ميسرة، عن الأوزاعي عن هارون بن رباب، عن عبد اللّه بن عمرو بن وائل، أنه لما حضرته الوفاة، قال: إن فلانا خطب إليّ ابنتي، وإني كنت قلت له فيها قولاً شبيها بالعِدة، واللّه لا ألقى اللّه بثلث النفاق، وأشهدكم أني قد زوّجته

وقال قوم: كان العهد الذي عاهد اللّه هؤلاء المنافقون شيئا نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٨٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: سمعت معتمر بن سليمان التيمي

يقول: ركبت البحر فأصابنا ريح شديدة، فنذر قوم منا نذورا، ونويت أنا لم أتكلم به. فلما قدمت البصرة، سألت أبي سليمان، فقال لي يا بنيّ: فُهْ به.

١٣٢٩٠ـ قال معتمر، وثنا كهمس عن سعيد بن ثابت، قال: قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه ... الآية، قال: إنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله: ألَمْ يَعْلَمُوا أنّ اللّه يَعْلَمُ سِرّهُمْ وَنجْواهُمْ وأنّ اللّه عَلاّمُ الغُيُوبِ؟.

٧٨

القول في تأويل قوله تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنّ اللّه يَعْلَمُ سِرّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنّ اللّه عَلاّمُ الْغُيُوبِ }.

يقول تعالى ذكره: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون باللّه ورسوله سرّا، ويظهرون الإيمان بهما لأهل الإيمان بهما جهرا، أن اللّه يعلم سرّهم الذي يسرونه في أنفسهم من الكفر به ربرسوله،

وَنَجْوَاهُمْ

يقول: ونجواهم إذا تناجوا بينهم بالطعن في الإسلام وأهله وذكرهم بغير ما ينبغي أن يذكروا به، فيحذروا من اللّه عقوبته أن يحلها بهم وسطوته أن يوقعها بهم على كفرهم باللّه وبرسوله وعيبهم للإسلام وأهله، فنزعوا عن ذلك ويتوبوا منه.

وأنّ اللّه عَلاّمُ الغُيُوبِ

يقول: ألم يعلموا أن اللّه علام ما غانهم بالطعن في الإسلام وأهله وذكرهم بغير ما ينبغي أن يذكروا به، فيحذروا من اللّه عقوبته أن يحلها بهم وسطوته أن يوقعها بهم على كفرهم باللّه وبرسوله وعيبهم للإسلام وأهله، فنزعوا عن ذلك ويتوبوا منه.

وأنّ اللّه عَلاّمُ الغُيُوبِ

يقول: ألم يعلموا أن اللّه علام ما غاب يقول تعالى ذكره: الذين يلمزون المطوّعين في الصدقة على أهل المسكنة والحاجة، بما لم يوجبه اللّه عليهم في أموالهم، ويطعنون فيها عليهم بقوله م: إنما تصدّقوا به رياء وسمعة، ولم يريدوا وجه اللّه ،

٧٩

و يلمزون الذين لا يجدون ما يتصدّقون به إلا جهدهم، وذلك طاقتهم، فينتقصونهم ويقولون: لقد كان اللّه عن صدقة هؤلاء غنيّا سخرية منهم ربهم.

فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّه مِنْهُمْ وقد بينا صفة سخرية اللّه بمن يسخر به من خلقه في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا.

وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ

يقول: ولهم من عند اللّه يوم القيامة عذاب موجع مؤلم.

وذُكر أن المعنيّ ب قوله: المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنينَ عبد الرحمن بن عوف، وعاصم بن عديّ الأنصاري، وأن المعنيّ ب قوله: والّذِينَ لا يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ أبو عقيل الأراشي أخو بني أنيف. ذكر من قال ذلك:

١٣٢٩١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: والّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: واللّه ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء وقالوا: إن كان اللّه ورسوله لغنيين عن هذا الصاع.

١٣٢٩٢ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ وَالّذِينَ لا يجدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم: أن اجْمَعُوا صَدَقَاتِكُمْ فجمع الناس صدقاتهم. ثم جاء رجل من أحوجهم بمنّ من تمر، فقال: يا رسول اللّه هذا صاع من تمر، بتّ ليلتي أجرّ بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما وأتيتك بالاَخر فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ينثره في الصدقات. فسخر منه رجال وقالوا: واللّه إن اللّه ورسوله لغنيان عن هذا، وما يصنعان بصاعك من شيء ثم إن عبد الرحمن بن عوف رجل من قريش من بني زهرة قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات؟ فقال: (لا) فقال عبد الرحمن بن عوف: إن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات. فقال له عمر بن الخطاب: أمجنون أنت؟ فقال: ليس بي جنون. فقال: أتعلم ما قلت؟ قال: نعم، مالي ثمانية آلاف: أما أربعة فأقرضها ربي، وأما أربعة آلاف فلي. فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (بَارَكَ اللّه لَكَ فِيما أمْسَكْتَ وَفِيما أعْطَيْتَ) وكره المنافقون فقالوا: واللّه ما أعطي عبد الرحمن عطيته إلا رياء وهم كاذبون، إنما كان به متطوعا. فأنزل اللّه عذره، وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر، فقال اللّه في كتابه: والّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصّدَقاتِ... الآية.

١٣٢٩٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف، فلمزه المنافقون، وقالوا: راءى. والّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ قال: رجل من الأنصار، آجر نفسه بصاع من تمر لم يكن له غيره، فجاء به فلمزوه، وقالوا: كان اللّه غنيّا عن صاع هذا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.

١٣٢٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ... الآية، قال: أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله، فتقرّب به إلى اللّه ، فلمزه المنافقون، فقالوا: ما أعطى ذلك إلا رياءً وسمعة فأقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له: حبحاب أبو عقيل، فقال: يا نبي اللّه ، بتّ أجر الجرير على صاعين من تمر: أما صاع فأمسكته لأهلي، وأما صاع فها هو ذا. فقال المنافقون: واللّه إن اللّه ورسوله لغنيان عن هذا فأنزل اللّه في ذلك القرآن: الّذِينَ يَلْمِزُونَ.. الآية.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ قال: تصدّق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله، وكان ماله ثمانية آلاف دينار، فتصدّق بأربعة آلاف دينار، فقال ناس من المنافقين: إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء فقال اللّه : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصّدَقاتِ وكان لرجل صاعان من تمر، فجاء بأحدهما، فقال ناس من المنافقين: إن كان اللّه عن صاع هذا لغنيّا فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون بهم، فقال اللّه : وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّه مِنْهُمْ ولَهُمْ عَذابّ ألِيمٌ.

١٣٢٩٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي، قال: حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (تَصَدّقُوا فإنّي أُرِيدُ أنْ أبْعَثَ بَعْثا) قال: فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول اللّه ، إن عندي أربعة آلاف: ألقين أقرضهما اللّه ، وألفين لعيالي. قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (بارَكَ اللّه لَكَ فِيما أعْطَيْتُ، وبَارَكَ لَكَ فِيما أمْسَكْتَ) فقال رجل من الأنصار: وإن عندي صاعين من تمر، صاعا لربي، وصاعا لعيالي قال: فلمز المنافقون، وقالوا: ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياءً وقالوا: أو لم يكن اللّه غنيّا عن صاع هذا فأنزل اللّه : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ... إلى آخر الآية.

١٣٢٩٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد. قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، في قوله: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ قال: أصاب الناس جهد شديد، فأمرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتصدّقوا، فجاء عبد الرحمن بأربعمائة أوقية، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اللّه م بارِكْ لَهُ فيما أمْسَكَ) فقال المنافقون: ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياءً وسمعه وقال: وجاء رجل بصاع من تمر، فقال: يا رسول اللّه آجرت نفسي بصاعين، فانطلقت بصاع منهما إلى أهلي وجئت بصاع من تمر. فقال المنافقون: إن اللّه غنيّ عن صاع هذا فأنزل اللّه هذه الآية: والّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّه مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ.

١٣٢٩٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ... الآية، وكان من المطّوّعين من المؤمنين في الصدقات: عبد الرحمن بن عوف، تصدّق بأربعة آلاف دينار وعاصم بن عدّي أخو بني عجلان. وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رغّب في الصدقة وحضّ عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدّق بأربعة آلاف درهم، وقام عاصم بن عدّي فتصدّق بمائة وسق من تمر. فلمزوهما وقالوا: ما هذا إلا رياء وكان الذي تصدّق بجهده أبو عقيل، أخو بني أنيف الأراشي حليف بني عمرو بن عوف، أتى بصاع من تمر، فأفرغه في الصدقة، فتضاحكوا به، وقالوا: إن اللّه لغنيّ عن صاع أبي عقيل.

١٣٢٩٨ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد اللّه ، قال: حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود، قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل قال أبو النعمان: كنا نعمل قال: فجاء رجل فتصدّق بشيء كثير، قال: وجاء رجل فتصدق بصاع تمر، فقالوا: إن اللّه لغنيّ عن صاع هذا فنزلت: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ.

١٣٢٩٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، قال: ثني خالد بن يسار، عن ابن أبي عقيل، عن أظبيه، قال: بتّ أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلّغون به، وجئت بالاَخر أتقرّب به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأخبرته، فقال: (انْثُرْهُ في الصّدَقَةِ) فسخر المنافقون منه وقالوا: لقد كان غنيّا عن الصدقة هذا المسكين فأنزل اللّه : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصّدَقاتِ... الاَيتين.

١٣٣٠٠ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا الجريري عن أبي السليل، قال: وقف على الحيّ رجل، فقال: ثني أبي أو عمي، فقال: شهدت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو

يقول: (مَنْ يَتَصَدّق اليَوْمَ بصَدَقَةٍ أشْهَدْ لَهُ بِها عِنْدَ اللّه يَوْمَ القِيامَةِ) . قال: وعليّ عمامة لي، قال: فنزعت لَوْثا أو ابن علية، قال: أخبرنا الجريري عن أبي السليل، قال: وقف على الحيّ رجل، فقال: ثني أبي أو عمي، فقال: شهدت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو

يقول: (مَنْ يَتَصَدّق اليَوْمَ بصَدَقَةٍ أشْهَدْ لَهُ بِها عِنْدَ اللّه يَوْمَ القِيامَةِ) . قال: وعليّ عمامة لي، قال: فنزعت لَوْثا أو ألقي بخطامها أو بزمامها. قال: فلمزه رجل جالس، فقال: واللّه إنه ليتصدّق بها ولهي خير منه فنظر إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ومِنْها) . يقول ذلك نبينا صلى اللّه عليه وسلم.

١٣٣٠١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك،

يقول: الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون، أبو خيثمة الأنصاريّ.

١٣٣٠٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني قال: حدثنا عامر بن يِساف اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه مالي ثمانية آلاف، جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل اللّه ، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (بارَكَ اللّه فِيما أعْطَيْتَ وَفِيما أمْسَكْتَ) وجاء رجل آخر فقال: يا رسول اللّه ، بتّ الليلة أجر الماء على صاعين، فأما أحدهما فتركت لعيالي، وأما الاَخر فجئتك به، اجعله في سبيل اللّه فقال: (بارَكَ اللّه فِيما أعْطَيْتَ وَفِيما أمْسَكْتَ) فقال ناس من المنافقين: واللّه ما أعطى عبد الرحمن إلا رياء وسمعة، ولقد كان اللّه ورسوله غنيين عن صاع فلان فأنزل اللّه : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ يعني عبد الرحمن بن عوف، والّذِينَ لاَ يَجِدُون إلاّ جُهْدَهُمْ يعني صاحب الصاع، فَيَسْخَرُونَ منْهُمْ سَخَرَ اللّه منْهُمْ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ.

١٣٣٠٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال ابن عباس: أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدقاتهم، وإذا عبد الرحمن بن عوف قد جاء بأربعة آلاف، فقال: هذا مالي أقرضه اللّه وقد بقي لي مثله فقال له: (بُورِكَ اللّه فِيما أعْطَيْتَ وَفِيما أمْسَكْتَ) فقال المنافقون: ما أعطي إلا رياء، وما أعطى صاحب الصاع إلا رياء، إن كان اللّه ورسوله لغنيين عن هذا وما يصنع اللّه بصاع من شيء؟

١٣٣٠٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ... إلى قوله: ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ قال: أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يتصدقوا، فقام عمر بن الخطاب فألقى مالاً وافرا، فأخذ نصفه قال: فجئت أحمل مالاً كثيرا، فقال له رجل من المنافقين: ترائي يا عمر؟ فقال عمر: أرائي اللّه ورسوله، وأما غيرهما فلا. قال: ورجل من الأنصار لم يكن عنده شيء، فآجر نفسه ليجر الجرير على رقبته بصاعين ليلته، فترك صاعا لعياله وجاء بصاع يحمله، فقال له بعض المنافقين: إن اللّه ورسوله عن صاعك لغنيان فذلك قول اللّه تبارك وتعالى: الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ هذا الأنصاري، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّه مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ.

وقد بينا معنى اللمز في كلام العرب بشواهده وما فيه من اللغة والقراءة فيما مضى وأما قوله: المُطّوّعِينَ فإن معناه: المتطوّعين، أدغمت التاء في الطاء، فصارت طاء مشددة، كما قيل: وَمَنْ يَطّوّعْ خَيْرا يعني يتطوّع. وأما الجهد فإن للعرب فيه لغتين، يقال: أعطاني من جُهده بضم الجيم، وذلك فيما ذكر لغة أهل الحجاز، ومن جَهْدٍ بفتح الجيم، وذلك لغة نجد. وعلى الضم قراءة الأمصار، وذلك هو الاختيار عندنا لإجماع الحجة من القرّاء عليه. وأما أهل العلم بكلام العرب من رواة الشعر وأهل العربية، فإنهم يزعمون أنها مفتوحة ومضمومة بمعنى واحد. وإنما اختلاف ذلك لاختلاف اللغة فيه كما اختلفت لغاتهم في الوُجد والوَجْد بالضم والفتح من (وجدت) .

ورُوي عن الشعبي في ذلك ما:

١٣٣٠٥ـ حدثنا أبو كريب. قال: حدثنا جابر بن نوح، عن عيسى بن المغيرة، عن الشعبيّ، قال: الجُهْد في العمل، والْجَهْد في القوت.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حفص، عن عيسى بن المغيرة، عن الشعبي، مثله.

قال: حدثنا ابن إدريس، عن عيسى بن المغيرة، عن الشعبيّ، قال: الجُهْد في العمل، والجَهْد في المعيشة.

٨٠

القول في تأويل قوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً ... }.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: ادع اللّه لهؤلاء المنافقين الذين وصف صفاتهم في هذه الاَيات بالمغفرة، أو لا تدع لهم بها. وهذا كلام خرج مخرج الأمر، وتأويله الخبر، ومعناه: إن استغفرت لهم يا محمد أو لم تستغفر لهم، فلن يغفر اللّه لهم.

وقوله: إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ

يقول: إن تسأل لهم أن تستر عليهم ذنوبهم بالعفو منه لهم عنها وترك فضيحتهم بها، فلن يستر اللّه عليهم، ولن يعفو لهم عنها ولكنه يفضحهم بها على رءوس الأشهاد يوم القيامة. ذلكَ بأنّهُمْ كَفَرُوا باللّه وَرَسُولِهِ يقول جلّ ثناؤه. هذا الفعل من اللّه بهم، وهو ترك عفوه لهم عن ذنوبهم، من أجل أنهم جحدوا توحيد اللّه ورسالة رسوله. وَاللّه لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ

يقول: واللّه لا يوفق للإيمان به وبرسوله من آثر الكفر به والخروج عن طاعته على الإيمان به وبرسوله.

ويُروى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه حين نزلت هذه الآية، قال: (لأَزِيدَنّ فِي الاِسْتِغْفار لَهُمْ على سَبْعِينَ مَرّةٍ) رجاء منه أن يغفر اللّه لهم، فنزلت سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ.

١٣٣٠٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول، قال لأصحابه: لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله. وهو القائل: لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ، فأنزل اللّه : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (لأَزِيدَنّ على السّبْعِينَ) فأنزل اللّه : سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فأبى اللّه تبارك وتعالى أن يغفر لهم.

١٣٣٠٧ـ حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن شباك، عن الشعبي، قال: دعا عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبيّ ابن سلولَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إلى جنازة أبيه، فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ أنْتَ؟) قال: حباب بن عبد اللّه بن أبيّ. فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (بَلْ أنْتَ عَبْدُ اللّه بْنُ عَبْدِ اللّه بْنِ أُبَيّ ابْنَ سَلُولَ، إنّ الحُبابَ هُوَ الشّيْطانُ) . ثم قال النبيّ عليه الصلاة والسلام: (إنّهُ قَدْ قِيلَ لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ، فأنا أسْتَغْفِرُ لَهُمْ سَبْعِينَ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِينَ) وألبسه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قميصه وهو عَرِقٌ.

١٣٣٠٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (سأزِيدُ على سَبْعِينَ اسْتِغْفارَةً) فأنزل اللّه في السورة التي يذكر فيها المنافقون: لَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ عزما.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.

قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن الشعبيّ، قال: لما ثقل عبد اللّه بن أبيّ، انطلق ابنه إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال له: إن أبي قد احتضر، فأحبّ أن تشهده وتصلي عليه فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (ما اسْمُكَ؟) قال: الحباب بن عبد اللّه ، قال: (بَلْ أنْتَ عَبْدُ اللّه بْنُ عَبْدِ اللّه بْنِ أُبيّ، إنّ الحبُابَ اسْمُ شَيْطانٍ) . قال: فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عَرِقٌ، وصلى عليه، ف

قيل له: أتصلي عليه وهو منافق؟ فقال: (إنّ اللّه قالَ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ وَلأسْتَغْفِرَنّ لَهُ سَبْعِينَ وسَبْعِين) . قال هشيم: وأشكّ في الثالثة.

١٣٣٠٩ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ... إلى قوله: القَوْمَ الفاسِقِينَ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلملمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: (أسْمَعُ رَبّي قَدْ رَخّصَ لِي فِيهِمْ، فَوَاللّه لأَسْتَغْفِرَنّ أكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرّةً، فَلَعَلّ اللّه أنْ يَغْفِرَ لَهُمْ) فقال اللّه من شدّة غضبه عليهم: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفِرْتَ لَهُمْ أمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ إنّ اللّه لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ.

١٣٣١٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ فقال نبيّ اللّه : (قَدْ خَيّرَنِي رَبّي فَلأَزِيدَنّهُمْ على سَبْعِينَ) فأنزل اللّه سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ... الآية،

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: لما نزلت: إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (لأَزِيدَنّ على سَبْعِينَ) فقال اللّه : سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ.

٨١

القول في تأويل قوله تعالى:{فَرِحَ الْمُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّه وَكَرِهُوَاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ ... }.

يقول تعالى ذكره: فرح الذين خلفهم اللّه عن الغزو مع رسوله والمؤمنين به وجهاد أعدائه بمقعدهم خِلافَ رَسُولِ اللّه

يقول: بجلوسهم في منازلهم خلاف رسول اللّه ،

يقول: على الخلاف لرسول اللّه في جلوسه ومقعده. وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلمأمرهم بالنفر إلى جهاد أعداء اللّه ، فخالفوا أمره وجلسوا في منازلهم.

وقوله: خِلاف مصدر من قول القائل: خالف فلان فلانا فهو يخالفه خلافا فلذلك جاء مصدره على تقدير فعال، كما يقال: قاتله فهو يقاتله قتالاً، ولو كان مصدرا من خلَفه، لكانت القراءة: (بمقعدهم خلف رسول اللّه ) ، لأن مصدر خلفه خلفٌ، لا خِلاف، ولكنه على ما بينت من أنه مصدر خالف، فقرىء: خِلافَ رَسُولِ اللّه وهي القراءة التي عليها قراءة الأمصار، وهي الصواب عندنا. وقد تأوّل بعضهم ذلك، بمعنى: بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، واستشهد على ذلك بقول الشاعر:

عَقَبَ الرّبِيعُ خِلافَهُمْ فَكأنمَابَسَطَ الشّوَاطِبُ بَيْنَهُنّ حَصِيرَا

وذلك قريب لمعنى ما قلنا، لأنهم قعدوا بعده على الخلاف له.

وقوله: وكَرِهُوا أنْ يُجاهِدُوا بأمُوَالِهِمْ وأنْفُسِهمْ فِي سَبِيلِ اللّه يقول تعالى ذكره: وكره هؤلاء المخلفون أن يغزوا الكفار بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه يعني : في دين اللّه الذي شرعه لعباده لينصروه، ميلاً إلى الدّعَة والخَفْض، وإيثارا للراحة على التعب والمشقة، وشُحّا بالمال أن ينفقوه في طاعة اللّه . وَقالُوا لا تَنْفِرُوا في الحَرّ وذلك أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم استنفرهم إلى هذه الغزوة، وهي غزوة تبوك في حرّ شديد، فقال المنافقون بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحرّ فقال اللّه لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: قل لهم يا محمد نار جهنم التي أعدّها اللّه لمن خالف أمره وعصى رسوله، أشدّ حرّا من هذا الحرّ الذي تتواصون بينكم أن لا تنفروا فيه.

يقول: الذي هو أشدّ حرّا أحرى أن يحذر ويتقي من الذي هو أقلهما أذى. لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ

يقول: لو كان هؤلاء المنافقون يفقهون عن اللّه وعظه ويتدبرون آي كتابه، ولكنهم لا يفقهون عن اللّه ، فهم يحذرون من الحرّ أقله مكروها وأخفه أذى، ويوافقون أشدّه مكروها وأعظمه على من يصلاه بلاء.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٣١١ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: فَرِحَ المُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهمْ خلافَ رَسُولِ اللّه ... إلى قوله: يَفْقَهُونَ، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجال: يا رسول اللّه ، الحرّ شديد ولا نستطيع الخروج، فلا تنفر في الحرّ فقال اللّه : قلْ نارُ جَهَنّمَ أشَدّ حَرّاالحرث، قال: حدثنا عبد اقال: حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره، قالوا: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حرّ شديد إلى تبوك، فقال رجل من بني سلمة: لا تنفروا في الحرّ فأنزل اللّه : قُلْ نارُ جَهَنّمَ... الآية.

١٣٣١٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ذكر قول بعضهم لبعض، حين أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالجهاد، وأجمع السير إلى تبوك على شدّة الحرّ وجدب البلاد، يقول اللّه جلّ ثناؤه: وَقَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الحرّ قُلْ نارُ جَهَنّمَ أشَدّ حَرّا.

٨٢

القول في تأويل قوله تعالى:{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }.

يقول تعالى ذكره: فرح هؤلاء المخلفون بمقعدهم خلاف رسول اللّه ، فليضحكوا فرحين قليلاً في هذه الدنيا الفانية بمقعدهم خلاف رسول اللّه ولهوهم عن طاعة ربهم، فإنهم سيبكون طويلاً في جهنم مكان ضحكهم القليل في الدنيا جَزَاءً

يقول: ثوابا منالهم على معصيتهم بتركهم النفر إذ استنفروا إلى عدوّهم وقعودهم في منازلهم خلاف رسول اللّه . بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ

يقول: بِما كانوا يجترحون من الذنوب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٣١٣ـ حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن أبي رزين: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرا قال: يقول اللّه تبارك وتعالى: الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا صاروا إلى الاَخرة بكوا بكاءً لا ينقطع، فذلك الكثير.

١٣٣١٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن منصور، عن أبي رزين، عن الربيع بن خثيم: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً قال: في الدنيا، وَلْيَبْكُوا كَثِيرا قال: في الاَخرة.

١٣٣١٥ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن ويحيى، قالا: حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين، في قوله: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرا قال: في الاَخرة.

١٣٣١٦ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصو، عن أبي رزين، أنه قال في هذه الآية: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرا قال: ليضحكوا في الدنيا قليلاً، وليبكوا في النار كثيرا، وقال في هذه الآية: وَإذا لا تُمَتّعُونَ إلاّ قَلِيلاً قال: أجلهم أحد هذين الحديثين رفعه إلى ربيع بن خثيم.

١٣٣١٧ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً قال: ليضحكوا قليلاً في الدنيا، وَلْيَبْكُوا كَثِيرا في الاَخرة في نار جهنم، جَزَاءً بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ.

١٣٣١٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً: أي في الدنيا، وَلْيَبْكُوا كَثِيرا: أي في النار. ذُكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: (وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرا) ذُكر لنا أنه نودي عند ذلك، أو

قيل له: لا تُقْنِط عبادي

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين، عن الربيع بن خثيم فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً قال: في الدنيا، وَلْيَبْكُوا كَثِيرا قال: في الاَخرة.

قال: حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً قال: في الدنيا فإذا صاروا إلى الاَخرة بكوا بكاءً لا ينقطع، فذلك الكثير.

١٣٣١٩ـ حدثنا عليّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرا قال: هم المنافقون والكفار الذين اتخذوا دينهم هزوا ولَعبا يقول اللّه تبارك وتعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً في الدنيا، وَلْيَبْكُوا كَثِيرا في النار.

١٣٣٢٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: فَلْيَضْحَكُوا في الدنيا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا يوم القيامة كَثِيرا. وقال: إنّ الّذِينَ أجْرَمُوا كانُوا مِنَ الّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ حتى بلغ: هَلْ ثُوّبَ الكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ.

٨٣

القول في تأويل قوله تعالى:{فَإِن رّجَعَكَ اللّه إِلَىَ طَآئِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ ...}.

يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: فإن ردّك اللّه يا محمد إلى طائفة من هؤلاء المنافقين من غزوتك هذه، فاستأذنوك للخروج معك في أخرى غيرها، فقل لهم: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعيَ عَدُوّا إنّكُمْ رَضِيُتمْ بالقُعُودِ أوّلَ مَرّةٍ وذلك عند خروج النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ

يقول: فاقعدوا مع الذين قعدوا من المنافقين خلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لأنكم منهم، فاقتدوا بهديهم واعملوا مثل الذي عملوا من معصية اللّه ، فإن اللّه قد سخط عليكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٢١ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رجل: يا رسول اللّه ، الحرّ شديد ولا نستطيع الخروج، فلا تنفر في الحرّ وذلك في غزوة تبوك، فقال اللّه : قُلْ نارُ جَهَنّمَ أشَدّ حَرّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فأمره اللّه بالخروج، فتخلف عنه رجال، فأدركتهم نفوسهم، فقالوا: واللّه ما صنعنا شيئا فانطلق منهم ثلاثة، فلحقوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فلما أتوه تابوا ثم رجعوا إلى المدينة، فأنزل اللّه : فَإنْ رَجَعَكَ اللّه إلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ... إلى قوله: وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هَلَكَ الّذِينَ تَخَلّفُوا) فأنْزَلَ اللّه عُذْرَهُمْ لَما تابُوا، فقال: لَقَدْ تابَ اللّه على النّبِيّ والمُهاجِرِينَ والأنْصَارِ... إلى قوله: إنّ اللّه هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ. وقال: إنّه بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.

١٣٣٢٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فإنْ رَجَعَكَ اللّه إلى طائِفَةٍ منْهُمْ... إلى قوله: فاقْعُدُوا مَعَ الخالفينَ: أي مع النساء. ذُكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين، فقيل فيهم ما قيل.

١٣٣٢٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ والخالفون: الرجال.

قال أبو جعفر: والصواب من التأويل في قوله الخالِفِينَ ما قال ابن عباس. فأما ما قال قتادة من أن ذلك النساء، فقول لا معنى له لأن العرب لا تجمع النساء إذا لم يكن معهنّ رجال بالياء والنون، ولا بالواو والنون. ولو كان معنيا بذلك النساء، لقيل: (فاقعدوا مع الخوالف) ، أو (مع الخالفات) ، ولكن معناه ما قلنا من أنه أريد به: فاقعدوا مع مرضى الرجال وأهل زمانتهم والضعفاء منهم والنساء. وإذا اجتمع الرجال والنساء في الخبر، فإن العرب تغلّب الذكور على الإناث، ولذلك قيل: فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ والمعنى ما ذكرنا. ولو وجّه معنى ذلك إلى: فاقعدوا مع أهل الفساد، من قولهم: خلف الرجال عن أهله يخلف خلوفا، إذا فسد، ومن قولهم: هو خلف سوء كان مذهبا. وأصله إذا أريد به هذا المعنى من قولهم خَلَف اللبن يخَلُف خلوفا إذا خَبُث من طول وضعه في السقاء حتى يفسد، ومن قولهم: خَلَف فَمُ الصائم: إذا تغيرت ريحه.

٨٤

القول في تأويل قوله تعالى:{وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ }.

يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: ولا تصلّ يا محمد على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك أبدا. وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ

يقول: ولا تتولّ دفنه وتقبره من قول القائل: قام فلان بأمر فلان: إذا كفاه أمره. إنّهُمْ كَفَرُوا باللّه يقول إنهم جحدوا توحيد اللّه ورسالة رسوله، وماتوا وهم خارجون من الإسلام مفارقون أمر اللّه ونهيه. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت حين صلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم على عبد اللّه بن أبيّ. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٢٤ـ حدثنا محمد بن المثنى وسفيان بن وكيع، وسوّار بن عبد اللّه ، قالوا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد اللّه قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، قال: جاء ابن عبد اللّه بن أبيّ ابن سلولَ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين مات أبوه، فقال: أعطني قميصك حتى أكفنه فيه، وصلّ عليه واستغفر له فأعطاه قميصه، وقال: (إذَا فَرَغْتُمْ فَآذِنُونِي) فلما أراد أن يصلي عليه، جذبه عمر وقال: أليس قد نهاك اللّه أن تصلي على المنافقين؟ فقال: (بَلْ خَيّرَنِي وقالَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفرْ لَهُمْ) قال: فصلي عليه. قال: فأنزل اللّه تبارك وتعالى: وَلا تُصَلّ على أحَدٍ منْهُمْ ماتَ أبَدا وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ قال: فترك الصلاة عليهم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبيد اللّه ، عن ابن عمر، قال: لما توفي عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول، جاء ابنه عبد اللّه إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه. ثم سأله أن يصلي عليه. فقام عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فأخذ بثوب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال ابنَ سلول أتصلي عليه وقد نهاك اللّه أن تصلي عليه؟ فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّمَا خَيّرَنِي رَبّي، فقالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ وسأزِيدُ على سَبْعِينَ) . فقال: إنه منافق فصلى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه : وَلا تُصَلّ على أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ.

١٣٣٢٥ـ حدثنا سوار بن عبد اللّه العنبريّ، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن مجالد، قال: ثني عامر، عن جابر بن عبد اللّه ، أن رأس المنافقين مات بالمدينة، فأوصى أن يصلّى عليه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأن يكفن في قميصه. فكفنه في قميصه، وصلى عليه، وقام على قبره، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: وَلا تُصَلّ على أحَدٍ منْهُمْ ماتَ أبَدا وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ.

١٣٣٢٦ـ حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سلمة، عن يزيد الرّقاشيّ، عن أنس: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أراد أن يصلي علي عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول، فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال: وَلا تُصَلّ على أحَدٍ منْهُمْ ماتَ أبَدا وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ.

١٣٣٢٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر، قال: جاء النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن أبيّ وقد أدخل حفرته، فأخرجه، فوضعه على ركبتيه وألبسه قميصه وتفل عليه من ريقه، واللّه أعلم.

١٣٣٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهريّ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود، عن عبد اللّه بن عباس، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه

يقول: لما توفي عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول، دُعي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للصلاة عليه، فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة، تحوّلت حتى قمت في صدره، فقلت: يا رسول اللّه ، أتصلي على عدوّ اللّه عبد اللّه بن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا، أعدّد أيامه، ورسول اللّه عليه الصلاة والسلام يتبسمّ. حتى إذا أكثرت عليه، قال: (اخّرْ عَنّيِ يا عُمَرُ إنّي خُيّرْتُ فاخْتَرْتُ، وَقَدْ قِيلَ لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لهم فلو أني أعلم أنين إن زدت على السبعين غفر له لزدت) قال ثم صلى عليه ومشى معه فقام على حتى نزلت هانان الاَيتان أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا فما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه اللّه .

١٣٣٢٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: لما مات عبد اللّه بن أبيّ، أتي ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فسأله قميصه، فأعطاه، فكفّن فيه أباه.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، عن عبد اللّه بن عباس، عن عمر بن الخطاب، قال: لما مات عبد اللّه بن أبيّ، فذكر مثل حديث ابن حميد، عن سلمة.

١٣٣٣٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَلا تُصَلّ على أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا، وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ... الآية، قال: بعث عبد اللّه بن أبيّ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو مريض ليأتيه، فنهاه عن ذلك عمر، فأتاه نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما دخل عليه قال نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أهْلَكَكَ حُبّ اليَهُودِ) . قال: فقال: يا نبيّ اللّه إني لم أبعث إليك لتؤنبني، ولكن بعثت إليك لتستغفر لي وسأله قميصه أن يكفن فيه، فأعطاه إياه، فاستغفر له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمات، فكفن في قميص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ونفث في جلده ودلاّه في قبره. فأنزل اللّه تبارك وتعالى: وَلا تُصَلّ على أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا... الآية. قال: ذكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلم في ذلك، فقال: (وَما يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي مِنَ اللّه أوْ رَبّي وَصَلاتي عَلَيْهِ؟ وإنّي لاَءَرْجُو أنْ يُسْلِمَ بِهِ ألْفٌ مِنْ قَوْمِهِ) .

١٣٣٣١ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: أرسل عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول وهو مريض إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فلما دخل عليه، قال له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (أهْلَكَكَ حُبّ يَهُودَ) . قال: يا رسول اللّه ، إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني. ثم سأله عبد اللّه أن يعطيه قميصه أن يكفن فيه، فأعطاه إياه وصلى عليه، وقام على قبره، فأنزل اللّه تعالى ذكره: وَلا تُصَلّ على أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا، وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ.

٨٥

القول في تأويل قوله تعالى:{وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنّمَا يُرِيدُ اللّه أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: ولا تعجبك يا محمد أموال هؤلاء المنافقين وأولادهم فتصلي على أحدهم إذا مات وتقوم على قبره من أجل كثرة ماله وولده، فإني إنما أعطيته ما أعطيته من ذلك لأعذّبه بها في الدنيا بالغموم والهموم، بما ألزمه فيها من المؤن والنفقات والزكوات وبما ينوبه فيها من الرزايا والمصيبات. وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ

يقول: وليموت فتخرج نفسه من جسده، فيفارق ما أعطيته من المال والولد، فيكون ذَلك حسرة عليه عند موته ووبالاً عليه حينئذ ووبالاً عليه في الاَخرة بموته، جاحدا توحيد اللّه ونبوّة نبينه محمد صلى اللّه عليه وسلم.

١٣٣٣٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن السديّ: وَتَزْهَقُ أنْفُسُهُمْ في الحياة الدنيا.

٨٦

القول في تأويل قوله تعالى:{وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّه وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مّعَ الْقَاعِدِينَ }.

يقول تعالى ذكره: وإذا أنزل عليك يا محمد سورة من القرآن، بأن يقال لهؤلاء المنافقين: آمِنُوا باللّه

يقول: صدّقوا باللّه وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ

يقول: اغزوا المشركين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطّوْلِ مِنْهُمْ

يقول: استأذنك ذوو الغنى والمال منهم في التخلف عنك والقعود في أهله وَقالُوا ذَرْنا

يقول: وقالوا لك: دعنا نكن ممن يقعد في منزله مع ضعفاء الناس ومرضاهم ومن لا يقدر على الخروج معك في السفر.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٣٣ـ حدثنا عليّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطّوْلِ قال: يعني أهل الغنى.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أُولُوا الطّوْلِ مِنْهُمْ يعني : الأغنياء.

١٣٣٣٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: وَإذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أنْ آمِنُوا باللّه وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطّوْلِ مِنْهُمْ كان منهم عبد اللّه بن أبيّ والجد بن قيس، فنعى اللّه ذلك عليهم.

٨٧

القول في تأويل قوله تعالى:{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ }.

يقول تعالى ذكره: رضي هؤلاء المنافقون الذين إذا قيل لهم: آمنوا باللّه وجاهدوا مع رسوله، استأذنك أهل الغنى منهم في التخلف عن الغزو والخروج معك لقتال أعداء اللّه من المشركين، أن يكونوا في منازلهم كالنساء اللواتي ليس عليهنّ فرض الجهاد، فهن قعود في منازلهنّ وبيوتهنّ. وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ

يقول: وختم اللّه على قلوب هؤلاء المنافقين، فهم لا يفقهون عن اللّه مواعظه فيتعظون بها. وقد بيّنا معنى الطبع وكيف الختم على القلوب فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٣٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: رَضُوا بأنْ يَكُونُوا مَعَ الخوَالِفِ قال: والخوالف: هنّ النساء.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: رَضُوا بأنْ يَكُونُوا مَعَ الخوَالِفِ يعني : النساء.

١٣٣٣٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حبوية أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية: رَضُوا بأنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ قال: النساء.

١٣٣٣٧ـ قال: حدثنا المحاربيّ، عن جويبر، عن الضحاك : مع الخوالف قال: مع النساء.

١٣٣٣٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: رَضُوا بأنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ أي مع النساء.

١٣٣٣٩ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة والحسن: رَضُوا بأنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ قالا: النساء.

١٣٣٤٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

١٣٣٤١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: رَضُوا بأنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ قال: مع النساء.

٨٨

القول في تأويل قوله تعالى: {لَـَكِنِ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.

يقول تعالى ذكره: لم يجاهد هؤلاء المنافقون الذين اقتصصت قصصهم المشركين، لكن الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم والذين صدّقوا اللّه ورسوله معه هم الذين جاهدوا المشركين بأموالهم وأنفسهم، فأنفقوا في جهادهم أموالهم وأتعبوا في قتالهم أنفسهم وبذلوها. وأولَئِكَ

يقول: وللرسول وللذين آمنوا معه الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم الخيرات، وهي خيرات الاَخرة، وذلك نساؤها وجناتها ونعيمها، واحدتها: خَيْرة، كما قال الشاعر:

وَلَقَدْ طَعَنْتُ مَجَامعَ الرّبلاَتِرَبلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ الملَكاتِ

والخيرة من كلّ شيء: الفاضلة. وأُولَئكَ هُمُ المُفْلحُونَ

يقول: وأولئك هم المخلدون في الجنات الباقون فيها الفائزون بها.

٨٩

القول في تأويل قوله تعالى:{أَعَدّ اللّه لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.

يقول تعالى ذكره: أعدّ اللّه لرسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم وللذين آمنوا معه جنات، وهي البساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار. خالدينَ فيهَا

يقول: لابثين فيها، لا يموتون فيها، ولا يظعنون عنها. ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ

يقول: ذلك النجاء العظيم والحظّ الجزيل.

٩٠

القول في تأويل قوله تعالى:{وَجَآءَ الْمُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الّذِينَ كَذَبُواْ اللّه وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره: وَجاءَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلمالمُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ ليُؤْذَنَ لَهُمْ في التخلف. وَقَعَدَ عن المجيء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والجهاد معه الّذِينَ كَذّبُوا اللّه وَرَسُولَهُ وقالوا الكذب، واعتذروا بالباطل منهم. يقول تعالى ذكره: سيصيب الذين جحدوا توحيد اللّه ونبوّة نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم منهم عذاب أليم.

فإن قال قائل: فكيف قيل: وَجَاءَ المُعَذّرُونَ وقد علمت أن المعذّر في كلام العرب إنما هو الذي يُعَذّر في الأمر، فلا يبالغ فيه ولا يُحكمه، وليست هذه صفة هؤلاء، وإنما صفتهم أنهم كانوا قد اجتهدوا في طلب ما ينهضون به مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عدوّهم، وحرصوا على ذلك، فلم يجدوا إليه سبيل، فهم بأن يوصفوا بأنهم قد أعذروا أولى وأحقّ منهم بأن يوصفوا بأنهم عذروا. إذا وصفوا بذلك.

فالصواب في ذلك من القراءة ما قرأه ابن عباس، وذلك ما:

١٣٣٤٢ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي حماد، قال: حدثنا بشر بن عمار، عن أبي روق عن الضحاك ، قال: كان ابن عباس يقرأ: وّجاء المُعْذِرُونَ مخففة، و

يقول: هم أهل العذر.

مع موافقة مجاهد إياه وغيره عليه؟ قيل: إن معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه، وإن معناه: وجاء المعتذرون من الأعراب ولكن التاء لما جاورت الذال أدغمت فيها، فصُيرتا ذالاً مشددة لتقارب مخرج إحداهما من الأخرى، كما قيل: يَذّكّرون في يتذكرون، ويذّكر في يتذكر. وخرجت العين من المعذرين إلى الفتح، لأن حركة التاء من المعتذرين وهي الفتحة نقلت إليها فحركت بما كانت به محركة، والعرب قد توجه في معنى الاعتذار إلى الإعذار، فتقول: قد اعتذر فلان في كذا، يعني : أعذر، ومن ذلك قول لبيد:

إلى الحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَيْكُماوَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كامِلاً فقدِ اعْتَذَرْ

فقال: فقد اعتذر، بمعنى: فقد أعذر.

على أن أهل التأويل، قد اختلفوا في صفة هؤلاء القوم الذين وصفهم اللّه بأنهم جاءوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معذّرين،

فقال بعضهم: كانوا كابين في اعتذارهم، فلم يعذرهم اللّه . ذكر من قال ذلك:

١٣٣٤٣ـ حدثني أبو عبيدة عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثني أبي، عن الحسين، قال: كان قتادة يقرأ: وجَاءَ المُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ قال: اعتذروا بالكتب.

١٣٣٤٤ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد: وجَاءَ المُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ قال نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا، فلم يعذرهم اللّه .

فقد أخبر من ذكرنا من هؤلاء أن هؤلاء القوم إنما كانوا أهل اعتذار بالباطل لا بالحقّ. فغير جائز أن يوصفوا بالإعذار إلا أن يوصفوا بأنهم أعذروا في الاعتذار بالباطل. فأما بالحقّ على ما قاله من حكينا قوله من هؤلاء، فغير جائز أن يوصفوا به. وقد كان بعضهم

يقول: إنما جاءوا معذرين غير جادّين، يعرضون ما لا يريدون فعله. فمن وجهه إلى هذا التأويل فلا كلفة في ذلك، غير أني لا أعلم أحدا من أهل العلم بتأويل القرآن وجّه تأويله إلى ذلك، فأستحبّ القول به.

وبعد، فإن الذي عليه من القراءة قرّاء الأمصار التشديد في الذال، أعني من قوله: المُعَذّرُونَ ففي ذلك دليل على صحة تأويل من تأوّله بمعنى الاعتذار لأن القوم الذين وصفوا بذلك لم يكلفوا أمرا عذروا فيه، وإنما كانوا فرقتين إما مجتهد طائع وإما منافق فاسق لأمر اللّه مخالف، فليس في الفريقين موصوف بالتعذير في الشخوص مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وإنما هو معذر مبالغ، أو معتذر. فإذا كان ذلك كذلك، وكانت الحجة من القرّاء مجمعة على تشديد الذال من (المذرين) ، علم أن معناه ما وصفناه من التأويل. وقد ذكر عن مجاهد في ذلك موافقة ابن عباس.

١٣٣٤٥ـ حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن الزبير، عن ابن عيينة، عن حميد، قال: قرأ مجاهد: (وَجاءَ المُعْذِرُونَ) مخففة، وقال: هم أهل العلم العذر.

١٣٣٤٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان المعذرون.

٩١

القول في تأويل قوله تعالى: {لّيْسَ عَلَى الضّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىَ الْمَرْضَىَ وَلاَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ ...}.

يقول تعالى ذكره: ليس على أهل الزمانة وأهل العجز عن السفر والغزو، ولا على المرضى، ولا على من لا يجد نفقة يتبلغ بها إلى مغزاه حرج، وهو الإثم

يقول: ليس عليهم إثم إذا نصحوا اللّه ولرسوله في مغيبهم عن الجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

ما عَلى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ يقول: ليس على من أحسن فنصح اللّه ورسوله في تخلفه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن جهاد معه لعذر يعذر به طريق يتطرّق عليه فيعاقب من قبله.

وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول: واللّه ساتر على ذنوب المحسنين، يتغمدها بعوفه لهم عنها، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها.

وذُكر أن هذه الآية نزلت في عائذ بن عمرو المزني. وقال بعضهم: في عبد اللّه بن مغفل. ذكر من قال نزلت في عائذ بن عمرو:

١٣٣٤٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: لَيْسَ على الضّعَفَاءِ ولاَ على المَرْضى وَلا على الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلّهِ ورَسُولِهِ نزلت في عائذ بن عمرو.

ذكر من قال نزلت في ابن مغفل:

١٣٣٤٨ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: لَيْسَ على الضّعَفاءِ وَلا على المَرْضَى... إلى قوله: حَزَنا أنْ لا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد اللّه بن مغفل المزني، فقالوا: يا رسول اللّه احملنا فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (وَاللّه ما أجِدُ ما أحْمِلكُمْ عَلَيْهِ) فتولوا ولهم بكاء، وعزّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا مَحملاً. فلما رأى اللّه حرصهم على محبته ومحبة رسوله، أنزل عذرهم في كتابه، فقال: لَيْسَ على الضّعَفاءِ وَلا على المَرْض ولا على الذين لا يجدون ما ينقفون حرج.

القول تعالى ذكره ولا سبيل أيضا على النفر الذين إذا ما جاءوك لتحملهم يسألونك الحُمْلان ليبلغوا إلى مغزاهم لجهاد أعداء اللّه معك يا محمد، قلت لهم: لا أجد حمولة أحملكم عليها تَوَلّوْا

يقول: أدبروا عنك، وأعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ حَزَنا وهم يبكون من حزن على أنهم لا يجدون ما ينفقون ويتحملون به للجهاد في سبيل اللّه .

وذكر بعضهم أن هذه الآية نزلت في نفر من مُزينة. ذكر من قال ذلك:

٩٢

١٣٣٤٩ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أجدُ ما أحْمِلكُمْ عَلَيْهِ قال: هم من مُزَينة.

حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قال: هم بنو مقرّن من مزينة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قراءة عن مجاهد في قوله: وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ... إلى قوله: حزَنَا أن لا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ قال: هم بنو مقرن من مزينة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قال: هم بنو مُقَرّن من مزينة.

١٣٣٥٠ـ قال: حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن عروة، عن ابن مغفل المزني، وكان أحد النفر الذين أنزلت فيهم: وَلا على الّذِينَ إذَا أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ... الآية.

١٣٣٥١ـ حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن الزبير، عن ابن عيينة، عن ابن جريج عن مجاهد، في قوله: تَوَلّوْا وأعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ حَزَنا قال: منهم ابن مُقَرّن. وقال سفيان: قال الناس: منهم عِرْباض بن سارية.

وقال آخرون: بل نزلت في عِرْباض بن سارية. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٥٢ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن مَعْدان، عن عبد الرحمن بن عمرو والسّلَمِي، وحُجْر بن حُجْر الكَلاعي، قالا: دخلنا على عِرْباض بن سارية، وهو الذي أنزل فيه: وَلا على الّذِينَ إذَا أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ... الآية.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، قال: حدثنا الوليد، قال: حدثنا ثور، عن خالد، عن عبد الرحمن بن عمرو، وحجر بن حجر بنحوه.

وقال آخرون: بل نزلت في نفر سبعة من قبائل شتى. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٥٣ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب وغيره، قال جاء ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستحملونه، فقال: (لا أجِدُ ما أحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فأنزل اللّه : وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ... الآية، قال: هم سبعة نفر من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير، ومن بنى واقف: حِرْميّ بن عمرو، ومن بني مازن بن النجار: عبد الرحمن بن كعب، يكنى أبا ليلى، ومن بني المُعلّى: سَلْمان بن صخر، ومن بني حارثة: عبد الرحمن بن يزيد أبو عبلة، وهو الذي تصدّق بعرضه فقبله اللّه منه، ومن بني سَلِمة: عمرو بن غنمة، وعبد اللّه بن عمرو المزني.

١٣٣٥٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله: وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ إلى قوله: حَزَنا وهم البكاءون كانوا سبعة، واللّه أعلم.

تابع : تفسير سورة التوبة

٩٣

القول في تأويل قوله تعالى:{إِنّمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّه عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }.

يقول تعالى ذكره: ما السبيل بالعقوبة على أهل العُذر يا محمد، ولكنها على الذين يستأذنوك في التخلف خلافك وترك الجهاد معك وهم أهل غنى وقوّة وطاقة للجهاد والغزو، نفاقا وشكّا في وعد اللّه ووعيده. رَضُوا بأنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ

يقول: رضوا بأن يجلسوا بعدك مع النساء وهنّ الخوالف خلفَ الرجال في البيوت، ويتركوا الغزو معك. وَطَبَعَ اللّه على قُلُوبِهمْ

يقول: وختم اللّه على قلوبهم بما كسبوا من الذنوب. فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ سوء عاقبتهم بتخلفهم عنك وتركهم الجهاد معك وما عليهم من قبيح الثناء في الدنيا وعظيم البلاء في الاَخرة.

٩٤

القول في تأويل قوله تعالى:

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاّ تَعْتَذِرُواْ لَن نّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبّأَنَا اللّه مِنْ أَخْبَارِكُمْ ...}.

يقول تعالى ذكره يعتذر إليكم أيها المؤمنون باللّه هؤلاء المتخلفون خلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، التاركون جهاد المشركين معكم من المنافقين بالأباطيل والكذب إذا رجعتم إليهم من سفركم وجهادكم قل لهم يا محمد: لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ

يقول: لن نصدقكم على ما تقولون. قَدْ نَبّأنا اللّه مِنْ أخْبارِكُمْ

يقول: قد أخبرنا اللّه من أخباركم، وأعلمنا من أمركم ما قد علمنا به كذبكم. وسَيَرى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ

يقول: وسيرى اللّه ورسوله فيما بعد عملكم، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه ثُمّ تُرَدّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشّهادةِ

يقول: ثم ترجعون بعد مماتكم إلى عالم الغيب والشهادة يعني الذي يعلم السرّ والعلانية الذي لا يخفى عليه بواطن أموركم وظواهرها. فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيخبركم بأعمالكم كلها سيئها وحسنها، فيجازيكم بها الحسن منها بالحسن والسيىء منها بالسيىء.

٩٥

القول في تأويل قوله تعالى:{سَيَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنّهُمْ رِجْسٌ ...}.

يقول تعالى ذكره: سيحلف أيها المؤمنون باللّه لكم هؤلاء المنافقون الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللّه ، إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ يعني : إذا انصرفتم إليهم من غزوكم، لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فلا تؤنبوهم. فأعْرِضُوا عَنْهُمْ يقول جل ثناؤه للمؤمنين: فدعوا تأنيبهم وخلوهم، وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق. إنّهُمْ رِجْسٌ ومَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ

يقول: إنهم نجس ومأواهم جهنم،

يقول: ومصيرهم إلى جهنم وهي مسكنهم الذي يأوونه في الاَخرة. جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسَبُونَ

يقول: ثوابا بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من معاصي اللّه . وذكر أن هذه الآية نزلت في رجلين من المنافقين قالا ما:

١٣٣٥٥ـ حدثنا به محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: سَيَحْلِفُون باللّه لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتَعْرِضُوا... إلى: بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قيل له: ألا تغزو بني الأصفر لعلك أن تصيب بنت عظيم الروم، فإنهم حِسَانٌ فقال رجلان: قد علمت يا رسول اللّه أن النساء فتنة، فلا تفتنا بهنّ، فأذن لنا فأذن لهما فلما انطلقا، قال أحدهما: إن هو إلا شحمة لأوّل آكل. فسار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولم ينزل عليه في ذلك شيء، فلما كان ببعض الطريق نزل عليه وهو على بعض المياه: لَوْ كَانَ عَرَضا قَرِيبا وسَفَرا قاصِدا لاتّبَعُوك وَلَكِنْ بَعُدَتُ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ، ونزل عليه: عَفا اللّه عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ، ونزل عليه: لا يَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ باللّه واليَوْمِ الاَخِرِ، ونزل عليه: إنّهُمْ رِجْسٌ وَمأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَاءً بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ فسمع ذلك رجل ممن غزا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأتاهم وهم خلفهم، فقال: تعلمون أن قد أنزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعدكم قرآن، قالوا: ما الذي سمعت؟ قال ما أدري، غير أني سمعت أنه

يقول: إنهم رجس، فقال رجل يدعى مخشيّا: واللّه لوددت أني أجلد مئة جلدة وأني لست معكم فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما جاء بك؟ فقال: وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تسفعه الريح وأنا في الكنّ، فأنزل اللّه عليه: وَمِنْهُمْ مَنُ يَقُولُ ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنى وَقالُوا لا تَنْفِرُوا في الحَرّ ونزل عليه في الرجل الذي قال: لوددت أني أجلد مئة جلدة، قول اللّه :لا يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ فقال رجل مع رسول اللّه : لئن كان هؤلاء كما يقولون ما فينا خير. فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال له: (أنت صاحب الكلمة التي سمعت؟) فقال: لا والذي أنزل عليك الكتاب فأنزل اللّه فيه: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِمْ وأنزل فيه: وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّه عَلِيمٌ بالظّالِمِينَ.

١٣٣٥٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك، أن عبد اللّه بن كعب، قال: سمعت كعب بن مالك

يقول: لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تبوك، جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى اللّه وصدقته حديثي. فقال كعب: واللّه ما أنعم اللّه عليّ من نعمة قَطّ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن اللّه قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي، شَرّ ما قال لأحد: سَيَحْلِفُونَ باللّه لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنّهُمْ رِجْسٌ وَمأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون... إلى قوله: فإنّ اللّه لا يَرْضَى عَن القَوْمِ الفاسِقِينَ.

٩٦

القول في تأويل قوله تعالى:{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنّ اللّه لاَ يَرْضَىَ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }.

يقول تعالى ذكره: يَحْلِفُ لَكُمْ أيها المؤمنون باللّه هؤلاء المنافقون اعتذارا بالباطل والكذب لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فإنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فإنّ اللّه لا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ

يقول: فإن أنتم أيها المؤمنون رضيتم عنهم وقبلتم معذرتهم، إذا كنتم لا تعلمون صدقهم من كذبهم، فإن رضاكم عنهم غير نافعهم عند اللّه لأن اللّه يعلم من سرائر أمرهم ما لا تعلمون، ومن خفيّ اعتقادهم ما تجهلون، وأنهم على الكفر بالله، يعني أنهم الخارجون من الإيمان إلى الكفر باللّه ومن الطاعة إلى المعصية.

٩٧

القول في تأويل قوله تعالى:{الأعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللّه عَلَىَ رَسُولِهِ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره: الأعراب أشدّ جحودا لتوحيد اللّه وأشدّ نفاقا من أهل الحضر في القرى والأمصار. وإنما وصفهم جل ثناؤه بذلك لجفائهم وقسوة قلوبهم وقلة مشاهدتهم لأهل الخير، فهم لذلك أقسى قلوبا وأقلّ علما بحقوق اللّه .

وقوله: وأجْدَرُ أنْ لا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّه على رَسُولِهِ

يقول: وأخلق أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله وذلك فيما قال قتادة: السّنَن.

١٣٣٥٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وأجّدَرُ ألاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّه على رَسُولِهِ قال: هم أقلّ علما بالسّنن.

١٣٣٥٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مُقَرّن عن الأعمش، عن إبراهيم، قال جلس أعرابي إلى زيد بن صُوْحان وهو يحدّث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال: واللّه إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني فقال زيد: وما يريبك من يدي، إنها الشّمال؟ فقال الأعرابي: واللّه ما أدري أليمينَ يقطعون أم الشمال؟ فقال زيد بن صُوحان: صدق اللّه : الأعْرَابُ أشَدّ كُفْرا وَنِفاقا وأجْدَرُ أنْ لا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّه على رَسُولِهِ.

وقوله: وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ

يقول: واللّه عليم بمن يعلم حدود ما أنزل على رسوله، والمنافق من خلقه والكافر منهم، لا يخفى عليه منهم أحد، حكيم في تدبيره إياهم، وفي حلمه عن عقابهم مع علمه بسرائرهم وخداعهم أولياءه.

٩٨

القول في تأويل قوله تعالى:{وَمِنَ الأعْرَابِ مَن يَتّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبّصُ بِكُمُ الدّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السّوْءِ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره: ومن الأعراب من يَعُدّ نفقته التي ينفقها في جهاد مشرك أو في معونة مسلم أو في بعض ما ندب اللّه إليه عباده مَغْرما يعني غُرْما لزمه لا يرجو له ثوابا ولا يدفع به عن نفسه عقابا. وَيَترَبّص بِكُمُ الدّوَائِرَ

يقول: وينتظرون بكم الدوائر أن تدور بها الأيام والليالي إلى مكروه ونفي محبوب، وغلبة عدوّ لكم. يقول اللّه تعالى ذكره: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ

يقول: جعل اللّه دائرة السوء عليهم، ونزول المكروه بهم لا عليكم أيها المؤمنون، ولا بكم، واللّه سميع لدعاء الداعين، عليم بتدبيرهم وما هو بهم نازل من عقاب اللّه وما هم إليه صائرون من أليم عقابه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٥٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول اللّه :ومِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَما وَيَتَرَبّصُ بِكُمُ الدّوَائِرَ قال: هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياء اتقاء أن يغزوا، أو يحاربوا، أو يقاتلوا، ويرون نفقتهم مَغْرما، إلا تراه

يقول: وَيَتَرَبّصُ بِكُمُ الدّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأ عامة أهل المدينة والكوفة: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ بفتح السين، بمعنى النعت للدائرة، وإن كانت الدائرة مضافة إليه، كقولهم: هو رجل السوء، وامرؤ الصدق، كأنه إذا فتح مصدر من قولهم: سؤته أسوءة سَوْءا ومساءة ومَسَائِيةً. وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض البصريين: (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوء) بضمّ السين كأنه جعله اسما، كما يقال عليه دائرة البلاء والعذاب. ومن قال: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوءِ فضمّ، لم يقل هذا رجل السّوء بالضمّ، والرجل السّوء، وقال الشاعر:

وكُنْتَ كَذِئْبَ السّوْءِ لَمّا رأى دَمابِصَاحِبِه يَوْما أحالَ عَلى الدّم

والصواب من القراءة في ذلك عندنا بفتح السين، بمعنى: عليهم الدائرة التي تسوءهم سَوْءا كما يقال هو رجلٌ صِدْقٌ على وجه النعت.

٩٩

القول في تأويل قوله تعالى:{وَمِنَ الأعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ...}.

يقول تعالى ذكره: ومن الأعراب من يصدق اللّه ويقرّ بوحدانيته وبالبعث بعد الموت والثواب والعقاب، وينوي بما ينفق من نفقة في جهاد المشركين وفي سفره مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلمقُرُباتٍ عِنْدَ اللّه القربات: جمع قُرْبة، وهو ما قربه من رضا اللّه ومحبته. وَصَلوَاتِ الرّسُولِ، يعني بذلك: ويبتغي بنفقة ما ينفق مع طلب قربته من اللّه دعاء الرسول واستغفاره له.

وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن من معاني الصلاة الدعاء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٦٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: وَصَلوَاتِ الرّسُولِ يعني استغفار النبيّ عليه الصلاة والسلام.

١٣٣٦١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ومِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللّه وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ قال: دعاء الرسول، قال: هذه ثنية اللّه من الأعراب.

١٣٣٦٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللّه واليَوْمِ الاَخِرِ قال: هم بنو مقرن من مزينة، وهم الذين قال اللّه فيهم: وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أجِدُ ما أحْمِلُكُمْ علَيْهِ تَوَلّوْا وأعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْع حَزَنا قال: هم بنو مُقَرن من مزينة.

١٣٣٦٣ـ قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قوله: الأعْرَابُ أشَدّ كُفْرا وَنِفاقا ثم استثنى فقال: وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللّه وَاليَوْمِ الاَخِرِ... الآية.

١٣٣٦٤ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا جعفر، عن البختري بن المختار العبدي، قال: سمعت عبد اللّه بن مُغَفّل قال: كنا عشرة ولد مُقَرّن، فنزلت فينا: وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللّه واليَوْمِ الاَخِرِ... إلى آخر الآية.

قال اللّه : أَلاَ إنهَا قُرْبةٌ لَهُمْ يقول تعالى ذكره: ألا إن صلوات الرسول قربة لهم من اللّه ، وقد يحتمل أن يكون معناه: ألا إن نفقته التي ينفقها كذلك قربة لهم عند اللّه . سَيُدْخِلُهُمُ اللّه في رحْمَتِهِ

يقول: سيدخلهم اللّه فيمن رحمه فأدخله برحمته الجنة، إن اللّه غفور لما اجترموا، رحيم بهم مع توبتهم وإصلاحهم أن يعذبهم.

١٠٠

القول في تأويل قوله تعالى:{وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ ...}.

يقول تعالى ذكره: والذين سبقوا الناس أولاً إلى الإيمان باللّه ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم، والأنصار الذين نصروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر باللّه ورسوله:

والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ يقول: والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان باللّه ورسوله والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، طَلَبَ رضا اللّه ، رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ.

واختلف أهل التأويل في المعنى ب قوله: والسّابِقُونَ الأوّلُونَ

فقال بعضهم: هم الذين بايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيعة الرضوان أو أدركوا. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٦٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، عن إسماعيل، عن عامر: والسّابِقُونَ الأوّلُونَ قال: من أدرك بيعة الرضوان.

قال: حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عامر، قال: المُهاجِرُونَ الأوّلُونَ من أدرك البيعة تحت الشجرة.

حدثنا ابن بشار، قال حدثنا يحيى، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: المُهاجِرُونَ الأوّلون الذين شهدوا بيعة الرضوان.

١٣٣٦٦ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان، عن مطرف، عن الشعبيّ، قال: المهاجرون الأوّلون: من كان قبل البيعة إلى البيعة فهم المهاجرون الأولون، ومن كان بعد البيعة فليس من المهاجرين الأوّلين.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل ومطرّف عن الشعبي، قال: السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.

١٣٣٦٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن داود، عن عامر، قال: فصل ما بين الهجرتين بيعة الرضوان، وهي بيعة الحُديبية.

حدثني المثنى، قال: أخبرنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ومطرّف، عن الشعبي، قال: هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عبثر أبو زبيد، عن مطرف، الشعبي، قال: المهاجرون الأوّلون: من أدرك بيعة الرضوان.

وقال آخرون: بل هم الذين صلوا القبلتين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٦٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن عثمان الثقفي، عن مولى لأبي موسى، عن أبي موسى، قال: المهاجرون الأوّلون: مَنْ صلى القبلتين مع النبي صلى اللّه عليه وسلم.

حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن مولى لأبي موسى، قال: سألت أبا موسى الأشعري، عن قوله: السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعا.

١٣٣٦٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي قتادة، قال: قلت لسعيد بن المسيب: لم سموا المهاجرين الأوّلين؟ قال: من صلى مع النبي صلى اللّه عليه وسلم القبلتين جميعا، فهو من المهاجرين الأوّلين.

١٣٣٧٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: المهاجرون الأوّلون: الذين صلوا القبلتين.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّبِ، قوله: السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعا.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عباس بن الوليد، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله.

١٣٣٧١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن بعض أصحابه، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، وعن أشعث، عن ابن سيرين في قوله: السّابِقُونَ الأوّلُونَ قال: هم الذين صلوا القبلتين.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن معاذ، قال: حدثنا ابن عون، عن محمد، قال: المهاجرون الأوّلون: الذين صلوا القبلتين.

١٣٣٧٢ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعا.

وأما الذين اتبعوا المهاجرون الأوّلين والأنصار بإحسان، فهم الذين أسلموا لله إسلامهم وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير. كما:

١٣٣٧٣ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب، قال: مرّ عمر برجل وهو يقرأ هذه الآية: السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصَارِ والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ قال: من أقرأك هذه الآية؟ قال أقرأنيها أبيّ بن كعب. قال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فأتاه فقال: أنت أقرأت هذا هذه الآية؟ قال نعم، قال: وسمعَتها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قال: لقد كنت أرانا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا. قال: وتصديق ذلك في أوّل الآية التي في أوّل الجمعة، وأوسط الحشر، وآخر الأنفال أما أوّل الجمعة: وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ، وأوسط الحشر: وَالّذِينَ جَاءُوا مِنَ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوانِنا الّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ، وأما آخر الأنفال: والّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وجَاهَدُوا مَعَكُمْ فأولَئِكَ مِنْكُمْ.

حدثنا أبو كريب، حدثنا الحسن بن عطية، قال: حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي، قال: مرّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ: السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصَارِ... حتى بلغ: وَرَضُوا عَنْهُ قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبيّ بن كعب. فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم، قال: أنت سمعَتها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أبيّ: بلى تصديق هذه الآية في أوّل سورة الجمعة: وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ... إلى: وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ، وفي سورة الحشر: وَالّذِينَ جَاءُوا مِنَ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوانِنا الّذِينَ سَبَقُونَا بالإِيمَانِ، وفي الأنفال: والّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وجَاهَدُوا مَعَكُمْ فأُلَئِكَ مِنْكُمْ... إلى آخر الآية.

ورُوِي عن عمر في ذلك ما:

١٣٣٧٤ـ حدثني به أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، عن حبيب بن الشهيد، وعن ابن عامر الأنصاري، أن عمر بن الخطاب قرأ: (السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارُ الّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ) فرفع (الأنصار) ولم يلحق الواو في (الذين) ، فقال له زيد بن ثابت: (والذين اتبعوهم بإحسان) ، فقال عمر: (الذين اتبعوهم بإحسان) . فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم فقال عمر: ائتوني بأبيّ بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك، فقال أبي: والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ فقال عمر: إذا نُتابع أبيّا.

والقراءة على خفض (الأنصار) عطفا بهم على (المهاجرين) . وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ: (الأنصارُ) بالرفع عطفا بهم على (السابقين) .

والقراءة التي لا أستجيز غيرها الخفض في (الأنصار) ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه، وأن السابق كان من الفريقين جميعا من المهاجرين والأنصار. وإنما قصد الخبر عن السابق من الفريقين دون الخبر عن الجميع، وإلحاق الواو في (الذين اتبعوهم بإحسان) ، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين جميعا، على أن التابعين بإحسان غير المهاجرين والأنصار. وأما السابقون فإنهم مرفوعون بالعائد من ذكرهم في قوله: رَضِي اللّه عَنْهُمْ ورضُوا عَنْهُ ومعنى الكلام: رضي اللّه عن جميعهم لما أطاعوه وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه وإيمانهم به وبنبيه عليه الصلاة والسلام، وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار يدخلونها خالدين فيها لابثين فيها أبدا لا يموتون فيها ولا يخرجون منها، ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ.

١٠١

القول في تأويل قوله تعالى:{وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ ...}.

يقول تعالى ذكره: ومن القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون، ومن أهل مدينتكم أيضا أمثالهم أقوام منافقون.

وقوله: مَرَدُوا على النّفاقِ يقول: مرنوا عليه ودربوا به، ومنه شيطان مارد ومريد: وهو الخبيث العاتي، ومنه قيل: تمرّد فلان على ربه: أي عتا ومرد على معصيته واعتادها.

وقال ابن زيد في ذلك، ما:

١٣٣٧٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَمِنْ أهْلِ المَدِينَةِ مَردُوا على النّفاقِ قال: أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الاَخرون.

١٣٣٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: وَمِنْ أهْلِ المَدِينَةِ مَردُوا على النّفاقِ أي لجّوا فيه وأبو غيره. لا تَعْلَمُهُمْ يقول لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: لا تعلم يا محمد أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة، ولكنا نحن نعلمهم. كما:

١٣٣٧٧ـ حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:

وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِن الأعْرَابِ مُنافِقُون... إلى قوله: نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ قال: فما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك قال نبيّ اللّه نوح عليه السلام: وما عِلْمِي بِمَا كانُوا يَعْمَلُون، وقال نبي اللّه شعيب عليه السلام: بَقِيّةُ اللّه خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنِينَ وما أنا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، وقال اللّه لنبيه عليه الصلاة والسلام: لا تَعْلَمُهُمْ نحْنُ نَعْلَمُهُمْ.

وقوله: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ

يقول: سنعذّب هؤلاء المنافقين مرّتين: إحداهما في الدنيا، والأخرى في القبر.

ثم اختلف أهل التأويل في التي في الدنيا ما هي

فقال بعضهم: هي فضيحتهم فضحهم اللّه بكشف أمورهم وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٧٨ـ حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، عن أبي مالك، عن ابن عباس، في قول اللّه :وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُون مِنْ أهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا على النّفاقِ... إلى قوله: عَذَابٍ عَظِيمٍ قال: قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة، فقال (اخْرُجْ يا فُلانُ فإنّكَ مُنافِقٌ اخْرُج يا فُلانُ فإنّك مُنافِقٌ) فأخرج من المسجد ناسا منهم فضحهم. فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد، فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة، وظنّ أن الناس قد انصرفوا واختبئوا هم من عمر، ظنوا أنه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد، فإذا الناس لم يصلوا، فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر، فقد فضح اللّه المنافقين اليوم فهذا العذاب الأوّل حين أخرجهم من المسجد، والعذاب الثاني: عذاب القبر.

١٣٣٧٩ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك: سَنُعَذّبُهم مَرّتَيْنِ قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخطب، فيذكر المنافقين فيعذّبهم بلسانه، قال: وعذاب القبر. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٨٠ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: القتل والسباء.

١٣٣٨١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ بالجوع، وعذاب القبر. قال: ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ يوم القيامة.

١٣٣٨٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا جعفر بن عون والقاسم ويحيى بن آدم، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: بالجوع والقتل، وقال يحيى: بالخوف والقتل.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: بالجوع والقتل.

١٣٣٨٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: بالجوع، وعذاب القبر.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: بالجوع والقتل.

وقال آخرون: معنى ذلك: سنعذّبهم عذابا في الدنيا وعذابا في الاَخرة. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٨٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ عذاب الدنيا وعذاب القبر. ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ ذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلاً من المنافقين، فقال: (سِتّة مِنْهم تَكْفِيكَهُمُ الدّبيلة، سِرَاجٌ مِنْ نَارِ جَهَنّم يأْخُذُ في كَتِفِ أحَدِهِمْ حتى يُفْضي إلى صَدْرِهِ، وسِتّة يموتون مَوْتا) ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رحمه اللّه كان إذا مات رجل يرى أنه منهم ونظر إلىَ حذيفة، فإن صلى عليه صلى عليه وإلا تركه. وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة: أنشدك اللّه أمنهم أنا؟ قال: لا والله، ولا أؤمن منها أحدا بعدك

١٣٣٨٥ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: عذاب الدنيا وعذاب القبر.

١٣٣٨٦ـ حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن العلاء، قالا: حدثنا بدل بن المحبر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: عذابا في الدنيا وعذابا في القبر.

١٣٣٨٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردونَ إلى عذاب النار.

وقال آخرون: كان عذابهم إحدى المرّتين مصائبهم في أموالهم وأولادهم، والمرّة الأخرى في جهنم. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٨٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: أما عذاب في الدنيا: فالأموال والأولاد، وقرأ قول اللّه :فَلا تُعْجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ إنّمَا يُرِيدُ اللّه لَيُعَذّبُهُمْ بِها فَي الحَياةِ الدّنْيا بالمصائب فيهم، هي لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر. قال: وعذاب في الاَخرة في النار. ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ قال: النار.

وقال آخرون: بل إحدى المرّتين: الحدود، والأخرى: عذاب القبر. ذكر ذلك عن ابن عباس من وجه غير مرضيّ.

وقال آخرون: بل إحدى المرّتين: أخذ الزكاة من أموالهم، والأخرى: عذاب القبر. ذُكر ذلك عن سليمان بن أرقم، عن الحسن.

وقال آخرون: بل إحدى المرّتين عذابهم بما يدخل عليهم من الغيظ في أمر الإسلام. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٨٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال: العذاب الذي وعدهم مرّتين فيما بلغني عنهم ما هم فيه من أمر الإسلام وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة، ثم عذابهم في القبر إذ صاروا إليه، ثم العذاب العظيم الذي يردّونَ إليه عذاب الاَخرة ويخلدون فيه.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن اللّه أخبر أنه يعذب هؤلاء الذين مردوا على النفاق مرّتين، ولم يضع لنا دليلاً نتوصل به إلى علم صفة ذينك العذابين وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم، وليس عندنا علم بأيّ ذلك من بأيّ. على أن في قوله جلّ ثناؤه: ثُمّ يِرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ دلالة على أن العذاب في المرّتين كلتيهما قبل دخولهم النار، والأغلب من إحدى المرّتين أنها في القبر.

وقوله: ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ

يقول: ثم يردّ هؤلاء المنافقون بعد تعذيب اللّه إياهم مرّتين إلى عذاب عظيم، وذلك عذاب جهنم.

١٠٢

القول في تأويل قوله تعالى:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيّئاً عَسَى اللّه أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّه غَفُورٌ رّحِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره: ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق، ومنهم آخرون اعترفوا بذنوبهم،

يقول: أقرّوا بذنوبهم. خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا يعني جل ثناؤه بالعمل الصالح الذي خلطوه بالعمل السيىء: اعترافهم بذنوبهم وتوبتهم منها، والاَخر السيىء هو تخلفهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين خرج غازيا، وتركهم الجهاد مع المسلمين،

فإن قال قائل: وكيف قيل: خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا، وإنما الكلام: خلطوا عملاً صالحا بآخر سيىء؟ قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك، فكان بعض نحويي البصرة

يقول: قيل ذلك كذلك، وجائز في العربية أن يكون بآخر كما تقول: استوى الماء والخشبة أي بالخشبة، وخلطت الماء واللبن. وأنكر آخرون أن يكون نظير قولهم: استوى الماء والخشبة. واعتلّ في ذلك بأن الفعل في الخلط عامل في الأول والثاني، وجائز تقديم كلّ واحد منهما على صاحبه، وأن تقديم الخشبة على الماء غير جائز في قولهم: استوى الماء والخشبة، وكان ذلك عندهم دليلاً على مخالفة ذلك الخلط.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنه بمعنى قولهم: خلطت الماء واللبن، بمعنى خلطته باللبن.

عَسَى اللّه أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يقول: لعلّ اللّه أن يتوب عليهم. وعسى من اللّه واجب، وإنما معناه: سيتوب اللّه عليهم، ولكنه في كلام العرب على ما وصفت.

إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول: إن اللّه ذو صفح وعفو لمن تاب عن ذنوبه وساتر له عليها رحيم أن يعذّبه بها.

وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الآية والسبب الذي من أجله أنزلت فيه،

فقال بعضهم: نزلت في عشرة أنفس كانوا تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، منهم أبو لبابة، فربط سبعة منهم أنفسهم إلى السواري عند مقدم النبي صلى اللّه عليه وسلم توبة منهم من ذبنهم. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٩٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضر رجوع النبي صلى اللّه عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممرّ النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم، فلما رآهم قال: (مَنْ هَؤُلاَءِ المُوَثّقُونَ أنْفُسَهُمْ بالسّواري؟) قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول اللّه حتى تطلقهم وتعذرهم. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وأنا أُقْسِمُ باللّه لا أُطْلِقُهُمْ وَلا أَعْذِرُهُمْ حتى يَكُونَ اللّه هُوَ الّذِي يُطْلِقَهُمْ رَغِبُوا عَنّي وَتَخَلّفُوا عَنِ الغَزْوِ مَعَ المُسْلِمِينَ) فلما بلغهم ذلك، قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون اللّه الذي يطلقنا فأنزل اللّه تبارك وتعالى: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا عَسَى اللّه أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وعسى من اللّه واجب. فلما نزلت. أرسل إليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأطلقهم وعذرهم.

وقال آخرون: بل كانوا ستة، أحدهم أبو لبابة، ذكر من قال ذلك:

١٣٣٩١ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا عَسَى اللّه ... إلى قوله: إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غزا غزوة تبوك، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم. ثم إن أبا لُبابة ورجلين معه تفكروا وندموا وأيقنوا بالهَلَكة، وقالوا: نكون في الكنّ والطمأنينة مع النساء، ورسول اللّه والمؤمنون معه في الجهاد؟ واللّه لنوثِقنّ أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو يطلقنا ويعذرنا فانطلق أبو لبابة وأوثق نفسه ورجلان معه بسواري المسجد، وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم. فرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوته، وكان طريقه في المسجد، فمرّ عليهم فقال: (مَنْ هَولاءِ المُوثِقُو أنْفُسِهِمْ بالسّواري؟) فقالوا: هذا أبو لُبابة وأصحاب له تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فعاهدوا اللّه أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم، وقد اعترفوا بذنوبهم. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (واللّه لا أُطْلِقُهُمْ حتى أُومَر بإطْلاقِهِمْ، ولا أعْذِرهُمْ حتى يَكُونَ اللّه هُو يَعْذُرُهُمْ، وقَدْ تَخَلّفُوا عَنّي وَرَغِبُوا بأنْفُسِهِمْ عَنْ غَزْوِ المُسْلِمِينَ وَجِهَادِهِمْ) فأنزل اللّه برحمته: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا عَسَى اللّه أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ وعسى من اللّه واجب. فلما نزلت الآية أطلقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعذرهم، وتجاوز عنهم.

وقال آخرون: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري كانوا ثمانية. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٩٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا عَسَى اللّه أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ قال: هم الثمانية الذين ربطوا أنفسهم بالسواري، منهم كَرْدم ومِرْداس وأبو لْبابة.

١٣٣٩٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري: هلال، أبو لُبابة، وكَردم، ومِرْداس، وأبو قيس.

وقال آخرون: كانوا سبعة. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا عَسَى اللّه أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ذُكر لنا أنهم كانوا سبعة رَهْط تخلفوا عن غزوة تبوك، فأما أربعة فخلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا: جَدّ بن قيس، وأبو لُبابة، وحَرام، وأوس، وكلهم من الأنصار، وهم الذين قيل فيهم: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ... الآية.

١٣٣٩٥ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاوآخَرَ سَيّئا قال: هم نفر ممن تخلف عن تبوك: منهم أبو لَبابة، ومنهم جد بن قيس تِيبَ عليهم. قال قتادة: وليسوا بثلاثة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قال: هم سبعة، منهم أبو لبابة كانوا تخلفوا عن غزوة تبوك، وليسوا بالثلاثة.

١٣٣٩٦ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقو ل في قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا نزلا في أبي لبابة وأصحابه تخلفوا عن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك فلما قفل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوته، وكان قريبا من المدينة، ندموا على تخلفهم عن رسول اللّه ، وقالوا: نكون في الظلال والأطعمة والنساء، ونبيّ اللّه في الجهاد واللأواء؟ واللّه لنوثقنّ أنفسنا بالسواري ثم لا نطلقها حتى يكون نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم يطلقنا ويعذرنا وأوثقوا أنفسهم، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم، فقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوته، فمرّ في المسجد وكان طريقه، فأبصرهم، فسأل عنهم، ف

قيل له: أبو لبابة وأصحابه تخلفوا عنك يا نبيّ اللّه ، فصنعوا بأنفسهم ما ترى، وعاهدوا اللّه أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم. فقال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا أُطْلِقُهُمْ حتى أُومَرَ بإطْلاقِهِمْ، وَلا أعْذُرُهُمْ حتى يَعْذُرُهُمْ اللّه ، قَدْ رَغِبُوا بأنْفُسِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ المُسْلِمِينَ) . فأنزل اللّه : وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ... إلى: عَسَى اللّه أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وعسى من اللّه واجب. فأطلقهم نبي اللّه وعذرهم.

وقال آخرون: بل عُني بهذه الآية أبو لبابة خاصة وذنبه الذي اعترف به فتيب عليه منه ما كان من أمره في بني قريظة. ذكر من قال ذلك:

١٣٣٩٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قال: نزلت في أبي لبابة قال لبني قريظة ما قال.

١٣٣٩٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قال أبو لبابة إذ قال لقريظة ما قال، أشار إلى حلقه: إن محمدا ذابحكم إن نزلتم على حكم اللّه .

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ فذكره نحوه، إلا أنه قال: إن نزلتم على حكمه.

١٣٣٩٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: ربط أبو لبابة نفسه إلى سارية، فقال لا أحلّ نفسي حتى يحلني اللّه ورسوله قال: فحله النبي صلى اللّه عليه وسلم، وفيه أنزلت هذه الآية: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا... الآية.

١٣٤٠٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قال: نزلت في أبي لبابة.

وقال آخرون: بل نزلت في أبي لبابة بسبب تخلفه عن تبوك. ذكر من قال ذلك:

١٣٤٠١ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الزهري: كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية، فقال: واللّه لا أحلّ نفسي منها ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب اللّه عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خرّ مغشيّا عليه. قال: ثم تاب اللّه عليه، ثم

قيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة، فقال: واللّه لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يحلني قال: فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فحلّه بيده. ثم قال أبو لبابة: يا رسول اللّه إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى اللّه وإلى رسوله. قال: (يَجْزِيكَ يا أبا لُبابَةُ الثّلُثُ) .

وقال بعضهم: عني بهذه الآية الأعرابُ. ذكر من قال ذلك:

١٣٤٠٢ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا قال: فقال إنهم من الأعراب.

١٣٤٠٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حجاج بن أبي زينب، قال: سمعت أبا عثمان

يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ... إلى: إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتركهم الجهاد معه والخروج لغزو الروم حين شخص إلى تبوك، وأن الذين نزل فيهم جماعة أحدهم أبو لبابة،

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك، لأن اللّه جل ثناؤه قال: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم، ولم يكن المعترف بذنبه الموثق نفسه بالسارية في حصار قريظة غير أبي لبابة وحده. فإذا كان ذلك، وكان اللّه تبارك وتعالى قد وصف في قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ بالاعتراف بذنوبهم جماعة، علم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك السبب غير الواحد، فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذا لم تكن إلا لجماعة، وكان لا جماعة فعلت ذلك فيما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك صحّ ما قلنا في ذلك، وقلنا: كان منهم أبو لبابة لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.

١٠٣

القول في تأويل قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لّهُمْ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: يا محمد خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها صدقة تطهرهم من دنس ذنوبهم

وتُزَكّيهمْ بِها يقول: وتنميهم وترفعهم عن خسيس منازل أهل النفاق بها، إلى منازل أهل الإخلاص.

وَصَلّ عَلَيْهِمْ يقول: وادع لهم بالمغفرة لذنوبهم،

وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ منها.

إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يقول: إن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم بأن اللّه قد عفا عنهم وقبل توبتهم.

وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول: واللّه سميع لدعائك إذا دعوت لهم ولغير ذلك من كلام خلقه، عليم بما تطلب بهم بدعائك ربك لهم وبغير ذلك من أمور عباده.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٤٠٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: جاءوا بأموالهم يعني أبا لبابة وأصحابة حين أطلقوا فقالوا: يا رسول اللّه هذه أموالنا فتصدّق بها عنا واستغفر لنا قال: (ما أُمِرْتُ أن آخُذَ مِنْ أمْوَالِكُمْ شَيْئا) . فأنزل اللّه : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها يعني بالزكاة: طاعة اللّه والإخلاص.

وَصَلّ عَلَيْهِمْ يقول: استغفر لهم.

١٣٤٠٥ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما أطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا لبابة وصاحبيه، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم، فأتوا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: خذ من أموالنا فتصدق به عنا، وصلّ علينا يقولون: استغفر لنا وطهرنا. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا آخُذُ مِنْها شَيْئا حتى أُومَرَ) فأنزل اللّه : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها وَصَلّ عَلَيْهِمْ إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ

يقول: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا. فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جزءا من أموالهم، فتصدّق بها عنهم.

١٣٤٠٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم، قال: لما أطلق النبي صلى اللّه عليه وسلم أبا لبابة والذين ربطوا أنفسهم بالسواري، قالوا: يا رسول اللّه خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها فأنزل اللّه : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ... الآية.

١٣٤٠٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال: قال الذين ربطوا أنفسهم بالسواري حين عفا اللّه عنهم با نبيّ اللّه طهر أموالنا فأنزل اللّه : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها، وكان الثلاثة إذا اشتكى أحدهم اشتكى الاَخران مثله، وكان عمى منهم اثنان، فلم يزل الاَخر يدعوا حتى عمى.

١٣٤٠٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: الأربعة: جّد بن قيس، وأبو لبابة، وحرام، وأوس، وهم الذين قيل: فيهم: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها وَصَلّ عَلَيْهِمْ إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي وقار لهم. وكانوا وعدوا من أنفسهم أن ينفقوا ويجاهدوا ويتصدّقوا.

١٣٤٠٩ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك ، قال: لما أطلق نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا لبابة وأصحابه، أتوا نبيّ اللّه بأموالهم، فقالوا: يا نبيّ اللّه خذ من أموالنا فتصدّق به عنا، وطهرنا وصل علينا يقولون: استغفر لنا. فقال نبيّ اللّه : (لا آخُذُ مِنْ أمْوَالِكُمْ شَيْئا حتى أُومَرَ فِيها) . فأنزل اللّه عزّ وجلّ: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ من ذنوبهم التي أصابوا. وَصَلّ عَلَيْهِمْ

يقول: استغفر لهم. ففعل نبيّ اللّه عليه الصلاة والسلام ما أمره اللّه به.

١٣٤١٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً أبو لبابة وأصحابه.

وَصَلّ عَلَيْهِمْ يقول: استغفر لهم لذنوبهم التي كانوا أصابوا.

١٣٤١١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها وَصَلّ عَلَيْهِمْ إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ قال: هؤلاء ناس من المنافقين ممن كان تخلف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، اعترفوا بالنفاق وقالوا: يا رسول اللّه قد ارتبنا ونافقنا وشككنا، ولكن توبة جديدة وصدقة نخرجها من أموالنا فقال اللّه لنبيه عليه الصلاة والسلام: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها بعد ما قال: وَلا تُصَلّ عَلى أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ.

واختلف أهل العربية في وجه رفع (تزكيهم) ، فقال بعض نحويي البصرة: رفع (تزكيهم بها) في الابتداء وإن شئت جعلته من صفة الصدقة، ثم جئت بها توكيدا، وكذلك (تطهرهم) . وقال بعض نحويي الكوفة: إن كان قوله: تُطَهّرُهُمْ للنبيّ عليه الصلاة والسلام فالاختيار أن تجزم بأنه لم يعد على الصدقة عائد، وَتُزَكّيهِمْ مستأنف، وإن كانت الصدقة تطهرهم وأنت تزكيهم بها جاز أن تجزم الفعلين وترفعهما.

قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول أن قوله: تُطَهّرُهُمْ من صلة (الصدقة) ، لأن القرّاء مجمعة على رفعها، وذلك دليل على أنه من صلة الصدقة. وأما قوله: وَتُزَكّيهِم بها فخبر مستأنف، بمعنى: وأنت تزكيهم بها، فلذلك رفع.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: إنّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ

فقال بعضهم: رحمة لهم. ذكر من قال ذلك:

١٣٤١٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ

يقول: رحمة لهم.

وقال آخرون: بل معناه: إن صلاتك وقار لهم. ذكر من قال ذلك:

١٣٤١٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ: أي وقار لهم.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته قرّاء المدينة: (إنّ صَلَوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ) بمعنى دعواتك. وقرأ قرّاء العراق وبعض المكيين: إنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ بمعنى إن دعاءك. وكأن الذين قرءوا ذلك على التوحيد رأوا أن قراءته بالتوحيد أصحّ لأن في التوحيد من معنى الجمع وكثرة العدد ما ليس في قوله: (إنّ صَلَوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ) إذ كانت الصلوات هي جمع لما بين الثلاث إلى العشر من العدد دون ما هو أكثر من ذلك، والذي قالوا من ذلك عندنا كما قالوا. وبالتوحيد عندنا القراءة لا لعلة أن ذلك في العدد أكثر من الصلوات، ولكن المقصود منه الخبر عن دعاء النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وصلاته أنه سكن لهؤلاء القوم لا الخبر عن العدد، وإذا كان ذلك كذلك كان التوحيد في الصلاة أولى.

١٠٤

القول في تأويل قوله تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّ اللّه هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصّدَقَاتِ وَأَنّ اللّه هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ }.

وهذا خبر من اللّه تعالى ذكره أخبر المؤمنين به أن قبول توبة من تاب من المنافقين وأخذ الصدقة من أموالهم إذا أعطوها ليسا إلى نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأن نبيّ اللّه حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق اللّه عنهم حين أذن له في ذلك إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه صلى اللّه عليه وسلم، وأن ذلك إلى اللّه تعالى ذكره دون محمد، وأن محمدا إنما يفعل ما يفعل من ترك وإطلاق وأخذ صدقة وغير ذلك من أفعاله بأمر اللّه . فقال جلّ ثناؤه: ألم يعلم هؤلاء المتخلفون عن الجهاد مع المؤمنين الموثقو أنفسهم بالسواري، القائلون لا نطلق أنفسنا حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يطلقنا، السائلو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ الصدقة أموالهم أن ذلك ليس إلى محمد، وأن ذلك إلى اللّه ، وأن اللّه هو الذي يقبل من تاب عباده أو يردّها، ويأخذ صدقة من تصدق منهم، أو يردّها عليه دون محمد، فيوجهوا توبتهم وصدقتهم إلى اللّه ، ويقصدوا بذلك قصد وجهه دون محمد وغيره، ويخلصوا التوبة له ويريدوه بصدقتهم، ويعلموا أن اللّه هو التوّاب الرحيم؟

يقول: المرجع بعبيده إلى العفو عنه إذا رجعوا إلى طاعته، الرحيم بهم إذا هم أنابوا إلى رضاه من عقابه.

وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:

١٣٤١٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال الاَخرون، يعني الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء يعني الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون، فما لهم، فقال اللّه : إنّ اللّه هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويأْخُذُ الصّدَقَاتِ وأنّ اللّه هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ.

١٣٤١٥ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني رجل كان يأتي حمادا ولم يجلس إليه قال شعبة: قال العوّام بن حوشب: هو قتادة، أو ابن قتادة، رجل من محارب قال سمعت عبد اللّه بن السائب وكان جاره، قال: سمعت عبد اللّه بن مسعود

يقول: ما من عبد تصدّق بصدقة إلا وقعت في يد اللّه ، فيكون هو الذي يضعها في يد السائل. وتلا هذه الآية: هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويأْخُذُ الصّدَقَاتِ.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد اللّه بن السائب، عن عبد اللّه بن أبي قتادة المحاربي، عن عبد اللّه بن مسعود قال: ما تصدّق رجل بصدقة إلا وقعت في يد اللّه قبل أن تقع في يد السائل وهو يضعها في يد السائل. ثم قرأ: ألَمْ يَعْلَمُوا أنّ اللّه هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويأْخُذُ الصّدَقَاتِ.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن عبد اللّه بن السائب، عن عبد اللّه بن أبي قتادة، عن ابن مسعود، بنحوه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عبد اللّه بن السائب، عن عبد اللّه بن أبي قتادة، قال: قال عبد اللّه : إن الصدقة تقع في يد اللّه قبل أن تقع في يد السائل، ثم قرأ هذه الآية: هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويأْخُذُ الصّدَقَاتِ.

١٣٤١٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عباد بن منصور، عن القاسم، أنه سمع أبا هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ اللّه يَقْبَلُ الصّدَقَة، ويَأْخُذَها بِيَمينِهِ، فَيُرَبّيها لأحَدِكُمْ كمَا يُرَبّي أحَدُكُمْ مُهْرَهُ، حتى إنّ اللّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ وتصديق ذلك في كتاب اللّه : أن اللّه هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويأْخُذُ الصّدَقَاتِ و يَمْحَقُ اللّه الرّبا ويُرْبي الصّدَقاتِ) .

حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع الربى، قال: حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن عباد بن منصور، عن القاسم، عن أبي هريرة، ولا أراه إلا قد رفعه، قال: (إنّ اللّه يَقْبَلُ الصّدَقَةَ) ، ثم ذكر نحوه.

١٣٤١٧ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة قال: إن اللّه يقبل الصدقة إذا كانت من طيب، ويأخذها بيمينه، وإن الرجل يتصدّق بمثل اللقمة، فيربيها اللّه له، كما يربى أحدكم فصيله أو مهره، فتربو في كفّ اللّه أو قال في يد اللّه حتى تكون مثل الجبل.

١٣٤١٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ألَمْ يَعْلَمُوا أنّ اللّه هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويأْخُذُ الصّدَقَاتِ ذكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (والّذِي نَفْسُ محَمّد بِيَدِهِ، لا يَتَصَدّق رَجُلٌ بِصَدَقَة فَتَقَعَ فِي يَدِ السّائِلِ حتى تَقَعَ فِي يَدِ اللّه ) .

١٣٤١٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: وأن اللّه هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ يعني إن استقاموا.

١٠٥

القول في تأويل قوله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدّونَ إِلَىَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: وَقُلْ يا محمد لهؤلاء الذين اعترفوا لك بذنوبهم من المتخلفين عن الجهاد معك: اعْمَلُوا لله بما يرضيه من طاعته وأداء فرائضه،

فَسَيَرى اللّه عَمَلَكُم وَرَسُولُهُ

يقول: فسيرى اللّه إن عملتم عملكم، ويراه رسوله. وَالمُؤْمِنُونَ في الدنيا وَسَيُرَدّونَ يوم القيامة إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شيء من باطن أموركُمْ وظواهرها.

فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

يقول: فيخبركم بما كنتم تعملون، وما منه خالصا وما منه رياء وما منه طاعة وما منه لله معصية، فيجازيكم على ذلك كله جزاءكم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

١٣٤٢٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ قال: هذا وعيد.

١٠٦

القول في تأويل قوله تعالى:{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّه إِمّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المتخلفين عنكم شخصتم لعدوّكم أيها المؤمنون آخرون. ورفع قوله آخرون عطفا على قوله: وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا. وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ يعني مرجئون لأمر اللّه وقضائه، يقال منه أرجأته أرجئه إرجاءً وهو مُرْجَأٌ بالهمز وترك الهمز، وهما لغتان معناهما واحد، وقد قرأت القرّاء بهما جميعا. وقيل: عنى بهؤلاء الاَخرين نفر ممن كان تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، فندموا على ما فعلوا ولم يتعذروا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند مقدمه، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري، فأرجأ اللّه أمرهم إلى أن صحت توبتهم، فتاب عليهم وعفا عنهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٤٢١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: وكان ثلاثة منهم يعني من المتخلفين عن غزوة تبوك لم يوثقوا أنفسهم بالسواري أرجئوا سبتة لا يدرون أيعذّبون أو يتاب عليهم. فأنزل اللّه : لَقَدْ تَابَ اللّه على النّبِيّ وَالمْهاجِرِينَ... إلى قوله: إنّ اللّه هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ.

١٣٤٢٢ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية يعني قوله: خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أموالهم يعني من أموال أبي لبابة وصاحبيه فتصدّق بها عنهم، وبقي الثلاثة الذين خالفوا أبا لبابة، ولم يوثقوا، ولم يذكروا بشيء، ولم ينزل عذرهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت. وهم الذين قال اللّه : وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّه إمّا يُعَذّبُهُمْ وَإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّه عَلَيمٌ حَكِيمٌ فجعل الناس يقولون: هلكوا إذا لم ينزل لهم عذر وجعل آخرون يقولون: عسى اللّه أن يغفر لهم فصاروا مرجئين لأمر اللّه ، حتى نزلت: لَقَدْ تَابَ اللّه على النّبِيّ وَالمْهاجِرِينَ والأنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوه فِي ساعَة العُسْرَةِ الذين خرجوا معه إلى الشام مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تابَ عَلَيْهِمُ إنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. ثم قال: وَعلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا يعني المرجئين لأمر اللّه نزلت عليهم التوبة فعُمّوا بها، فقال: حتى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُمْ... إلى قوله: إنّ اللّه هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ.

١٣٤٢٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّه قال: هم الثلاثة الذين خلفوا.

١٣٤٢٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّه قال: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج.

قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

١٣٤٢٥ـ قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، مثله.

١٣٤٢٦ـ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّه هم الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة يريد غير أبي لبابة وأصحابه ولم ينزل اللّه عذرهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت. وكان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: هلكوا حين لم ينزل اللّه فيهم ما أنزل في أبي لبابة وأصحابه، وتقول فرقة أخرى: عسى اللّه أن يعفو عنهم وكانوا مرجئين لأمر اللّه . ثم أنزل اللّه رحمته ومغفرته، فقال: لَقَدْ تَابَ اللّه على النّبِيّ وَالمْهاجِرِينَ... الآية، وأنزل اللّه : وَعلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا... الآية.

١٣٤٢٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّه قال: كنا نُحَدّثُ أنهم الثلاثة الذين خلفوا: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، رهط من الأنصار.

١٣٤٢٨ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّه قال: هم الثلاثة الذين خلفوا.

١٣٤٢٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّه إمّا يُعَذّبُهُمْ وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وهم الثلاثة الذين خلوا، وأرجأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرهم حتى أتتهم توبتهم من اللّه .

وأما قوله: إمّا يُعَذّبُهُمْ فإنه يعني : إما أن يحجزهم اللّه عن التوبة بخذلانه إياهم فيعذّبهم بذنوبهم التي ماتوا عليها في الاَخرة. وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ

يقول: وإما يوفقهم للتوبة فيتوبوا من ذنوبهم، فيغفر لهم. واللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ

يقول: واللّه ذو علم بأمرهم وما هم صائرون إليه من التوبة والمقام على الذنب، حكيم في تدبيرهم وتدبير من سواهم من خلقه، لا يدخل حكمه خلل.

١٠٧

القول في تأويل قوله تعالى:

{وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لّمَنْ حَارَبَ اللّه ... }.

يقول تعالى ذكره: والذين ابتنوا مسجدا ضرارا، وهم فيما ذكرنا اثنا عشر نفسا من الأنصار. ذكر من قال ذلك:

١٣٤٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري ويزيد بن رومان، وعبد اللّه بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم، قالوا: أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلميعني من تبوك حتى نزل بذي أوان، بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول اللّه إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلَى لنا فيه فقال: (إنّي على جَناحِ سَفَر وَحالِ شُغْلٍ) أو كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(وَلَوْ قَدْ قَدِمْنا أتَيْناكُمْ إنْ شاءَ اللّه فَصَلّيْنَا لَكُمْ فِيهِ) . فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عديّ أو أخاه عاصم بن عديّ أخا بني العجلان، فقال: (انْطَلِقا إلى هَذَا المَسْجِدِ الظّالِمِ أهْلُهُ فاهْدِمَاهُ وَحَرّقاهُ) فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل، فأشعل فيه نارا، ثم خرجا يشتدّان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرّقاه وهدماه، وتفرّقوا عنه. ونزل فيهم من القرآن ما نزل: وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدا ضِرارا وكُفْرا إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وهو إلى بني أمية بن زيد، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف عمرو بن عوف، وجارية بن عامر وأبناه: مجمع بن جارية، وزيد بن جارية، ونبتل بن الحرث وهم من بني ضبيعة، وبَخْدَج وهو إلى بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت وهو إلى بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر..

فتأويل الكلام: والذين ابتنوا مسجدا ضرارا لمسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكفرا باللّه لمحادّتهم بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويفرّقوا به المؤمنين ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وبعضهم في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا. وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ

يقول: وإعدادا له، لأبي عامر الكافر الذي خالف اللّه ورسوله، وكفر بهما وقاتل رسول اللّه مِنْ قَبْلُ يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد. وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حَزّبَ الأحزاب، يعني حَزّبَ الأحزاب لقتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما خذله اللّه ، لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على نبيّ اللّه ، وكتب إلى أهل مسجد الضرار يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه فيما ذكر عنه ليصلي فيه فيما يزعم إذا رجع إليهم ففعلوا ذلك. وهذا معنى قول اللّه جلّ ثناؤه: وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنّ إنْ أرَدْنا إلاّ الحُسْنَى

يقول جلّ ثناؤه: وليحلفنّ بانوه إن أردنا إلا الحسنى ببنائناه إلا الرفق بالمسلمين والمنفعة والتوسعة على أهل الضعف والعلة وعن عجز عن المسير إلى مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للصلاة فيه. وتلك هي الفعلة الحسنة. واللّه يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكاذِبوُنَ في حلفهم ذلك، وقيلهم ما بنيناه إلا ونحن نريد الحسنى، ولكنهم بنوه يريدون ببنائه السوآى ضرارا لمسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكفرا باللّه وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لأبي عامر الفاسق.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٤٣١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم، واستعدوا بما استطعتم من قوّة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتُوا النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحبّ أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة. فأنزل اللّه فيه: لا تَقُمْ فِيهِ أبَدا لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ أحَقّ أنْ تَقُومَ فِيهِ... إلى قوله: واللّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ.

١٣٤٣٢ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وَتَفْريقا بينَ المُؤْمِنِينَ قال: لما بنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسجد قباء، خرج رجال من الأنصار منهم بخدج جدّ عبد اللّه بن حنيف، ووديعة بن حزام، ومجمع بن جارية الأنصاري، فبنوا مسجد النفاق، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لبخدج: (وَيْلَكْ ما أرَدْتَ إلى ما أرَى؟) فقال: يا رسول اللّه ، واللّه ما أردت إلا الحسنى وهو كاذب. فصدّقه رسول اللّه وأراد أن يعذره، فأنزل اللّه : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وتَفْرِيقا بينَ المُؤْمِنِينَ وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ يعني رجلاً منهم يقال له أبو عامر كان محاربا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان قد انطلق إلى هرقل، فكانوا يرصدون أبا عامر أن يصلي فيه، وكان قد خرج من المدينة محاربا لله ورسوله. وَلَيَحْلِفُنّ إنْ أرَدْنا إلاّ الحُسْنَى وَاللّه يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكاذِبُونَ.

١٣٤٣٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ قال: أبو عامر الراهب انطلق إلى قيصر، فقالوا: إذا جاء يصلي فيه. كانوا يرون أنه سيظهر على محمد صلى اللّه عليه وسلم.

١٣٤٣٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا قال المنافقون لمن حارب اللّه ورسوله لأبي عامر الراهب.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

١٣٤٣٥ـ قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وَتَفْرِيقا بينَ المُؤْمِنِينَ قال: نزلت في المنافقين.

وقوله: وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ قال: هو أبو عامر الراهب.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

١٣٤٣٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا قال: هم بنو غنم بن عوف.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا قال: هم حيّ يقال لهم بنو غنم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب عن سعيد بن جبير، في قوله: وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا قال: هم حيّ يقال لهم بنو غنم.

١٣٤٣٧ـ قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ أبو عامر الراهب انطلق إلى الشأم، فقال الذين بنوا مسجد الضرار: إنما بنيناه ليصلي فيه أبو عامر.

١٣٤٣٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا... الآية، عمد ناس من أهل النفاق، فابتنوا مسجدا بقباء ليضاهوا به مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم بعثوا إلى رسول اللّه ليصلي فيه. ذكر لنا أنه دعا بقميصه ليأتيهم حتى أطلعه اللّه على ذلك. وأما قوله: وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ فإنه كان رجلاً يقال له أبو عامر، فرّ من المسلمين فلحق بالمشركين فقتلوه بإسلامه، قال: إذا جاء صلى فيه، فأنزل اللّه : لا تَقُمْ فِيهِ أبَدا لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقُوَى... الآية.

١٣٤٣٩ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا هم ناس من المنافقين بنوا مسجدا بقباء يضارّون به نبيّ اللّه والمسلمين. وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ كانوا يقولون: إذا رجع أبو عامر من عند قيصر من الروم صلى فيه. وكانوا يقولون: إذا قدم ظهر على نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

١٣٤٤٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وتَفرِيقا بينَ المُؤْمِنِينَ وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ قال مسجد قباء، كانوا يصلون فيه كلهم، وكان رجل من رؤساء المنافقين يقال له أبو عامر أبو حنظلة غسيل الملائكة وضيفي وأخيه، وكان هؤلاء الثلاثة من خيار المسلمين. فخرج أبو عامر هاربا هو وابن بالين من ثقيف وعلقمة بن علاثة من قيس من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حتى لحقوا بصاحب الروم. فأما علقمة وابن بالين فرجعا فبايعا النبي صلى اللّه عليه وسلم وأسلما، وأما أبو عامر فتنصر وأقام. قال: وبنى ناس من المنافقين مسجد الضرار لأبي عامر، قالوا: حتى يأتي أبو عامر يصلي فيه وتفريقا بين المؤمنين يفرّقون بين جماعتهم لأنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء. وجاءوا يخدعون النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللّه ربما جاء السيل يقطع بيننا وبين الوادي ويحول بيننا وبين القوم فنصلي في مسجدنا فإذا ذهب السيل صلينا معهم قال: وبنوه على النفاق. قال: وأنهار مسجدهم على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال: وألقى الناس عليه النتن والقمامة. فأنزل اللّه : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وَتَفْرِيقا بينَ المُؤْمِنِينَ لئلا يصلي في مسجد قباء جميع المؤمنين، وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ أبي عامر، وَلَيَحْلِفُنّ إنْ أرَدْنَا إلاّ الحُسْنَى وَاللّه يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكَاذِبُونَ.

١٣٤٤١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن أبي جعفر، عن ليث: أن شقيقا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر، ف

قيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا بعد فقال: لا أُحِبّ أنْ أُصَلّيَ فِيهِ فإنّه بُنيَ على ضِرَار، وكلّ مسجد بني ضرارا أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بُني على ضرار.

١٠٨

القول في تأويل قوله تعالى:{لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقْوَىَ ...}.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: لا تقم يا محمد في المسجد الذي بناه هؤلاء المنافقون ضرارا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب اللّه ورسوله. ثم أقسم جل ثناؤه فقال: لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ أحَقّ أنْ تَقُومَ أنت فيه. يعني ب قوله: أُسّسَ على التّقْوَى ابتدىء أساسه وأصله على تقوى اللّه وطاعته من أوّل يوم ابتدىء في بنائه أحَقّ أنْ تَقُومَ فِيهِ

يقول: أولى أن تقوم فيه مصليا. وقيل: معنى قوله: مِنْ أوّلِ يَوْمٍ مبدأ أوّل يوم كما تقول العرب: لم أره من يوم كذا، بمعنى مبدؤه، ومن أوّل يوم يراد به من أول الأيام، كقول القائل: لقيت كلّ رجل، بمعنى كلّ الرجال.

واختلف أهل التأويل في المسجد الذي عناه: لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ

فقال بعضهم: هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي فيه منبره وقبره اليوم. ذكر من قال ذلك:

١٣٤٤٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن إبراهيم بن طهمان، عن عثمان بن عبيد اللّه ، قال: أرسلني محمد بن أبي هريرة إلى ابن عمر أسأله عن المسجد الذي أسس على التقوى، أيّ مسجد هو؟ مسجد المدينة، أو مسجد قباء؟ قال: لا، مسجد المدينة.

١٣٤٤٣ـ قال: حدثنا القاسم بن عمرو العنقزي، عن الدراوردي، عن عثمان بن عبيد اللّه ، عن ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد، قالوا: المسجد الذي أسس على التقوى: مسجد الرسول.

١٣٤٤٤ـ قال: حدثنا أبي، عن ربيعة بن عثمان، عن عثمان بن عبيد اللّه بن أبي رافع، قال: سألت ابن عمر عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: هو مسجد الرسول.

١٣٤٤٥ـ قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد، قال: هو مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم.

قال: حدثنا أبي، عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن ذكوان، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، عن زيد، قال: هو مسجد الرسول.

١٣٤٤٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا حميد الخراط المدني، قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن، قال: مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد، فقلت: كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال لي: أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدخلت عليه في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول اللّه ، أيّ مسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفّا من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: (هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا) هكذا سمعت أباك يذكره.

١٣٤٤٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، قال: المسجد الذي أسس على التقوى: هو مسجد النبيّ الأعظم.

١٣٤٤٨ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا داود، عن سعيد بن المسيب، قال: إن المسجد الذي أسس على التقوى من أوّل يوم، هو مسجد المدينة الأكبر.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن داود، قال: قال سعيد بن المسيب، فذكر مثله، إلا أنه قال: الأعظم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيب، قال: هو مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد قال: أحسبه عن أبيه قال: مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم الذي أسس على التقوى.

وقال آخرون: بل عني بذلك مسجد قباء، . ذكر من قال ذلك:

١٣٤٤٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ يعني مسجد قباء.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، نحوه.

١٣٤٥٠ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية: لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ هو مسجد قباء.

١٣٤٥١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن صالح بن حَيّان، عن ابن بريدة، قال: مسجد قباء الذي أُسّس على التقوى، بناه نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

١٣٤٥٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: المسجد الذي أسس على التقوى: مسجد قباء.

١٣٤٥٣ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير: الذين بني فيهم المسجد الذي أسس على التقوى، بنو عمرو بن عوف.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قالّ: هو مسجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم لصحة الخبر بذلك عن رسول اللّه . ذكر من قال ذلك:

١٣٤٥٤ـ حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قال أبو كريب: حدثنا وكيع، وقال ابن وكيع: حدثنا أبي، عن ربيعة بن عثمان التيمي، عن عمران بن أبي أنس رجل من الأنصار، عن سهل بن سعد، قال: اختلف رجلان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد الذي أسس في التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد النبيّ وقال الاَخر: هو مسجد قباء. فأتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فسألاه، فقال: (هُوَ مَسْجِدِي) . هذا اللفظ لحديث أبي كريب، وحديث سفيان نحوه.

١٣٤٥٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو نعيم، عن عبد اللّه بن عامر الأسلمي عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، عن أبيّ بن كعب: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس علي التقوى، فقال: (مَسْجِدِي هَذَا) .

١٣٤٥٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: ثني الليث، عن عمران بن أبي أنس، عن ابن أبي سعيد، عن أبيه، قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أوّل يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال آخر: هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه : (هُوَ مَسْجِدِي هَذَا) .

حدثني بحر بن نصر الخولاني، قال: قرىء على شعيب بن الليث، عن أبيه، عن عمران بن أبي أنس، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري، قال: تمارى رجلان، فذكر مثله.

١٣٤٥٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني سجل بن محمد بن أبي يحيى، قال: سمعت عمي أنيس بن أبي يحيى يحدّث، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (المَسْجِدُ الّذِي أُسّسَ على التّقْوَى مَسْجِدِي هَذَا، وفِي كُلّ خَيْرٌ) .

حدثني المثنى، قال: ثني الحماني، قال: حدثنا عبد العزيز، عن أنيس، عن أبيه، عن أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بنحوه.

١٣٤٥٨ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا صفوان بن عيسى، قال: أخبرنا أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد: أن رجلاً من بني خدرة ورجلاً من بني عمرو بن عوف امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال العوفي: هو مسجد قباء، فأتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم وسألاه، فقال: (هُوَ مَسْجِدِي هَذَا، وفي كُلّ خَيْرٌ) .

القول في تأويل قوله تعالى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّه يُحِبّ المُطّهّرِينَ.

يقول تعالى ذكره: في حاضري المسجد الذي أسس على التقوى من أوّل يوم رجال يحبون أن ينظفوا مقاعدهم بالماء إذا أتوا الغائط واللّه يحبّ المتطهرين بالماء.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٤٥٩ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن شهر بن حوشب قال: لما نزل: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما الطّهُورُ الّذِي أثْنَى اللّه عَلَيْكُمْ؟) قالوا: يا رسول اللّه نغسل أثر الغائط.

١٣٤٦٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأهل قباء: (إنّ اللّه قَدْ أحْسَنَ عَلَيْكُمْ الثّنَاءَ في الطّهُورِ، فَمَا تَصْنَعُونَ؟) قالوا: إنا نغسل عنا أثر الغائط والبول.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: لما نزلت: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ما هَذَا الطّهُورُ الّذِي أثْنَى اللّه عَلَيْكُمْ فِيهِ؟) قالوا: إنا نستطيب بالماء إذ جئنا من الغائط.

١٣٤٦١ـ حدثني جابر بن الكردي، قال: حدثنا محمدبن سابق، قال: حدثنا مالك بن مِغْول، عن سيار أبي الحَكَم، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد اللّه بن سلام، قال: قام علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (ألا أخْبِرُوني، فإنّ اللّه قَدْ أثُنَى عَلَيْكُمْ بالطّهُورِ خَيْرا) فقالوا: يا رسول اللّه إنا نجد عندنا مكتوبا في التوراة الاستنجاء بالماء.

حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن رافع، عن مالك بن مغول، قال: سمعت سيارا أبا الحكم غير مرّة، يحدّث عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد اللّه بن سلام، قال: لما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم على أهل قباء قال: (إنّ اللّه قَدْ أثْنَى عَلَيْكُمْ بالطّهُورِ خَيْرا) ، يعني قوله: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا قالوا: إنا نجده مكتوبا عندنا في التوراة: الاستنجاء بالماء.

حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: حدثنا يحيى بن رافع، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن سيار، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد اللّه بن سلام، قال: يحيى: ولا أعلمه إلا عن أبيه، قال: قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لأهل قباء: (إنّ اللّه قَدْ أثْنَى عَلَيْكُمْ في الطّهُورِ خَيْرا) قالوا: إنا نجده مكتوبا علينا في التوراة: الاستنجاء بالماء. وفيه نزلت: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا.

١٣٤٦٢ـ حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري، قال: حدثنا أبو أويس المدني، عن شرحبيل بن سعد، عن عويم بن ساعدة وكان من أهل بدر، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأهل قباء: (إنّي أسْمَع اللّه قَدْ أثْنَى عَلَيْكُمْ الثّنَاءَ في الطّهُورِ، فَمَا هَذَا الطّهُورِ؟) قالوا: يا رسول اللّه ما نعلم شيئا إلا أن جيرانا لنا من اليهود رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا.

١٣٤٦٣ـ حدثني محمد بن عمارة، قال: حدثنا محمد بن سعيد، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد، عن شرحبيل بن سعد قال: سمعت خزيمة بن ثابت

يقول: نزلت هذه الآية: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّه يحبّ المُطّهّرَينَ قال: كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط.

١٣٤٦٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أبي ليلى، عن عامر، قال: كان ناس من أهل قباء يستنجون بالماء، فنزلت: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّه يُحِبّ المُطّهّرَينَ.

١٣٤٦٥ـ حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا شبابة بن سوار، عن شعبة، عن مسلم القُرّي، قال: قلت لابن عباس: أصب على رأسي؟ وهو محرم قال: ألم تسمع اللّه

يقول: إنّ اللّه يُحِبّ التّوّابِينَ وَيُحِبّ المُتَطَهّرِينَ.

١٣٤٦٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حفص، عن داود بن أبي ليلى، عن الشعبي، قال: لما نزلت: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأهل قباء (ما هَذَا الّذِي أثْنَى اللّه عَلَيْكُمْ؟) قالوا: ما منا من أحد إلا وهو يستنجي من الخلاء.

١٣٤٦٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عبد الحميد المدني، عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعويم بن ساعدة: (ما هَذَا الّذِي أثْنَى اللّه عَلَيْكُمْ فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا واللّه يُحِبّ المُطّهّرِينَ؟) قال: نوشك أن نغسل الأدبار بالماء.

١٣٤٦٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن حصين، عن موسى بن أبي كثير، قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار من أهل قباء: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّه يُحِبّ المُطّهّرِينَ فسألهم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قالوا: نستنجي بالماء.

١٣٤٦٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أصبغ بن الفرج، قال أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن أبي الزناد، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف، ومعن بن عديّ من بني العجلان، وأبي الدحداح، فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا أنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: من الذين قال اللّه فيهم: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّه يُحِبّ المُطّهّرِينَ؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (نِعْمَ الرّجالُ مِنْهُمْ عُوَيْمَ بْنُ ساعِدَةَ) لم يبلغنا أنه سمى منهم رجلاً غير عويم.

١٣٤٧٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن هشام بن حسان، قال: حدثنا الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّه يُحِبّ المُطّهّرِينَ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما هَذَا الّذِي ذَكَرَكُمُ اللّه بِهِ في أمْرِ الطّهُورِ، فأثْنَى بِهِ عَلَيْكُمْ؟ قالوا: نغسل أثر الغائط والبول.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مالك بن مغول، قال: سمعت سيارا أبا الحكم يحدّث عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد اللّه بن سلام، قال: لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة، أو قال: قدم علينا رسول اللّه فقال: (إنّ اللّه قَدْ أثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطّهُورِ خَيْرا أفَلا تُخْبِرُونِي؟) قالوا: يا رسول اللّه ، إنا نجد علينا مكتوبا في التوراة: الاستنجاء بالماء. قال مالك: يعني قوله: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا.

١٣٤٧١ـ حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، قال: لما نزلت هذه الآية: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا سألهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما طُهُورُكُمْ هَذَا الّذِي ذَكَرَ اللّه ؟) قالوا: يا رسول اللّه كنا نستنجي بالماء في الجاهلية، فلما جاء الإسلام لم ندعه قال: (فَلا تَدَعُوهُ) .

١٣٤٧٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان في مسجد قباء رجال من الأنصار يوضئون سفَلتهم بالماء يدخلون النخل والماء يجري، فيتوضئون. فأثنى اللّه بذلك عليهم، فقال: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا... الآية.

١٣٤٧٣ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء، قال: أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء، فنزلت فيهم: فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّه يُحِبّ المُطّهّرِينَ.

وقيل: وَاللّه يُحِبّ المُطّهّرِينَ وإنما هو المتطهرين، ولكن أدغمت التاء في الطاء، فجعلت طاء مشددة لقرب مخرج إحداهما من الأخرى.

١٠٩

القول في تأويل قوله تعالى:

{أَفَمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ تَقْوَىَ مِنَ اللّه وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مّنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ...}.

اختلفت القرّاء في قراءة قوله: أفَمَنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل المدينة: (أفَمَنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللّه وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أمّنْ أُسّسَ بُنْيَانُهُ) على وجه ما لم يسمّ فاعله في الحرفين كليهما. وقرأت ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق:

أفَمَنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللّه وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أمّنْ أسّسَ بُنْيانَهُ على وصف من بناء الفاعل الذي أسس بنيانه. وهما قراءتان متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب غير أن قراءته بتوجيه الفعل إلى (من) إذا كان هو المؤسس أعجب إليّ.

فتأويل الكلام إذا: أي هؤلاء الذين بنوا المساجد خير أيها الناس عندكم الذين ابتدءوا بناء مسجدهم على اتقاء اللّه بطاعتهم في بنائه وأداء فرائضه ورضا من اللّه لبنائهم ما بنوه من ذلك وفعلهم ما فعلوه خير، أم الذين ابتدءوا بناء مسجدهم على شفا جرف هار، يعني ب قوله: على شَفا جُرُفٍ على حرف جر، والجُرُف من الركيّ ما لم يبن له جُول. هَارٍ يعني متهوّر، وإنما هو هائر ولكنه قلب، فأخرت ياؤها، فقيل هارٍ كما قيل: هو شاك السلاح وشائك، وأصله من هار يهور فهو هائر وقيل: هو من هَارَ يَهَارُ: إذا انهدم، ومن جعله من هذه اللغة قال: هَرْتَ يا جُرُفُ ومن جعله من هار يهور قال: هُرْتُ يا جُرُف وإنما هذا مثل. يقول تعالى ذكره: أيّ هذين الفريقين خير، وأيّ هذين البناءين أثبت، أمن ابتدأ أساس بنائه على طاعة اللّه وعلم منه بأن بناءه لله طاعة واللّه به راض، أم من ابتدأه بنفاق وضلال وعلى غير بصيرة منه بصواب فعله من خطئه، فهو لا يدري متى يتبين له خطأ فعله وعظيم ذنبه فيهدمه، كما يأتي البناء على جرف ركية لا حابس لماء السيول عنها ولغيره من المياه ترى به التراب متناثرا لا تلبثه السيول أن تهدمه وتنثره؟ يقول اللّه جلّ ثناؤه: فانْهَارَ بِهِ فِي جَهَنّمَ يعني فانتثر الجرف الهاري ببنائه في نار جهنم. كما:

١٣٤٧٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: فانهار به قواعده في نار جهنم.

١٣٤٧٥ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فانْهَارَ بِهِ

يقول: فخرّ به.

١٣٤٧٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: أفَمَنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللّه ، .. إلى قوله: فانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ قال: واللّه ما تناهى أن وقع في النار. ذُكر لنا أنه حفرت بقعة منه فرؤي منها الدخان.

١٣٤٧٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أن بنو عمرو بن عوف استأذنوا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في بنيانه، فأذن لهم ففرغوا منه يوم الجمعة فصلوا فيه الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد. قال: وانهار يوم الاثنين. قال: وكان قد استنظرهم ثلاثا: السبت والأحد والاثنين، فانهار به في نار جهنم، مسجد المنافقين انهار فلم يتناه دون أن وقع في النار. قال ابن جريج: ذكر لنا أن رجالاً حفروا فيه، فأبصروا الدخان يخرج منه.

١٣٤٧٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد اللّه الداناج، عن طلق ابن حبيب، عن جابر، قوله: وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدا ضِرَارا قال: رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان على عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم.

حدثنا محمد بن مرزوق البصري، قال: حدثنا أبو سلمة، قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد اللّه الداناج، قال: ثني طلق العنزي، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار.

١٣٤٧٩ـ حدثني سلام بن سالم الخزاعي، قال: حدثنا خلف بن ياسين الكوفي، قال: حججت مع أبي في ذلك الزمان يعني زمان بني أمية فمررنا بالمدينة، فرأيت مسجد القبلتين يعني مسجد الرسول وفيه قبلة بيت المقدس. فلما كان زمان أبي جعفر، قالوا: يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة، فهذا البناء الذي يرون جرى على يد عبد الصمد بن عليّ. ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره اللّه في القرآن، وفيه حجر يخرج منه الدخان، وهو اليوم مزبلة.

 قوله: وَاللّه لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ

يقول: واللّه لا يوفق للرشاد في أفعاله من كان بانيا بناءه في غير حقه وموضعه، ومن كان منافقا مخالفا بفعله أمر اللّه وأمر رسوله.

١١٠

القول في تأويل قوله تعالى:{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاّ أَن تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره: لا يزال بنيان هؤلاء الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا

رِيَبةً يقول: لا يزال مسجدهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم، يعني شكّا ونفاقا في قلوبهم، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين.

إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ يعني إلا أن تتصدّع قلوبهم فيموتوا، واللّه عليم بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار من شكهم في دينهم وما قصدوا في بنائهموه وأرادوه وما إليه صائر أمرهم في الاَخرة وفي الحياة ما عاشوا، وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم، حكيم في تدبيره إياهم وتدبير جميع خلقه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٤٨٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ يعني شكّا إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ يعني الموت.

١٣٤٨١ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال: شكّا في قلوبهم، إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ إلى أن يموتوا.

١٣٤٨٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ

يقول: حتى يموتوا.

١٣٤٨٣ـ حدثني مطر بن محمد الضبي، قال: حدثنا أبو قتيبة، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، في قوله: إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال: إلا أن يموتوا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال: يموتوا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال: يموتوا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

١٣٤٨٤ـ قال: حدثنا سويد، قال: حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة والحسن: لا يَزَالُ بُنْيانُهُمْ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قالا شكّا في قلوبهم.

١٣٤٨٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا إسحاق الرازي، قال: حدثنا أبو سنان، عن حبيب: لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال: غيظا في قلوبهم.

قال: حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال: يموتوا.

١٣٤٨٦ـ قال: حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي سنان، عن حبيب: إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ: إلا أن يموتوا.

١٣٤٨٧ـ قال: حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن السديّ: رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال: كفر. قلت: أكفر مجمّع ابن جارية؟ قال: لا، ولكنها حزازة.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن السدي: لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال: حزازة في قلوبهم.

١٣٤٨٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ لا يزال ريبةً في قلوبهم راضين بما صنعوا، كما حبب العجل في قلوب أصحاب موسى. وقرأ: وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قال: حبه. إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال: لا يزال ذلك في قلوبهم حتى يموتوا يعني المنافقين.

١٣٤٨٩ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا قيس، عن السديّ، عن إبراهيم: رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال: شكّا. قال: قلت يا أبا عمران تقول هذا وقد قرأت القرآن؟ قال: إنما هي حزازة.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ فقرأ ذلك بعض قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة: (إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ) بضمّ التاء من (تقطع) ، على أنه لم يسمّ فاعله، وبمعنى: إلا أن يقطع اللّه قلوبهم. وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والكوفة: إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ بفتح التاء من تقطّع على أن الفعل للقلوب. بمعنى: إلا أن تنقطع قلوبهم، ثم حذفت إحدى التاءين. وذكر أن الحسن كان يقرأ: (إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ) بمعنى: حتى تتقطع قلوبهم. وذكر أنها في قراءة عبد اللّه : (وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبهُمْ) وعلى الاعتبار بذلك قرأ من ذلك: (إلاّ أنْ تُقَطّعَ) بضم التاء.

والقول عندي في ذلك أن الفتح في التاء والضم متقاربا المعنى، لأن القلوب لا تتقطع إذا تقطعت إلا بتقطيع اللّه إياها، ولا يقطعها اللّه إلا وهي متقطعة. وهما قراءتان معروفتان قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب في قراءته. وأما قراءة من قرأ ذلك: (إلى أن تُقْطّعَ) ، فقراءة لمصاحف المسلمين مخالفة، ولا أرى القراءة بخلاف ما في مصاحفهم جائزة.

١١١

القول في تأويل قوله تعالى:{إِنّ اللّه اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه ...}.

يقول تعالى ذكره: إن اللّه ابتاع من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة وعدا عليه حقّا،

يقول: وعدهم الجنة جلّ ثناؤه، وعدا عليه حقّا أن يوفي لهم به في كتبه المنزّلة التوراة والإنجيل والقرآن، إذا هم وفوا بما عاهدوا اللّه فقاتلوا في سبيله ونصرة دينه أعداءه فَقَتلوا وقُتلوا وَمَنْ أوْفَى بِعَهدِهِ مِنَ اللّه

يقول جلّ ثناؤه: ومن أحسن وفاء بما ضمن وشرط من اللّه . فاسْتَبْشِرُوا يقول ذلك للمؤمنين: فاستبشروا أيها المؤمنون الذين صدقوا اللّه فيما عاهدوا بِبَيْعِكُمْ أنفسكم وأموالكم بالذي بعتموها من ربكم، فإن ذلك هو الفوز العظيم. كما:

١٣٤٩٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، قال: ما من مسلم إلا ولله في عنقه بيعة وفى بها أو مات عليها في قول اللّه :إنّ اللّه اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ... إلى قوله: وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ثم حَلاّهم فقال: التّائِبُونَ العابِدُونَ... إلى: وَبَشّرِ المُوءْمِنِينَ.

١٣٤٩١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: إنّ اللّه اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ يعني بالجنة.

١٣٤٩٢ـ قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن يسار، عن قتادة أنه تلا هذه الآية: إنّ اللّه اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ بأنّ لَهُمُ الجَنّةَ قال: ثَامَنَهُم اللّه فأغلى لهم الثمن.

١٣٤٩٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن أنه تلا هذه الآية: إنّ اللّه اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ قال: بايعهم فأغلى لهم الثمن.

١٣٤٩٤ـ حدثنا الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره، قالوا: قال عبد اللّه بن رواحة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: اشترط لربك ونفسك ما شئت قال: (أشْتَرِطُ لرَبي أنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، وأشْتَرِطُ لِنَفْسِي أنْ تَمْنَعُونِي ممّا تَمْنَعونَ مِنْهُ أنْفُسَكُمْ وأمْوَالَكُمْ) قالوا: فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا؟ قال: (الجَنّة) قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت: إنّ اللّه اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ... الآية.

١٣٤٩٥ـ قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا عبيد بن طفيل العبسي، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، وسأله رجل عن قوله: إنّ اللّه اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ... الآية، قال الرجل: ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل؟ قال: ويلك أين الشرط: التّائِبُونَ العابِدُونَ؟.

١١٢

القول في تأويل قوله تعالى:{التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدونَ الاَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ...}.

يقول تعالى ذكره: إن اللّه اشترى من المؤمنين التائبين العابدين أنفسهم وأموالهم ولكنه رفع، إذ كان مبتدأ به بعد تمام أخرى مثلها، والعرب تفعل ذلك، وقد تقدم بياننا ذلك في قوله: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ومعنى التائبون: الراجعون مما كرهه اللّه وسخطه إلى ما يحبه ويرضاه. كما:

١٣٤٩٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام بن سلم، عن ثعلبة بن سهيل، قال: قال الحسن في قول اللّه :التّائِبُونَ قال: تابوا إلى اللّه من الذنوب كلها،

١٣٤٩٧ـ حدثنا سوار بن عبد اللّه العنبري، قال: ثني أبي، عن أبي الأشهب، عن الحسن، أنه قرأ: التّائِبُونَ العَابِدُونَ قال: تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو سلمة، عن أبي الأشهب، قال: قرأ الحسن: التّائِبُونَ العَابِدُونَ قال: تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق.

١٣٤٩٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا منصور، بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء عن الحسن، قال: التائبون من الشرك.

حدثنا الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا جرير بن حازم، قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: التّائِبُونَ العَابِدُونَ قال الحسن: تابوا واللّه من الشرك، وبرئوا من النفاق.

١٣٤٩٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: التّائِبُونَ قال: تابوا من الشرك ثم لم ينافقوا في الإسلام.

١٣٥٠٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج: التّائِبُونَ قال: الذين تابوا من الذنوب ثم لم يعودوا فيها.

وأما قوله: العَابِدُونَ فهم الذين ذلوا خشية لله وتواضعا له، فجدّوا في خدمته. كما:

١٣٥٠١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: العَابِدُونَ: قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.

١٣٥٠٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل، قال: قال الحسن في قول اللّه العَابِدُونَ قال: عبدوا اللّه على أحايينهم كلها في السرّاء والضرّاء.

١٣٥٠٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: العَابِدُونَ قال: العابدون لربهم.

وأما قوله: الحَامِدُونَ فإنهم الذين يحمدون اللّه على كلّ ما امتحنهم به من خير وشرّ. كما:

١٣٥٠٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: الحَامِدُونَ قوم حمدوا اللّه على كل حال.

١٣٥٠٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن ثعلبة، قال: قال الحسن: الحَامِدُونَ: الذين حمدوا اللّه على أحايينهم كلها في السرّاء والضرّاء.

١٣٥٠٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: الحامِدُونَ قال: الحامدون على الإسلام.

وأما قوله: السّائِحُونَ فإنهم الصائمون. كما:

١٣٥٠٧ـ حدثني محمد بن عيسى الدامغاني وابن وكيع، قالا: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عبيد بن عمير وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحرث، عن عمرو، عن عبيد بن عمير، قال: سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن السائحين، فقال: (هُمُ الصّائمُونَ) .

١٣٥٠٨ـ حدثني محمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا حكيم بن حزام، قال: حدثنا سليمان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (السّائِحُونَ هُمُ الصّائمُونَ) .

١٣٥٠٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: السّائِحُونَ: الصائمون.

١٣٥١٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد اللّه ، قال: السّائِحُونَ الصائمون.

قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفيان، قال: ثني عاصم، عن زرّ، عن عبد اللّه ، بمثله.

١٣٥١١ـ حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبيد اللّه ، قال: أخبرنا شيبان، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن، قال: السياحة: الصيام.

١٣٥١٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أشعث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: السّائِحُونَ: الصائمون.

حدثني ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، وإسرائيل عن أشعث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: السّائِحُونَ: الصائمون.

١٣٥١٣ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا إسرائيل، عن أشعث، عن سعيد بن جبير، قال: السّائِحُونَ: الصائمون.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن زرّ، عن عبد اللّه ، مثله.

١٣٥١٤ـ قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن إسحاق، عن عبد الرحمن، قال: السّائِحُونَ: هم الصائمون.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: السّائِحُونَ قال: يعني بالسائحين الصائمين.

١٣٥١٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: السّائِحُونَ هم الصائمون.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: السّائِحُونَ الصائمون.

١٣٥١٦ـ قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: كلّ ما ذكر اللّه في القرآن السياحة: هم الصائمون.

١٣٥١٧ـ قال: حدثنا أبي عن المسعودي، عن أبي سنان، عن ابن أبي الهذيل، عن أبي عمرو العبدي، قال: السّائِحُونَ: الذي يديمون الصيام من المؤمنين.

١٣٥١٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن ثعلبة بن سهيل، قال: قال الحسن: السّائِحُونَ الصائمون.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن، قال: السّائِحُونَ: الصائمون، شهر رمضان.

١٣٥١٩ـ حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: السّائِحُونَ الصائمون.

١٣٥٢٠ـ قال: حدثنا أبو أسامة، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: كلّ شيء في القرآن السّائِحُونَ فإنه الصائمون.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك : السّائِحُونَ الصائمون.

حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد، قال سمعت الضحاك يقول في قوله: السّائِحُونَ يعني : الصائمين.

١٣٥٢١ـ حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا ابن نمير ويعلى وأبو أسامة، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: السّائِحُونَ الصائمون.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، مثله.

١٣٥٢٢ـ قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن الزبير، عن ابن عيينة، قال: حدثنا عمرو أنه سمع وهب بن منبه

يقول: كانت السياحة في بني إسرائيل، وكان الرجل إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون قبله، فساح ولد بغيّ أربعين سنة فلم ير شيئا، فقال: أي ربّ أرأيت إن أساء أبواي وأحسنت أنا؟ قال: فأُري ما أُري السائحون قبله. قال ابن عيينة: إذا ترك الطعام والشراب والنساء فهو السائح.

١٣٥٢٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: السائحون قوم أخذوا من أبدانهم صوما لله.

١٣٥٢٤ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إبراهيم بن زيد، عن الوليد بن عبد اللّه ، عن عائشة، قالت: سياحة هذه الأمة: الصيام.

وقوله: الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ يعني : المصلين الراكعين في صلاتهم الساجدين فيها. كما:

١٣٥٢٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ قال: الصلاة المفروضة.

وأما قوله: الاَمِرُونَ بالمَعْرُوفِ والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ فإنه يعني أنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم، واتباع الرشد والهدى والعمل، وينهونهم عن المنكر وذلك نهيهم الناس عن كلّ فعل وقول نهى اللّه عباده عنه.

وقد روي عن الحسن في ذلك ما:

١٣٥٢٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: الاَمِرُونَ بالمَعْرُوفِ لا إله إلا اللّه . والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ عن الشرك.

١٣٥٢٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل، قال الحسن، في قوله: الاَمِرُونَ بالمَعْرُوفِ قال: أما إنهم لم يأمروا الناس حتى كانوا من أهلها. والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ قال: أما إنهم لم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه.

١٣٥٢٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: كلّ ما ذكر في القرآن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف: دعاء من الشرك إلى الإسلام والنهي عن المنكر: نهي عن عبادة الأوثان والشياطين.

وقد دللنا فيما مضى قبل على صحة ما قلنا من أن الأمر بالمعروف هو كلّ ما أمر اللّه به عباده أو رسوله صلى اللّه عليه وسلم، والنهي عن المنكر هو كلّ ما نهى اللّه عنه عباده أو رسوله. وإذ كان ذلك كذلك ولم يكن في الآية دلالة على أنها عنى بها خصوص دون عموم ولا خبر عن الرسول ولا في فطرة عقل، فالعموم بها أولى لما قد بينا في غير موضع من كتبنا.

وأما قوله: والحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّه فإنه يعني : المؤدّونَ فَرَائِضَ اللّه ، المنتهون إلى أمره ونهيه، الذين لا يضيعون شيئا ألزمهم العمل به ولا يركبون شيئا نهاهم عن ارتكابه. كالذي:

١٣٥٢٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: والحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّه يعني : القائمين على طاعة اللّه ، وهو شرط اشترطه على أهل الجهاد إذا وفوا اللّه بشرطه وفى لهم شرطهم.

١٣٥٣٠ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: والحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّه قال: القائمون على طاعة اللّه .

١٣٥٣١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن ثعلبة، بن سهيل، قال: الحسن، في قوله: والحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّه قال: القائمون على أمر اللّه .

١٣٥٣٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: والحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّه قال: لفرائض اللّه .

وأما قوله: وَبَشّرِ المُوءْمِنِينَ فإنه يعني : وبشر المصدقين بما وعدهم اللّه إذا هم وفوا اللّه بعهده أنه موف لهم بما وعدهم من إدخالهم الجنة. كما:

١٣٥٣٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا هوذة بن خليفة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن: إنّ اللّه اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ... حتى ختم الآية، قال: الذين وفوا ببيعتهم التّائِبُونَ العَابِدُونَ الحامدُونَ، حتى ختم الآية، فقال: هذا عملهم وسيرهم في الرخاء، ثم ألقوا العدّو فصدّقوا ما عاهدوا اللّه عليه.

وقال بعضهم: معنى ذلك: وبشر من فعل هذه الأفعال، يعني قوله: التّائِبُونَ العَابِدُونَ... إلى آخر الآية، وإن لم يغزوا. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٣٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: وَبَشّرِ المُؤمِنِينَ قال: الذين لم يغزوا.

١١٣

القول في تأويل قوله تعالى:

{مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوَاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوَاْ أُوْلِي قُرْبَىَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ...}.

يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمد صلى اللّه عليه وسلم والذين إمنوا به أن يستغفروا،

يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم أولي قربى، ذوي قرابة لهم. مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُمْ أصحَابُ الجَحِيمِ

يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم باللّه وعبادة الأوثان تبين لهم أنهم من أهل النار لأن اللّه قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله.

فإن قالوا: فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك، فلم يكن استغفار إبراهيم لأبيه إلا لموعدة وعدها إياه فَلمّا تَبَيّنَ لَهُ وعلم أنه لله عدوّ خلاه وتركه وترك الاستغفار له، وآثر اللّه وأمره عليه، فتبرأ منه حين تبين له أمره.

واختلف أهل التأويل في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه،

فقال بعضهم: نزلت في شأن أبي طالب عمّ النبي صلى اللّه عليه وسلم لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته، فنهاه اللّه عن ذلك. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٣٥ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد اللّه بن أبي أمية، فقال: (يا عَمّ قُلْ لا إلَهِ إلاّ اللّه كَلِمَةً أُحاجّ لَكَ بِها عِنْدَ اللّه ) فقال له أبو جهل وعبد اللّه بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (لأَسْتَغْفِرَنّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ) فنزلت ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ، ونزلت: إنّكَ لا تَهْدي مَنْ أحْبَبْتَ.

١٣٥٣٦ـ حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنا عمي عبد اللّه بن وهب، قال: ثني يونس، عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد اللّه بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا عَمّ قُلْ لا إلَهَ إلاّ اللّه كَلِمَةً أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللّه ) قال أبو جهل وعبد اللّه بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن

يقول: لا إله إلا اللّه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (وَاللّه لأَسْتَغْفِرَنّ لَكَ ما لَمْ أُنْهِ عَنْكَ) فأنْزَلَ اللّه : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وأنزل اللّه في أبي طالب، فقال لرسول اللّه : إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ... الآية.

١٣٥٣٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ قال: يقول المؤمنون ألا نستغفر لاَبائنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافرا، فأنزل اللّه : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ... الآية.

١٣٥٣٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن عمرو بن دينار: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (اسْتَغْفَرَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَلا أزَالُ أسْتَغْفِرُ لأبي طالِبٍ حتى يَنْهانِي عَنْهُ رَبّي) فقال أصحابه: لنستغفرن لاَبائنا كما استغفر النبي صلى اللّه عليه وسلم لعمه فأنزل اللّه : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ... إلى قوله: تَبَرّأَ مِنْهُ.

١٣٥٣٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لما حضر أبا طالب الوفاة أتاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وعنده عبد اللّه بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أيّ عَمّ إنّكَ أعْظَمُ النّاسِ عَليّ حَقّا وأحْسَنُهُمْ عِنْدِي يَدا، ولأَنْتَ أعْظَمُ عَليّ حَقّا مِنْ وَالِدِي، فَقُلْ كَلِمَةً تَجِيبُ لي بها الشّفاعَةُ يَوْمَ القِيامَةِ، قُلْ لا إلَهَ إلاّ اللّه ) ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور.

وقال آخرون: بل نزلت في سبب أمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وذلك أنه أراد أن يستغفر لها فمنع من ذلك. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٤٠ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فضيل، عن عطية قال: لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس، رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها، حتى نزلت: ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولي قُرْبَى... إلى قوله: تَبَرّأَ مِنْهُ.

١٣٥٤١ـ قال: ثناأبو أحمد، قال: حدثنا قيس، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتى رسما قال: وأكثر ظني أنه قال قبرا فجلس إليه، فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرا، فقلت: يا رسول اللّه ، إنا رأينا ما صنعت قال: (إنّي اسْتَأْذَنْتُ ربّي فِي زِيارَةِ قَبْرِ أُمّي فَأَذِنَ لي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الاسْتِغْفارِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لي) فما رُؤي باكيا أكثر من يومئذ.

١٣٥٤٢ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا... إلى: أنهُمْ أصْحَابُ الجَحِيمِ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه، فنهاه عن ذلك، فقال: (وإنّ إبْرَاهِيمُ خَلِيلَ اللّه قَدِ اسْتَغْفَرَ لأَبِيهِ) فأنزل اللّه : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ... إلى: لأَوّاهٌ حَلِيمٌ.

وقال آخرون: بل نزلت من أجل أن قوما من أهل الإيمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين، فنهوا عن ذلك. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٤٣ـ حدثني المثنى، قال: ثني عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ... الآية، فكانوا يستغفرون لهم حتى نزلت هذه الآية، فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا. ثم أنزل اللّه : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ... الآية.

١٣٥٤٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ... الآية، ذكر لنا أن رجلاً من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: يا نبيّ اللّه ، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفكّ العاني ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (بَلى وَاللّه لأسْتَغْفِرنّ كمَا اسْتَغْفَرَ إبْراهِيمُ لأبِيهِ) قال: فأنزل اللّه : ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ... حتى بلغ: الجَحِيمِ ثم عذر اللّه إبراهيم فقال: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ للّهِ تَبَرّأ مِنْهُ. قال: وذُكر لنا أن نبيّ اللّه قال: (أُوحي إليّ كَلِمَاتٍ، فَدَخَلْنَ في أُذُني وَوَقَرْنَ في قَلْبي، أُمِرْتُ أنْ لا أسْتَغْفِرَ لمن مَاتَ مُشْرِكا، ومَنْ أَعْطَى فَضْلُ ماله فهو خَيّرٌ له، ومن أمْسَكَ فهو شَرّ له، ولا يَلُومُ اللّه على كَفَافٍ) .

واختلف أهل العربية في معنى قوله: ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ فقال بعض نحويـي البصرة: معنى ذلك: ما كان لهم الاستغفار، وكذلك معنى قوله: وَمَا كان لِنَفْس أن تُوءْمِن وما كان لنفس الإيمان إلاّ بإذْنِ اللّه . وقال بعض نحويي الكوفة: معناه: ما كان ينبغي لهم أن يستغفروا لهم. قال: وكذلك إذا جاءت (أن) مع (كان) ، فكلها بتأويل (ينبغي) ما كان لنبيّ أنْ يَغُلّ ما كان ينبغي له ليس هذا من أخلاقه، قال: فلذلك إذا دخلت (أن) تدل على الاستقبال، لأن (ينبغي) تطلب الاستقبال.

١١٤

وأما قوله: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ

فإن أهل العلم اختلفوا في السبب الذي أنزل فيه،

فقال بعضهم: أنزل من أجل أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه كانوا يستغفرون لموتاهم المشركين ظَنّا منهم أن إبراهيم خليل الرحمن، قد فعل ذلك حين أنزل اللّه قوله خبرا عن إبراهيم، قال: سَلامٌ عَلَيْكَ سأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّي أنه كان بي حَفِيّا وقد ذكرنا الرواية عن بعض من حضرنا ذكره، وسنذكره عمن لم نذكره.

١٣٥٤٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن عليّ قال: سمعت رجلاً يستغفر لوالديه وهما مشركان، فقلت: أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ قال: فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فأنزل اللّه : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ... إلى تَبَرّأَ مِنْهُ.

١٣٥٤٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن عليّ: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يستغفر لأبويه وهما مشركان، حتى نزلت: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلى قوله: تَبَرّأَ مِنْهُ.

وقيل: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ، ومعناه: إلا من بعد موعدة، كما يقال: ما كان هذا الأمر إلا عن سبب كذا، بمعنى: من بعد ذلك السبب أو من أجله، فكذلك قوله: إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ: من أجل موعدة وبعدها.

وقد تأول قوم قول اللّه :ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى... الآية، أن النهي من اللّه عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم، ل قوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُمْ أصحَابُ الجَحِيمِ وقالوا: ذلك لا يتبينه أحد إلا بأن يموت على كفره، وأما هو حيّ فلا سبيل إلى علم ذلك، فللمؤمنين أن يستغفروا لهم. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٤٧ـ حدثنا سليمان بن عمر الرقي، حدثنا عبد اللّه بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: مات رجل يهودي وله ابن مسلم، فلم يخرج معه، فذكر ذلك لابن عباس، فقال: كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاح ما دام حيّا، فإذا مات وكله إلى شأنه ثم قال: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرأَ مِنْهُ لم يدع.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا فضيل، عن ضرار بن مرّة، عن سعيد بن جبير، قال: مات رجل نصراني، فوكله ابنه إلى أهل دينه، فأتيت ابن عباس، فذكرت ذلك له فقال: ما كان عليه لو مشى معه وأجَنّه واستغفر له ثم تلا: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ... الآية.

وتأوّل آخرون الاستغفار في هذا الموضع بمعنى الصلاة. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٤٨ـ حدثني المثنى، قال: ثني إسحاق، قال: حدثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، قال: حدثنا حبيب بن أبي مرزوق، عن عطاء بن أبي رباح، قال: ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنا، لأني لم أسمع اللّه يحجب الصلاة إلا عن المشركين، يقول اللّه :ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ.

وتأوّله آخرون بمعنى الاستغفار الذي هو دعاء. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٤٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن عصمة بن راشد، عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة

يقول: رحم اللّه رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه قلت: ولأبيه؟ قال: لا إن أبي مات وهو مشرك.

قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن معنى الاستغفار: مسألة العبد ربه غفر الذنوب وإذ كان ذلك كذلك، وكانت مسألة العبد ربه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة، لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسدا، لأن اللّه عمّ بالنهي عن الاستغفار للمشرك بعدما تبين له أنه من أصحاب الجحيم، ولم يخصص من ذلك حالاً أباح فيها الاستغفار له.

وأما قوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُمْ أصحَابُ الجَحِيمِ فإن معناه: ما قد بينت من أنه من بعد ما يعلمون بموته كافرا أنه من أهل النار. وقيل: أصْحَابُ الجَحِيمِ لأنهم سكانها وأهلها الكائنون فيها، كما يقال لسكان الدار: هؤلاء أصحاب هذه الدار، بمعنى سكانها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٥٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق (، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ أنّهُمْ أصحابُ الجَحِيمِ قال: تبين للنبي صلى اللّه عليه وسلم أن أبا طالب حين مات أن التوبة قد انقطعت عنه.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: تبين له حين مات، وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه، يعني في قوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُمْ أصحَاب الجَحِيمِ.

١٣٥٥١ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعتُ أبا معاذ قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك في قوله: ما كَانَ للنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ... الآية،

يقول: إذا ماتوا مشركين، يقول اللّه :وَمَنْ يُشْرِكُ باللّه فَقَدْ حَرّمَ اللّه عَلَيْهِ الجَنّةَ... الآية.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: فَلَمّا تَبَيّنَ لَه أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ قال بعضم: معناه: فلما تبين له بموته مشركا باللّه تبرأ منه وترك الاستغفار له. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٥٢ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدوّ لله.

حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات لم يستغفر له.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَه أنّهُ عَدُوّ لله تَبَرّأ مِنْهُ يعني استغفر له ما كان حيّا، فلما مات أمسك عن الاستغفار له.

١٣٥٥٣ـ حدثني مطر بن محمد الضبي، قال: حدثنا أبو عاصم وأبو قتيبة مسلم بن قتيبة، قالا: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، في قوله: فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لله تَبَرأَ مِنْهُ قال: لما مات.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.

١٣٥٥٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ قال: موته وهو كافر.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.

١٣٥٥٥ـ قال: حدثنا البراء بن عتبة، عن أبيه، عن الحكم: فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ قال: حين مات ولم يؤمن.

١٣٥٥٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن عمرو بن دينار: فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ: موته وهو كافر.

١٣٥٥٧ـ قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم عن جويبر، عن الضحاك في قوله: فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ قال: لما مات.

١٣٥٥٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ لما مات على شركه تبرأ منه.

١٣٥٥٩ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهيمَ لأبِيهِ كانَ إبراهيم صلوات اللّه عليه يرجو أن يؤمن أبوه ما دام حيّا فلما مات على شركه تبرأ منه.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ قال: موته وهو كافر.

حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدوّ لله فلم يستغفر له.

١٣٥٦٠ـ قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو إسرائيل، عن عليّ بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ قال: فلما مات.

وقال آخرون: معناه تبين له في الاَخرة وذلك أن أباه يتعلق به إذا أراد أن يجوز الصراط فيمرّ به عليه، حتى إذا كان يجاوزه حانت من إبراهيم التفاتة فإذا هو بأبيه في صورة قرد أو ضبع، فخَلّى عنه وتبرأ منه حينئذ. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٦١ـ حدثنا عمرو بن عليّ، قال: حدثنا حفص بن غياث، قال: حدثنا عبد اللّه بن سليمان، قال: سمعت سعيد ابن جبير

يقول: إن إبراهيم يقول يوم القيامة: ربّ والدي ربّ والدي فإذا كان الثالثة أخذ بيده، فيلتفت إليه وهو ضبعان فيتبرأ منه.

١٣٥٦٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن عبيدة بن عمير، قال: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيد واحد يسمعكم الداعي وينفذكم البصر، قال: فتزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلا وقع لركبتيه ترعد فرائصه. قال: فحسبته

يقول: نفسي نفسي قال: ويضرب الصراط على جسر جهنم كحدّ السيف، وحضر من له وفي جانبيه ملائكة معهم خطاطيف كشوك السعدان. قال: فيمضون كالبرق وكالريح وكالطير، وكأجاويد الركاب، وكأجاويد الرجال، والملائكة يقولون: ربّ سلّم سلّم فناج سالم، ومخدوش ناج، ومكدوس في النار. يقول إبراهيم لأبيه: إني آمرك في الدنيا فتعصيني ولست تاركك اليوم، فخذ بحقويّ فيأخذ بضبعيه، فيمسخ ضبعا، فإذا رآه قد مسخ تبرأ منه.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول اللّه ، وهو خبره عن إبراهيم أنه لما تبين له أن أباه لله عدوُ تبرأ منه، وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدوّ وهو به مشرك، وهو حال موته على شركه.

القول في تأويل قوله تعالى: إنّ إبْرَاهِيمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ.

اختلف أهل التأويل في (الأوّاه) ،

فقال بعضهم: هو الدّعّاء. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٦٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد اللّه ، قال: الأوّاه: الدعّاء.

حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا: حدثنا أبو بكر، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد اللّه ، قال: الأوّاه: الدّعّاء.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني جرير بن حازم، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، قال: سألت عبد اللّه عن الأوّاه، فقال: هو الدعّاء.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد اللّه مثله.

قال: حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه ، قال: الأوّاه: الدعّاء.

قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد اللّه ، مثله.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان وإسرائيل، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد اللّه مثله.

١٣٥٦٤ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع، قالا: حدثنا ابن عليه، قال: حدثنا داود بن أبي هند، قال: نبئت عن عبيد بن عمير، قال: الأوّاه: الدعّاء.

حدثني إسحاق بن شاهين، قال: حدثنا داود، عن عبد اللّه بن عبيد بن عمير الليثي، عن أبيه، قال: الأوّاه: الدعاء.

وقال آخرون: بل هو الرحيم. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٦٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين، قال: سئل عبد اللّه عن الأوّاه، فقال: الرحيم.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت يحيى بن الجزّار يحدّث عن أبي العبيدين رجل ضرير البصر، أنه سأل عبد اللّه عن الأوّاه فقال: الرحيم.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي وحدثنا خلاد بن أسلم قال: أخبرنا النضر بن شميل جميعا، عن المسعودي، عن سلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين أنه سأل ابن مسعود، فقال: ما الأوّاه؟ قال: الرحيم.

حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين، أنه جاء إلى عبد اللّه ، وكان ضرير البصر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رق له، قال: أخبرني عن الأوّاه، قال: الرحيم.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم، عن البطين، عن أبي العبيدين، قال: سألت عبد اللّه عن الأوّاه، فقال: هو الرحيم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، قال: جاء أبو العبيدين إلى عبد اللّه ، فقال له ما حاجتك؟ قال: ما الأوّاه؟ قال: الرحيم.

قال: حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، أبي العبيدين رجل من بني سوأة، قال: جاء رجل إلى عبد اللّه فسأله عن الأوّاه، فقال: له عبد اللّه : الرحيم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا المحاربي وهانىء بن سعيد، عن حجاج، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين، عن عبد اللّه ، قال: الأوّاه: الرحيم.

حدثني يعقوب وابن وكيع، قالا: حدثنا ابن علية، عن شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزارأن أبا العبيدين رجل من بين نمير قال: يعقوب كان ضرير البصر وقال ابن وكيع: كان مكفوف البصر سأل ابن مسعود فقال: ما الأوّاه؟ قال: الرحيم.

١٣٥٦٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: الأوّاه: الرحيم.

قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، مثله.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، مثله.

١٣٥٦٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال: هو الرحيم.

١٣٥٦٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نحدّث أن الأواه: الرحيم.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: إن إبْرَاهِيمَ لأوّاهٌ قال: رحيم.

حدثنا عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود مثل ذلك.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه ، قال: الأوّاه: الرحيم.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين، أنه سأل عبد اللّه عن الأوّاه، فقال الرحيم.

١٣٥٦٩ـ قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن شرحبيل، قال: الأوّاه: الرحيم.

حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: الأوّاه: الرحيم بعباد اللّه .

قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو خيثمة زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق الهمداني، عن أبي ميسرة، عن عمرو بن شرحبيل، قال: الأوّاه: الرحيم بلحن الحبشة.

وقال آخرون: بل هو الموقن. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٧٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الأوّاه: الموقن.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن مبارك، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الأوّاه: الموقن بلسان الحبشة.

قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: الأوّاه: الموقن بلسان الحبشة.

١٣٥٧١ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: سمعت سفيان،

يقول: الأوّاه: الموقن وقال بعضهم: الفقيه الموقن.

١٣٥٧٢ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن عطاء، قال: الأوّاه: الموقن بلسان الحبشة.

١٣٥٧٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن رجل، عن عكرمة، قال: هو الموقن بلسان الحبشة.

١٣٥٧٤ـ قال: حدثنا ابن نمير، عن الثوري، عن مجالد، عن أبي هاشم، عن مجاهد، قال: الأوّاه: الموقن.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن مسلم، عن مجاهد، قال: الأوّاه: الموقن.

قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قابوس، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: الأوّاه: الموقن.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أوّاه) : موقن.

١٣٥٧٥ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أوّاه، قال: مُوءْتمن موقن.

حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ،

يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: إنّ إبْرَاهِيمَ لأوّاهٌ حَلِيمٌ قال: الأوّاه: الموقن.

وقال آخرون: هي كلمة بالحبشية معناها: المؤمن. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٧٦ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: لأَوّاهٌ حَلِيمٌ قال: الأوّاه: هو المؤمن بالحبشية.

حدثنا عليّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: إنّ إبْرَاهِيمَ لأَوّاهٌ يعني : المؤمن التوّاب.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا حسن بن صالح، عن مسلم، عن مجاهد، عن عباس، قال: الأوّاه: المؤمن.

١٣٥٧٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: الأوّاه: المؤمن بالحبشية.

وقال آخرون: هو المسبّح الكثير الذكر لله. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٧٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، قال: الأوّاه: المسبّح.

١٣٥٧٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا المحاربي، عن حجاج، عن الحكم، عن الحسن بن مسلم بن يناق، أن رجلاً كان يكثر ذكر اللّه ويسبح، فذكر ذلك للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (إنّهُ أوّاهٌ) .

١٣٥٨٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد بن حيان، عن ابن لهيعة، عن الحرث بن يزيد، عن عليّ بن رباح عن عقبة بن عامر، قال: الأوّاه: الكثير الذكر لله.

وقال آخرون: هو الذي يكثر تلاوة القرآن. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٨١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، قال: حدثنا المنهال بن خليفة، عن حجاج بن أرطأة، عن عطاء عن ابن عباس: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم دفن ميتا، فقال: (يَرْحَمُكَ اللّه إنْ كُنْتَ لأَوّاها) يعني : تلاّءً للقرآن.

وقال آخرون: هو من التأوّه. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٨٢ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي يونس القشيري، عن قاصّ كان بمكة: أن رجلاً كان في الطواف، فجعل

يقول: أوّه قال: فشكاه أبو ذرّ للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم فقال: (دَعْهُ إنّهُ أوّاهٌ) .

١٣٥٨٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شعبة، عن أبي يونس الباهلي، قال: سمعت رجلاً بمكة كان أصله روميّا يحدّث عن أبي ذرّ، قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: أوّه أوّه فذكر للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: (إنّهُ أوّاهٌ) . زاد أبو كريب في حديثه، قال فخرجت ذات ليلة فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلاً ومعه المصباح.

١٣٥٨٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن جعفر بن سليمان، قال: حدثنا عمران، عن عبيد اللّه بن رباح، عن كعب، قال: الأوّاه: إذا ذكر النار قال: أوّه

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا عبد العزيز، عن عبد الصمد القمى، عن أبي عمران الجوني، عن عبد اللّه بن رباح، عن كعب، قال: كان إذا ذكر النار قال: أوّاه.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، قال: أخبرنا أبو عمران، قال سمعت عبد اللّه بن رباح الأنصاري

يقول: سمعت كعبا

يقول: إن إبْراهِيمَ لأوّاهُ قال: إذا ذكر النار قال: أوّه من النار.

وقال آخرون: معناه أنه فقيه. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٨٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: إنّ إبْرَاهِيمَ لأَوّاهٌ قال: فقيه:

وقال آخرون: هو المتضرّع الخاشع. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٨٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا عبد الحميد بن بهرام، قال: حدثنا شهر بن حوشب، عن عبد اللّه بن شدّاد بن الهاد، قال: بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس، قال رجل: يا رسول اللّه ما الأوّاه؟ قال: (المتضرّع) . قالَ: (إنّ إبْرَاهِيمَ لأوّاهٌ حَلِيمٌ) .

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن عبد الحميد، عن شهر، عن عبد اللّه بن شداد، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الأوّاه: الخاشِعُ المُتَضَرّعُ) .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب القول الذي قاله عبد اللّه بن مسعود الذي رواه عنه زرّ أنه الدّعّاء.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن اللّه ذكر ذلك ووصف به إبراهيم خليله صلوات اللّه عليه بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لأبيه، فقال: وَما كانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدْوّ للّهِ تَبَرأَ مِنْهُ وترك الدعاء والاستغفار له، ثم قال: أن إبراهيم لدّعاء لربه شاكٍ له حليم عمن سبه وناله بالمكروه وذلك أنه صلوات اللّه عليه وعد أباه بالاستغفار له، ودعاء اللّه له بالمغفرة عند وعيد أبيه إياه، وتهدده له بالشتم بعد ما ردّ عليه نصيحته في اللّه ،

وقوله: أرَاغِبٌ أنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمّنَكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّا فقال له صلوات اللّه عليه: سَلامٌ عَلَيْكَ سأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبي إنّهُ كانَ بِي حَفِيّا وأعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه وأدْعُو رَبّي عَسَى أنْ لا أكُونَ بِدُعاءِ رَبّي شَقِيّا فوفى لأبيه بالاستغفار له حتى تبين له أنه عدوّ لله، فوصفه اللّه بأنه دعاء لربه حليم عمن سفه عليه. وأصله من التأوّه وهو التضرّع والمسألة بالحزن والإشفاق، كما روى عبد اللّه بن شدّاد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وكما روى عقبة بن عامر الخبر الذي:

١٣٥٨٧ـ حدثنيه يحيى بن عثمان بن صالح السهمي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا ابن لهيعة، قال: ثني الحرث بن يزيد، عن عليّ بن رباح، عن عقبة بن عامر: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو البجادين: إنه أوّاه وذلك أنه رجل كان يكثر ذكر اللّه بالقرآن والدعاء ويرفع صوته.

ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض: لم تتأوّه؟ كما قال المثقب العبدي:

إذَا ما قُمْتُ أرْحَلُها بِلَيْلٍتَأَوّهُ آهَةَ الرّجُلِ الحَزِينِ

ومنه قول الجعدي:

ضَرُوحٌ مَرُوحٌ تَتْبَعُ الوُرْقَ بَعْدَمايَعَرّسْنَ تَشْكُو آهَةً وَتَذَمّرَا

ولا تكاد العرب تنطق منه بفعل يفعل، وإنما تقول فيه: تفعل يتفعل، مثل تأوّه يتأوّه، وأوّه يؤوّه، كما قال الراجز:

 (فأوّاهَ الرّاعِي وضَوْضَى أكْلُبُهْ )

وقالوا أيضا: أوّه منك ذكر الفراء أن أبا الجراح أنشده:

فِأَوّهْ مِنَ الذّكْرَى إذَا ما ذَكَرْتُهاوَمِنْ بُعْدِ أرْضٍ بَيْنَنا وسمَاءِ

قال: وربما أنشدنا: (فأوّ من الذكرى) بغير هاء. ولو جاء فعل منه على الأصل لكان آه يؤه أوْها. ولأن معنى ذلك: توجع وتحزن وتضرّع، اختلف أهل التأويل فيه الاختلاف الذي ذكرت، فقال ما قال: معناه الرحمة، إن ذلك كان من إبراهيم على وجه الرقة على أبيه والرحمة له ولغيره من الناس.

وقال آخرون: إنما كان ذلك منه لصحة يقينه وحسن معرفته بعظمة اللّه وتواضعه له.

وقال آخرون: كان لصحة إيمانه بربه.

وقال آخرون: كان ذلك منه عند تلاوته تنزيل اللّه الذي أنزل عليه.

وقال آخرون: كان ذلك منه عند ذكر به.

وكلّ ذلك عائد إلى ما قلت، وتقارب معنى بعض ذلك من بعض لأن الحزين المتضرّع إلى ربه الخاشع له بقلبه، ينوبه ذلك عند مسألته ربه ودعائه إياه في حاجاته، وتعتوره هذه الخلال التي وجه المفسرون إليها تأويل قول اللّه :أنّ إبْرَاهِيمَ لأوّاهٌ حَلِيمٌ.

١١٥

القول في تأويل قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِلّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتّىَ يُبَيّنَ لَهُم مّا يَتّقُونَ إِنّ اللّه بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره: وما كان اللّه ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا الانتهاء عنه فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهى، فأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعا أو عاصيا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه. إنّ اللّه بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ يقول تعالى ذكره: إن اللّه ذو علم بما خالط أنفسكم عند نهي اللّه إياكم عن الاستغفار لموتاكم المشركين من الجزع على ما سلف منكم من الاستغفار لهم قبل تقدمه إليكم بالنهي عنه وبغير ذلك من سرائر أموركم وأمور عباده وظواهرها، فبين لكم حلمه في ذلك عليكم ليضع عنكم ثقل الوجد بذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٨٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: لِيُضِلّ قَوْما بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُمْ ما يَتّقُونَ قال: بيان اللّه للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته، فافعلوا أو ذروا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَما كانَ اللّه لِيُضِلّ قَوْما بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُمْ ما يَتّقُونَ قال: بيان اللّه للمؤمنين أن لا يستغفروا للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة، فافعلوا أو ذروا.

قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: وَما كانَ اللّه لِيُضِلّ قَوْما بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُمْ ما يَتّقُونَ قال: يبين اللّه للمؤمنين في أن لا يستغفروا للمشركين في بيانه في طاعته وفي معصيته، فافعلوا أو ذروا.

١١٦

القول في تأويل قوله تعالى:{إِنّ اللّه لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّه مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ }.

يقول تعالى ذكره: إن اللّه أيها الناس له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكلّ من دونه من الملوك فعبيده ومماليكه، بيده حياتهم وموتهم، يحيي من يشاء منهم ويميت من يشاء منهم، فلا تجزعوا أيها المؤمنون من قتال من كفر بي من الملوك، ملوك الروم كانوا أو ملوك فارس والحبشة أو غيرهم، واغزوهم وجاهدوهم في طاعتي، فأني المعزّ من أشاء منهم ومنكم والمذلّ من أشاء. وهذا حضّ من اللّه جل ثناؤه المؤمنين على قتال كل من كفر به من المماليك، وإغراء منه لهم بحربهم.

وقوله: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ وَلِيّ وَلا نَصِير

يقول: وما لكم من أحد هو لكم حليف من دون اللّه يظاهركم عليه إن أنتم خالفتم أمر اللّه فعاقبكم على خلافكم أمره يستنقذكم من عقابه، ولا نصير ينصركم منه إن أراد بكم سوءا.

يقول: فباللّه فثقوا، وإياه فارهبوا، وجاهدوا في سبيله من كفر به، فإنه قد اشترى منكم أنفسكم وأموالكم بأن لكم الجنة، تقاتلون في سبيله فتَقْتُلُونَ وَتُقْتَلُونَ.

١١٧

القول في تأويل قوله تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللّه عَلَىَ النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ ...}.

يقول تعالى ذكره: لقد رزق اللّه الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في اللّه ، الذين اتبعوا رسول اللّه في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء مِنْ بعدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِنْهُمُ

يقول: من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحقّ ويشكّ في دينه ويرتاب بالذي ناله من المشقة والشدّة في سفره وغزوه. ثُمّ تابَ عَلَيْهِمْ

يقول: ثم رزقهم جل ثناؤه الإنابة والرجوع إلى الثبات على دينه وإبصار الحقّ الذي كان قد كاد يلتبس عليهم. إنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ

يقول: إن ربكم بالذين خالط قلوبهم ذلك لما نالهم في سفرهم من الشدّة والمشقة، رَءُوفٌ بهم، رَحِيمٌ أن يهلكهم، فينزع منهم الإيمان بعد ما قد أبلوا في اللّه ما أبلو مع رسوله وصبروا عليه من البأساء والضرّاء.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٨٩ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فِي ساعَةِ العُسْرَةِ في غزوة تبوك.

١٣٥٩٠ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد اللّه بن محمد بن عقيل: فِي ساعَةِ العُسْرَةِ قال: خرجوا في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير، وخرجوا في حرّ شديد، وأصابهم يومئذ عطش شديد، فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها، كان ذلك عسرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة.

١٣٥٩١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ساعَةِ العُسْرَةِ قال: غزوة تبوك، قال: (العسرة) : أصابهم جهد شديد حتى أن الرجلين ليشقان التمرة بينهما وإنهم ليمصون التمرة الواحدة ويشربون عليها الماء.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الّذِينَ اتّبَعُوهُ في ساعَةِ العُسرَةِ قال: غزوة تبوك.

١٣٥٩٢ـ قال: حدثنا زكريا بن عليّ، عن ابن مبارك، عن معمر، عن عبد اللّه بن محمد بن عقيل، عن جابر: الّذِينَ اتّبَعُوهِ فِي ساعَةِ العُسْرَةِ قال: عسرة الظهر، وعسرة الزاد، وعسرة الماء.

١٣٥٩٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لَقَدْ تابَ اللّه على النّبِيّ والمُهاجِرَينِ والأنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهِ فِي ساعَةِ العُسْرَةِ... الآية، الذين اتبعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزو تبوك قِبَلَ الشأم في لهبان الحرّ على ما يعلم اللّه من الجهد أصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتناولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب اللّه عليهم وأقفلهم من غزوهم.

١٣٥٩٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحرث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عبد اللّه بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب رحمة اللّه عليه في شأن العسرة، فقال عمر: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع جتى يظنّ أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر: يا رسول اللّه إن اللّه قد عوّدك في الدعاء خيرا، فادع لنا قال: (تُحِبّ ذلكَ؟) قال: نعم. فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء، فأظلت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم رجعنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.

حدثني إسحاق بن زيادة العطار، قال: حدثنا يعقوب بن محمد، قال: حدثنا عبد اللّه بن وهب، قال: حدثنا عمرو بن الحرث، عن سعيد بن أبي هلال، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، قال: قيل لعمر بن الخطاب رحمة اللّه عليه: حدثنا عن شأن جيش العسرة، فقال عمر: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم ذكر نحوه.

١١٨

القول في تأويل قوله تعالى:{وَعَلَى الثّلاَثَةِ الّذِينَ خُلّفُواْ حَتّىَ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ...}.

يقول تعالى ذكره: لقد تاب اللّه على النبيّ والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة الذين خلفوا. وهؤلاء الثلاثة الذين وصفهم اللّه في هذه الآية بما وصفهم به فيما قبل، هم الاَخرون الذين قال جلّ ثناؤه: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّه إمّا يُعَذّبَهُمْ وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهمْ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ فتاب عليهم عزّ ذكره وتفضل عليهم. وقد مضى ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. فتأويل الكلام إذًا: ولقد تاب اللّه على الثلاثة الذين خلّفهم اللّه عن التوبة، فأرجأهم عمن تاب عليه ممن تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. كما:

١٣٥٩٥ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عمن سمع عكرمة، في قوله: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: خلفوا عن التوبة.

١٣٥٩٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، أما قوله: خُلّفُوا فخلّفوا عن التوبة.

حتى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ

يقول: بسعتها غمّا وندما على تخلفهم عن الجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُمْ بما نالهم من الوجد والكرب بذلك. وَظَنّوا أنْ لا مَلْجَأَ

يقول: وأيقنوا بقلوبهم أن لا شيء لهم يلجئون إليه مما نزل بهم من أمر اللّه من البلاء بتخلفهم خلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينجيهم من كربه، ولا مما يحذرون من عذاب اللّه إلا اللّه . ثم رزقهم الإنابة إلى طاعته، والرجوع إلى ما يرضيه عنهم، لينيبوا إليه ويرجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه. أنّ اللّه هُوَ التّوّابُ الرّحيمُ

يقول: إن اللّه هو الوهاب لعباده الإنابة إلى طاعته الموفق من أحبّ توفيقه منهم لما يرضيه عنه، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد التوبة، أو يخذل من أراد منهم التوبة والإنابة ولا يتوب عليه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٥٩٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، في قوله: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا: قال: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، وكلهم من الأنصار.

حدثني عبيد بن الورّاق، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بنحوه، إلا أنه قال: ومرارة بن الربيع، أو ابن ربيعة، شكّ أبو أسامة.

١٣٥٩٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعامر: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: أُرجئوا في أوسط براءة.

١٣٥٩٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: الذين أرجئوا في أوسط براءة، قوله: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْر اللّه هلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، وكعب بن مالك.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا الذين أرجئوا في وسط براءة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: كلهم من الأنصار: هلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، وكعب بن مالك.

قال: حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: الذين أرجئوا.

١٣٦٠٠ـ قال: حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا: كعب بن مالك وكان شاعرا، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وكلهم أنصار.

١٣٦٠١ـ قال: حدثنا أبو خالد الأحمر والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: كلهم من الأنصار: هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك.

١٣٦٠٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هاشم، عن جويبر، عن الضحاك ، قوله: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع كلهم من الأنصار.

١٣٦٠٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا... إلى قوله: ثُمّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، إنّ اللّه هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة تخلفوا في غزوة تبوك. ذكر لنا أن كعب بن مالك أوثق نفسه إلى سارية، فقال: لا أطلقها أو لا أطلق نفسي حتى يطلقني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه : (واللّه لا أُطْلِقُهُ حتى يُطْلِقَهُ رَبّهُ إنْ شاءَ) . وأما الاَخر فكان تخلف على حائط له كان أدرك، فجعله صدقة في سبيل اللّه ، وقال: واللّه لا أطعمه وأما الاَخر فركب المفاوز يتبع رسول اللّه ترفعه أرض وتضعه أخرى، وقدماه تشلشلان دما.

١٣٦٠٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبيد اللّه ، عن إسرائيل، عن السديّ، عن أبي مالك، قال: الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن ربيعة.

١٣٦٠٥ـ قال: حدثنا أبو داود الحفري، عن سلام أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: هلال بن أمية، ومرارة، وكعب بن مالك.

١٣٦٠٦ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا ابن عون، عن عمر بن كثير بن أفلح، قال: قال كعب بن مالك: ما كنت في غزاة أيسر للظهر والنفقة مني في تلك الغزاة. قال كعب بن مالك: لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلت: أتجهز غدا ثم ألحقه فأخذت في جهازي، فأمسيت ولم أفرغ فلما كان اليوم الثالث أخذت في جهازي، فأمسيت ولم أفرغ، فقلت: هيهات، سار الناس ثلاثا فأقمت. فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جعل الناس يعتذرون إليه، فجئت حتى قمت بين يديه فقلت: ما كنت في غزاة أيسر للظهر والنفقة مني في هذه الغزاة. فأعرض عني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأمر الناس أن لايكلمونا، وأمرت نساؤنا أن يتحوّلن عنا. قال: فتسوّرت حائطا ذات يوم فإذا أنا بجابر بن عبد اللّه ، فقلت: أي جابر، نشدتك باللّه هل علمتني غششت اللّه ورسوله يوما قطّ؟ فسكت عني، فجعل لا يكلمني. فبينا أنا ذات يوم، إذ سمعت رجلاً على الثنيّةِ

يقول: كعب كعب حتى دنا مني، فقال: بشّروا كعبا.

١٣٦٠٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غزوة تبوك وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام، حتى إذا بلغ تبوك أقام بها بضع عشرة ليلة ولقيه بها وفد أذرح ووفد أيلة، صالحهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الجزية. ثم قفل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تبوك ولم يجاوزها، وأنزل اللّه : لَقَدْ تابَ اللّه على النّبِيّ والمُهاجِرِينَ والأنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي ساعَةِ العُسْرَةِ... الآية، والثلاثة الذين خلفوا: رهط منهم: كعب بن مالك وهو أحد بني سلمة، ومرارة بن ربيعة وهو أحد بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية وهو من بني واقف. وكانوا تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في تلك الغزوة في بضعة وثمانين رجلاً فلما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة، صدَقه أولئك حديثهم واعترفوا بذنوبهم، وكذب سائرهم، فحلفوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما حبسهم إلا العذر، فقبل منهم رسول اللّه وبايعهم، ووكلهم في سرائرهم إلى اللّه . ونُهي رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كلام الذين خلفوا، وقال لهم حين حدّثوه حديثهم واعترفوا بذنوبهم: (قَدْ صَدَقْتُمْ فَقُومُوا حتى يَقْضِيَ اللّه فِيكُمْ) فلما أنزل اللّه القرآن تاب على الثلاثة، وقال للاَخرين: سَيَحْلِفُونَ باللّه لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ... حتى بلغ: لا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ. قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك أن عبد اللّه بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة غزاها قطّ إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع اللّه بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. فكان من خبري حين تخلفت عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، واللّه ما جمعت قبلها راحلتين قطّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة. فغزاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حرّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز، واستقبل عدوّا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد بذلك الديوان قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا يظنّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من اللّه . وغزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليهما أصعر. فتجهز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فلم أقض من جهازي شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا. فلم يزل ذلك يتمادى حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، فلم يقدرّ ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصا عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذر اللّه من الضعفاء. ولم يذكرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: (ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مالكٍ؟) فقال رجل من بني سلمة: يا رسول اللّه حبسه بُرْداه والنظر في عطفيه. فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فبينا هو على ذلك رأى رجلاً مبيضا يزول به السراب، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (كُنْ أبا خَيْثَمَةَ) فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدّق بصاع التمر، فلمزه المنافقون. قال كعب: فلما بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني همي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك بكلّ ذي رأي من أهلي. فلما قيل: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أظلّ قادما زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه. وأصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللّه حتى جئت، فلما سلمت تبسمّ تبسمّ المغضب، ثم قال: (تَعَالَ) فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: (ما خَلّفَكَ، ألَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟) قال: قلت يا رسول اللّه إني واللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر لقد أُعطيت جدلاً، ولكني واللّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنّ اللّه أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو اللّه واللّه ما كان لي عذر، واللّه ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أمّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، قُمْ حتى يَقْضِيَ اللّه فِيكَ) فقمت، وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني وقالوا: واللّه ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا، لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لك. قال: فواللّه ما زالوا يؤنبونني، حتى أردت أن أرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأكذّب نفسي. قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، قال: فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجْلَدَهُم، فكنت أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي هل حرّك شفتيه بردّ السلام أم لا؟ ثم أصلي معه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفت نحوه أعرض عني. حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبّ الناس إليّ، فسلمت عليه، فواللّه ما ر دّ عليّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك باللّه هل تعلم أني أحبّ اللّه ورسوله؟ فسكت، قال: فعدت فناشدته فسكت، فعدت فنا شدته فقال: اللّه ورسوله أعلم ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار. فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا بنبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة،

يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني، فدفع إليّ كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا، فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك اللّه بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك قال: فقلت حين قرأته: وهذا أيضا من البلاء. فتأممت به التنّور فسجرته به. حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رَسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربها قال: وأرسل إلى صاحبيّ بذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك تكوني عندهم حتى يقضي اللّه في هذا الأمر قال: فجاءت امرأة هلال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللّه إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: (لا، وَلَكِنْ لا يَقْرُبَنّكِ) قالت: فقلت: إنه واللّه ما به حركة إلى شيء، وواللّه ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يوم هذا قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه قال: فقلت لا أستأذن فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول لي إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب. فلبثت بعد ذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللّه عنا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج. قال: وأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتوبة اللّه علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قِبَل صاحبي مبشرون، وركض رجل إليّ فرسا، وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ، فكسوتهما إياه ببشارته، واللّه ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما. وانطلقت أتأمم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، ويقولون: لتهنك توبة اللّه عليك حتى دخلت المسجد، فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد اللّه يهرول حتى صافحني وهنأني، واللّه ما قام رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: (أبْشرْ بِخَيْرِ يَوْمّ مَرّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدتْكَ أُمّكَ) فقلت: أمن عندك يا رسول اللّه ، أم من عند اللّه ؟ قال: (لا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللّه ) . وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه. قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول اللّه إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه وإلى رسوله فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أمْسِكْ بَعْضَ مالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول اللّه إن اللّه إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقا ما بقيت قال: فواللّه ما علمت أحدا من المسلمين ابتلاه اللّه في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه عليه الصلاة والسلام أحسن مما ابتلاني، واللّه ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني أرجو أن يحفظني اللّه فيما بقى. قال: فأنزل اللّه : لَقَدْ تابَ اللّه على النّبِيّ... حتى بلغ: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا.... إلى: اتّقُوا اللّه وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال كعب: واللّه ما أنعم اللّه عليّ من نعمة قطّ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن اللّه قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد: سَيَحْلِفُونَ باللّه لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأعْرِضُوا عَنْهُمْ أنّهُمْ رِجْسٌ وَمأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَاءً بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ... إلى قوله: لا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ قال كعب: خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قَبِلَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم توبتهم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرنا حتى قضى اللّه فيه، فبذلك قال اللّه : وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا وليس الذي ذكر اللّه مما خلفنا عن الغزو إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه، فقبل منهم.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك، أن عبد اللّه بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، فذكر نحوه.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه، قال: لم أتخلف عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في غزاة غزاها إلا بدرا، ولم يعاتب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر، ثم ذكر نحوه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك الأنصاري، ثم السلمي، عن أبيه. أن أباه عبد اللّه بن كعب، وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره، قال: سمعت أبي كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، وحديث صاحبيه قال: ما تخلفت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة غزاها، غير أني كنت تخلفت عنه في غزوة بدر، ثم ذكر نحوه.

١١٩

القول في تأويل قوله تعالى:{يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّه وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ }.

يقول تعالى ذكره للمؤمنين معرّفهم سبيل النجاة من عقابه والخلاص من أليم عذابه: يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله، اتقوا اللّه وراقبوه بأداء فرائضه وتجنب حدوده، وكونوا في الدنيا من أهل ولاية اللّه وطاعته، تكونوا في الاَخرة مع الصادقين في الجنة. يعني مع من صدق اللّه الإيمان به فحقق قوله بفعله ولم يكن من أهل النفاق فيه الذين يكذّب قيلهم فعلهم.

وإنما معنى الكلام: وكونوا مع الصادقين في الاَخرة باتقاء اللّه في الدنيا، كما قال جلّ ثناؤه: وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ والصّدّيقِينَ والشهَدَاءِ وَالصّالِحِينَ.

وإنما قلنا ذلك معنى الكلام، لأن كون المنافق مع المؤمنين غير نافعه بأيّ وجوه الكون كان معهم إن لم يكن عاملاً عملهم، وإذا عمل عملهم فهو منهم، وإذا كان منهم كان لا وجه في الكلام أن يقال: اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين. ولتوجيه الكلام إلى ما وجهنا من تأويله فسر ذلك من فسره من أهل التأويل بأن قال: معناه: وكونوا مع أبي بكر وعمر، أو مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم والمهاجرين رحمة اللّه عليهم. ذكر من قال ذلك أو غيره في تأويله:

١٣٦٠٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم، عن نافع، في قول اللّه :اتّقُوا اللّه وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال: مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن زيد بن أسلم، عن نافع، قال: قيل للثلاثة الذين خلفوا: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ محمد وأصحابه.

١٣٦٠٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن عبد الرحمن المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك ، في قوله: وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما رحمة اللّه عليهم.

١٣٦١٠ـ قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي، قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرماني، عن سعيد بن جبير، في قول اللّه :اتّقُوا اللّه وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال: مع أبي بكر وعمر رحمة اللّه عليهما.

١٣٦١١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: اتّقُوا اللّه وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال: مع المهاجرين الصادقين.

وكان ابن مسعود فيما ذكر عنه يقرؤه: (وكُونُوا مِنَ الصّادِقِينَ) ويتأوّله أن ذلك نهي من اللّه عن الكذب. ذكر الرواية عنه بذلك:

١٣٦١٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، قال: سمعت أبا عبيدة بن عبد اللّه بن مسعود

يقول: قال ابن مسعود: إن الكذب لا يحلّ منه جدّ ولا هزل، اقرءوا إن شئتم: (يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه وكُونُوا مِنَ الصّادِقِينَ) قال: وكذلك هي قراءة ابن مسعود: (من الصادقين) ، فهل ترون في الكذب رخصة؟

قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن عمرو بن مرّة، قال: سمعت أبا عبيدة، عن عبد اللّه ، نحوه.

قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، قال: سمعت أبا عبيدة يحدّث، عن عبد اللّه قال: الكذب لا يصلح منه جدّ ولا هزل، اقرءوا إن شئتم: (يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه وكُونُوا مِنَ الصّادِقِينَ) وهي كذلك في قراءة عبد اللّه ، فهل ترون من رخصة في الكذب؟

١٣٦١٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد اللّه ، قال: لا يصلح الكذب في هزل ولا جدّ، ثم تلا عبد اللّه : اتّقُوا اللّه وكُونُوا ما أدري أقال (مِنَ الصّادِقِينَ) أو مَعَ الصّادِقِينَ وهو في كتابي: مَعَ الصّادِقِينَ.

قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد اللّه ، مثله.

قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه ، مثله.

والصحيح من التأويل في ذلك هو التأويل الذي ذكرناه عن نافع والضحاك ، وذلك أن رسوم المصاحف كلها مجمعة على: وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ، وهي القراءة التي لا أستجيز لأحد القراءة بخلافها، وتأويل عبد اللّه رحمة اللّه عليه في ذلك على قراءته تأويل صحيح غير، أن القراءة بخلافها.

١٢٠

القول في تأويل قوله تعالى:{مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعْرَابِ أَن يَتَخَلّفُواْ عَن رّسُولِ اللّه ...}.

يقول تعالى ذكره: لم يكن لأهل المدينة، مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ومن حولهم من الأعراب سكان البوادي، الذين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، وهم من أهل الإيمان به أن يتخلفوا في أهاليهم ولا دارهم، ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صحبته في سفره والجهاد معه ومعاونته على ما يعانيه في غزوه ذلك.

يقول: إنه لم يكن لهم هذا بأنهم من أجل أنهم وبسبب أنهم لا يصيبهم في سفرهم إذا كانوا معه ظمأ وهو العطش ولا نصب،

يقول: ولا تعب، وَلا مَخْمَصَة فِي سَبِيلِ اللّه يعني : ولا مجاعة في إقامة دين اللّه ونصرته، وهدم منار الكفر. وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئا يعني أرضا،

يقول: ولا يطئون أرضا يغيظ الكفار وطؤهم إياها. وَلا يَنالُونَ منْ عَدُوّ نَيْلاً يقول ولا يصيبون من عدوّ اللّه وعدوّهم شيئا في أموالهم وأنفسهم وأولادهم إلا كتب اللّه لهم بذلك كله ثواب عمل صالح قد ارتضاه. إنّ اللّه لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ

يقول: إن اللّه لا يدع محسنا من خلقه أحسن في عمله فأطاعه فيما أمره وانتهى عما نهاه عنه، أن يجازيه على إحسانه ويثيبه على صالح عمله فلذلك كتب لمن فعل ذلك من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ما ذكر في هذه الآية الثواب على كل ما فعل فلم يضيع له أجر فعله ذلك.

وقد اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية،

فقال بعضهم: هي محكمة، وإنما كان ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة، لم يكن لأحد أن يتخلف إذا غزا خلافه فيقعد عنه إلا من كان ذا عذر، فأما غيره من الأئمة والولاة فإن لمن شاء من المؤمنين أن يتخلف خلافه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة. ذكر من قال ذلك:

١٣٦١٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه ولا يَرْغَبُوا بأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِه هذا إذا غزا نبيّ اللّه بنفسه، فليس لأحد أن يتخلف. ذكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لَوْلا أنْ أشُقّ على أُمّتِي ما تَخَلّفْتُ خَلْفَ سَرِيّة تَغْزُو في سَبِيلِ اللّه ، لكِنّي لا أجِدُ سَعَةً فانْطَلِقْ بِهِمْ مَعِي، وَيَشُقّ عَليّ أو أكْرَهُ أنْ أدَعَهُمْ بَعْدِي) .

١٣٦١٥ـ حدثنا عليّ بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت الأوزاعي، وعبد اللّه بن المبارك، والفزاري، والسبيعي، وابن جابر، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه ... إلى آخر الآية. إنها لأوّل هذه الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل اللّه .

وقال آخرون: هذه الآية نزلت وفي أهل الإسلام قلة، فلما كثروا نسخها اللّه وأباح التخلف لمن شاء، فقال: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً. ذكر من قال ذلك:

١٣٦١٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه فقرأ حتى بلغ: ليَجْزِيَهُمُ اللّه أحْسَنَ ما كانُوا يعْمَلُونَ قال: هذا حين كان الإسلام قليلاً، فلما كثر الإسلام بعد قال: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ... إلى آخر الآية.

والصواب من القول في ذلك عندي، أَن اللّه عني بها الذين وصفهم ب قوله: وجاءَ المُعَذّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ... الآية، ثم قال جلّ ثناؤه: ما كان لأهل المدينة الذين تخلفوا عن رسول اللّه ولا لمن حولهم من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد معه أن يتخلفوا خلافه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه. وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان ندب في غزوته تلك كلّ من أطاق النهوض معه إلى الشخوص إلا من أذن له أو أمره بالمقام بعده، فلم يكن لمن قدر على الشخوص التخلف، فعدّد جلّ ثناؤه من تخلف منهم، فأظهر نفاق من كان تخلفه منهم نفاقا وعذر من كان تخلفه لعذر، وتاب على من كان تخلفه تفريطا من غير شكّ ولا ارتياب في أمر اللّه إذ تاب من خطأ ما كان منه من الفعل. فأما التخلف عنه في حال استغنائه فلم يكن محظورا إذا لم يكن عن كراهته منه صلى اللّه عليه وسلم ذلك، وكذلك حكم المسلمين اليوم إزاء إمامهم، فليس بفرض على جميعهم النهوض معه إلا في حال حاجته إليهم لما لا بدّ للإسلام وأهله من حضورهم واجتماعهم واستنهاضه إياهم فيلزمهم حينئذ طاعته. وإذا كان ذلك معنى الآية لم تكن إحدى الاَيتين اللتين ذكرنا ناسخة للأخرى، إذ لم تكن إحداهما نافية حكم الأخرى من كلّ وجوهه، ولا جاء خبر يوجه الحجة بأن إحداهما ناسخة للأخرى.

وقد بيّنا معنى المخمصة وأنها المجاعة بشواهده، وذكرنا الرواية عمن قال ذلك في موضع غير هذا، فأغني ذلك عن إعادته ههنا.

وأما النيل: فهو مصدر من قول القائل: نالني ينالني، ونلت الشيء: فهو منيل، وذلك إذا كنت تناله بيدك، وليس من التناول، وذلك أن التناول من النوال، يقال منه: نلت له أنول له من العطية. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب

يقول: النيل مصدر من قول القائل: نالني بخير ينولني نوالاً، وأنالني خيرا إنالة وقال: كأنّ النيل من الواو أبدلت ياء لخفتها وثقل الواو. وليس ذلك بمعروف في كلام العرب، بل من شأن العرب أن تصحح الواو من ذوات الواو إذا سكنت وانفتح ما قبلها، كقولهم: القَوْل، والَعْول، والحَوْل، ولو جاز ما قال لجاز القَيْل.

١٢١

القول في تأويل قوله تعالى:{وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّه أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.

يقول تعالى ذكره: ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ، وسائر ما ذكر، ولا ينالون من عدوّ نيلاً، ولا ينفقون نفقة صغيرة في سبيل اللّه ، ولا يقطعون مع رسول اللّه في غزوه واديا إلا كتب لهم أجر عملهم ذلك، جزاءً لهم عليه كأحسن ما يجزيهم على أحسن أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم مقيمون في منازلهم. كما:

١٣٦١٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً... الآية، قال: ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل اللّه بعدا إلا ازدادوا من اللّه قربا.

١٢٢

القول في تأويل قوله تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ ...}.

يقول تعالى ذكره: ولم يكن المؤمنون لينفروا جميعا. وقد بيّنا معنى الكافّة بشواهده وأقوال أهل التأويل فيه، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.

ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه اللّه بهذه الآية وما النفر الذي كرهه لجميع المؤمنين،

فقال بعضهم: هو نفر كان من قوم كانوا بالبادية بعثهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعلمون الناس الإسلام، فلما نزل قوله: ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه انْصَرفوا عن البادية إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه وممن عني بالآية. فأنزل اللّه في ذلك عذرهم ب قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً وكره انصراف جميعهم من البادية إلى المدينة. ذكر من قال ذلك:

١٣٦١٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائفَةٌ قال: ناس مِن أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال اللّه : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يبتغون الخير، لِيَتَفَقّهُوا وليسمعوا ما في الناس، وما أنزل اللّه بعدهم، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ الناس كلهم، إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال في حديثه: فقال اللّه : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ خرج بعض وقعد بعض، يبتغون الخير.

قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحو حديثه، عن أبي حذيفة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد نحو حديث المثنى عن أبي حذيفة، غير أنه قال في حديثه: ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم، وقال: ليَتَفَقّهُوا ليسمعوا ما في الناس.

وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان المؤمنون لينفروا جميعا إلى عدوّهم ويتركوا نبيهم صلى اللّه عليه وسلم وحده. كما:

١٣٦١٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً قال: ليذهبوا كلهم، فلولا نفر من كلّ حيّ وقبيلة طائفة وتخلف طائفة ليتفقهوا في الدين، ليتفقه المتخلفون مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في الدين، ولينذر المتخلفون النافرين إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. ذكر من قال ذلك:

١٣٦٢٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً

يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وحده. فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يعني عصبة، يعني السرايا، ولا يتسروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قالوا: إن اللّه قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمناه فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل اللّه على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخر، فذلك قوله: لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ

يقول: يتعلمون ما أنزل اللّه على نبيه، ويعلمونه السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون.

١٣٦٢١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً.... إلى قوله: لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ قال: هذا إذا بعث نبيّ اللّه الجيوش أمرهم أن لا يعرّوا نبيه وتقيم طائفة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تتفقه في الدين، وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذّرهم وقائع اللّه فيمن خلا قبلهم.

١٣٦٢٢ـ حدثنا الحسين، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً... الآية، كان نبيّ اللّه إذا غزا بنفسه لم يحلّ لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل العذر، وكان إذا أقام فأسرت السرايا لم يحلّ لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه. فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن تلاه نبيّ اللّه على أصحابه القاعدين معه، فإذا رجعت السرية قال لهم الذي أقاموا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إن اللّه أنزل بعدكم على نبيه قرآنا فيقرءونهم، ويفقهونهم في الدين. وهو قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً

يقول: إذا أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يعني بذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبيّ اللّه قاعد، ولكن إذا قعد نبيّ اللّه تسرّت السرايا وقعد معه معظم الناس.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما هؤلاء الذين نفروا بمؤمنين، ولو كانوا مؤمنين لم ينفر جميعهم ولكنهم منافقون، ولو كانوا صادقين أنهم مؤمنون لنفر بعض ليتفقه في الدين ولينذر قومه إذا رجع إليهم. ذكر من قال ذلك:

١٣٦٢٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فإنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على مضر بالسنين، أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد، ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأجهدوهم. وأنزل اللّه يخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهم ليسوا مؤمنين، فردّهم رسول اللّه إلىَ عشائرهم، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم فذلك قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعلّهُمْ يَحْذَرُونَ.

وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك قول ثالث، وهو ما:

١٣٦٢٤ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً... إلى قوله: لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ قال: كان ينطلق من كلّ حيّ من العرب عصابة فيأتون النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فيسألونه عما يريدونه من دينهم ويتفقهون في دينهم، ويقولون لنبيّ اللّه : ما تأمرنا أن نفعله وأخبرنا ما نقول لعشائرنا إذا انطلقنا إليهم قال فيأمرهم نبيّ اللّه بطاعة اللّه وطاعة رسوله، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة. وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا: إن من أسلم فهو مّنا وينذرونهم، حتى إن الرجل ليعرّف أباه وأمه. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخبرهم وينذرون قومهم، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة.

وقال آخرون: إنما هذا تكذيب من اللّه لمنافقين أزروا بأعراب المسلمين وعزّروهم في تخلفهم خلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهم ممن قد عذره اللّه بالتخلف. ذكر من قال ذلك:

١٣٦٢٥ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن سليمان الأحول، عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية: ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه ... إلى: إنّ اللّه لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنينَ قال ناس من المنافقين: هلك من تخلف فنزلت: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً... إلى: لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ، ونزلت: وَالّذِينَ يُحاجّونَ فِي اللّه مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ... الآية.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن الزبير، عن ابن عيينة، قال: حدثنا سليمان الأحول عن عكرمة، قال: سمعته

يقول: لما نزلت: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما وَما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ... إلى قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللّه أحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم، فأنزل اللّه : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ... إلى قوله: لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ، ونزلت: والّذِينَ يُحاجّونَ في اللّه مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ... الآية.

واختلف الذين قالوا عني بذلك النهي عن نفر الجميع في السرية وترك النبيّ عليه الصلاة والسلام وحده في المعنيين ب قوله: لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينَ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ

فقال بعضهم: عني به الجماعة المتخلفة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقالوا: معنى الكلام: فهلا نفر من كلّ فرقة طائفة للجهاد ليتفقه المتخلفون في الدين ولينذروا قومهم الذين نفروا في السرية إذا رجعوا إليهم من غزوهم وذلك قول قتادة، وقد ذكرنا رواية ذلك عنه من رواية سعيد بن أبي عروبة. وقد:

١٣٦٢٦ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ... الآية، قال: ليتفقه الذين قعدوا مع نبي اللّه . وَليُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهمْ

يقول: لينذروا الذين خرجوا إذا رجعوا إليهم.

١٣٦٢٧ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن وقتادة: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً قالا: كافة، ويدعوا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.

وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: لتتفقه الطائفة النافرة دون المتخلفة وتحذر النافرةُ المتخلفةَ. ذكر من قال ذلك:

١٣٦٢٨ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ قال: ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم اللّه من الظهور على المشركين والنصرة، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.

وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: تأويله: وما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحده، وأن اللّه نهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم ويدعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحيدا ولكن عليهم إذا سرى رسول اللّه سرية أن ينفر معها من كلّ قبيلة من قبائل العرب وهي الفرقة. طائفة وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد، كما قال اللّه جلّ ثناؤه: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ

يقول: فهلاّ نفر من كلّ فرقة منهم طائفة وهذا إلى هاهنا على أحد الأقوال التي رُويت عن ابن عباس، وهو قول الضحاك وقتادة.

وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن اللّه تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة، مدينة الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ومن الأعراب لغير عذر يعذرون به إذا خرج رسول اللّه لغزو وجهاد عدوّ قبل هذه الآية ب قوله: ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه ، ثم عقب ذلك جل ثناؤه ب قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرّفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر والمباح لهم من تركه في حال غزو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشخوصه عن مدينته لجهاد عدوّ، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم أن يكون عقيب تعريفهم ذلك تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمدينته وإشخاص غيره عنها، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم.

وأما قوله: لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ وَلِيُنْذِرُوا قوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ. فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر اللّه أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس اللّه مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم. لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ

يقول: لعلّ قومهم إذا هم حذّروهم ما عاينوا من ذلك يحذرون، فيؤمنون باللّه ورسوله، حذرا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم.

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه لأن النفر قد بيّنا فيما مضى أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشيء أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه، وكان جل ثناؤه قال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا في الدّينِ علم أن قوله: (ليتفقهوا) إنما هو شرط للنفر لا لغيره، إذ كان يليه دون غيره من الكلام.

فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معناه: ليتفقه المتخلفون في الدين؟ قيل: ننكر ذلك لاستحالته وذلك أن نفر الطائفة النافرة لو كان سببا لتفقه المتخلفة، وجب أن يكون مقامها معهم سببا لجهلهم وترك التفقه وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببا لمنعهم من التفقه. وبعد، فإنه قال جلّ ثناؤه: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ عطفا به على قوله: لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ ولا شكّ أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدم من اللّه إليها، وللإنذار وخوف الوعيد نفرت، فما وجه إنذرا الطائفة المتخلفة الطائفة النافرة وقد تساوتا في المعرفة بإنذار اللّه إياهما؟ ولو كانت إحداهما جائز أن توصف بإنذار الأخرى، لكان أحقهما بأن يوصف به الطائفة النافرة، لأنها قد عاينت من قدرة اللّه ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به ما لم تعاين المقيمة، ولكن ذلك إن شاء اللّه كما قلنا من أنها تنذر من حيها وقبيلتها ومن لم يؤمن باللّه إذا رجعت إليه أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر اللّه به المؤمنين من نظرائه من أهل الشرك.

١٢٣

القول في تأويل قوله تعالى:{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ الْكُفّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّه مَعَ الْمُتّقِينَ }.

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله قاتلوا من وليَكم من الكفار دون من بعُد منهم، يقول لهم: ابدءوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارا دون الأبعد فالأبعد. وكان الذي يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم، لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح اللّه على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام، فإن اضطرّوا إليهم لزم عونهم ونصرهم، لأن المسلمين يد على من سواهم. ولصحة كون ذلك، تأوّل كل من تأوّل هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كلّ ناحية قتال من وليهم من الأعداء. ذكر الرواية بذلك:

١٣٦٢٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن شبيب بن غرقدة، عن عروة البارقي، عن رجل من بني تميم، قال: سألت ابن عمر عن قتال الديلم، قال: عليك بالروم.

١٣٦٣٠ـ حدثنا ابن بشار وأحمد بن إسحاق وسفيان بن وكيع، قالوا: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن يونس عن الحسن: قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ قال: الديلم.

١٣٦٣١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن: أنه كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم تلا هذه الآية: قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ.

١٣٦٣٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، قال: حدثنا عمران أخي، قال: سألت جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين، فقلت: ما ترى في قتال الديلم؟ فقال: قاتلوهم ورابطوهم، فإنهم من الذين قال اللّه : قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن الربيع، عن الحسن أنه سئل عن الشام والديلم، فقال: قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ: الديلم.

١٣٦٣٣ـ حدثني عليّ بن سهل، قال: حدثنا الوليد، قال: سمعت أبا عمرو وسعيد بن عبد العزيز يقولان: يرابط كلّ قوم ما يليهم من مسالحهم وحصونهم. ويتأوّلان قول اللّه :قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ.

١٣٦٣٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: قاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ قال: كان الذين يلونهم من الكفار العرب، فقاتلوهم حتى فرغ منهم. فلما فرغ قال اللّه : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّه وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ... حتى بلغ: وَهُمْ صَاغِرُونَ قال: فلما فرغ من قتال من يليه من العرب أمره بجهاد أهل الكتاب، قال: وجهادهم أفضل الجهاد عند اللّه .

وأما قوله: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً فإن معناه: وليجد هؤلاء الكفار الذين تقاتلونهم فِيكُمْ أي منكم شدّة عليهم. وَاعْلَمُوا أنّ اللّه مَعَ المُتقِينَ

يقول: وأيقنوا عند قتالكم إياهم أن اللّه معكم وهو ناصركم عليهم، فإن اتقيتم اللّه وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فإن اللّه ناصر من اتقاه ومعينه.

١٢٤

القول في تأويل قوله تعالى:{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مّن يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هَـَذِهِ إِيمَاناً فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }.

يقول تعالى ذكره: وإذا أنزل اللّه سورة من سور القرآن على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم، فمن هؤلاء المنافقين الذين ذكرهم اللّه في هذه السورة من

يقول: أيها الناس أيكم زادته هذه السورة إيمانا؟ يقول تصديقا باللّه وبآياته. يقول اللّه : فأما الذين آمنوا من الذين قيل لهم ذلك، فزادتهم السورة التي أنزلت إيمانا وهم يفرحون بما أعطاهم اللّه من الإيمان واليقين.

فإن قال قائل: أو ليس الإيمان في كلام العرب التصديق والإقرار؟ قيل: بلى. فإن قيل: فكيف زادتهم السورة تصديقا وإقرارا؟ قيل: زادتهم إيمانا حين نزلت، لأنهم قبل أن تنزل السورة لم يكن لزمهم فرض الإقرار بها والعمل بها بعينها إلا في جملة إيمانهم بأن كل ما جاءهم به نبيهم صلى اللّه عليه وسلم من عند اللّه فحقّ فلما أنزل اللّه السورة لزمهم فرض الإقرار بأنها بعينها من عند اللّه ، ووجب عليهم فرض الإيمان بما فيها من أحكام اللّه وحدوده وفرائضه، فكان ذلك هو الزيادة التي زادهم نزول السورة حين نزلت من الإيمان والتصديق بها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٦٣٥ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وَإذَا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمانا قال: كان إذا نزلت سورة آمنوا بها، فزادهم اللّه إيمانا وتصديقا، وكانوا يستبشرون.

١٣٦٣٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: فَزَادَتْهُمْ إيمَانا قال: خشية.

١٢٥

القول في تأويل قوله تعالى:{وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىَ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ }.

يقول تعالى ذكره: وأما الذين في قلوبهم مرض، نفاق وشكّ في دين اللّه ، فإن السورة التي أنزلت زادتهم رجسا إلى رجسهم وذلك أنهم شكوا في أنها من عند اللّه ، فلم يؤمنوا بها ولم يصدّقوا، فكان ذلك زيادة شكّ حادثة في تنزيل اللّه لزمهم الإيمان به عليهم بل ارتابوا بذلك، فكان ذلك زيادة نتن من أفعالهم إلى ما سلف منهم نظيره من النتن والنفاق، وذلك معنى قوله: فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلى رِجْسِهِمْ وَماتُوا يعني هؤلاء المنافقين أنهم هلكوا، وَهُمْ كافِرُونَ يعني وهم كافرون باللّه وآياته.

١٢٦

القول في تأويل قوله تعالى:{أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ مّرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ ثُمّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذّكّرُونَ }.

اختلفت القرّاء في قراءة قوله: أوَ لا يَرَوْنَ فقرأته عامة قرّاء الأمصار: أوَ لا يَرَوْنَ بالياء، بمعنى أو لا يرى هؤلاء الذين في قلوبهم مرض النفاق. وقرأ ذلك حمزة: (أوَ لا تَرَوْنَ) بالتاء، بمعنى أو لا ترون أنتم أيها المؤمنون أنهم يفتنون؟

والصواب عندنا من القراءة في ذلك: الياء، على وجه التوبيخ من اللّه لهم، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه وصحة معناه: فتأويل الكلام إذا: أوَ لا يرى هؤلاء المنافقون أن اللّه يختبرهم في كلّ عام مرّة أو مرّتين، بمعنى أنه يختبرهم في بعض الأعوام مرّة، وفي بعضها مرّتين. ثم لا يَتُوبُونَ

يقول: ثم هم مع البلاء الذي يحلّ بهم من اللّه والاختبار الذي يعرض لهم لا ينيبون من نفاقهم، ولا يتوبون من كفرهم، ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج اللّه ويعاينون من آياته، فيعظوا بها ولكنهم مصرّون على نفاقهم.

واختلف أهل التأويل في معنى الفتنة التي ذكر اللّه في هذا الموضع أن هؤلاء المنافقين يفتنون بها،

فقال بعضهم: ذلك اختبار اللّه إياهم بالقحط والشدّة. ذكر من قال ذلك:

١٣٦٣٧ـ حدثنا ابن وكيع، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أوَ لا يَرَوْنَ أنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال: بالسنة والجوع.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: يُفْتَنون قال: يُبتلون، في كلّ عام مَرّةً أوْ مَرّتَيْنِ قال: بالسنة والجوع.

١٣٦٣٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أوَ لا يَرَوْنَ أنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال: يُبتلون بالعذاب في كل عام مرّة أو مرّتين.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال: بالسنة والجوع.

وقال آخرون: بل معناه أنهم يختبرون بالغزو والجهاد. ذكر من قال ذلك:

١٣٦٣٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: أوَ لا يَرَوْنَ أنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال: يُبتلون بالغزو في سبيل اللّه في كلّ عام مرّة أو مرّتين.

١٣٦٤٠ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، مثله.

وقال آخرون: بل معناه: أنهم يختبرون بما يشيع المشركون من الأكاذيب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، فيفتتن بذلك الذين في قلوبهم مرض. ذكر من قال ذلك:

١٣٦٤١ـ حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن جابر، عن أبي الضحى، عن حذيفة: أوَ لا يَرَوْنَ أنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال: كنا نسمع في كلّ عام كذبة أو كذبتين، فيضلّ بها فئام من الناس كثير.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن أبي الضحى، عن حذيفة، قال: كان لهم في كلّ عام كذبة أو كذبتان.

وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن اللّه عجّب عباده المؤمنين من هؤلاء المنافقين، ووبخ المنافقين في أنفسهم بقلة تذكرهم وسوء تنبههم لمواعظ اللّه التي يعظهم بها. وجائز أن تكون تلك المواعظ الشدائد التي يُنزلها بهم من الجوع والقحط، وجائز أن تكون ما يريهم من نصرة رسوله على أهل الكفر به ويرزقه من إظهار كلمته على كلمتهم، وجائز أن تكون ما يظهر للمسلمين من نفاقهم وخبث سرائرهم بركونهم إلى ما يسمعون من أراجيف المشركين برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه. ولا خبر يوجب صحة بعض ذلك، دون بعض من الوجه الذي يجب التسليم له، ولا قول في ذلك أولى بالصواب من التسليم لظاهر قول اللّه ، وهو: أو لا يرون أنهم يختبرون في كلّ عام مرّة أو مرّتين بما يكون زاجرا لهم ثم لا ينزجرون ولا يتعظون.

١٢٧

القول في تأويل قوله تعالى:{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ ثُمّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّه قُلُوبَهُم بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَفْقَهُون }.

يقول تعالى ذكره: وإذا ما أنزلت سورة من القرآن فيها عيب هؤلاء المنافقين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم في هذه السورة، وهم عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نظر بعضهم إلى بعض، فتناظروا هل يراكم من أحد إن تكلمتم أو تناجيتم بمعايب القوم يخبرهم به، ثم قام فانصرفوا من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يستمعوا قراءة السورة التي فيها معايبهم. ثم ابتدأ جل ثناؤه قوله: صَرَفَ اللّه قُلُوبَهُمْ فقال: صرف اللّه عن الخير والتوفيق والإيمان باللّه ورسوله قلوب هؤلاء المنافقين ذلك بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ

يقول: فعل اللّه بهم هذا الخذلان، وصرف قلوبهم عن الخيرات من أجل أنهم قوم لا يفقهون عن اللّه مواعظه، استكبارا ونفاقا.

واختلف أهل العربية في الجالب حرف الاستفهام، فقال بعض نحويي البصرة، قال: نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد؟ كأنه قال: قال بعضهم لبعض لأن نظرهم في هذا المكان كان إيماءً وتنبيها به، واللّه أعلم. وقال بعض نحويي الكوفة: إنما هو: وإذا ما أنزلت سورة قال بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد؟ وقال آخر منهم: هذا النظر ليس معناه القول، ولكنه النظر الذي يجلب الاستفهام كقول العرب: تناظروا أيهم أعلم، واجتمعوا أيهم أفقه أي اجتمعوا لينظروا، فهذا الذي يجلب الاستفهام.

١٣٦٤٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شعبة، عن أبي حمزة، عن ابن عباس، قال: لا تقولوا: انصرفنا من الصلاة، فإن قوما انصرفوا فصرف اللّه قلوبهم، ولكن قولوا: قد قضينا الصلاة.

قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمير بن تميم الثعلبي، عن ابن عباس، قال: لا تقولوا: انصرفنا من الصلاة، فإن قوما انصرفوا فصرف اللّه قلوبهم.

قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة، فإن قوما انصرفوا فصرف اللّه قلوبهم، ولكن قولوا: قد قضينا الصلاة.

١٣٦٤٣ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وَإذَا ما أُنْزِلَتُ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْض... الآية، قال: هم المنافقون.

وكان ابن زيد يقول في ذلك، ما:

١٣٦٤٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَإذَا ما أُنْزِلَتْ سُوَرةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أحَدٍ ممن سمع خبركم رآكم أحد أخبره إذا نزل شيء يخبر عن كلامهم، قال: وهم المنافقون. قال: وقرأ: وإذَا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانا... حتى بلغ: نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْض هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أحَدٍ أخبره بهذا، أكان معكم أحد سمع كلامكم، أحد يخبره بهذا؟

١٣٦٤٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا أبو إسحاق الهمداني، عمن حدثه، عن ابن عباس، قال: لا تقل انصرفنا من الصلاة، فإن اللّه عَيّر قوما فقال: انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّه قُلُوَبهُمْ ولكن قل: قد صلينا.

١٢٨

القول في تأويل قوله تعالى:{لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره للعرب: لَقَدْ جاءَكُمْ أيها القوم رَسُولٌ اللّه إليكم مِنْ أنْفُسِكُمْ تعرفونه لا من غيركم، فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم. عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنتّمْ: أي عزيز عليه عنتكم، وهو دخول المشقة عليهم والمكروه والأذى. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ

يقول: حريص على هدى ضلاّلكم وتوبتهم ورجوعهم إلى الحقّ. بالمُؤْمِنِينَ رَءُؤفٌ: أي رفيق رَحِيمٌ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

١٣٦٤٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، في قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ قال: لم يصبه شيء من شرك في ولادته.

١٣٦٤٧ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، في قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. قال: وقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّي خَرَجْتُ مِنْ نِكاحٍ ولَمْ أخْرُجْ مِنْ سِفاحٍ) .

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، بنحوه.

١٣٦٤٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ قال: جعله اللّه من أنفسهم، ولا يحسدونه على ما أعطاه اللّه من النبوّة والكرامة.

وأما قوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله،

فقال بعضهم: معناه: ما ضللتم. ذكر من قال ذلك:

١٣٦٤٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا طلق بن غنام، قال: حدثنا الحكم بن ظهير عن السديّ، عن ابن عباس، في قوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ قال: ما ضللتم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: عزيز عليه عنت مؤمنكم. ذكر من قال ذلك:

١٣٦٥٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ عزيز عليه عنت مؤمنهم.

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول ابن عباس وذلك أن اللّه عمّ بالخبر عن نبيّ اللّه أنه عزيز عليه ما عنت قومه، ولم يخصص أهل الإيمان به، فكان صلى اللّه عليه وسلم كما وصفه اللّه به عزيزا عليه عنت جميعهم.

فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف صلى اللّه عليه وسلم بأنه كان عزيزا عليه عنت جميعهم وهو يقتل كفارهم ويسبي ذراريهم ويسلبهم أموالهم؟ قيل: إن إسلامهم لو كانوا أسلموا كان أحبّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه حتى يستحقوا ذلك من اللّه ، وإنما وصفه اللّه جل ثناؤه بأنه عزيز عليه عنتهم، لأنه كان عزيزا عليه أن يأتوا ما يعنتهم وذلك أن يضلوا فيستوجبوا العنت من اللّه بالقتل والسبي.

وأما (ما) التي في قوله: ما عَنِتّمْ فإنه رفع ب قوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ لأن معنى الكلام: ما ذكرت عزيز عليه عنتكم.

وأما قوله: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ فإن معناه: ما قد بينت، وهو قول أهل التأويل ذكر من قال ذلك:

١٣٦٥١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ حريص على ضالهم أن يهديه اللّه .

١٣٦٥٢ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ قال: حريص على من لم يسلم أن يسلم.

١٢٩

القول في تأويل قوله تعالى:{فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّه لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }.

يقول تعالى ذكره: فإن تولى يا محمد هؤلاء الذين جئتهم بالحقّ من عند ربك من قومك، فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في اللّه وما دعوتهم إليه من النور والهدى، فقل حسبي اللّه ، يكفيني ربي لا إلَهِ إلاّ هُوَ لا معبود سواه، عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وبه وثقت، وعلى عونه اتكلت، وإليه وإلى نصره استندت، فإنه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عني منكم ومن غيركم من الناس. وَهُوَ رَبّ العَرْشِ العَظِيم الذي يملك كل ما دونه، والملوك كلهم مماليكه وعبيده. وإنما عني بوصفه جل ثناؤه نفسه بأنه ربّ العرش العظيم، الخبر عن جميع ما دونه أنهم عبيده وفي ملكه وسلطانه لأن العرش العظيم إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه ذو العرش دون سائر خلقه وأنه الملك العظيم دون غيره وأن من دون في سلطانه وملكه جار عليه حكمه وقضاؤه.

١٣٦٥٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: فإنْ تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّه يعني الكفار تولوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهذه في المؤمنين.

١٣٦٥٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عبيد بن عمير، قال: كان عمر رحمة اللّه عليه لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد رجلان، فجاء رجل من الأنصار بهاتين الاَيتين: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ فقال عمر: لا أسألك عليهما بينة أبدا، كذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

١٣٦٥٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أحمد بن عبد اللّه بن يونس، عن زهير، عن الأعمش، عن أبي صالح الحنفي، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ اللّه رَحِيمٌ يُحِبّ كُلّ رَحِيم، يَضَعُ رَحْمَتَهُ على كُلّ رَحِيمٍ) . قالوا: يا رسول اللّه إنا لنرحم أنفسنا وأموالنا قال: وأراه قال: وأزواجنا. قال: (ليسَ كذلكَ، ولكِنْ كُونُوا كمَا قَالَ اللّه : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فإنْ تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّه لا إلَهَ إلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ العَرْشِ العَظِيمِ) أراه قرأ هذه الآية كلها.

١٣٦٥٦ـ حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا شعبة، عن عليّ بن زيد، عن يوسف، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، قال: آخر آية نزلت من القرآن: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ... إلى آخر الآية.

حدثني المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا شعبة، عن عليّ بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عن أبيّ، قال: آخر آية نزلت على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ... الآية.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا شعبة، عن عليّ بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن أبيّ، قال: أحدث القرآن عهدا باللّه هاتان الاَيتان: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ... إلى آخر الاَيتين.

حدثني أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: حدثنا أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن أبيّ بن كعب، قال: أحدث القرآن عهدا باللّه الاَيتان: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ... إلى آخر السورة.

﴿ ٠