تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة الكهف

مكية وآياتها عشر ومائة

بِسمِ اللّه الرحمَن الرّحِيـمِ

١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{الْحَمْدُ للّه الّذِي أَنْزَلَ عَلَىَ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لّهُ عِوَجَا }.

قال أبو جعفر: يقول تعالـى ذكره: الـحمد للّه الذي خصّ برسالته مـحمدا وانتـخبه لبلاغها عنه، فـابتعثه إلـى خـلقه نبـيا مرسلاً، وأنزل علـيه كتابه قـيـما، ولـم يجعل له عِوَجا.

وعُنِـي بقوله عزّ ذكره: قَـيّـما معتدلاً مستقـيـما. و

قـيـل: عُنِـي به: أنه قـيـم علـى سائر الكتب يصدّقها ويحفظها. ذكر من قال: عنـي به معتدلاً مستقـيـما:

١٧٢٣٤ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، فـي قوله: ولَـمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا قَـيّـما يقول: أنزل الكتاب عَدلاً قـيـما، ولـم يجعل له عِوَجا، فأخبر ابن عباس بقوله هذا مع بـيانه معنى القـيـم أن القـيـم مؤخر بعد قوله، ولـم يجعل له عوجا، ومعناه التقديـم بـمعنى: أنزل الكتاب علـى عبده قَـيّـما.

١٧٢٣٥ـ حُدثت عن مـحمد بن زيد، عن جويبر، عن الضحاك ، فـي قوله قَـيّـما قال: مستقـيـما.

١٧٢٣٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق ولَـمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوْجا قَـيّـما: أي معتدلاً لا اختلاف فـيه.

١٧٢٣٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: ولَـمْ يَجْعَلْ لَهُ عَوَجا قَـيّـما قال: أنزل اللّه الكتاب قـيـما، ولـم يجعل له عِوَجا.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، فـي قوله الـحَمْدُ للّه الّذِي أنْزَلَ عَلـى عَبْدِهِ الكِتابَ ولَـمْ يَجْعَلْ لَهُ عَوَجا قَـيّـما.

قال: وفـي بعض القراءات: (وَلَكِنْ جَعَلَهُ قَـيّـما) .

والصواب من القول فـي ذلك عندنا ما قاله ابن عباس ، ومن قال بقوله فـي ذلك، لدلالة قوله: ولَـمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا فأخبر جل ثناؤه أنه أنزل الكتاب الذي أنزله إلـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم قَـيّـما مستقـيـما لا اختلاف فـيه ولا تفـاوت، بل بعضه يصدق بعضا، وبعضه يشهد لبعض، لا عِوَج فـيه، ولا ميـل عن الـحقّ، وكُسرت العين من قوله عَوِجا لأن العرب كذلك تقول فـي كلّ اعوجاج كان فـي دين، أو فـيـما لا يُرَى شخصه قائما، فـيُدْرَك عِيانا منتصبـا كالعاج فـي الدين، ولذلك كُسِرت العين فـي هذا الـموضع، وكذلك العِوَج فـي الطريق، لأنه لـيس بـالشخص الـمنتصب. فأما ما كان من عِوَج فـي الأشخاص الـمنتصبة قـياما، فإن عينها تفتـح كالعَوج فـي القناة، والـخشبة، ونـحوها. وكان ابن عباس يقول فـي معنى قوله ولَـمَ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا: ولـم يجعل له ملتبسا. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٣٨ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ولَـمَ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا قَـيّـما ولـم يجعل له ملتبسا.

ولا خلاف أيضا بـين أهل العربـية فـي أن معنى قوله قَـيّـما وإن كان مؤخرا، التقديـم إلـى جنب الكتاب. و

قـيـل: إنـما افتتـح جل ثناؤه هذه السورة بذكر نفسه بـما هو له أهل، وبـالـخبر عن إنزال كتابه علـى رسوله إخبـارا منه للـمشركين من أهل مكة، بأن مـحمدا رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وذلك أن الـمشركين كانوا سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أشياء علـمهموها الـيهود من قريظة والنضير، وأمروهم بـمسألتهموه عنها، وقالوا: إن أخبركم بها فهو نبـيّ، وإن لـم يخبركم بها فهو منقوّل، فوعدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للـجواب عنها موعدا، فأبطأ الوحي عنه بعض الإبطاء، وتأخّر مـجيء جبرائيـل علـيه السلام عنه عن ميعاده القوم، فتـحدّث الـمشركون بأنه أخـلفهم موعدَه، وأنه متقوّل، فأنزل اللّه هذه السورة جوابـا عن مسائلهم، وافتتـح أوّلها بذكره، وتكذيب الـمشركين فـي أحدوثتهم التـي تـحدّثوها بـينهم. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٣٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس فـيـما يروي أبو جعفر الطبري قال: بعثت قريش النضْر بن الـحارث، وعُقبة بن أبـي معيط إلـى أحبـار يهود بـالـمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن مـحمد، وصِفُوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأوّل، وعندهم علـم ما لـيس عندنا من علـم الأنبـياء. فخرجا حتـى قَدِما الـمدينة، فسألوا أحبـار يهودَ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتـخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبـار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبـيّ مرسل، وإن لـم يفعل فـالرجل متقوّل، فَرَوْا فـيه رأيكم: سلوه عن فتـية ذهبوا فـي الدهر الأوّل، ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طَوّاف، بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك، فإنه نبـيّ فـاتّبعوه، وإن هو لـم يخبركم، فهو رجلّ متقوّل، فـاصنعوا فـي أمره ما بدا لكم. فأقبل النضْر وعقبة حتـى قَدِما مكة علـى قريش، فقالا: يا معشر قريش: قد جئناكم بفصل ما بـينكم وبـين مـحمد، قد أمرنا أحبـار يهودَ أن نَسأله، عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا: يا مـحمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أُخْبِرُكُمْ غَدا بِـمَا سألْتُـمْ عَنْهُ) ، ولـم يستثن فـانصرفوا عنه، فمكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمس عشرة لـيـلة، لا يُحَدِث اللّه إلـيه فـي ذلك وحيا، ولا يأتـيه جبرائيـل علـيه السلام، حتـى أرجف أهل مكة وقالوا: وعَدَنا مـحمد غدا، والـيوم خمس عشرة قد أصبحنا فـيها لا يخبرنا بشيء مـما سألناه عنه. وحتـى أحزنَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشقّ علـيه ما يتكلـم به أهل مكة. ثم جاءه جبرائيـل علـيه السلام، من اللّه عزّ وجلّ، بسورة أصحاب الكهف، فـيها معاتبته إياه علـى حزنه علـيهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفِتـية والرجل الطوّاف، وقول اللّه عزّ وجلّ وَيَسألُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّـي وَما أُوتِـيُتـمْ مِنَ العِلْـمِ إلاّ قَلِـيلاً قال ابن إسحاق: فبلغنـي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم افتتـح السورة فقال الـحَمْدِ للّه الّذِي أنْزَلَ عَلـى عَبْدِهِ الكِتابَ يعني مـحمدا إنك رسولـي فـي تـحقـيق ما سألوا عنه من نبوّته ولَـمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا قَـيّـما: أي معتدلاً، لا اختلاف فـيه.

٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَيّماً لّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مّن لّدُنْهُ وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً }.

يقول تعالـى ذكره: أنزل علـى عبده القرآن معتدلاً مستقـيـما لا عوج فـيه لـينذركم أيها الناس بأسا من اللّه شديدا. وعنى بـالبأس العذاب العاجل، والنكال الـحاضر والسطوة.

و قوله: مِنْ لَدُنْهُ يعني : من عند اللّه . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٤٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن مـحمد بن إسحاق لِـيُنْذِرَ بَأْسا شَدِيدا عاجل عقوبة فـي الدنـيا وعذابـا فـي الاَخرة. مِنْ لَدنْهِ: أي من عند ربك الذي بعثك رسولاً.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، بنـحوه.

١٧٢٤١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: مِنْ لَدُنْهُ: أي من عنده.

فإن قال قائل: فأين مفعول قوله لِـيُنْذَرِ فإن مفعوله مـحذوف اكتفـى بدلالة ما ظهر من الكلام علـيه من ذكره، وهو مضمر متصل بـينذر قبل البأس، كأنه

قـيـل: لـينذركم بأسا، كما

قـيـل: يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ إنـما هو: يخوّفكم أولـياءه.

و قوله: وَيُبَشّرَ الـمُؤْمِنِـينَ يقول: ويبشر الـمصدقـين اللّه ورسوله الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِـحات وهو العمل بـما أمر اللّه بـالعمل به، والانتهاء عما نهى اللّه عنه أنّ لَهُمْ أجْرا حَسَنا يقول: ثوابـا جزيلاً له من اللّه علـى إيـمانهم بـاللّه ورسوله، وعملهم فـي الدنـيا الصالـحات من الأعمال، وذلك الثواب: هو الـجنة التـي وعدها الـمتقون.

٣

و قوله: ماكِثِـينَ فِـيهِ أبَدا خالدين، لا ينتقلون عنه، ولا يُنْقَلون ونصب ماكثـين علـى الـحال من قوله: أنّ لَهُمْ أجْرا حَسَنا فـي هذه الـحال فـي حال مكثهم فـي ذلك الأجر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٤٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سَلَـمة، عن ابن إسحاق وَيُبَشّرَ الـمُؤْمِنِـينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِـحاتِ أنّ لَهُمْ أجْرا حَسَنا ماكِثِـينَ فِـيهِ أبَدا: أي فـي دار خـلد لا يـموتون فـيها، الذين صدقوك بـما جئت به عن اللّه ، وعملوا بـما أمرتهم.

٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُواْ اتّخَذَ اللّه وَلَداً }.

يقول تعالـى ذكره: ويحذر أيضا مـحمد القوم الّذِين قالُوا اتّـخَذَ اللّه وَلَدا من مشركي قومه وغيرهم، بأسَ اللّه وعاجلَ نقمته، وآجل عذابه، علـى قـيـلهم ذلك، كما:

١٧٢٤٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق وَيُنْذِرَ الّذِينَ قالُوا اتّـخَذَ اللّه وَلَدا يعني قريشا فـي قولهم: إنـما نعبد الـملائكة، وهنّ بنات اللّه .

٥

و قوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْـمٍ يقول: ما لقائلـي هذا القول، يعني قولهم اتّـخَذَ اللّه وَلَدا بِهِ: يعني بـاللّه من علـم، والهاء فـي قوله بِهِ من ذكر اللّه . وإنـما معنى الكلام: ما لهؤلاء القائلـين هذا القول بـاللّه ، إنه لا يجوز أن يكون له ولد من علـم، فلـجهلهم بـاللّه وعظمته قالوا ذلك.

و قوله: ولاَ لاَبـائِهِمْ يقول: ولا لأسلافهم الذين مضوا قبلهم علـى مثل الذي هم علـيه الـيوم، كان لهم بـاللّه وبعظمته علـم.

و قوله: كَبُرَتْ كَلِـمَةً تَـخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدنـيـين والكوفـيـين والبصريـين: كَبُرَتْ كَلِـمَةً بنصب كلـمةً بـمعنى: كبُرت كلـمتهم التـي قالوها كلـمةً علـى التفسير، كما يقال: نعم رجلاً عمرو، ونعم الرجل رجلاً قام، ونعم رجلاً قام. وكان بعض نـحويّـي أهل البصرة يقول: نُبت كلـمةً لأنها فـي معنى: أكْبِر بها كلـمة، كما قال جل ثناؤه وَسَاءتْ مُرْتَفَقا وقال: هي فـي النصب مثل قول الشاعر:

ولقدْ عَلِـمْتُ إذَا اللّقاحُ تَرَوّحتْهَدَجَ الرّئالِ تَكُبّهُنّ شَمالا

أي تكبهنّ الرياح شمالاً. فكأنه قال: كبرت تلك الكلـمة. وذُكِر عن بعض الـمكيـين أنه كان يقرأ ذلك: (كَبُرَتْ كَلِـمَةٌ) رفعا، كما يقال: عَظُم قولُك وكَبُر شأنُك. وإذا قرىء ذلك كذلك لـم يكن فـي قوله كَبُرَتْ كَلِـمَةً مُضمر، وكان صفة للكلـمة.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندي، قراءة من قرأ: كَبُرَتْ كَلِـمَةً نصبـا لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها، فتأويـل الكلام: عَظُمت الكلـمة كلـمة تـخرج من أفواه هؤلاء القوم الذين قالوا: اتـخذ اللّه ولدا، والـملائكة بنات اللّه ، كما:

١٧٢٤٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق كَبُرَتْ كَلِـمَةً تَـخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ قولهم: إن الـملائكة بنات اللّه .

و قوله: إنْ يَقُولُونَ إلاّ كَذِبـا يقول عزّ ذكره: ما يقول هؤلاء القائلون اتـخذ اللّه ولدا بقـيـلهم ذلك إلا كذبـا وفرية افتروها علـى اللّه .

٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نّفْسَكَ عَلَىَ آثَارِهِمْ إِن لّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }.

 يعني تعالـى ذكره بذلك: فلعلك يا مـحمد قاتلُ نفسك ومهلكها علـى آثار قومك الذين قالوا لك لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتـى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعا تـمرّدا منهم علـى ربهم، إن هم لـم يؤمنوا بهذا الكتاب الذي أنزلته علـيك فـيصدّقوا بأنه من عند اللّه حزنا وتلهفـا ووجدا، بإدبـارهم عنك، وإعراضهم عما أتـيتهم به وتركهم الإيـمان بك. يقال منه: بخع فلان نفسه يبخعها بَخْعا وبخوعا ومنه قول ذي الرّمة:

ألا أيّهَذَا البـاخِعُ الوَجْدُ نَفْسَهُلِشَيْءٍ نَـحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الـمَقادِرُ

يريد: نـحّته فخفف.

وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله: بـاخِعٌ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٤٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَلَعَلّكَ بـاخِعٌ نَفْسَكَ يقول: قاتل نفسك.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمر، عن قتادة ، مثله.

وأما قوله: أسَفـا فإنّ أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله، فقال بعضهم: معناه: فلعلك بـاخع نفسك إن لـم يؤمنوا بهذا الـحديث غضبـا. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٤٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إنْ لَـمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الـحَدِيثِ أسَفـا قال: غضبـا.

وقال آخرون: جَزَعا. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٤٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه أسَفـا قال: جزَعا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

وقال آخرون: معناه: حزنا علـيهم. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٤٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: أسَفـا قال: حزنا علـيهم.

وقد بـيّنا معنى الأسف فـيـما مضى من كتابنا هذا، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

وهذه معاتبة من اللّه عزّ ذكره علـى وجده بـمبـاعدة قومه إياه فـيـما دعاهم إلـيه من الإيـمان بـاللّه ، والبراءة من الاَلهة والأنداد، وكان بهم رحيـما.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٤٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فَلَعَلّكَ بـاخِعٌ نَفْسَكَ عَلـى آثارِهِمْ إنْ لَـمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الـحَدِيثِ أسَفـا يعاتبه علـى حزنه علـيهم حين فـاته ما كان يرجو منهم: أي لا تفعل.

٧

و قوله: إنّا جَعَلْنا ما عَلَـى الأرْضِ زِينَةً لَهَا يقول عزّ ذكره: إنا جعلنا ما علـى الأرض زينة للأرض لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً يقول: لنـختبر عبـادنا أيّهم أترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فـيها بطاعتنا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٥٠ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ما عَلـى الأرضِ زِينَةً لَهَا قال: ما علـيها من شيء.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٢٥١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: إنّا جَعَلْنا ما عَلـى الأرْضِ زِينَةً لَهَا ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (إنّ الدّنـيْا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإنّ اللّه مُسْتَـخْـلِفَكُمْ فِـيها، فَناظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فـاتّقُوا الدّنـيْا، واتّقُوا النّساءَ) .

وأما قوله: لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً فإن أهل التأويـل قالوا فـي تأويـله نـحو قولنا فـيه. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٥٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو عاصم العسقلانـي، قال: لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً قال: أترك لها.

١٧٢٥٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق إنّا جَعَلْنا ما عَلـى الأرْض زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً اختبـارا لهم أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتـي.

٨

و قوله: وَإنّا لَـجاعلُونَ ما عَلَـيْها صَعِيدا جُرزا يقول عزّ ذكره: وإنـما لـمخرّبوها بعد عمارتناها بـما جعلنا علـيها من الزينة، فمصيروها صعيدا جرزا لا نبـات علـيها ولا زرع ولا غرس. وقد

قـيـل: إنه أريد بـالصعيد فـي هذا الـموضع: الـمستوي بوجه الأرض، وذلك هو شبـيه بـمعنى قولنا فـي ذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، وبـمعنى الـجرز، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٥٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وإنّا لَـجَاعِلُونَ ما عَلَـيْها صَعِيدا جُرُزا يقول: يهلك كلّ شيء علـيها ويبـيد.

١٧٢٥٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد صَعِيدا جُرُزا قال: بلقعا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٢٥٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَإنّا لَـجاعلُونَ ما عَلَـيْها صَعيدا جُرُزا والصعيد: الأرض التـي لـيس فـيها شجر ولا نبـات.

١٧٢٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سَلَـمة، عن ابن إسحاق وَإنّا لَـجَاعِلُونَ ما عَلَـيْها صَعِيدا جُرُزا يعني : الأرض إن ما علـيها لفـانٍ وبـائد، وإن الـمرجع لإلـيّ، فلا تأس، ولا يحزنك ما تسمع وترى فـيها.

١٧٢٥٨ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: صَعِيدا جُزُرا قال: الـجزر: الأرض التـي لـيس فـيها شيء، ألا ترى أنه يقول: أوَ لَـمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ الـماءَ إلـى الأرْضِ الـجُرُزِ فنُـخْرِجُ بِهِ زَرْعا قال: والـجرز: لا شيء فـيها، لا نبـات ولا منفعة. والصعيد: الـمستوي. وقرأ: لاَ تَرَى فِـيها عِوَجا وَلا أمْتا قال: مستوية: يقال: جُرِزت الأرض فهي مـجروزة، وجرزها الـجراد والنعم، وأرَضُون أَجْراز: إذا كانت لا شيء فـيها. ويقال للسنة الـمـجدبة: جُرُز وسنون أجراز لـجدوبها ويبسها وقلّة أمطارها قال الراجز:

قَدْ جَرَفَتْهُنّ السّنُونُ الأجْرَازْ

يقال: أجرز القوم: إذا صارت أرضهم جُرُزا، وجَرَزوا هم أرضهم: إذا أكلوا نبـاتها كله.

٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : أم حسبت يا مـحمد أن أصحاب الكهف والرقـيـم كانوا من آياتنا عَجَبـا، فإن ما خـلقت من السموات والأرض، وما فـيهنّ من العجائب أعجب من أمر أصحاب الكهف، وحجتـي بكل ذلك ثابتة علـى هؤلاء الـمشركين من قومك، وغيرهم من سائر عبـادي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٥٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبـا قال مـحمد بن عمرو فـي حديثه، قال: لـيسوا عجبـا بأعجب آياتنا. وقال الـحارث فـي حديثه بقوله م: أعجب آياتنا: لـيسوا أعجب آياتنا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، قوله: أمْ حَسِبْتَ أنّ أصْحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبـا كانوا يقولون هم عجب.

١٧٢٦٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانْوا مِنْ آياتِنا عَجَبـا يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.

١٧٢٦١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبـا. أي وما قدروا من قَدْر فـيـما صنعت من أمر الـخلائق، وما وضعت علـى العبـاد من حججي ما هو أعظم من ذلك.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم حسبت يا مـحمد أن أصحاب الكهف والرقـيـم كانوا من آياتنا عَجَبـا، فإن الذين آتـيتك من العلـم والـحكمة أفضل منه. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٦٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبـا يقول: الذي آتـيتك من العلـم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقـيـم.

وإنـما قلنا: إن القول الأوّل أولـى بتأويـل الاَية، لأنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل قصة أصحاب الكهف علـى نبـيه احتـجاجا بها علـى الـمشركين من قومه علـى ما ذكرنا فـي الرواية عن ابن عباس ، إذ سألوه عنها اختبـارا منهم له بـالـجواب عنها صدقه، فكان تقريعهم بتكذيبهم بـما هو أوكد علـيهم فـي الـحجة مـما سألوا عنهم، وزعموا أنهم يؤمنون عند الإجابة عنه أشبه من الـخبر عما أنعم اللّه علـى رسوله من النعم.

وأما الكهف، فإنه كهف الـجبل الذي أوى إلـيه القوم الذين قصّ اللّه شأنهم فـي هذه السورة.

وأما الرقـيـم، فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي الـمعنىّ به، فقال بعضهم: هو اسم قرية، أو واد علـى اختلاف بـينهم فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٦٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن عبد الأعلـى وعبد الرحمن، قالا: حدثنا سفـيان، عن الشيبـانـيّ، عن عكرمة، عن ابن عباس ، قال: يزعم كعب أن الرقـيـم: القرية.

١٧٢٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ قال: الرقـيـم: واد بـين عُسْفـان وأَيـلة دون فلسطين، وهو قريب من أيـلة.

١٧٢٦٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبـي، عن عطية، قال: الرقـيـم: واد.

١٧٢٦٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كنّا نـحدّث أن الرقـيـم: الوادي الذي فـيه أصحاب الكهف.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن سمِاك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس ، فـي قوله الرّقِـيـمِ قال: يزعم كعب: أنها القرية.

١٧٢٦٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد ، فـي قوله: الرّقِـيـمِ قال: يقول بعضهم: الرقـيـم: كتاب تبـانهم. ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فـيه كهفهم.

١٧٢٦٨ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول: أما الكهف: فهو غار الوادي، والرقـيـم: اسم الوادي.

وقال آخرون: الرقـيـم: الكتاب. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٦٩ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكهْفِ والرّقِـيـمِ يقول: الكتاب.

١٧٢٧٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا أبـي، عن ابن قـيس، عن سعيد بن جبـير، قال: الرقـيـم: لوح من حجارة كتبوا فـيه قصص أصحاب الكهف، ثم وضعوه علـى بـاب الكهف.

١٧٢٧١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الرقـيـم: كتاب، ولذلك الكتاب خبر فلـم يخبر اللّه عن ذلك الكتاب وعما فـيه، وقرأ: وَما أدْرَاكَ ما عِلّـيّونَ كِتِابٌ مرْقُومٌ يَشْهدُهُ الـمُقَرّبُون وَما أدْرَاكَ ما سِجّينٌ كتابٌ مرْقُومٌ.

وقال آخرون: بل هو اسم جبل أصحاب الكهف. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٧٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس : الرقـيـم: الـجبل الذي فـيه الكهف.

قال أبو جعفر: وقد قـيـل إن اسم ذلك الـجبل: بنـجلوس.

١٧٢٧٣ـ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، عن ابن عباس : وقد

قـيـل: إن اسمه بناجلوس.

١٧٢٧٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي وهب بن سلـيـمان عن شعيب الـجَبِئي أن اسم جبل الكهف: بناجلوس. واسم الكهف: حيزم. والكلب: خُمران. وقد رُوي عن ابن عباس فـي الرقـيـم ما:

١٧٢٧٥ـ حدثنا به الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيـل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كلّ القرآن أعلـمه، إلا حنانا، والأوّاه، والرقـيـم.

١٧٢٧٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس : ما أدري ما الرقـيـم، أكتاب، أم بنـيان؟.

وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي الرقـيـم أن يكون معنـيا به: لوح، أو حجر، أو شيء كُتب فـيه كتاب. وقد قال أهل الأخبـار: إن ذلك لوح كُتب فـيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم حين أوَوْا إلـى الكهف. ثم قال بعضهم: رُفع ذلك اللوح فـي خزانة الـملك. وقال بعضهم: بل جُعل علـى بـاب كهفهم. وقال بعضهم: بل كان ذلك مـحفوظا عند بعض أهل بلدهم. وإنـما الرقم: فعيـل. أصله: مرقوم، ثم صُرف إلـى فعيـل، كما قـيـل للـمـجروح: جريح، وللـمقتول: قتـيـل، يقال منه: رقمت كذا وكذا: إذا كتبته، ومنه قـيـل للرقم فـي الثوب رقم، لأنه الـخطّ الذي يعرف به ثمنه. ومن ذلك قـيـل للـحيّة: أرقم، لـما فـيه من الاَثار والعرب تقول: علـيك بـالرقمة، ودع الضفة: بـمعنى علـيك برقمة الوادي حيث الـماء، ودع الضفة الـجانبة. والضفتان: جانبـا الوادي. وأحسب أن الذي قال الرقـيـم: الوادي، ذهب به إلـى هذا، أعنـي به إلـى رقمة الوادي.

١٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبّنَآ آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبـا حين أوى الفتـية أصحاب الكهف إلـى كهف الـجبل، هربـا بدينهم إلـى اللّه ، فقالوا إذ أووه: رَبّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً رغبة منهم إلـى ربهم، فـي أن يرزقهم من عنده رحمة.

و قوله: وَهَيّىءْ لَنا مِنْ أمْرِنا رَشَدا يقول: وقالوا: يسّر لنا بـما نبتغي وما نلتـمس من رضاك والهرب من الكفر بك، ومن عبـادة الأوثان التـي يدعونا إلـيها قومنا، رَشَدا يقول: سَدادا إلـى العمل بـالذي تـحبّ.

وقد اختلف أهل العلـم فـي سبب مصير هؤلاء الفِتـية إلـى الكهف الذي ذكره اللّه فـي كتابه، فقال بعضهم: كان سبب ذلك، أنهم كانوا مسلـمين علـى دين عيسى، وكان لهم ملك عابد وَثَن، دعاهم إلـى عبـادة الأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم، أو يقتلهم، فـاستـخفَوا منه فـي الكهف. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٧٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو فـي قوله: أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِـيـمِ كانت الفِتـية علـى دين عيسى علـى الإسلام، وكان ملكهم كافرا، وقد أخرج لهم صنـما، فأبَوا، وقالوا: رَبّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهه إلها لَقَدْ قُلْنا إذا شَطَطا قال: فـاعتزلوا عن قومهم لعبـادة اللّه ، فقال أحدهم: إنه كان لأبـي كهف يأوي فـيه غنـمه، فـانطلقوا بنا نكن فـيه، فدخـلوه، وفُقدوا فـي ذلك الزمان فطُلبوا، ف

قـيـل: دخـلوا هذا الكهف، فقال قومهم: لا نريد لهم عقوبة ولا عذابـا أشدّ من أن نردم علـيهم هذا الكهف، فبنوه علـيهم ثم ردموه. ثم إن اللّه بعث علـيهم ملكا علـى دين عيسى، ورفع ذلك البناء الذي كان ردم علـيهم، فقال بعضهم لبعض: كَمْ لَبِثْتُـمْ؟ ف قالُوا لَبِثنْا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ... حتـى بلغ فـابْعَثُوا أحدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلـى الـمَدِينَةِ وكان ورِق ذلك الزمان كبـارا، فأرسلوا أحدهم يأتـيهم بطعام وشراب فلـما ذهب لـيخرج، رأى علـى بـاب الكهف شيئا أنكره فأراد أن يرجع، ثم مضى حتـى دخـل الـمدينة، فأنكر ما رأى، ثم أخرج درهما، فنظروا إلـيه فأنكروه، وأنكروا الدرهم، وقالوا: من أين لك هذا؟ هذا من ورق غير هذا الزمان، واجتـمعوا علـيه يسألونه، فلـم يزالوا به حتـى انطلقوا به إلـى ملكهم، وكان لقومهم لوح يكتبون فـيه ما يكون، فنظروا فـي ذلك اللوح، وسأله الـملك، فأخبره بأمره، ونظروا فـي الكتاب متـى فقد، فـاستبشروا به وبأصحابه، و

قـيـل له: انطلق بنا فأرنا أصحابك، فـانطلق وانطلقوا معه، لـيريهم، فدخـل قبل القوم، فضرب علـى آذانهم، فقال الذين غلبوا علـى أمرهم: لَنَتّـخِذَنّ عَلَـيْهِمْ مَسْجِدا.

١٧٢٧٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: مَرِج أمر أهل الإنـجيـل وعظُمت فـيهم الـخطايا وطغت فـيهم الـملوك، حتـى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفـيهم علـى ذلك بقايا علـى أمر عيسى ابن مريـم، متـمسكون بعبـادة اللّه وتوحيده، فكان مـمن فعل ذلك من ملوكهم، ملك من الروم يقال له: دَقْـيَنوس، كان قد عبد الأصنام، وذبح للطواغيت، وقتل من خالفه فـي ذلك مـمن أقام علـى دين عيسى ابن مريـم. كان ينزل فـي قُرى الروم، فلا يترك فـي قرية ينزلها أحدا مـمن يدين بدين عيسى ابن مريـم إلا قتله، حتـى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، حتـى نزل دقـينوس مدينة الفِتـية أصحاب الكهف فلـما نزلها دقـينوس كبر ذلك علـى أهل الإيـمان، فـاستـخْفَوا منه وهربوا فـي كلّ وجه. وكان دقـينوس قد أمر حين قدمها أن يتبع أهل الإيـمان فـيُجمعوا له، واتـخذ شُرَطا من الكفّـار من أهلها، فجعلوا يتبعون أهل الإيـمان فـي أماكنهم التـي يستـخفون فـيها، فـيستـخرجونهم إلـى دقـينوس، فقدمهم إلـى الـمـجامع التـي يذبح فـيها للطواغيت فـيخيرهم بـين القتل، وبـين عبـادة الأوثان والذبح للطواغيت، فمنهم من يرغب فـي الـحياة ويُفْظَع بـالقتل فـيَفتِتن، ومنهم من يأبى أن يعبد غير اللّه فـيقتل فلـما رأى ذلك أهل الصلابة من أهل الإيـمان بـاللّه ، جعلوا يُسْلـمون أنفسهم للعذاب والقتل، فـيقتلون ويقطعون، ثم يربط ما قطع من أجسادهم، فـيعلّق علـى سور الـمدينة من نواحيها كلها، وعلـى كلّ بـاب من أبوابها، حتـى عظمت الفتنة علـى أهل الإيـمان، فمنهم من كفر فُترك، ومنهم من صُلب علـى دينه فقُتل فلـما رأى ذلك الفِتـية أصحاب الكهف، حزنوا حزنا شديدا، حتـى تغيرت ألوانهم، وَنـحِلت أجسامهم، واستعانوا بـالصلاة والصيام والصدقة، والتـحميد، والتسبـيح، والتهلـيـل، والتكبـير، والبكاء، والتضرّع إلـى اللّه ، وكانوا فتـية أحداثا أحرارا من أبناء أشراف الروم.

١٧٢٧٩ـ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قال: لقد حُدّثت أنه كان علـى بعضهم من حداثة أسنانه وضح الورِق. قال ابن عباس : فكانوا كذلك فـي عبـادة اللّه لـيـلهم ونهارهم، يبكون إلـى اللّه ، ويستغيثونه، وكانوا ثمانـية نفر مَكْسِلـمينا، وكان أكبرهم، وهو الذي كلّـم الـملك عنهم، ومَـحْسيـميـلنـينا، ويَـملـيخا، ومَرْطوس، وكشوطوش، وبـيرونس، ودينـموس، ويطونس قالوس فلـما أجمع دقـينوس أن يجمع أهل القرية لعبـادة الأصنام، والذبح للطواغيت، بكوا إلـى اللّه وتضرّعوا إلـيه، وجعلوا يقولون: اللّه مّ ربّ السموات والأرض، لن ندعو من دونك إلها لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطا اكشف عن عبـادك الـمؤمنـين هذه الفتنة وادفع عنهم البلاء وأنعم علـى عبـادك الذين آمنوا بك، ومِنُعوا عبـادتك إلا سرّا، مستـخفِـينَ بذلك، حتـى يعبدوك علانـية. فبـينـما هم علـى ذلك، عرفهم عُرفـاؤهم من الكفـار، مـمن كان يجمع أهل الـمدينة لعبـادة الأصنام، والذبح للطواغيت، وذكروا أمرهم، وكانوا قد خَـلَوا فـي مُصَلّـى لهم يعبدون اللّه فـيه، ويتضرّعون إلـيه، ويتوقّعون أن يُذْكَروا لدقـينوس، فـانطلق أولئك الكفرة حتـى دخـلوا علـيهم مُصَلاّهم، فوجدوهم سجودا علـى وجوههم يتضرّعون، ويبكون، ويرغبون إلـى اللّه أن ينـجيهم من دقـينوس وفتنته فلـما رآهم أولئك الكفرة من عُرفـائهم قالوا لهم: ما خَـلّفكم عن أمر الـملك؟ انطلقوا إلـيه ثم خرجوا من عندهم، فرفعوا أمرهم إلـى دقـينوس، وقالوا: تـجمع الناس للذبح لاَلهتك، وهؤلاء فِتـية من أهل بـيتك، يسخَرون منك، ويستهزئون بك، ويعصُون أمرك، ويتركون آلهتك، يَعمِدون إلـى مُصَلَـى لهم ولأصحاب عيسى ابن مريـم يصلون فـيه، ويتضرّعون إلـى إلههم وإله عيسى وأصحاب عيسى، فلـم تتركهم يصنعون هذا وهم بـين ظَهرانْـي سلطانك ومُلكك، وهم ثمانـية نفر: رئيسهم مكسلـمينا، وهم أبناء عظماء الـمدينة؟ فلـما قالوا ذلك لدقـينوس، بعث إلـيهم، فأتـى بهم من الـمصلّـى الذي كانوا فـيه تفـيض أعينهم من الدموع مُعَفرة وجوههم فـي التراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح لاَلهتنا التـي تُعبد فـي الأرض، وأن تـجعلوا أنفسكم أُسْوة لسَراة أهل مدينتكم، ولـمن حضر منّا من الناس؟ اختاروا منـي: إما أن تذبحوا لاَلهتنا كما ذبح الناس، وإما أن أقتلكم فقال مكسلـمينا: إن لنا إلها نبعده ملأ السموات والأرض عَظَمتُه، لن ندعو من دونه إلها أبدا، ولن نقرّ بهذا الذي تدعونا إلـيه أبدا، ولكنا نعبد اللّه ربنا، له الـحمد والتكبـير والتسبـيح من أنفسنا خالصا أبدا، إياه نعبد، وإياه نسأل النـجاة والـخير، فأما الطواغيت وعبـادتها، فلن نقرّ بها أبدا، ولسنا بكائنـين عُبّـادا للشياطين، ولا جاعلـي أنفسنا وأجسادنا عُبـادا لها، بعد إذ هدانا اللّه له رهبتَك، أو فَرَقا من عبودتك، اصنع بنا ما بدا لك ثم قال أصحاب مكسلـمينا لدقـينوس مثل ما قال. قال: فلـما قالوا ذلك له، أمر بهم فنزع عنهم لبوس كان علـيهم من لبوس عظمائهم، ثم قال: أما إذ فعلتـم ما فعلتـم فإنـي سأؤخركم أن تكونوا من أهل مـملكتـي وبطانتـي، وأهل بلادي، وسأفرُغ لكم، فأنـجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يـمنعنـي أن أعجّل ذلك لكم إلا أنـي أراكم فتـيانا حديثة أسنانُكم، ولا أحبّ أن أهلككم حتـى أستأنَـي بكم، وأنا جاعل لكم أجلاً تَذكرون فـيه، وتراجعون عقولكم. ثم أمر بحلـية كانت علـيهم من ذهب وفضة، فُنزعت عنهم ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده. وانطلق دقـينوس مكانه إلـى مدينة سوى مدينتهم التـي هم بها قريبـا منها لبعض ما يريد من أمره.

فلـما رأى الفِتـية دقـينوس قد خرج من مدينتهم بـادروا قدومه، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكر بهم، فأتـمروا بـينهم أن يأخذ كلّ واحد منهم نفقة من بـيت أبـيه، فـيتصدّقوا منها، ويتزوّدوا بـما بقـي، ثم ينطلقوا إلـى كهف قريب من الـمدينة فـي جبل يقال له: بنـجلوس فـيـمكثوا فـيه، ويعبدوا اللّه حتـى إذا رجع دقـينوس أتوه فقاموا بـين يديه، فـيصنع بهم ما شاء. فلـما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كلّ فتـى منهم، فأخذ من بـيت أبـيه نفقة، فتصدّق منها، وانطلقوا بـما بقـي معهم من نفقتهم، واتبعهم كلّب لهم، حتـى أتوا ذلك الكهف الذي فـي ذلك الـجبل، فلبثوا فـيه لـيس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبـيح والتكبـير والتـحميد، ابتغاء وجه اللّه تعالـى، والـحياة التـي لا تنقطع، وجعلوا نفقتهم إلـى فتـى منهم يُقال له يـملـيخا، فكان علـى طعامهم، يبتاع لهم أرزاقهم من الـمدينة سرّا من أهلها وذلك أنه كان من أجملهم وأجلدهم، فكان يـملـيخا يصنع ذلك، فإذا دخـل الـمدينة يضع ثـيابـا كانت علـيه حسانا، ويأخذ ثـيابـا كثـياب الـمساكين الذين يستطعمون فـيها، ثم يأخذ وَرِقَه، فـينطلق إلـى الـمدينة فـيشتري لهم طعاما وشرابـا، ويتسمّع ويتـجسّس لهم الـخبر، هل ذكر هو وأصحابه بشيء من ملإ الـمدينة، ثم يرجع إلـى أصحابه بطعامهم وشرابهم، ويخبرهم بـما سمع من أخبـار الناس، فلبثوا بذلك ما لبثوا.

ثم قدم دقـينوس الـجبّـار الـمدينة التـي منها خرج إلـى مدينته، وهي مدينة أَفْسوس فأمر عظماء أهلها، فذبحوا للطواغيت، ففزع من ذلك أهل الإيـمان، فتـخبأوا من كلّ مخبأ وكان يـملـيخا بـالـمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ببعض نفقتهم، فرجع إلـى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قلـيـل، فأخبرهم أن الـجبـار دقـينوس قد دخـل الـمدينة، وأنهم قد ذُكروا وافتقدوا والتـمسوا مع عظماء أهل الـمدينة لـيذبحوا للطواغيت فلـما أخبرهم بذلك، فزعوا فزعا شديدا، ووقعوا سجودا علـى وجوههم يدعون اللّه ، ويتضرّعون إلـيه، ويتعوّذون به من الفتنة ثم إن يـملـيخا قال لهم: يا إخوتاه، ارفعوا رؤوسكم، فـاطعَموا من هذا الطعام الذي جئتكم به، وتوكلوا علـى ربكم فرفعوا رؤوسهم، وأعينهم تفـيض من الدمع حذرا وتـخوّفـا علـى أنفسهم، فطعموا منه، وذلك مع غروب الشمس، ثم جلسوا يتـحدثون ويتدارسون، ويذكر بعضهم بعضا علـى حزن منهم، مشفقـين مـما أتاهم به صاحبهم من الـخبر.

فبـيناهم علـى ذلك، إذ ضرب اللّه علـى آذانهم فـي الكهف سنـين عددا، وكلبهم بـاسط ذراعيه ببـاب الكهف، فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون مُوقنون، مصدّقون بـالوعد، ونفقتهم موضوعة عندهم فلـما كان الغد فقدهم دقـينوس، فـالتـمسهم فلـم يجدهم، فقال لعظماء أهل الـمدينة: لقد ساءنـي شأن هؤلاء الفتـية الذين ذهبوا. لقد كانوا يظنون أن بـي غضبـا علـيهم فـيـما صنعوا فـي أوّل شأنهم، لـجهلهم ما جهلوا من أمري، ما كنت لأجهل علـيهم فـي نفسي، ولا أؤاخذ أحدا منهم بشيء إن هم تابوا وعبدوا آلهتـي، ولو فعلوا لتركتهم، وما عاقبتهم بشيء سلف منهم. فقال له عظماء أهل الـمدينة: ما أنت بحقـيق أن ترحم قوما فجرة مرَدة عُصاة، مقـيـمين علـى ظلـمهم ومعصيتهم، وقد كنتَ أجّلتهم أجلاً، وأخّرتهم عن العقوبة التـي أصبت بها غيرهم، ولو شاؤوا لرجعوا فـي ذلك الأجل، ولكنهم لـم يتوبوا ولـم ينزعوا ولـم يندموا علـى ما فعلوا، وكانوا منذ انطلقت يبذّرون أموالهم بـالـمدينة فلـما علـموا بقدومك فرّوا فلـم يُروا بعد. فإن أحببت أن تُؤْتَـى بهم، فأرسل إلـى آبـائهم فـامتـحنهم، واشدُد علـيهم يدُلوك علـيهم، فإنهم مختبئون منك.

فلـما قالوا ذلك لدقـينوس الـجبـار، غضب غضبـا شديدا، ثم أرسل إلـى آبـائهم، فأتـى بهم فسألهم عنهم وقال: أخبرونـي عن أبنائكم الـمردة الذين عصوا أمري، وتركوا آلهتـي ائتونـي بهم، وأنبئونـي بـمكانهم فقال له آبـاؤهم: أما نـحن فلـم نعص أمرك ولـم نـخالفك. قد عبدنا آلهتك وذبحنا لهم، فلـم تقتلنا فـي قوم مَرَدة، قد ذهبوا بأموالنا فبذّروها وأهلكوها فـي أسواق الـمدينة، ثم انطلقوا، فـارتقوا فـي جبل يدعى بنـجلوس، وبـينه وبـين الـمدينة أرض بعيدة هَربـا منك؟ فلـما قالوا ذلك خـلّـى سبـيـلهم، وجعل يأتـمر ماذا يصنع بـالفِتـية، فألقـى اللّه عزّ وجلّ فـي نفسه أن يأمر بـالكهف فـيُسدّ علـيهم كرامة من اللّه ، أراد أن يكرمهم، ويكرم أجساد الفتـية، فلا يجول، ولا يطوف بها شيء، وأراد أن يحيـيهم، ويجعلهم آية لأمة تُستـخـلف من بعدهم، وأن يبـين لهم أن الساعة آتـية لا ريب فـيها، وأن اللّه يبعث من فـي القبور. فأمر دقـينوس بـالكهف أن يسدّ علـيهم، وقال: دعوا هؤلاء الفتـية الـمَرَدة الذين تركوا آلهتـي فلـيـموتوا كما هم فـي الكهف عطشا وجوعا، ولـيكن كهفهم الذي اختاروا لأنفسهم قبرا لهم ففعل بهم ذلك عدوّ اللّه ، وهو يظنّ أنهم أيقاظ يعلـمون ما يصنع بهم، وقد تَوّفـى اللّه أرواحهم وفـاة النوم، وكلبهم بـاسط ذراعيه ببـاب الكهف، قد غَشّاه اللّه ما غشاهم، يُقلّبون ذات الـيـمين وذات الشمال.

ثم إن رجلـين مؤمنـين كانا فـي بـيت الـملك دقـينوس يكتـمان إيـمانهما: اسم أحدهما بـيدروس، واسم الاَخر: روناس، فأتـمرا أن يكتبـا شأن الفتـية أصحاب الكهف، أنسابهم وأسماءهم وأسماء آبـائهم، وقصة خبرهم فـي لوحين من رَصاص، ثم يصنعا له تابوتا من نـحاس، ثم يجعلا اللوحين فـيه، ثم يكتبـا علـيه فـي فم الكهف بـين ظهرانـي البنـيان، ويختـما علـى التابوت بخاتـمهما، وقالا: لعلّ اللّه أن يُظْهر علـى هؤلاء الفتـية قوما مؤمنـين قبل يوم القـيامة، فـيعلـم من فتـح علـيهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم، ففعلا ثم بنـيا علـيه فـي البنـيان، فبقـي دقـينوس وقرنه الذين كانوا منهم ما شاء اللّه أن يبقوا، ثم هلك دقـينوس والقرن الذي كانوا معه، وقرون بعده كثـيرة، وخـلفت الـخـلوف بعد الـخـلوف.

١٧٢٨٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عبد اللّه بن كثـير، عن مـجاهد ، قال: كان أصحاب الكهف أبناء عظماء مدينتهم، وأهل شرفهم، فخرجوا فـاجتـمعوا وراء الـمدينة علـى غير ميعاد، فقال رجل منهم هو أسنهم: إنـي لأجد فـي نفسي شيئا ما أظنّ أن أحدا يجده، قالوا: ماذا تـجد؟ قال: أجد فـي نفسي أن ربـي ربّ السموات والأرض، وقالوا: نـحن نـجد. فقاموا جميعا، فقالوا: رَبّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُو مِنْ دُونِهِ إلَها لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطا، فـاجتـمعوا أن يدخـلوا الكهف، وعلـى مدينتهم إذ ذاك جبـار يقال له دقـينوس، فلبثوا فـي الكهف ثلاث مئة سنـين وازدادوا تسعا رقدا.

١٧٢٨١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن عبد العزيز بن أبـي روّاد، عن عبد اللّه بن عبـيد بن عمير، قال: كان أصحاب الكهف فتـيانا ملوكا مُطَوّقـين مُسَوّرين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم، فخرجوا فـي عيد لهم عظيـم فـي زيّ وموكب، وأخرجوا معهم آلهتـم التـي يعبدون. وقذف اللّه فـي قلوب الفتـية الإيـمان فآمنوا، وأخفـى كلّ واحد منهم الإيـمان عن صاحبه، فقالوا فـي أنفسهم من غير أن يظهر إيـمان بعضهم لبعض: نـخرج من بـين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم. فخرج شاب منهم حتـى انتهى إلـى ظلّ شجرة، فجلس فـيه، ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده، فرجا أن يكون علـى مثل أمره من غير أن يظهر منه، فجاء حتـى جلس إلـيه، ثم خرج الاَخرون، فجاؤوا حتـى جلسوا إلـيهما، فـاجتـمعوا، فقال بعضهم: ما جمعَكم؟ وقال آخر: بل ما جمعكم؟ وكلّ يكتـم إيـمانه من صاحبه مخافة علـى نفسه، ثم قالوا: لـيخرج منكم فَتَـيان، فـيخْـلُوَا، فـيتواثقا أن لا يفشيَ واحد منهما علـى صاحبه، ثم يفشي كلّ واحد منهما لصاحبه أمره، فإنا نرجو أن نكون علـى أمر واحد. فخرج فَتَـيان منهم فتواثقا، ثم تكلـما، فذكر كلّ واحد منهما أمره لصاحبه، فأقبلا مستبشَرين إلـى أصحابهما قد اتفقا علـى أمر واحد، فإذا هم جميعا علـى الإيـمان، وإذا كهف فـي الـجبل قريب منهم، فقال بعضهم لبعض: ائتوا إلـى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ويُهَيّىءْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مِرْفَقا فدخـلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم فناموا، فجعله اللّه علـيهم رقدة واحدة، فناموا ثلاث مئة سنـين وازدادوا تسعا. قال: وفقدهم قومُهم فطلبوهم وبعثوا البرد، فعمى اللّه علـيهم آثارهم وكهفهم. فلـما لـم يقدروا علـيهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم فـي لوح: فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان أبناء ملوكنا، فَقَدناهم فـي عيد كذا وكذا فـي شهر كذا وكذا فـي سنة كذا وكذا، فـي مـملكة فلان ابن فلان ورفعوا اللوح فـي الـخزانة. فمات ذلك الـملك وغلب علـيهم ملك مسلـم مع الـمسلـمين، وجاء قرن بعد قرن، فلبثوا فـي كهفهم ثلاث مئة سنـين وازدادوا تسعا.

وقال آخرون: بل كان مصيرهم إلـى الكهف هربـا من طلب سلطان كان طلبهم بسبب دَعوى جناية ادّعى علـى صاحب لهم أنه جناها. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٨٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرنـي إسماعيـل بن شروس، أنه سمع وهب بن منبه يقول: جاء حواريّ عيسى ابن مريـم إلـى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخـلها، ف

قـيـل له: إن علـى بـابها صنـما لا يدخـلها أحد إلاّ سجد له. فكره أن يدخـلها، فأتـى حَمّاما، فكان فـيه قريبـا من تلك الـمدينة، فكان يعمل فـيه يؤاجر نفسه من صاحب الـحمام. ورأى صاحب الـحمام فـي حمامه البركة ودرّ علـيه الرزق، فجعل يعرض علـيه الإسلام، وجعل يسترسل إلـيه، وعلقه فتـية من أهل الـمدينة، وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الاَخرة، حتـى آمنوا به وصدّقوه، وكانوا علـى مثل حاله فـي حُسْن الهيئة. وكان يشترط علـى صاحب الـحمّام أن اللـيـل لـي لا تـحول بـينـي وبـين الصلاة إذا حضرت فكان علـى ذلك حتـى جاء ابن الـملك بـامرأة، فدخـل بها الـحمام، فعيّره الـحواريّ، فقال: أنت ابن الـملك، وتدخـل معك هذه النكداء؟ فـاستـحيا، فذهب فرجع مرّة أخرى، فقال له مثل ذلك، فسبه وانتهره ولـم يـلتفت حتـى دخـل ودخـلت معه الـمرأة، فماتا فـي الـحمام جميعا. فأتـى الـملك، ف

قـيـل له: قتل صاحب الـحمام ابنك فـالتُـمس، فلـم يقدر علـيه هرَبـا، قال: من كان يصحبه؟ فسموا الفتـية، فـالتُـمسوا، فخرجوا من الـمدينة، فمرّوا بصاحب لهم فـي زرع له، وهو علـى مثل أمرهم، فذكروا أنهم التُـمسوا، فـانطلق معهم الكلب، حتـى أواهم اللـيـل إلـى الكهف، فدخـلوه، فقالوا: نبـيت ههنا اللـيـلة، ثم نصبح إن شاء اللّه فترون رأيكم، فضرب علـى آذانهم. فخرج الـملك فـي أصحابه يتبعونهم حتـى وجدوهم قد دخـلوا الكهف فكلـما أراد رجل أن يدخـل أُرعب، فلـم يطق أحد أن يدخـله، فقال قائل: ألـيس لو كنت قدرت علـيهم قتلتهم؟ قال: بلـى قال: فـابن علـيهم بـاب الكهف، ودعهم فـيه يـموتوا عطشا وجوعا، ففعل.

 

١١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَضَرَبْنَا عَلَىَ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً }.

 يعني جل ثناؤه ب قوله: فَضَرَبْنا علـى آذَانِهِمْ فِـي الكَهْفِ: فضربنا علـى آذانهم بـالنوم فـي الكهف: أي ألقـينا علـيهم النوم، كما يقول القائل لاَخر: ضربك اللّه بـالفـالِـج، بـمعنى ابتلاه اللّه به، وأرسله علـيه.

و قوله: سِنِـينَ عَدَدا يعني سنـين معدودة، ونصب العدد بقوله فَضَرَبْنا.

١٢

و قوله: ثُمّ بَعَثْناهُمْ لنَعْلَـمَ أيّ الـحِزْبَـيْنِ أحْصَى يقول: ثم بعثنا هؤلاء الفتـية الذين أوَوْا إلـى الكهف بعد ما ضربنا علـى آذانهم فـيه سنـين عددا من رقدتهم، لـينظر عبـادي فـيعلـموا بـالبحث، أيّ الطائفتـين اللتـين اختلفتا فـي قدر مبلغ مُكْث الفتـية فـي كهفهم رقودا أحْصَى لِـمَا لَبِثُوا أمَدا يقول: أصوب لقدر لبثهم فـيه أمدا و يعني بـالأمد: الغاية، كما قال النابغة:

إلاّ لـمِثْلِكَ أوْ مَنْ أنْتَ سابِقُهُسَبْقَ الـجَوَادِ إذا اسْتَوْلَـى علـى الأمَدِ

وذُكر أن الذين اختلفوا فـي ذلك من أمورهم، قوم من قوم الفتـية، فقال بعضهم: كان الـحزبـان جميعا كافرين. وقال بعضهم: بل كان أحدهما مسلـما، والاَخر كافرا. ذكر من قال: كان الـحزبـان من قوم الفتـية:

١٧٢٨٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أيّ الـحِزْبـينِ من قوم الفتـية.

حدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، بنـحوه.

حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٢٨٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله ثُمّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَـمَ أيّ الـحِزْبَـيْنِ أحْصَى لِـما لَبِثُوا أمَدا يقول: ما كان لواحد من الفريقـين علـم، لا لكفـارهم ولا لـمؤمنـيهم.

وأما قوله: أمَدا فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي معناه، فقال بعضهم: معناه: بعيدا. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٨٥ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله لِـمَا لَبِثُوا أمَدا يقول: بعيدا.

وقال آخرون: معناه: عددا. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٨٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أمَدا قال: عددا.

حدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

وفـي نصب قوله أمَدا وجهان: أحدهما أن يكون منصوبـا علـى التفسير من قوله أحْصَى كأنه

قـيـل: أيّ الـحزبـين أصوب عددا لقدر لبثهم.

وهذا هو أولـى الوجهين فـي ذلك بـالصواب، لأن تفسير أهل التفسير بذلك جاء.

والاَخر: أن يكون منصوبـا بوقوع قوله لَبِثُوا علـيه، كأنه قال: أيّ الـحزبـين أحصى للبثهم غاية.

١٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ إِنّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : نـحن يا مـحمد نقصّ علـيك خبر هؤلاء الفتـية الذين أوَوْا إلـى الكهف بـالـحقّ، يعني : بـالصدق والـيقـين الذي لا شكّ فـيه إنّهُمْ فِتْـيَةٌ آمَنُوا بِرَبّهِمْ يقول: إن الفتـية الذين أوَوْا إلـى الكهف الذين سألك عن نبئهم الـملأ من مشركي قومك، فتـية آمنوا بربهم، وَزِدْناهُمْ هُدًى يقول: وزدناهم إلـى إيـمانهم بربهم إيـمانا، وبصيرة بدينهم، حتـى صبروا علـى هجران دار قومهم، والهرب من بـين أظهرهم بدينهم إلـى اللّه ، وفراق ما كانوا فـيه من خفض العيش ولـينه، إلـى خشونة الـمكث فـي كهف الـجبل.

١٤

و قوله: وَرَبَطْنا علـى قُلُوبِهمْ يقول عزّ ذكره: وألهمناهم الصبر، وشددنا قلوبهم بنور الإيـمان حتـى عزفت أنفسهم عما كانوا علـيه من خفض العيش، كما:

١٧٢٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة وَرَبَطْنا علـى قُلُوبِهمْ يقول: بـالإيـمان.

و قوله: إذْ قامُوا فقالُوا رَبّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول: حين قاموا بـين يدي الـجبـار دقـينوس، فقالوا له إذ عاتبهم علـى تركهم عبـادة آلهته: ربّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول: قالوا ربنا ملك السموات والأرض وما فـيهما من شيء، وآلهتك مربوبة، وغير جائز لنا أن نترك عبـادة الربّ ونعبد الـمربوب لَنْ نَدْعُوَ منْ دُونِه إلَها يقول: لن ندعو من دون ربّ السموات والأرض إلها، لأنه لا إله غيره، وإن كلّ ما دونه فهو خـلقه لَقَدْ قُلْنا إذا شَططا

يقول جلّ ثناؤه: لئن دعونا إلها غير إله السموات والأرض، لقد قلنا إذن بدعائنا غيره إلها، شططا من القول: يعني غالـيا من الكذب، مـجاوزا مقداره فـي البطول والغلوّ: كما قال الشاعر:

ألا يا لَقَوْمي قَدْ أشْطَتْ عَوَاذِلـيويزْعُمْنَ أنْ أوْدَى بِحَقّـيَ بـاطلـي

يقال منه: قد أشط فلان فـي السوم إذا جاوز القدر وارتفع، يشطّ إشطاطا وشططا. فأما من البعد فإنـما يقال: شطّ منزل فلان يشطّ شطوطا ومن الطول: شطت الـجارية تشطّ شطاطا وشطاطة: إذا طالت. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله شَطَطا قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٨٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله لَقَدْ قُلْنا إذا شَطَطا يقول كذبـا.

١٧٢٨٩ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله لَقَدْ قُلْنا إذا شَطَطا قال: لقد قلنا إذن خطأ، قال: الشطط: الـخطأ من القول.

١٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هَـَؤُلآءِ قَوْمُنَا اتّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّه كَذِباً }.

يقول عزّ ذكره مخبرا عن قـيـل الفتـية من أصحاب الكهف: هؤلاء قومنا اتـخذوا من دون اللّه آلهة يعبدونها من دونه لَوْلا يَأْتُونَ عَلَـيْهمْ بسُلْطانٍ بَـيّنٍ يقول: هلا يأتون علـى عبـادتهم إياها بحجة بـينة. وفـي الكلام مـحذوف اجتزىء بـما ظهر عما حذف، وذلك فـي قوله: لَوْلا يَأْتُونَ عَلَـيْهمْ بسُلْطانٍ بَـيّنٍ فـالهاء والـميـم فـي علـيهم من ذكر الاَلِهة، والاَلهة لا يؤتـى علـيها بسلطان، ولا يُسأل السلطان علـيها، وإنـما يسأل عابدوها السلطان علـى عبـادتهموها، فمعلوم إذ كان الأمر كذلك، أن معنى الكلام: لولا يأتون علـى عبـادتهموها، واتـخاذهموها آلهة من دون اللّه بسلطان بـين. وبنـحو ما قلنا فـي معنى السلطان، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٩٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله لَوْلا يَأْتُونَ عَلَـيْهمْ بسُلْطانٍ بَـيّنٍ يقول: بعذر بـين.

وعنى بقوله عزّ ذكره: فَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ افْتَرَى علـى اللّه كَذِبـا ومن أشدّ اعتداء وإشراكا بـاللّه ، مـمن اختلق، فتـخرّص علـى اللّه كذبـا، وأشرك مع اللّه فـي سلطانه شريكا يعبده دونه، ويتـخده إلها.

١٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاّ اللّه فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُم مّن رّحْمَتِهِ وَيُهَيّىءْ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقاً }.

يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل بعض الفتـية لبعض: وإذا اعتزلتـم أيها الفتـية قومكم الذين اتـخذوا من دون اللّه آلهة وَما يَعْبُدُونَ إلاّ اللّه يقول: وإذا اعتزلتـم قومكم الذين يعبدون من الاَلهة سوى اللّه ، ف (ما) إذ كان ذلك معناه فـي موضع نصب عطفـا لها علـى الهاء، والـميـم التـي فـي قوله وإذِ اعْتَزَلْتُـمُوهُمْ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٩١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله وَإذَ اعْتَزَلْتُـمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إلاّ اللّه وهي فـي مصحف عبد اللّه : (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه ) هذا تفسيرها.

وأما قوله: فَأْوُوا إلـى الكَهْفِ فإنه يعني به: فصيروا إلـى غار الـجبل الذي يسمّى بنـجلوس، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يقول: يبسط لكم ربكم من رحمته بتـيسيره لكم الـمخرج من الأمر الذي قد رُمِيتـم به من الكافر دقـينوس وطلبه إياكم لعرضكم علـى الفتنة.

و قوله: فَأْوُوا إلـى الكَهْفِ جواب لإذ، كأن معنى الكلام: وإذ اعتزلتـم أيها القوم قومكم، فأْوُوا إلـى الكهف كما يقال: إذ أذنبت فـاستغفر اللّه وتب إلـيه.

و قوله: ويُهَيّىءْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مِرْفَقا يقول: ويـيسر لكم من أمركم الذي أنتـم فـيه من الغمّ والكرب خوفـا منكم علـى أنفسكم ودينكم مرفقا، و يعني بـالـمرفق: ما ترتفقون به من شيءْ. وفـي الـمرفق من الـيد وغير الـيد لغتان: كسر الـميـم وفتـح الفـاء، وفتـح الـميـم وكسر الفـاء. وكان الكسائي يُنكر فـي مِرْفَق الإنسان الذي فـي الـيد إلا فتـح الفـاء وكسر الـميـم. وكان الفرّاء يحكي فـيهما، أعنـي فـي مرفق الأمر والـيد اللغتـين كلتـيهما، وكان ينشد فـي ذلك قول الشاعر:

(بتّ أُجافِـي مِرْفَقا عَنْ مِرْفَقِـي )

ويقول: كسر الـميـم فـيه أجود.

وكان بعض نـحويّـي أهل البصرة يقول فـي قوله: مِنْ أمْرِكُمْ مِرْفَقا شيئا ترتفقون به مثل الـمقطع، ومرفقا جعله اسما كالـمسجد، ويكون لغة، يقولون: رفق يَرْفُق مَرْفقا، وإن شئت مَرْفقا تريد رفقا ولـم يُقْرأ.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك. فقرأته عامّة قرّاء أهل الـمدينة: (ويُهَيّىءْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مَرْفِقا) بفتـح الـميـم وكسر الفـاء، وقرأته عامّة قرّاء العراق فـي الـمصرين مِرْفَقا بكسر الـميـم وفتـح الفـاء.

والصواب من

القول فـي ذلك أن يقال: إنهما قراءتان بـمعنى واحد، قد قرأ بكلّ واحدة منهما قرّاء من أهل القرآن، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الذي أختار فـي قراءة ذلك: ويُهَيّىءءْ لَكُمْ أمْرِكُمْ مِرْفَقا بكسر الـميـم وفتـح الفـاء، لأن ذلك أفصح اللغتـين وأشهرهما فـي العرب، وكذلك ذلك فـي كلّ ما ارتُفق به من شيء.

١٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{وَتَرَى الشّمْسَ إِذَا طَلَعَت تّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ ...}.

يقول تعالـى ذكره وَتَرَى الشّمْسَ يامـحمد إذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الـيَـمِينِ. يعني ب قوله: تَزَاوَرُ: تعدِل وتـميـل، من الزّوَر: وهو الْعِوَج والـميـل يقال منه: فـي هذه الأرض زَوَر: إذا كان فـيها اعوجاج، وفـي فلان عن فلان ازْورار، إذا كان فـيه عنه إعراض ومنه قول بشر بن أبـي خازم:

يَؤُمّ بِها الـحُدَاةُ مِياهَ نَـخْـلٍوَفِـيها عَنْ أبـانَـينِ ازْوِرَارُ

 يعني : إعراضا وصدّا.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة ومكة والبصرة: (تَزّاوَرُ) بتشديد الزاي، بـمعنى: تتزاور بتاءين، ثم أدغم إحدى التاءين فـي الزاي، كما

قـيـل: تظّاهرون علـيهم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفـيـين: تَزَاوَرُ بتـخفـيف التاء والزاي، كأنه عنى به تفـاعل من الزور. ورُوي عن بعضهم: (تَزْوَرّ) بتـخفـيف التاء وتسكين الزاي وتشديد الراء مثل تـحمّر، وبعضهم: (تَزْوَارّ) مثل تـحمارّ.

والصواب من

القول فـي قراءة ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان، أعنـي تَزَاوَرُ بتـخفـيف الزاي، و تَزّاوَرُ بتشديدها معروفتان، مستفـيضة القراءة بكلّ واحدة منهما فـي قرّاء الأمصار، متقاربتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب. وأما القراءتان الأخريان فإنهما قراءتان لا أرى القراءة بهما، وإن كان لهما فـي العربـية وجه مفهوم، لشذوذهما عما علـيه قرأة الأمصار. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٩٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي الوضاح، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جبـير، قال: وَتَرى الشّمْسَ إذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الـيَـمِينِ قال: تـميـل.

١٧٢٩٣ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الـيَـمِينِ يقول: تـميـل عنهم.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَتَرَى الشّمْسَ إذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الـيَـمِينِ وإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمالِ يقول: تـميـل عن كهفهم يـمينا وشمالاً.

١٧٢٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَتَرى الشّمْسَ إذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الـيَـمِينِ يقول: تـميـل ذات الـيـمين، تدعهم ذات الـيـمين.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الـيَـمِينِ قال: تـميـل عن كهفهم ذات الـيـمين.

١٧٢٩٥ـ حُدثت عن يزيد بن هارون، عن سفـيان بن حسين، عن يَعْلَـى بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، قال: لو أن الشمس تطلع علـيهم لأحرقتهم، ولو أنهم لا يقلّبون لأكلتهم الأرض، قال: وذلك قوله: وَتَرى الشّمْسَ إذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرْ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الـيَـمِينِ وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمالِ.

حدثنـي مـحمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا موسى بن إسماعيـل، قال: حدثنا مـحمد بن مسلـم بن أبـي الوضاح، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جبـير، قال: تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ تـميـل.

و قوله: وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمالِ

يقول تعالـى ذكره: وإذا غربت الشمس تتركهم من ذات شمالهم. وإنـما معنى الكلام: وترى الشمس إذا طلعت تعدل عن كهفهم، فتطلع علـيه من ذات الـيـمين، لئلا تصيب الفتـية، لأنها لو طلعت علـيهم قبـالهم لأحرقتهم وثـيابهم، أو أشحبتهم. وإذا غربت تتركهم بذات الشمال، فلا تصيبهم يقال منه: قرضت موضع كذا: إذا قطعته فجاوزته. وكذلك كان يقول بعض أهل العلـم بكلام العرب من أهل البصرة. وأما الكوفـيون فإنهم يزعمون أنه الـمـحاذاة، وذكروا أنهم سمعوا من العرب قرضته قُبُلا ودُبُرا، وحذوته ذات الـيـمين والشمال، وقُبلاً ودبرا: أي كنت بحذائه قالوا: والقرض والـحذو بـمعنى واحد. وأصل القرض: القطع، يقال منه: قرضت الثوب: إذا قطعته ومنه قـيـل للـمقراض: مقراض، لأنه يقطع ومنه قرض الفأر الثوب ومنه قول ذي الرّمّة:

إلـى ظُعْنٍ يَقْرِضْنَ أجْوَازَ مُشْرِفٍشِمالاً وعَنْ أيْـمانِهنّ الفَوَارِسُ

 يعني ب قوله: يَقْرِضْن: يقطعن. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٢٩٦ـ حدثنـي علـيّ، قال: ثنـي أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمالِ يقول: تَذَرُهم.

١٧٢٩٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي الوضاح، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جبـير، قال وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ تتركهم ذات الشمال.

١٧٢٩٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: تَقْرِضُهُمْ قال: تتركهم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٢٩٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمالِ يقول: تدعهم ذات الشمال.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمر، عن قتادة ، قوله: تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمالِ قال: تَدَعُهم ذات الشمال.

حدثنا ابن سنان القَزّاز، قال: حدثنا موسى بن إسماعيـل، قال: أخبرنا مـحمد بن مسلـم بن أبـي الوضّاح عن سالـم، عن سعيد بن جبـير وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ قال: تتركهم.

و قوله: وَهُمْ فِـي فَجْوَةٍ مِنْهُ يقول: والفتـية الذين أووا إلـيه فـي متسع منه يُجْمع: فَجَوات، وفِجَاء مـمدودا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٠٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَهُمْ فِـي فَجْوَةٍ مِنْهُ يقول: فـي فضاء من الكهف، قال اللّه : ذلكَ مِنْ آياتِ اللّه .

١٧٣٠١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي الوضّاح، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جبـير وَهُمْ فِـي فَجْوَةٍ مِنْهُ قال: الـمكان الداخـل.

١٧٣٠٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد وَهُمْ فِـي فَجْوَةٍ مِنْهُ قال: الـمكان الذاهب.

حدثنـي ابن سِنان، قال: حدثنا موسى بن إسماعيـل، قال: حدثنا مـحمد بن مسلـم أبو سعيد بن أبـي الوضّاح، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جبـير فِـي فَجْوَةٍ مِنْهُ قال: فـي مكان داخـل.

و قوله: ذلكَ مِنْ آياتِ اللّه يقول عزّ ذكره: فعلنا هذا الذي فعلنا بهؤلاء الفتـية الذين قصصنا علـيكم أمرهم من تصيـيرناهم، إذ أردنا أن نضرب علـى آذانهم بحيث تزاور الشمس عن مضاجعهم ذات الـيـمين إذا هي طلعت، وتقرضهم ذات الشمال إذا هي غَرَبت، مع كونهم فـي الـمتسع من الـمكان، بحيث لاتُـحرْقهم الشمس فتُشحبهم، ولا تُبْلـي علـى طول رقدتهم ثـيابهم، فتعفَن علـى أجسادهم، من حجج اللّه وأدلته علـى خـلقه، والأدلة التـي يستدلّ بها أولو الألبـاب علـى عظيـم قدرته وسلطانه، وأنه لا يُعجزه شيء أراده. وقوله مَنْ يَهْدِ اللّه فَهُوَ الـمُهْتَدِ يقول عزّ وجلّ: من يوفّقه اللّه للاهتداء بآياته وحججه إلـى الـحقّ التـي جعلها أدلة علـيه، فهو الـمهتدي. يقول: فهو الذي قد أصاب سبـيـل الـحقّ وَمَنْ يُضْلِلْ يقول: ومن أضله اللّه عن آياته وأدلته، فلـم يوفقه للاستدلال بها علـى سبـيـل الرشاد فَلَنْ تَـجِد لَهُ وَلِـيّا مُرْشِدا يقول: فلن تـجد له يا مـحمد خـلـيلاً وحلـيفـا يرشده لإصابتها، لأن التوفـيق والـخِذْلان بـيد اللّه ، يوفق من يشاء من عبـاده، ويخذل من أراد يقول: فلا يَحْزنُك إدبـار من أدبر عنك من قومك وتكذيبهم إياك، فإنـي لو شئت هديتهم فآمنوا، وبـيدي الهداية والضلال.

١٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ ...}.

 

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : وتـحسب يا مـحمد هؤلاء الفتـية الذين قصصنا علـيك قصتهم، لو رأيتهم فـي حال ضربنا علـى آذانهم فـي كهفهم الذي أووا إلـيه أيقاظا. والأيقاظ: جمع يَقِظ ومنه قول الراجز:

وَوَجَدُوا إخْوَتهُمْ أيْقاظاوسَيْفَ غَيّاظٍ لَهُمْ غَيّاظا

و قوله: وَهُمْ رُقُودٌ يقول: وهم نـيام. والرقود: جمع راقد، كالـجلوس: جمع جالس، والقعود: جمع قاعد.

و قوله: وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ الـيَـمِينَ وَذَاتَ الشّمالِ

يقول جلّ ثناؤه: ونقلّب هؤلاء الفتـية فـي رقدتهم مرّة للـجنب الأيـمن، ومرّة للـجنب الأيسر، كما:

١٧٣٠٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ الـيَـمِينِ وَذَات الشّمالِ وهذا التقلـيب فـي رقدتهم الأولـى. قال: وذُكر لنا أن أبـا عياض قال: لهم فـي كل عام تقلـيبتان.

١٧٣٠٤ـ حُدثت عن يزيد، قال: أخبرنا سفـيان بن حسين، عن يعلـى بن مسلـم عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ الـيَـمِينِ وَذَاتَ الشّمالِ قال: لو أنهم لا يقلّبون لأكلتهم الأرض.

و قوله: وكَلْبُهُمْ بـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بـالوَصِيدِ اختلف أهل التأويـل فـي الذي عنى اللّه ب قوله: وكَلْبُهُمْ بـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ فقال بعضهم: هو كلب من كلابهم كان معهم. وقد ذكرنا كثـيرا مـمن قال ذلك فـيـما مضى. وقال بعضهم: كان إنسانا من الناس طبـاخا لهم تَبِعهم.

وأما الوصيد، فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله، فقال بعضهم: هو الفِناء. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٠٥ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: بـالوَصِيد يقول: بـالفِناء.

١٧٣٠٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مَهديّ، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي الوضّاح، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جبـير وكَلْبُهُمْ بـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بـالوَصِيدِ قال: بـالفناء.

١٧٣٠٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بـالوَصِيد قال: بـالفناء.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد بـالوَصِيد قال: بـالفناء. قال ابن جريج: يـمسك بـاب الكهف.

١٧٣٠٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَكَلْبُهُمْ بـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بـالوَصِيدِ يقول: بفناء الكهف.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، قوله: بـالوَصِيدِ قال: بفناء الكهف.

١٧٣٠٩ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: بـالوَصِيدِ قال: يعني بـالفناء.

وقال آخرون: الوَصِيد: الصعيد. ذكر من قال ذلك:

١٧٣١٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وكَلْبُهُمْ بـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بـالوَصِيدِ يعني فناءهم، ويقال: الوصيد: الصعيد.

١٧٣١١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن هارون، عن عنترة، عن سعيد بن جبـير، فـي قوله: وكَلْبُهُمْ بـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بـالوَصِيدِ قال: الوصيد: الصعيد.

١٧٣١٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير، عن عمرو، فـي قوله: وكَلْبُهُمْ بـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بـالوَصِيدِ قال: الوصيد: الصعيد، التراب.

وقال آخرون: الوصيد البـاب. ذكر من قال ذلك:

١٧٣١٣ـ حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شبـيب، عن عكرمة، عن ابن عباس وكَلْبُهُمْ بـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بـالوَصِيدِ قال: بـالبـاب، وقالوا بـالفناء.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: الوصيد: البـاب، أو فناء البـاب حيث يغلق البـاب، وذلك أن البـاب يُوصَد، وإيصاده: إطبـاقه وإغلاقه من قول اللّه عزّ وجلّ: إنّهَا عَلَـيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ وفـيه لغتان: الأصيد، وهي لغة أهل نـجد، والوصيد: وهي لغة أهل تهامة. وذُكِر عن أبـي عمرو بن العلاء، قال: إنها لغة أهل الـيـمن، وذلك نظير قولهم: ورّخت الكتاب وأرخته، ووكدت الأمر وأكدته فمن قال الوصيد، قال: أوصدت البـاب فأنا أُوصِده، وهو مُوصَد ومن قال الأصيد، قال: آصدت البـاب فهو مُؤْصَد، فكان معنى الكلام: وكلبهم بـاسط ذَراعيه بفناء كهفهم عند البـاب، يحفظ علـيهم بـابه.

و قوله: لَوِ اطّلَعْتَ عَلَـيْهِمْ لَوَلّـيْتَ مِنْهُمْ فِرَارا يقول: لو اطلعت علـيهم فـي رقدتهم التـي رقدوها فـي كهفهم، لأدبرت عنهم هاربـا منهم فـارّا، وَلُـمِلئْتَ مِنْهُمْ رُعْبـا يقول: ولـملئت نفسُك من اطلاعك علـيهم فَزَعا، لـما كان اللّه ألبسهم من الهيبة، كي لا يصل إلـيهم واصل، ولا تلـمِسهم يد لامس حتـى يبلغ الكتاب فـيهم أجله، وتوقظهم من رقدتهم قدرته وسلطانه فـي الوقت الذي أراد أن يجعلهم عبرة لـمن شاء من خـلقه، وآية لـمن أراد الاحتـجاج بهم علـيه من عبـاده، لـيعلـموا أن وعد اللّه حقّ، وأنّ الساعة آتـية لا ريب فـيها.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَلُـملِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبـا فقرأته عامة قرّاء الـمدينة بتشديد اللام من قوله: (ولُـملّئْتَ) بـمعنى أنه كان يـمتلـىءَ مرّة بعد مرّة. وقرأ ذلك عامة قراء العراق: وَلُـملِئْتَ بـالتـخفـيف، بـمعنى: لـملئت مرّة، وهما عندنا قراءتان مستفـيضتان فـي القراءة، متقاربتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.

١٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ ...}.

يقول تعالـى ذكره: كما أرقدنا هؤلاء الفتـية فـي الكهف، فحفظناهم من وصول واصل إلـيهم، وعين ناظر أن ينظر إلـيهم، وحفظنا أجسامهم من البلاء علـى طول الزمان، وثـيابهم من العفن علـى مرّ الأيام بقدرتنا فكذلك بعثناهم من رقدتهم، وأيقظناهم من نومهم، لنعرّفهم عظيـم سلطاننا، وعجيب فعلنا فـي خـلقنا، ولـيزدادوا بصيرة فـي أمرهم الذي هم علـيه من براءتهم من عبـادة الاَلهة، وإخلاصهم لعبـادة اللّه وحده لا شريك له، إذا تبـيّنوا طول الزمان علـيهم، وهم بهيئتهم حين رقدوا.

و قوله: لِـيَتَساءَلُوا بَـيْنَهُمْ يقول: لـيسأل بعضهم بعضا قالَ قائلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُـمْ يقول عزّ ذكره: فتساءلوا فقال قائل منهم لأصحابه: كَمْ لبثْتـمْ وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم قالُوا لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ يقول: فأجابه الاَخرون فقالوا: لَبِثْنا يوما أو بعض يوم. ظنا منهم أن ذلك كذلك كان، فقال الاَخرون: رَبّكُمْ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثْتُـمْ فسلّـموا العلـم إلـى اللّه .

و قوله: فـابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلـى الـمَدِينَةِ يعني مدينتهم التـي خرجوا منها هِرابـا، التـي تسمى أفسوس فَلْـيَنْظُرْ أيّها أزْكَى طَعاما فَلْـيأَتِكُمْ بِرزْقٍ مِنْهُ ذكر أنهم هبوا من رقدتهم جياعا، فلذلك طلبوا الطعام. ذكر من قال ذلك، وذكر السبب الذي من أجله ذكر أنهم بعثوا من رقدتهم حين بعثوا منها:

١٧٣١٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرنـي إسماعيـل بن بشروس، أنه سمع وهب بن منبه يقول: إنهم غبروا، يعني الفتـية من أصحاب الكهف بعد ما بنى علـيهم بـاب الكهف زمانا بعد زمان، ثم إن راعيا أدركه الـمطر عند الكهف، فقال: لو فتـحت هذا الكهف وأدخـلت غنـمي من الـمطر، فلـم يزل يعالـجه حتـى فتـح ما أدخـله فـيه، وردّ إلـيهم أرواحهم فـي أجسامهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق يشتري طعاما فلـما أتـى بـاب مدينتهم، رأى شيئا يُنكره، حتـى دخـل علـى رجل فقال: بعنـي بهذه الدراهم طعاما، فقال: ومن أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لـي أمس، فآوانا اللـيـل، ثم أصبحوا، فأرسلونـي، فقال: هذه الدراهم كانت علـى عهد مُلك فلان، فأنـيّ لك بها؟ فرفعه إلـى الـملك، وكان ملكا صالـحا، فقال: من أين لك هذه الوَرق؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لـي أمس، حتـى أدركَنا اللـيـل فـي كهف كذا وكذا، ثم أمرونـي أن أشتري لهم طعاما قال: وأين أصحابك؟ قال: فـي الكهف قال: فـانطلقوا معه حتـى أتوا بـاب الكهف، فقال: دعونـي أدخـل علـى أصحابـي قبلكم فلـما رأوه، ودنا منهم ضُرِب علـى أذنه وآذانهم، فجعلوا كلـما دخـل رجل أرعب، فلـم يقدروا علـى أن يدخـلوا علـيهم، فبنوا عندهم كنـيسة، اتـخذوها مسجدا يصلون فـيه.

١٧٣١٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، عن عكرمة، قال: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، رزقهم اللّه الإسلام، فتعوّذوا بدينهم، واعتزلوا قومهم، حتـى انتهوا إلـى الكهف، فضَرَب اللّه علـى سمعهم، فلبثوا دهرا طويلاً، حتـى هَلكت أمتهم، وجاءت أمّة مسلـمة، وكان ملكهم مسلـما، فـاختلفوا فـي الروح والـجسد، فقال قائل: يبعث الروح والـجسد جميعا وقال قائل: يُبعث الروح، فأما الـجسد فتأكله الأرض، فلا يكون شيئا فشقّ علـى ملكهم اختلافهم، فـانطلق فلبس الـمُسُوح، وجلس علـى الرّماد، ثم دعا اللّه تعالـى فقال: أي ربّ، قد ترى اختلاف هؤلاء، فـابعث لهم آية تبـين لهم، فبعث اللّه أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما، فدخـل السوق، فجعل يُنكر الوجوه، ويعرف الطرق، ويرى الإيـمان بـالـمدينة ظاهرا، فـانطلق وهو مستـخف حتـى أتـى رجلاً يشتري منه طعاما فلـما نظر الرجل إلـى الوَرِق أنكرها، قال: حسبت أنه قال: كأنها أخفـاف الرّبَع، يعني الإبل الصغار، فقال له الفتـى: ألـيس ملككم فلانا؟ قال: بل ملكنا فلان فلـم يزل ذلك بـينهما حتـى رفعه إلـى الـملك، فسأله، فأخبره الفتـى خبر أصحابه، فبعث الـملك فـي الناس، فجمعهم، فقال: إنكم قد اختلفتـم فـي الروح والـجسد، وإن اللّه قد بعث لكم آية، فهذا رجل من قوم فلان، يعني ملكهم الذي مضى، فقال الفتـى: انطلقوا بـي إلـى أصحابـي فركب الـملك، وركب معه الناس حتـى انتهوا إلـى الكهف فقال الفتـى دعونـي أدخـل إلـى أصحابـي، فلـما أبصرهم ضُرِب علـى أذنه وعلـى آذانهم فلـما استبطؤوه دخـل الـملك، ودخـل الناس معه، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا، غير أنها لا أرواح فـيها، فقال الـملك: هذه آية بعثها اللّه لكم. قال قتادة : وعن ابن عباس ، كان قد غزا مع حبـيب بن مسلـمة، فمرّوا بـالكهف، فإذا فـيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أصحاب الكهف، فقال ابن عباس : لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاث مئة سنة.

١٧٣١٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فـيـما ذكر من حديث أصحاب الكهف، قال: ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالـح يقال له تـيذوسيس فلـما ملك بقـي ملكه ثمانـيا وستـين سنة، فتـحزّب الناس فـي مُلكه، فكانوا أحزابـا، فمنهم من يؤمن بـاللّه ، ويعلـم أنّ الساعة حقّ، ومنهم من يكذّب، فكبر ذلك علـى الـملك الصالـح تـيذوسيس، وبكى إلـى اللّه وتضرّع إلـيه، وحزن حزنا شديدا لـما رأى أهل البـاطل يزيدون ويظهرون علـى أهل الـحقّ ويقولون: لا حياة إلا الـحياة الدنـيا، وإنـما تُبعث النفوس، ولا تُبعث الأجساد، ونسُوا ما فـي الكتاب فجعل تـيذوسيس يرسل إلـى من يظنّ فـيه خيرا، وأنهم أئمة فـي الـحقّ، فجعلوا يكذّبون بـالساعة، حتـى كادوا أن يُحوّلوا الناس عن الـحقّ ومِلة الـحَواريـين فلـما رأى ذلك الـملك الصالـح تـيذوسيس، دخـل بـيته فأغلقه علـيه، ولبس مِسْحا وجعل تـحته رمادا، ثم جلس علـيه، فدأب ذلك لـيـله ونهاره زمانا يتضرّع إلـى اللّه ، ويبكي إلـيه مـما يرى فـيه الناس ثم إن الرحمن الرحيـم الذي يكره هلكة العبـاد، أراد أن يَظْهر علـى الفتـية أصحاب الكهف، ويبـين للناس شأنهم، ويجعلهم آية لهم، وحجة علـيهم، لـيعلـموا أن الساعة آتـية لا ريب فـيها، وأن يستـجيب لعبده الصالـح تـيذوسيس، ويتـمّ نعمته علـيه، فلا ينزع منه مُلكه، ولا الإيـمان الذي أعطاه، وأن يعبد اللّه لا يشرك به شيئا، وأن يجمع من كان تبدّد من الـمؤمنـين، فألقـى اللّه فـي نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف، وكان الـجبل بنـجلوس الذي فـيه الكهف لذلك الرجل، وكان اسم ذلك الرجل أولـياس، أن يهدم البنـيان الذي علـى فم الكهف، فـيبنى به حظيرة لغنـمه، فـاستأجر عاملـين، فجعلا ينزعان تلك الـحجارة، ويبنـيان بها تلك الـحظيرة، حتـى نزعا ما علـى فم الكهف، حتـى فتـحا عنهم بـاب الكهف، وحجبهم اللّه من الناس بـالرعب فـيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إلـيهم غاية ما يـمكنه أن يدخـل من بـاب الكهف، ثم يتقدّم حتـى يرى كلبهم دونهم إلـى بـاب الكهف نائما فلـما نزعا الـحجارة، وفتـحا علـيهم بـاب الكهف، أذن اللّه ذو القدرة والعظمة والسلطان مـحيـي الـموتـى للفتـية أن يجلسوا بـين ظهري الكهف، فجلسوا فرحين مُسْفِرة وجوههم طيّبة أنفُسهم، فسلّـم بعضهم علـى بعض، حتـى كأنـما استـيقظوا من ساعتهم التـي كانوا يستـيقظون لها إذا أصبحوا من لـيـلتهم التـي يبـيتون فـيها. ثم قاموا إلـى الصلاة فصلّوا، كالذي كانوا يفعلون، لا يرَون، ولا يُرَى فـي وجوههم، ولا أبشارهم، ولا ألوانهم شيء يُنكرونه كهيئتهم حين رقدوا بعشيّ أمس، وهم يرون أن ملكهم دقـينوس الـجبـار فـي طلبهم والتـماسهم.

فلـما قضوا صلاتهم كما كانوا يفعلون، قالوا لـيـملـيخا، وكان هو صاحب نفقتهم، الذي كان يبتاع لهم طعامهم وشرابهم من الـمدينة، وجاءهم بـالـخبر أن دقـينوس يـلتـمسنهم، ويسأل عنهم: أنبئنا يا أخي ما الذي قال الناس فـي شأننا عشيّ أمسى عند هذا الـجبـار؟ وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون، وقد خُيّـل إلـيهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون فـي اللـيـلة التـي أصبحوا فـيها، حتـى تساءلوا بـينهم، فقال بعضهم لبعض: كَمْ لَبِثْتُـمْ نـياما؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبّكُمْ أعْلَـمُ بِـما لَبِثْتُـمْ وكل ذلك فـي أنفسهم يسير. فقال لهم يـملـيخا: افتُقِدْتـم والتـمستـم بـالـمدينة، وهو يريد أن يُؤْتَـى بكم الـيوم، فتَذْبحُون للطواغيت، أو يقتُلُكم، فما شاء اللّه بعد ذلك. فقال لهم مكسلـمينا: يا إخوتاه اعلـموا أنكم ملاَقوْن، فلا تكفروا بعد إيـمانكم إذا دعاكم عدوّ اللّه ، ولا تُنكروا الـحياة التـي لا تبـيد بعد إيـمانكم بـاللّه ، والـحياة من بعد الـموت ثم قالوا لـيـملـيخا: انطلق إلـى الـمدينة فتسمّع ما يقال لنا بها الـيوم، وما الذي نُذكر به عند دقـينوس، وتلطّف، ولا يشعَرنّ بنا أحد، وابتع لنا طعاما فأتنا به، فإنه قد آن لك، وزدنا علـى الطعام الذي قد جئتنا به، فإنه قد كان قلـيلاً، فقد أصبحنا جياعا ففعل يـملـيخا كما كان يفعل، ووضع ثـيابه، وأخذ الثـياب التـي كان يتنكر فـيها، وأخذ وَرِقا من نفقتهم التـي كانت معهم، التـي ضُربت بطابَع دقـينوس الـملك، فـانطلق يـملـيخا خارجا فلـما مرّ ببـاب الكهف، رأى الـحجارة منزوعة عن بـاب الكهف، فعجب منها، ثم مرّ فلـم يبـال بها، حتـى أتـى الـمدينة مستـخفـيا يصدّ عن الطريق تـخوّفـا أن يراه أحد من أهلها، فـيعرفه، فـيذهب به إلـى دقـينوس، ولا يشعر العبد الصالـح أن دقـينوس وأهل زمانه قد هَلكوا قبل ذلك بثلاث مئة وتسع سنـين، أو ما شاء اللّه من ذلك إذ كان ما بـين أن ناموا إلـى أن استـيقظوا ثلاث مئة وتسع سنـين. فلـما رأى يـملـيخا بـاب الـمدينة رفع بصره، فرأى فوق ظهر البـاب علامة تكون لأهل الإيـمان، إذا كان ظاهرا فـيها فلـما رآها عجب وجعل ينظر مستـخفـيا إلـيها فنظر يـمينا وشمالاً، فتعجب بـينه وبـين نفسه، ثم ترك ذلك البـاب، فتـحوّل إلـى بـاب آخر من أبوابها، فنظر فرأى من ذلك ما يحيط بـالـمدينة كلها، ورأى علـى كلّ بـاب مثل ذلك فجعل يخيـل إلـيه أن الـمدينة لـيس بـالـمدينة التـي كان يعرف، ورأى ناسا كثـيرين مـحدثـين لـم يكن يراهم قبل ذلك، فجعل يـمشي ويعجب ويخيـل إلـيه أنه حيران ثم رجع إلـى البـاب الذي أتـى منه، فجعل يعجب بـينه وبـين نفسه ويقول: يا لـيت شعري، أما هذه عشية أمس، فكان الـمسلـمون يخفون هذه العلامة ويستـخفون بها، وأما الـيوم فإنها ظاهرة لعلـيّ حالـم؟ ثم يرى أنه لـيس بنائم فأخذ كساءه فجعله علـى رأسه، ثم دخـل الـمدينة، فجعل يـمشي بـين ظهري سوقها، فـيسمع أناسا كثـيرا يحلفون بـاسم عيسى ابن مريـم، فزاده فرقا، ورأى أنه حيران، فقام مُسندا ظهره إلـى جدار من جُدُر الـمدينة ويقول فـي نفسه: واللّه ما أدري ما هذا أما عشية أمس فلـيس علـى الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريـم إلا قُتل وأما الغداة فأسمعهم، وكلّ إنسان يذكرأمر عيسى لا يخاف ثم قال فـي نفسه: لعلّ هذه لـيست بـالـمدينة التـي أعرف أسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدا منهم، واللّه ما أعلـم مدينة قرب مدينتنا فقام كالـحيران لا يتوجه وجها ثم لقـي فتـى من أهل الـمدينة، فقال له: ما اسم هذه الـمدينة يا فتـى؟ قال: اسمها أفسوس، فقال فـي نفسه: لعلّ بـي مسا، أو بـي أمر أذهب عقلـي؟ واللّه يحقّ لـي أن أسرع الـخروج منها قبل أن أخزى فـيها أو يصيبنـي شرّ فأهلك. هذا الذي يحدّث به يـملـيخا أصحابه حين تبـين لهم ما به.

ثم إنه أفـاق فقال: واللّه لو عجلت الـخروج من الـمدينة قبل أن يفطن بـي لكان أكيس لـي فدنا من الذين يبـيعون الطعام، فأخرج الورِق التـي كانت معه، فأعطاها رجلاً منهم، فقال: بعنـي بهذه الورِق يا عبد اللّه طعاما. فأخذها الرجل، فنظر إلـى ضرب الورق ونقشها، فعجب منها، ثم طرحها إلـى رجل من أصحابه، فنظر إلـيها، ثم جعلوا يتطارحونها بـينهم من رجل إلـى رجل، ويتعجبون منها، ثم جعلوا يتشاورون بـينهم ويقول بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد أصاب كنزا خبـيئا فـي الأرض منذ زمان ودهر طويـل فلـما رآهم يتشاورون من أجله فرق فرقا شديدا، وجعل يرتعد ويظنّ أنهم قد فطنوا به وعرفوه، وأنهم إنـما يريدون أن يذهبوا به إلـى ملكهم دقـينوس يسلـمونه إلـيه. وجعل أناس آخرون يأتونه فـيتعرّفونه، فقال لهم وهو شديد الفرق منهم: أفضلوا علـيّ، فقد أخذتـم ورقـي فأمسكوا، وأما طعامكم فلا حاجة لـي به. قالوا له: من أنت يا فتـى، وما شأنك؟ واللّه لقد وجدت كنزا من كنوز الأوّلـين، فأنت تريد أن تـخفـيه منا، فـانطلق معنا فأرناه وشاركنا فـيه، نـخف علـيك ما وجدت، فإنك إن لا تفعل نأت بك السلطان، فنسلـمك إلـيه فـيقتلك. فلـما سمع قولهم، عجب فـي نفسه فقال: قد وقعت فـي كلّ شيء كنت أحذر منه ثم قالوا: يا فتـى إنك واللّه ما تستطيع أن تكتـم ما وجدت، ولا تظنّ فـي نفسك أنه سيخفـى حالك. فجعل يـملـيخا لا يدري ما يقول لهم وما يرجع إلـيهم، وفَرِق حتـى ما يحير إلـيهم جوابـا فلـما رأوه لا يتكلـم أخذوا كساءه فطوقوه فـي عنقه، ثم جعلوا يقودونه فـي سكك الـمدينة ملبّبـا، حتـى سمع به من فـيها، ف

قـيـل: أُخذ رجلٌ عنده كنزٌ.

واجتـمع علـيه أهل الـمدينة صغيرهم وكبـيرهم، فجعلوا ينظرون إلـيه ويقولون: واللّه ما هذا الفتـى من أهل هذه الـمدينة، وما رأيناه فـيها قطّ، وما نعرفه فجعل يـملـيخا لا يدري ما يقول لهم، مع ما يسمع منهم فلـما اجتـمع علـيه أهل الـمدينة، فَرِق، فسكت فلـم يتكلـم ولو أنه قال إنه من أهل الـمدينة لـم يصدّق. وكان مستـيقنا أنّ أبـاه وإخوته بـالـمدينة، وأن حسبه من أهل الـمدينة من عظماء أهلها، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا، وقد استـيقن أنه من عشية أمس يعرف كثـيرا من أهلها، وأنه لا يعرف الـيوم من أهلها أحدا.

فبـينـما هو قائم كالـحيران ينتظر متـى يأته بعض أهله، أبوه أو بعض إخوته فـيخـلصه من أيديهم، إذ اختطفوه فـانطلقوا به إلـى رئيسي الـمدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها، وهما رجلان صالـحان، كان اسم أحدهما أريوس، واسم الاَخر أسطيوس فلـما انطلق به إلـيهما، ظنّ يـملـيخا أنه يُنطلق به إلـى دقـينوس الـجبـار ملكهم الذي هربوا منه، فجعل يـلتفت يـمينا وشمالاً، وجعل الناس يسخرون منه، كما يُسخر من الـمـجنون والـحيران، فجعل يـملـيخا يبكي. ثم رفع رأسه إلـى السماء وإلـى اللّه ، ثم قال: اللّه مّ إله السموات والأرض، أولـج معي روحا منك الـيوم تؤيدنـي به عند هذا الـجبـار. وجعل يبكي ويقول فـي نفسه: فرق بـينـي وبـين إخوتـي يا لـيتهم يعلـمون ما لقـيت، وأنى يُذهب بـي إلـى دقـينوس الـجبـار فلو أنهم يعلـمون، فـيأتون، فنقوم جميعا بـين يدي دقـينوس فإنا كنا تواثقنا لنكوننّ معا، لا نكفر بـاللّه ولا نشرك به شيئا، ولا نعبد الطواغيت من دون اللّه . فُرّق بـينـي وبـينهم، فلن يرونـي ولن أراهم أبدا وقد كنا تواثقنا أن لا نفترق فـي حياة ولا موت أبدا. يا لـيت شعري ما هو فـاعل بـي؟ أقاتلـي هو أم لا؟ ذلك الذي يحدّث به يـملـيخا نفسه فـيـما أخبر أصحابه حين رجع إلـيهم.

فلـما انتهى إلـى الرجلـين الصالـحين أريوس وأسطيوس، فلـما رأى يـملـيخا أنه لـم يُذهب به إلـى دقـينوس، أفـاق وسكن عنه البكاء فأخذ أريوس وأسطيوس الورق فنظرا إلـيها وعجبـا منها، ثم قال أحدهما: أين الكنز الذي وجدت يا فتـى؟ هذا الورِق يشهد علـيك أنك قد وجدت كنزا فقال لهما يـملـيخا: ما وجدت كنزا ولكن هذه الورِق ورق آبـائي، ونقش هذه الـمدينة وضربها، ولكن واللّه ما أدري ما شأنـي، وما أدري ما أقول لكم فقال له أحدهما: مـمن أنت؟ فقال له يـملـيخا: ما أدري، فكنت أرى أنـي من أهل هذه القرية، قالوا: فمن أبوك ومن يعرفك بها؟ فأنبأهم بـاسم أبـيه، فلـم يجدوا أحدا يعرفه ولا أبـاه فقال له أحدهما: أنت رجل كذّاب لا تنبئنا بـالـحقّ فلـم يدر يـملـيخا ما يقول لهم، غيرأنه نكس بصره إلـى الأرض. فقال له بعض من حوله: هذا رجل مـجنون فقال بعضهم: لـيس بـمـجنون، ولكنه يحمق نفسه عمدا لكي ينفلت منكم فقال له أحدهما، ونظر إلـيه نظرا شديدا: أتظنّ أنك إذ تتـجانن نرسلك ونصدّقك بأن هذا مال أبـيك، وضرب هذه الورق ونقشها منذ أكثر من ثلاث مئة سنة؟ وإنـما أنت غلام شاب تظنّ أنك تأفكنا، ونـحن شمط كما ترى، وحولك سُراة أهل الـمدينة، وولاة أمرها، إنـي لأظننـي سآمر بك فتعذّب عذابـا شديدا، ثم أوثقك حتـى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت. فلـمال قال ذلك، قال يـملـيخا: أنبئونـي عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتـم صدقتكم عما عندي أرأيتـم دقـينوس الـملك الذي كان فـي هذه الـمدينة عشية أمس ما فعل؟ فقال له الرجل: لـيس علـى وجه الأرض رجل اسمه دقـينوس، ولـم يكن إلا ملك قد هلك منذ زمان ودهر طويـل، وهَلكت بعده قرون كثـيرة فقال له يـملـيخا: فواللّه إنـي إذا لـحيران، وما هو بـمصدّق أحد من الناس بـما أقول واللّه لقد علـمت، لقد فررنا من الـجبـار دقـينوس، وإنـي قد رأيته عشية أمس حين دخـل مدينة أفسوس، ولكن لا أدري أمدينة أفسوس هذه أم لا؟ فـانطلقا معي إلـى الكهف الذي فـي جبل بنـجلوس أريكم أصحابـي. فلـما سمع أريوس ما يقول يـملـيخا قال: يا قوم لعلّ هذه آية من آيات اللّه جعلها لكم علـى يدي هذا الفتـى، فـانطلقوا بنا معه يرنا أصحابه، كما قال. فـانطلق معه أريوس وأسطيوس، وانطلق معهم أهل الـمدينة كبـيرهم وصغيرهم، نـحو أصحاب الكهف لـينظروا إلـيهم.

ولـما رأى الفتـية أصحاب الكهف يـملـيخا قد احتبس علـيهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتـي به، ظنوا أنه قد أُخِذ فذُهب به إلـى ملكهم دَقْـينوس الذي هربوا منه. فبـينـما هم يظنون ذلك ويتـخوّفونه، إذ سمعوا الأصوات وجلبة الـخيـل مصعدة نـحوهم، فظنوا أنهم رُسل الـجبـار دقـينوس بعث إلـيهم لـيُؤْتـي بهم، فقاموا حين سمعوا ذلك إلـى الصلاة، وسلم بعضهم علـى بعض، وأوصى بعضهم بعضا، وقالوا: انطلقوا بنا نأت أخانا يـملـيخا، فإنه الاَن بـين يدي الـجبـار دقـينوس ينتظر متـى نأته. فبـينـما هم يقولون ذلك، وهم جلوس بـين ظهري الكهف، فلـم يروا إلا أريوس وأصحابه وقوفـا علـى بـاب الكهف. وسبقهم يـملـيخا، فدخـل علـيهم وهو يبكي. فلـما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن شأنه، فأخبرهم خبره وقصّ علـيهم النبأ كله، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نـياما بأمر اللّه ذلك الزمان كله، وإنـما أوقظوا لـيكونوا آية للناس، وتصديقا للبعث، ولـيعلـموا أن الساعة آتـية لا ريب فـيها. ثم دخـل علـى أثر يـملـيخا أريوس، فرأى تابوتا من نـحاس مختوما بخاتـم من فضة، فقام ببـاب الكهف ثم دعا رجالاً من عظماء أهل الـمدينة، ففتـح التابوت عندهم، فوجدوا فـيه لوحين من رصاص، مكتوبـا فـيهما كتاب، فقرأهما فوجد فـيهما: أن مكسلـمينا، ومـحسلـمينا، ويـملـيخا، ومرطونس، وكسطونس، ويبورس، ويكرنوس، ويطبـيونس، وقالوش، كانوا فتـية هربوا من ملكهم دقـينوس الـجبـار، مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخـلوا هذا الكهف فلـما أخبر بـمكانهم أمر بـالكهف فسدّ علـيهم بـالـحجارة، وإنا كتبنا شأنهم وقصة خبرهم، لـيعلـمه من بعدهم إن عثر علـيهم. فلـما قرأوه، عجبوا وحمدوا اللّه الذي أراهم آية للبعث فـيهم، ثم رفعوا أصواتهم بحمد اللّه وتسبـيحه. ثم دخـلوا علـى الفتـية الكهف، فوجودهم جلوسا بـين ظهريه، مُشرقة وجوههم، لـم تبل ثـيابهم. فخرّ أريوس وأصحابه سجودا، وحمدوا اللّه الذي أراهم آية من آياته. ثم كلـم بعضهم بعضا، وأنبأهم الفتـية عن الذين لقوا من ملكهم دقـينوس ذلك الـجبـار الذي كانوا هربوا منه. ثم إن أريوس وأصحابه بعثوا بريدا إلـى ملكهم الصالـح تـيذوسيس، أن عَجّل لعلك تنظر إلـى آية من آيات اللّه ، جعلها اللّه علـى ملكك، وجعلها آية للعالـمين، لتكون لهم نورا وضياء، وتصديقا بـالبعث، فـاعجل علـى فتـية بعثهم اللّه ، وقد كان توفـاهم منذ أكثر من ثلاث مئة سنة.

فلـما أتـى الـملك تـيذوسيس الـخبر، قام من الـمَسْندة التـي كان علـيها، ورجع إلـيه رأيه وعقله، وذهب عنه همه، ورجع إلـى اللّه عزّ وجلّ، فقال: أحمدك اللّه مّ ربّ السموات والأرض، أعبدك، وأحمدك، وأسبح لك تطوّلت علـيّ، ورحمتنـي برحمتك، فلـم تطفـىء النور الذي كنت جعلته لاَبـائي، وللعبد الصالـح قسطيطينوس الـملك، فلـما نبأ به أهل الـمدينة ركبوا إلـيه، وساروا معه حتـى أتوا مدينة أفسوس، فتلقاهم أهل الـمدينة، وساروا معه حتـى صعدوا نـحو الكهف حتـى أتوه فلـما رأى الفتـية تـيذوسيس، فرحوا به، وخرّوا سجودا علـى وجوههم وقام تـيذوسيس قدامهم، ثم اعتنقهم وبكى، وهم جلوس بـين يديه علـى الأرض يسبحون اللّه ويحمدونه، ويقول: واللّه ما أشبه بكم إلا الـحواريون حين رأوا الـمسيح. وقال: فرج اللّه عنكم، كأنكم الذي تُدْعَون فتـحْشَرون من القبور فقال الفتـية لتـيذوسيس: إنا نودّعك السلام، والسلام علـيك ورحمة اللّه ، حفظك اللّه ، وحفظ لك ملكك بـالسلام، ونعيذك بـاللّه من شرّ الـجنّ والإنس فأمر بعيش من خُـلّر ونشيـل. إن أسوأ ما سلك فـي بطن الإنسان أن لا يعلـم شيئا إلا كرامة إن أكرم بها، ولا هوان إن أهين به.

فبـينـما الـملك قائم، إذ رجعوا إلـى مضاجعهم، فناموا، وتوفـي اللّه أنفسهم بأمره. وقام الـملك إلـيهم، فجعل ثـيابه علـيهم، وأمر أن يجعل لكلّ رجل منهم تابوت من ذهب فلـما أَمْسَوا ونام، أتوه فـي الـمنام، فقالوا: إنا لـم نـخـلق من ذهب ولا فضة، ولكنا خُـلقنا من تراب وإلـى التراب نصير، فـاتركنا كما كنا فـي الكهف علـى التراب حتـى يبعثنا اللّه منه فأمر الـملك حينئذٍ بتابوت من ساج، فجعلوهم فـيه، وحجبهم اللّه حين خرجوا من عندهم بـالرعب، فلـم يقدر أحد علـى أن يدخـل علـيهم. وأمر الـملك فجعل كهفهم مسجدا يُصَلّـى فـيه، وجعل لهم عيدا عظيـما، وأمر أن يؤتـى كلّ سنة. فهذا حديث أصحاب الكهف.

١٧٣١٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن عبد العزيز بن أبـي روّاد، عن عبد اللّه بن عبـيد بن عمير، قال: بعثهم اللّه يعني الفتـية أصحاب الكهف وقد سلط علـيهم ملك مسلـم، يعني علـى أهل مدينتهم وسلّط اللّه علـى الفتـية الـجوع، فقال قائل منهم: كَمْ لَبِثْتُـمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال: فردّوا علـم ذلك إلـى اللّه ، قالُوا رَبّكُمْ أعْلَـمُ بِـما لَبِثْتُـمْ فـابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إلـى الـمَدِينَةِ وإذا معهم ورِق من ضرب الـملك الذي كانوا فـي زمانه فَلْـيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ: أي بطعام وَلا يُشْعِرَنّ بِكُمْ أحَدا. فخرج أحدهم فرأى الـمعالـم متنكرة حتـى انتهى إلـى الـمدينة، فـاستقبله الناس لا يعرف منهم أحدا فخرج ولا يعرفونه، حتـى انتهى إلـى صاحب الطعام، فسامه بطعامه، فقال صاحب الطعام: هات ورقك فأخرج إلـيه الورق، فقال: من أين لك هذا الورق؟ قال: هذه ورِقُنا وورِق أهل بلادنا فقال: هيهات هذه الورِق من ضرب فلان بن فلان منذ ثلاث مئة وتسع سنـين أنت أصبت كنزا ولست بتاركك حتـى أرفعك إلـى الـملك. فرفعه إلـى الـملك، وإذا الـملك مسلـم وأصحابه مسلـمون، ففرح واستبشر، وأظهر لهم أمره، وأخبرهم خبر أصحابه فبعثوا إلـى اللوح فـي الـخزانة، فأتوا به، فوافق ما وصف من أمرهم، فقال الـمشركون: نـحن أحقّ بهم هؤلاء أبناء آبـائنا، وقال الـمسلـمون: نـحن أحقّ بهم، هم مسلـمون منا. فـانطلقوا معه إلـى الكهف فلـما أتوا بـاب الكهف قال: دعونـي حتـى أدخـل علـى أصحابـي حتـى أبشرهم، فإنهم إن رأوكم معي أرعبتـموهم فدخـل فبشّرهم، وقبض اللّه أرواحهم. قال: وعمى اللّه علـيهم مكانهم، فلـم يهتدوا، فقال الـمشركون: نبنـي علـيهم بُنـيانا، فإنهم أبناء آبـائنا، ونعبد اللّه فـيها. وقال الـمسلـمون: نـحن أحقّ بهم، هم منا، نبنـي علـيهم مسجدا نصلـي فـيه، ونعبد اللّه فـيه.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب عندي قول من قال: إن اللّه تعالـى بعثهم من رقدتهم لـيتساءلوا بـينهم كما بـيّنا قبل، لأن اللّه عزّ ذكره، كذلك أخبر عبـاده فـي كتابه، وإن اللّه أعثر علـيهم القوم الذين أعثرهم علـيهم، لـيتـحقق عندهم ببعث اللّه هؤلاء الفتـية من رقدتهم بعد طول مدتها بهيئتهم يوم رقدوا، ولـم يشيبوا علـى مرّ الأيام واللـيالـي علـيهم، ولـم يهرَموا علـى كرّ الدهور والأزمان فـيهم قدرته علـى بعث من أماته فـي الدنـيا من قبره إلـى موقـف القـيامة يوم القـيامة، لأن اللّه عزّ ذكره بذلك أخبرنا، فقال: وكذلكَ أعْثَرنْا عَلَـيْهمْ لِـيَعْلَـمُوا أنّ وَعْدَ اللّه حَقّ وأنّ السّاعَة لا رَيْبَ فِـيها.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: فـابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ فقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الـمدينة وبعض العراقـيـين بِوَرِقِكُمْ هذِهِ بفتـح الواو وكسر الراء والقاف. وقرأ عامّة قرّاء الكوفة والبصرة: (بوَرْقِكُمْ) بسكون الراء، وكسر القاف. وقرأه بعض الـمكيـين بكسر الراء، وإدغام القاف فـي الكاف، وكلّ هذه القراءات متفقات الـمعانـي، وإن اختلفت الألفـاظ منها، وهنّ لغات معروفـات من كلام العرب، غير أن الأصل فـي ذلك فتـح الواو وكسر الراء والقاف، لأنه الوَرِق، وما عدا ذلك فإنه داخـل علـيه طلب التـخفـيف. وفـيه أيضا لغة أخرى وهو (الوَرْق) ، كما يقال للكَبِد كَبْدَ. فإذا كان ذلك هو الأصل، فـالقراءة به إلـيّ أعجب، من غير أن تكون الأخريان مدفوعة صحتهما، وقد ذكرنا الرواية بأن الذي بُعث معه بـالوَرِق إلـى الـمدينة كان اسمه يـملـيخا. وقد:

١٧٣١٨ـ حدثنـي عبـيد اللّه بن مـحمد الزهري، قال: حدثنا سفـيان، عن مقاتل فـابْعَثُوا أحَدَكُمْ بوَرِقِكُمْ هَذِهِ اسمه يـملـيخ.

وأما قوله: فَلْـيَنْظُرْ أيّها أزْكَى طَعاما فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله فقال بعضهم: معناه فلـينظر أيّ أهل الـمدينة أكثر طعاما. ذكر من قال ذلك:

١٧٣١٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي حصين، عن عكرِمة أيّها أزْكَى طَعاما قال: أكثر.

وحدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبـي حُصَين، عن عكرِمة مثله، إلا أنه قال: أيّهُ أكْثَرُ.

وقال آخرون: بل معناه: أيها أحلّ طعاما. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٢٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير: أيّها أزْكَى طَعاما قال: أحلّ.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير، مثله.

وقال آخرون: بل معناه: أيها خير طعاما. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٢١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: أزْكَى طَعاما قال: خير طعاما.

وأولـى الأقوال عندي فـي ذلك بـالصواب: قول من قال: معنى ذلك: أحلّ وأطهر، وذلك أنه لا معنى فـي اختـيار الأكثر طعاما للشراء منه إلا بـمعنى إذا كان أكثرهم طعاما، كان خـلـيقا أن يكون الأفضل منه عنده أوجد، وإذا شرط علـى الـمأمور الشراء من صاحب الأفضل، فقد أمر بشراء الـجيد، كان ما عند الـمشتري ذلك منه قلـيلاً الـجيد أو كثـيرا، وإنـما وجه من وجه تأويـل أزكى إلـى الأكثر، لأنه وجد العرب تقول: قد زكا مال فلان: إذا كثر، وكما قال الشاعر:

قَبـائِلُنا سَبْعٌ وأنُتُـمْ ثَلاثَةٌوَللسّبْعُ أزْكَى مِنْ ثَلاثٍ وأطْيَبُ

بـمعنى: أكثر، وذلك وإن كان كذلك، فإن الـحلال الـجيد وإن قلّ، أكثر من الـحرام الـخبـيث وإن كثر. و

قـيـل: فَلْـيَنْظُرْ أيّها فأضيف إلـى كناية الـمدينة، والـمراد بها أهلها، لأن تأويـل الكلام: فلـينظر أيّ أهلها أزكى طعاما لـمعرفة السامع بـالـمراد من الكلام. وقد يُحتـمل أن يكونوا عنوا بقوله م أيّها أزْكَى طَعاما: أيها أحلّ، من أجل أنهم كانوا فـارقوا قومهم وهم أهل أوثان، فلـم يستـجيزوا أكل ذبـيحتهم.

و قوله: فَلْـيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ يقول: فلـيأتكم بقوت منه تقتاتونه، وطعام تأكلونه، كما:

١٧٣٢٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن عبد العزيز بن أبـي روّاد، عن عبد اللّه بن عبـيد بن عمير فَلْـيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ قال: بطعام.

و قوله: وَلْـيَتَلَطّفْ يقول: ولـيترفق فـي شرائه ما يشتري، وفـي طريقه ودخوله الـمدينة وَلا يُشْعِرَنّ بِكُمْ أحَدا يقول: ولا يعلـمنّ بكم أحدا من الناس.

و قوله: إنّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَـيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ يعنون بذلك: دقـينوس وأصحابه قالوا: إن دقـينوس وأصحابه إن يظهروا علـيكم، فـيعلـموا مكانكم، يرجموكم شتـما بـالقول، كما:

١٧٣٢٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، فـي

٢٠

 قوله: إنّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَـيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ قال: يشتـموكم بـالقول، يؤذوكم.

و قوله: أوْ يُعِيدُوكُمْ فِـي مِلّتِهِمْ يقول: أو يردّوكم فـي دينهم، فتصيروا كفـارا بعبـادة الأوثان. وَلَنْ تُفْلِـحُوا إذًا أبَدا يقول: ولن تدركوا الفلاح، وهو البقاء الدائم والـخـلود فـي الـجنان، إذن: أي إن أنتـم عُدْتـم فـي ملتهم. أبدا: أيام حياتكم.

٢١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوَاْ أَنّ وَعْدَ اللّه حَقّ ...}.

يقول تعالـى ذكره: وكما بعثناهم بعد طول رقدتهم كهيئتهم ساعة رقدوا، لـيتساءلوا بـينهم، فـيزدادوا بعظيـم سلطان اللّه بصيرة، وبحسن دفـاع اللّه عن أولـيائه معرفة كَذلكَ أعْثَرْنا عَلَـيْهِمْ يقول: كذلك أطلعنا علـيهم الفريق الاَخر الذين كانوا فـي شكّ من قُدرة اللّه علـى إحياء الـموتـى، وفـي مِرْية من إنشاء أجسام خـلقه، كهيئتهم يوم قبضهم بعد البِلَـى، فـيعلـموا أن وعْد اللّه حقّ، ويُوقنوا أن الساعة آتـية لا ريب فـيها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٢٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وكذلكَ أعْثَرْنا عَلَـيْهِمْ يقول: أطلعنا علـيهم لـيعلـم من كذب بهذا الـحديث، أن وعد اللّه حقّ، وأن الساعة لا ريب فـيها.

و قوله: إذْ يَتَنازَعُون بَـيْنَهُمْ أمْرَهُمْ يعني : الذين أعثروا علـى الفتـية. يقول تعالـى: وكذلك أعثرنا هؤلاء الـمختلفـين فـي قـيام الساعة، وإحياء اللّه الـموتـى بعد مـماتهم من قوم تـيذوسيس، حين يتنازعون بـينهم أمرهم فـيـما اللّه فـاعل بـمن أفناه من عبـاده، فأبلاه فـي قبره بعد مـماته، أمنشئهم هو أم غير منشئهم.

و قوله: فقالُوا ابْنُوا عَلَـيْهِمْ بُنْـيانا يقول: فقال الذين أعثرناهم علـى أصحاب الكهف: ابنوا علـيهم بنـيانا رَبّهمْ أعْلَـمُ بِهِمْ يقول: ربّ الفتـية أعلـم بـالفتـية وشأنهم.

و قوله: قالَ الّذِينَ غَلَبُوا عَلـى أمْرِهِمْ

يقول جلّ ثناؤه: قال القوم الذين غلبوا علـى أمر أصحاب الكهف لَنَتّـخِذَنّ عَلَـيْهِمْ مَسْجِدا.

وقد اختُلف فـي قائلـي هذه الـمقالة، أهم الرهط الـمسلـمون، أم هم الكفـار؟ وقد ذكرنا بعض ذلك فـيـما مضى، وسنذكر إن شاء اللّه ما لـم يـمض منه.

١٧٣٢٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: قالَ الّذِينَ غَلَبُوا علـى أمْرِهِمْ لَنَتّـخِذَنّ عَلَـيْهِمْ مَسْجِدا قال: يعني عدوّهم.

١٧٣٢٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن عبد العزيز بن أبـي روّاد، عن عبد اللّه بن عبـيد بن عمير، قال: عمّى اللّه علـى الذين أعثرهم علـى أصحاب الكهف مكانهم، فلـم يهتدوا، فقال الـمشركون: نبنـي علـيهم بنـيانا، فإنهم أبناء آبـائنا، ونعبد اللّه فـيها، وقال الـمسلـمون: بل نـحن أحقّ بهم، هم منا، نبنـي علـيهم مسجدا نصلـي فـيه، ونعبد اللّه فـيه.

٢٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ ...}.

يقول تعالـى ذكره: سيقول بعض الـخائضين فـي أمر الفِتْـية من أصحاب الكهف، هم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقول بعضهم: هم خمسة سادسهم كلبهم رجْما بـالغَيْبِ: يقول: قذفـا بـالظنّ غير يقـين علـم، كما قال الشاعر:

(وأجْعَلُ مِنّـي الـحَقّ غَيْبـا مُرَجّمَا )

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٢٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْما بـالغَيْبِ: أي قذفـا بـالغيب.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: رَجْما بـالغَيْبِ قال: قذفـا بـالظنّ.

و قوله: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامنُهُمْ كَلْبُهُمْ يقول: ويقول بعضهم: هم سبعة وثامنهم كلبهم. قُلْ رَبـيّ أعْلَـمُ بِعِدّتِهِمْ يقول عزّ ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قل يا مـحمد لقائلـي هذه الأقوال فـي عدد الفتـية من أصحاب الكهف رجما منهم بـالغيب: رَبّـي أعْلَـمُ بِعِدّتِهِمْ ما يَعْلَـمُهُمْ يقول: ما يعلـم عددهم إلاّ قَلِـيـلٌ من خـلقه، كما:

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ما يَعْلَـمُهُمْ إلاّ قَلِـيـلٌ يقول: قلـيـل من الناس.

وقال آخرون: بل عنى بـالقلـيـل: أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٢٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عباس ما يَعْلَـمُهُمْ إلاّ قَلِـيـلٌ قال: يعني أهل الكتاب. وكان ابن عباس يقول: أنا مـمن استثناه اللّه ، ويقول: عدتهم سبعة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيـل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس ما يَعْلَـمُهُمْ إلاّ قَلِـيـلٌ قال: أنا من القلـيـل، كانوا سبعة.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: أنا من أولئك القلـيـل الذين استثنى اللّه ، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: قال ابن عباس : عدتهم سبعة وثامنهم كلبهم، وأنا مـمن استثنى اللّه .

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: ما يَعْلَـمُهُمْ إلاّ قَلِـيـلٌ قال: كان ابن عباس يقول: أنا من القلـيـل، هم سبعة وثامنهم كلبهم.

و قوله: فَلا تُـمَارِ فِـيهِمْ إلاّ مِرَاءً ظاهِرا يقول عزّ ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : فلا تـمار يا مـحمد: يقول: لا تـجادل أهل الكتاب فـيهم، يعني فـي عدّة أهل الكهف، وحُذِفت العِدّة اكتفـاء بذكرهم فـيها لـمعرفة السامعين بـالـمراد. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَلا تُـمارِ فِـيهِمْ قال: لا تـمار فـي عدّتهم.

و قوله: إلاّ مِرَاءً ظاهِرا اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـمِراء الظاهر الذي استثناه اللّه ، ورخص فـيه لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال بعضهم: هو ما قصّ اللّه فـي كتابه أبـيح له أن يتلوه علـيهم، ولا يـماريهم بغير ذلك. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٢٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعيد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: فَلا تُـمَارِ فِـيهِمْ إلاّ مِرَاءً ظاهِرا يقول: حَسْبُك ما قصصت علـيك فلا تـمار فـيهم.

١٧٣٣٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد فَلا تُـمَارِ فِـيهِمْ إلاّ مِرَاءً ظاهِرا يقول: إلا بـما قد أظهرنا لك من أمرهم.

١٧٣٣١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فَلا تُـمَارِ فِـيهِمْ إلاّ مِرَاءً ظاهِرا: أي حسبك ما قصصنا علـيك من شأنهم.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فَلا تُـمَارِ فِـيهِمْ قال: حَسْبُك ما قصصنا علـيك من شأنهم.

١٧٣٣٢ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَلا تُـمَارِ فِـيهِمْ إلاّ مِرَاءً ظاهِرا يقول: حَسْبُك ما قصصنا علـيك.

وقال آخرون: الـمِراء الظاهر هو أن يقول لـيس كما تقولون، ونـحو هذا من القول. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٣٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: إلاّ مِرَاءً ظاهِرا قال: أن يقول لهم: لـيس كما تقولون، لـيس تعلـمون عدّتهم إن قالوا كذا وكذا فقل لـيس كذلك، فإنهم لا يعلـمون عدّتهم، وقرأ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ حتـى بلغ رَجْما بـالغَيْبِ.

و قوله: وَلا تَسْتَفْتِ فِـيهِمْ مِنْهُمْ أحَدا

يقول تعالـى ذكره: ولا تستفت فـي عدّة الفتـية من أصحاب الكهف منهم، يعني من أهل الكتاب، أحدا، لأنهم لا يعلـمون عدتهم، وإنـما يقولون فـيهم رجما بـالغيب، لا يقـينا من القول. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٣٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن سفـيان، عن قابوس، عن أبـيه، عن ابن عباس ، فـي قوله: وَلا تَسْتَفْتِ فِـيهِمْ مِنْهُمْ أحَدا قال: هم أهل الكتاب.

١٧٣٣٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَلا تَسْتَفْتِ فِـيهِمْ مِنْهُمْ أحَدا من يهود.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد وَلا تَسْتَفْتِ فِـيهِمْ مِنْهُمْ أحَدا: من يهود، قال: ولا تسأل يهودَ عن أمر أصحاب الكهف، إلا ما قد أخبرتك من أمرهم.

١٧٣٣٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَلا تَسْتَفْتِ فِـيهِمْ مِنْهُمْ أحَدا: من أهل الكتاب. كنا نـحدّث أنهم كانوا بنـي الركنا. والركنا: ملوك الروم، رزقهم اللّه الإسلام، فتفرّدوا بدينهم، واعتزلوا قومهم، حتـى انتهوا إلـى الكهف، فضرب اللّه علـى أصمختهم، فلبثوا دهرا طويلاً حتـى هلكت أمّتهم وجاءت أمّة مسلـمة بعدهم، وكان ملكهم مسلـما.

٢٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَقْولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً }.

وهذا تأديب من اللّه عزّ ذكره لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم عهد إلـيه أن لا يجزم علـى ما يحدث من الأمور أنه كائن لا مـحالة، إلا أن يصله بـمشيئة اللّه ، لأنه لا يكون شيء إلا بـمشيئة اللّه .

وإنـما قـيـل له ذلك فـيـما بلغنا من أجل أنه وعد سائلـيه عن الـمسائل الثلاث اللواتـي قد ذكرناها فـيـما مضى، اللواتـي إحداهنّ الـمسألة عن أمر الفتـية من أصحاب الكهف أن يجيبهم عنهنّ غد يومهم، ولـم يستثن، فـاحتبس الوحي عنه فـيـما قـيـل من أجل ذلك خمس عشرة، حتـى حزنه إبطاؤه، ثم أنزل اللّه علـيه الـجواب عنهنّ، وعرف نبـيه سبب احتبـاس الوحي عنه، وعلّـمه ما الذي ينبغي أن يستعمل فـي عِدَاته وخبره عما يحدث من الأمور التـي لـم يأته من اللّه بها تنزيـل، فقال: وَلا تَقُولَنّ يا مـحمد لِشَيْءٍ إنّـي فـاعِلٌ ذلك غَدا كما قلت لهؤلاء الذين سألوك عن أمر أصحاب الكهف،

٢٤

والـمسائل التـي سألوك عنها، سأخبركم عنها غدا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّه . ومعنى الكلام: إلا أن تقول معه: إن شاء اللّه ، فترك ذكر تقول اكتفـاء بـما ذكر منه، إذ كان فـي الكلام دلالة علـيه. وكان بعض أهل العربـية يقول: جائز أن يكون معنى قوله: إلاّ أنْ يَشاءَ اللّه استثناء من القول، لا من الفعل كأن معناه عنده: لا تقولنّ قولاً إلا أن يشاء اللّه ذلك القول، وهذا وجه بعيد من الـمفهوم بـالظاهر من التنزيـل مع خلافه تأويـل أهل التأويـل.

و قوله: وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ اختلف أهل التأويـل فـي معناه، فقال بعضهم: واستثن فـي يـمينك إذا ذكرت أنك نسيت ذلك فـي حال الـيـمين. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٣٧ـ حدثنا مـحمد بن هارون الـحربـيّ، قال: حدثنا نعيـم بن حماد، قال: حدثنا هشيـم، عن الأعمش، عن مـجاهد ، عن ابن عباس ، فـي الرجل يحلف، قال له: أن يستثنَـي ولو إلـى سنة، وكان يقول: وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ فـي ذلك قـيـل للأعمش سمعتَه من مـجاهد ، فقال: ثنـي به لـيث بن أبـي سلـيـم، يرى ذهب كسائي هذا.

١٧٣٣٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، فـي قوله وَلا تَقُولَنّ لِشَيْءٍ إنّـي فـاعِلٌ ذلكَ غَدا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّه وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ الاستثناء، ثم ذكرت فـاستثن.

١٧٣٣٩ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، عن أبـيه، فـي قوله: وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ قال: بلغنـي أن الـحسن، قال: إذا ذكر أنه لـم يقل: إن شاء اللّه ، فلـيقل: إن شاء اللّه .

وقال آخرون: معناه: واذكر ربك إذا عصيت. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٤٠ـ حدثنـي نصر بن عبد الرحمن، قال: حدثنا حكام بن سلـم، عن أبـي سنان، عن ثابت، عن عكرِمة، فـي قول اللّه : وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ قال: اذكر ربك إذا عصيت.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن أبـي سنان، عن ثابت، عن عكرمة، مثله.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: معناه: واذكر ربك إذا تركت ذكره، لأن أحد معانـي النسيان فـي كلام العرب الترك، وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى قبل.

فإن قال قائل: أفجائز للرجل أن يستثنـيَ فـي يـمينه إذ كان معنى الكلام ما ذكرت بعد مدة من حال حلفه؟

قـيـل: بل الصواب أن يستثنى ولو بعد حِنْثه فـي يـمينه، فـيقول: إن شاء اللّه لـيخرج بقـيـله ذلك مـما ألزمه اللّه فـي ذلك بهذه الاَية، فـيسقط عنه الـحرج بتركه ما أمره بقـيـله من ذلك فأما الكفـارة فلا تسقط عنه بحال، إلا أن يكون استثناؤه موصولاً بـيـمينه.

فإن قال: فما وجه قول من قال له: ثُنْـياه ولو بعد سنة، ومن قال له ذلك ولو بعد شهر، وقول من قال ما دام فـي مـجلسه؟

قـيـل: إن معناهم فـي ذلك نـحو معنانا فـي أن ذلك له، ولو بعد عشر سنـين، وأنه بـاستثنائه وقـيـله إن شاء اللّه بعد حين من حال حلفه، يسقط عنه الـحرج الذي لو لـم يقله كان له لازما فأما الكفـارة فله لازمة بـالـحِنْث بكلّ حال، إلا أن يكون استثناؤه كان موصولاً بـالـحلف، وذلك أنا لا نعلـم قائلاً قال مـمن قال له الثّنْـيا بعد حين يزعم أن ذلك يضع عنه الكفـارة إذا حنِث، ففـي ذلك أوضح الدلـيـل علـى صحة ما قلنا فـي ذلك، وأن معنى

القول فـيه، كان نـحو معنانا فـيه.

و قوله: وَقُلْ عَسَى أنْ يَهْدِينِ رَبّـي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا يقول عزّ ذكره لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم : قل ولعلّ اللّه أن يهدينـي فـيسدّدنـي لأسدّ مـما وعدتكم وأخبرتكم أنه سيكون، إن هو شاء.

وقد

قـيـل: إن ذلك مـما أُمر النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يقوله إذا نسي الاستثناء فـي كلامه، الذي هو عنده فـي أمر مستقبل مع قوله: إن شاء اللّه ، إذا ذكر. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٤١ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، عن أبـيه، عن مـحمد، رجل من أهل الكوفة، كان يفسر القرآن، وكان يجلس إلـيه يحيى بن عبـاد، قال: وَلا تَقُولَنّ لِشَيْءٍ إنّـي فـاعِلٌ ذلكَ غَدا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّه وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أنْ يَهْدِيَنَ رَبّـي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا قال فقال: وإذا نسي الإنسان أن يقول: إن شاء اللّه ، قال: فتوبته من ذلك، أو كفّـارة ذلك أن يقول: عَسَى أنْ يَهْدِينِ رَبّـي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا.

٢٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً }.

اختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله وَلَبَثُوا فِـي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِـينَ وَازْدَادُوا تِسْعا فقال بعضهم: ذلك خبر من اللّه تعالـى ذكره عن أهل الكتاب أنهم يقولون ذلك كذلك، واستشهدوا علـى صحة قولهم ذلك ب قوله: قُلِ اللّه أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا وقالوا: لو كان ذلك خبرا من اللّه عن قدر لبثهم فـي الكهف، لـم يكن لقوله قُلِ اللّه أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا وجه مفهوم، وقد أعلـم اللّه خـلقه مبلغ لبثهم فـيه وقدره. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٤٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَلَبِثُوا فِـي كَهْفِهِمْ ثلاثَ مِئَةٍ سِنِـينَ وَازْدَادُوا تِسْعا هذا قول أهل الكتاب، فردّه اللّه علـيهم فقال: قُلِ اللّه أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السّمَواتِ والأرْضِ.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله وَلَبِثُوا فِـي كَهْفِهِمْ قال: فـي حرف ابن مسعود: (وَقالُوا وَلَبِثُوا) يعني أنه قال الناس، ألا ترى أنه قال: قُلِ اللّه أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا.

١٧٣٤٣ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا ضمرة بن ربـيعة، عن ابن شوذب عن مطر الورّاق، فـي قول اللّه : وَلَبِثُوا فِـي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِـينَ قال: إنـما هو شيء قالته الـيهود، فردّه اللّه علـيهم وقال: قُلِ اللّه أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا.

وقال آخرون: بل ذلك خبر من اللّه عن مبلغ ما لبثوا فـي كهفهم. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٤٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَلَبِثُوا فِـي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِـينَ وَازْدَادُوا تِسْعا قال: عدد ما لبثوا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد بنـحوه، وزاد فـيه قُلِ اللّه أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا.

١٧٣٤٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن عبد العزيز بن أبـي رواد، عن عبد اللّه بن عبـيد بن عمير، قال: ولَبَثُوا فـي كْهفِهْم ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِـينَ وَازْدَادُوا تِسْعا قال: وتسع سنـين.

١٧٣٤٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق بنـحوه.

١٧٣٤٧ـ حدثنا موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: ثنـي الأجلـح، عن الضحاك بن مزاحم، قال: نزلت هذه الاَية وَلَبِثُوا فِـي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ فقالوا: أياما أو أشهرا أو سنـين؟ فأنزل اللّه : سِنِـينَ وَازْدَادُوا تِسْعا.

١٧٣٤٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَلَبِثُوا فـي كَهْفِهِمْ قال: بـين جبلـين.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال كما قال اللّه عزّ ذكره: ولبث أصحاب الكهف فـي كهفهم رقودا إلـى أن بعثهم اللّه ، لـيتساءلوا بـينهم، وإلـى أن أعثر علـيهم من أعثر، ثلاث مئة سنـين وتسع سنـين، وذلك أن اللّه بذلك أخبر فـي كتابه. وأما الذي ذُكر عن ابن مسعود أنه قرأ (وَقالُوا: وَلَبِثُوا فِـي كَهْفِهِم) وقول من قال: ذلك من قول أهل الكتاب، وقد ردّ اللّه ذلك علـيهم، فإن معناه فـي ذلك: إن شاء اللّه كان أن أهل الكتاب قالوا فـيـما ذكر علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن للفتـية من لدن دخـلوا الكهف إلـى يومنا ثلاث مئة سنـين وتسع سنـين، فردّ اللّه ذلك علـيهم، وأخبر نبـيه أن ذلك قدر لبثهم فـي الكهف من لدن أوَوا إلـيه أن بعثهم لـيتساءلوا بـينهم ثم قال جل ثناؤه لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم : قل يا مـحمد: اللّه أعلـم بـما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلـى يومهم هذا، لا يعلـم بذلك غير اللّه ، وغير من أعلـمه اللّه ذلك.

فإن قال قائل: وما يدلّ علـى أن ذلك كذلك؟

قـيـل: الدالّ علـى ذلك أنه جل ثناؤه ابتدأ الـخبر عن قدر لبثهم فـي كهفهم ابتداء، فقال: وَلِبثُوا فـي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مئَةٍ سنـينَ وَازْدَادُوا تسْعا ولـم يضع دلـيلاً علـى أن ذلك خبر منه عن قول قوم قالوه، وغير جائز أن يضاف خبره عن شيء إلـى أنه خبر عن غيره بغير برهان، لأن ذلك لو جاز جاز فـي كلّ أخبـاره، وإذا جاز ذلك فـي أخبـاره جاز فـي أخبـار غيره أن يضاف إلـيه أنها أخبـاره، وذلك قلب أعيان الـحقائق وما لا يخيـل فساده. فإن ظنّ ظانّ أن

٢٦

قوله: قُلِ اللّه أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا دلـيـل علـى أن قوله: وَلِبثُوا فِـي كَهْفِهِمْ خبر منه عن قوم قالوه، فإن ذلك كان يجب أن يكون كذلك لو كان لا يحتـمل من التأويـل غيره فأما وهو مـحتـمل ما قلنا من أن يكون معناه: قل اللّه أعلـم بـما لبثوا إلـى يوم أنزلنا هذه السورة، وما أشبه ذلك من الـمعانـي فغير واجب أن يكون ذلك دلـيلاً علـى أن قوله: وَلِبِثُوا فـي كَهْفِهِمْ خبر من اللّه عن قوم قالوه، وإذا لـم يكن دلـيلاً علـى ذلك، ولـم يأت خبر بأن قوله: وَلِبِثُوا فـي كَهْفِهِمْ خَبر من اللّه عن قوم قالوه، ولا قامت بصحة ذلك حجة يجب التسلـيـم لها، صحّ ما قلنا، وفسَد ما خالفه.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِـينَ فقرأت ذلك عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـين ثَلاثِ مِئَةٍ سِنِـينَ بتنوين: ثلاث مئةٍ، بـمعنى: ولبثوا فـي كهفهم سنـين ثلاث مئة. وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة: (ثَلاثَ مِئَةِ سِنِـينَ) بإضافة ثلاث مئة إلـى السنـين، غير منوّن.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراة من قرأه: ثلاثَ مِئَةٍ بـالتنوين سِنِـينَ، وذلك أن العرب إنـما تضيف الـمئة إلـى ما يفسرها إذا جاء تفسيرها بلفظ الواحد، وذلك كقولهم ثلاث مئة درهم، وعندي مئة دينار، لأن الـمئة والألف عدد كثـير، والعرب لا تفسر ذلك إلا بـما كان بـمعناه فـي كثرة العدد، والواحد يؤدّي عن الـجنس، ولـيس ذلك للقلـيـل من العدد، وإن كانت العرب ربـما وضعت الـجمع القلـيـل موضع الكثـير، ولـيس ذلك بـالكثـير. وأما إذا جاء تفسيرها بلفظ الـجمع، فإنها تنوّن، فتقول: عندي ألفٌ دراهمُ، وعندي مئةٌ دنانـير، علـى ما قد وصفت.

و قوله: لَهُ غَيْبُ السّمَوَاتِ والأرْضِ

يقول تعالـى ذكره: للّه علـم غيب السموات والأرض، لا يعزب عنه علـم شيء منه، ولا يخفـى علـيه شيء، يقول: فسلـموا له علـم مبلغ ما لبثت الفتـية فـي الكهف إلـى يومكم هذا، فإن ذلك لا يعلـمه سوى الذي يعلـم غيب السموات والأرض، ولـيس ذلك إلا اللّه الواحد القهار.

و قوله: أبْصرْ بِهِ وأسمِعْ يقول: أبصر بـاللّه وأسمع، وذلك بـمعنى الـمبـالغة فـي الـمدح، كأنه

قـيـل: ما أبصره وأسمعه.

وتأويـل الكلام: ما أبصر اللّه لكلّ موجود، وأسمعه لكلّ مسموع، لا يخفـى علـيه من ذلك شيء، كما:

١٧٣٤٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أبْصرْ بِهِ وأسمِعْ فلا أحد أبصر من اللّه ولا أسمع، تبـارك وتعالـى.

١٧٣٥٠ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: أبْصرْ بِهِ وأسمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِـيّ قال: يرى أعمالهم، ويسمع ذلك منهم سميعا بصيرا.

و قوله: ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِـيّ

يقول جلّ ثناؤه: ما لـخـلقه دون ربهم الذي خـلقهم ولـيّ، يـلـي أمرهم وتدبـيرهم، وصرفهم فـيـما هم فـيه مصرفون. وَلا يُشْرِكُ فِـي حُكمِهِ أحَدا يقول: ولا يجعل اللّه فـي قضائه، وحكمه فـي خـلقه أحدا سواه شريكا، بل هو الـمنفرد بـالـحكم والقضاء فـيهم، وتدبـيرهم وتصريفهم فـيـما شاء وأحبّ.

٢٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : واتبع يا مـحمد ما أنزل إلـيك من كتاب ربك هذا، ولا تتركنّ تلاوته، واتبـاع ما فـيه من أمر اللّه ونهيه، والعمل بحلاله وحرامه، فتكون من الهالكين وذلك أن مصير من خالفه، وترك اتبـاعه يوم القـيامة إلـى جهنـم لا مُبَدّلَ لكَلـماتِهِ يقول: لا مغير لـما أوعد بكلـماته التـي أنزلها علـيك أهل معاصيه، والعاملـين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إلـيك.

و قوله: وَلَنْ تَـجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَـحَدا يقول: وإن أنت يا مـحمد لـم تتل ما أوحى إلـيك من كتاب ربك فتتبعه وتأتـمّ به، فنالك وعيد اللّه الذي أوعد فـيه الـمخالفـين حدوده، لن تـجد من دون اللّه موئلاً تئل إلـيه ومعدلاً تعدل عنه إلـيه، لأن قدرة اللّه مـحيطة بك وبجميع خـلقه، لا يقدر أحد منهم علـى الهرب من أمر أراد به.

وبنـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: مُلْتَـحَدا قال أهل التأويـل، وإن اختلفت ألفـاظهم فـي البـيان عنه. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٥١ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد ، فـي قوله: مُلْتَـحَدا قال: مَلْـجَأ.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مُلْتَـحَدا قال: ملـجأ.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٣٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَلَنْ تَـجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَـحَدا قال: موئلاً.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: مُلْتَـحَدا قال: ملـجأ ولا موئلاً.

١٧٣٥٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَلَنْ تَـجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَـحَدا قال: لا يجدون ملتـحدا يـلتـحدونه، ولا يجدون من دونه ملـجأ ولا أحدا يـمنعهم. والـملتـحد: إنـما هو الـمفتعل من اللـحد، يقال منه: لـحدت إلـى كذا: إذا ملت إلـيه ومنه قـيـل للـحد: لـحد، لأنه فـي ناحية من القبر، ولـيس بـالشقّ الذي فـي وسطه، ومنه الإلـحاد فـي الدين، وهو الـمعاندة بـالعدول عنه، والترك له.

٢٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ ...}.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : وَاصْبِرْ يا مـحمد نَفْسَكَ مَعَ أصحابك الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاةِ والعَشِيّ بذكرهم إياه بـالتسبـيح والتـحميد والتهلـيـل والدعاء والأعمال الصالـحة من الصلوات الـمفروضة وغيرها يُرِيدُونَ بفعلهم ذلك وَجْهَهُ لا يريدون عرضا من عرض الدنـيا.

وقد ذكرنا اختلاف الـمختلفـين فـي قوله يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاةِ والعَشِيّ فـي سورة الأنعام، والصواب من

القول فـي ذلك عندنا، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. والقرّاء علـى قراءة ذلك: بـالغَدَاة والعَشِيّ، وقد ذُكر عن عبد اللّه بن عامر وأبـي عبد الرحمن السلـمي أنهما كانا يقرآنه: (بـالغدوة والعشيّ) ، وذلك قراءة عند أهل العلـم بـالعربـية مكروهة، لأن غدوة معرّفة، ولا ألف ولا لام فـيها، وإنـما يعرّف بـالألف واللام ما لـم يكن معرفة فأما الـمعارف فلا تعرّف بهما. وبعد، فإن غدوة لا تضاف إلـى شيء، وامتناعها من الإضافة دلـيـل واضح علـى امتناع الألف واللام من الدخول علـيها، لأن ما دخـلته الألف واللام من الأسماء صلـحت فـيه الإضافة وإنـما تقول العرب: أتـيتك غداة الـجمعة، ولا تقول: أتـيتك غدوة الـجمعة، والقراءة عندنا فـي ذلك ما علـيه القرّاء فـي الأمصار لا نستـجيز غيرها لإجماعها علـى ذلك، وللعلة التـي بـيّنا من جهة العربـية.

و قوله: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ يقول جل ثناؤه لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم : ولا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك يا مـحمد أن تصبر نفسك معهم إلـى غيرهم من الكفـار، ولا تـجاوزهم إلـيه وأصله من قولهم: عدوت ذلك، فأنا أعدوه: إذا جاوزته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس ، فـي قوله: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ قال: لا تـجاوزهم إلـى غيرهم.

حدثنـي علـيّ، قال: ثنـي عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ يقول: لا تتعدّهم إلـى غيرهم.

١٧٣٥٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: واصْبِرْ نَفْسِكَ... الاَية، قال: قال القوم للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم : إنا نستـحيـي أن نـجالس فلانا وفلانا وفلانا، فجانبهم يا مـحمد، وجالس أشراف العرب، فنزل القرآن وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاة والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ولا تـحقرهم، قال: قد أمرونـي بذلك، قال: وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وكانَ أمْرُهُ فُرُطا.

١٧٣٥٦ـ حدثنا الربـيع بن سلـيـمان، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنـي أسامة بن زيد، عن أبـي حازم، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنـيف، أن هذه الاَية لـما نزلت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو فـي بضع أبـياته وَاصْبْر نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاةِ والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فخرج يـلتـمس، فوجد قوما يذكرون اللّه ، منهم ثائر الرأس، وجافّ الـجلد، وذو الثوب الواحد، فلـما رآهم جلس معهم، فقال: (الـحَمْدُ للّه الّذِي جَعَلَ لِـي فِـي أُمّتـي مَنْ أمرنـي أنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُ) ورُفعت العينان بـالفعل، وهو لا تعد.

و قوله: تُرِيدُ زِينَة الـحَياةَ الدّنـيْا

يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم : لا تعدُ عيناك عن هؤلاء الـمؤمنـين الذين يدعون ربهم إلـى أشراف الـمشركين، تبغي بـمـجالستهم الشرف والفخر وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه فـيـما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك، وقال بعضهم: بل من عظماء قبـائل العرب مـمن لا بصيرة لهم بـالإسلام، فرأوه جالسا مع خبـاب وصهيب وبلال، فسألوه أن يقـيـمهم عنه إذا حضروا، قالوا: فهمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأنزل اللّه علـيه: وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ثم كان يقوم إذا أراد القـيام، ويتركهم قعودا، فأنزل اللّه علـيه وَاصْبِرْ نَفسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاةِ والعَشِيّ... الاَية وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الـحَياةِ الدّنـيْا يريد زينة الـحياة الدنـيا: مـجالسة أولئك العظماء الأشراف، وفد ذكرت الرواية بذلك فـيـما مضى قبل فـي سورة الأنعام.

١٧٣٥٧ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو العنقزي، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن السدي، عن أبـي سعيد الأزدي، وكان قارىء الأزد عن أبـي الكنود، عن خبـاب فـي قصة ذكرها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ذكر فـيها هذا الكلام مدرجا فـي الـخبر وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الـحَياةِ الدّنـيْا قال: تـجالس الأشراف.

١٧٣٥٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرت أن عيـينة بن حصن قال للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يسلـم: لقد آذانـي ريح سلـمان الفـارسي، فـاجعل لنا مـجلسا منك لا يجامعوننا فـيه، واجعل لهم مـجلسا لا نـجامعهم فـيه، فنزلت الاَية.

١٧٣٥٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أنه لـما نزلت هذه الاَية قال نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (الـحَمْدِ للّه الّذِي جَعَلَ فِـي أُمّتـي مَنْ أُمرْتُ أنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُ) .

١٧٣٦٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله تُرِيدُ زِينَةَ الـحَياةِ الدّنـيْا قال: تريد أشراف الدنـيا.

١٧٣٦١ـ حدثنا صالـح بن مسمار، قال: حدثنا الولـيد بن عبد الـملك، قال: سلـيـمان بن عطاء، عن مسلـمة بن عبد اللّه الـجهنـيّ، عن عمه أبـي مشجعة بن ربعي، عن سلـمان الفـارسي، قال: جاءت الـمؤلفة قلوبهم إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : عيـينة بن حصن، والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يا نبـيّ اللّه ، إنك لو جلست فـي صدر الـمسجد، ونفـيت عنا هؤلاء وأرواح جبـابهم يعنون سلـمان وأبـا ذرّ وفقراء الـمسلـمين، وكانت علـيهم جبـاب الصوف، ولـم يكن علـيهم غيرها جلسنا إلـيك وحادثناك، وأخذنا عنك فأنزل اللّه : وَاتْلُ ما أُوحِيَ إلَـيْكَ مِنْ كِتابِ رَبّكَ لا مُبَدّلَ لِكَلِـماتِهِ وَلَنْ تَـجدَ مِنْ دُونهِ مُلْتَـحَدا، حتـى بلغ إنّا أعْتَدْنا للظّالِـمِينَ نارا يتهدّدهم بـالنار فقام نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يـلتـمسهم حتـى أصابهم فـي مؤخر الـمسجد يذكرون اللّه ، فقال: (الـحَمْدُ للّه الّذِي لَـمْ يُـمتْنِـي حتـى أمَرَنِـي أنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَ رجِالٍ مِنْ أُمّتِـي، مَعَكُمُ الـمَـحيْا وَمَعَكُمُ الـمَـماتُ) .

و قوله: وَلا تُطعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتّبَعَ هَوَاهُ

يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم : ولا تطع يا مـحمد من شغلنا قلبه من الكفـار الذين سألوك طرد الرهط الذين يدعون ربهم بـالغداة والعشيّ عنك، عن ذكرنا، بـالكفر وغلبة الشقاء علـيه، واتبع هواه، وترك اتبـاع أمر اللّه ونهيه، وآثر هوى نفسه علـى طاعة ربه، وهم فـيـما ذُكر: عيـينة بن حصن، والأقرع بن حابس وذووهم.

١٧٣٦٢ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزي، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، عن أبـي سعيد الأزدي، عن أبـي الكنود، عن خبـاب وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا قال: عيُـينة، والأقرع.

وأما قوله: وكانَ أمْرُهُ فُرُطا فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله، فقال بعضهم: معناه: وكان أمره ضياعا. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٦٣ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : وكانَ أمْرُهُ فُرُطا قال ابن عمرو فـي حديثه قال: ضائعا. وقال الـحرث فـي حديثه: ضياعا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، قال: ضياعا.

وقال آخرون: بل معناه: وكان أمره ندما. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٦٤ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا بدل بن الـمـحبر، قال: حدثنا عبـاد بن راشد، عن داود فُرُطا قال: ندامة.

وقال آخرون: بل معناه: هلاكا. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٦٥ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، عن أبـي سعيد الأزدي، عن أبـي الكنود، عن خبـاب وكانَ أمْرُهُ فُرُطا قال: هلاكا.

وقال آخرون: بل معناه: خلافـا للـحق. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٦٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وكانَ أمْرُهُ فُرُطا قال: مخالفـا للـحقّ، ذلك الفُرُط.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: معناه: ضياعا وهلاكا، من قولهم: أفرط فلان فـي هذا الأمر إفراطا: إذا أسرف فـيه وتـجاوز قدره، وكذلك قوله: وكانَ أمْرُهُ فُرُطا معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا فـي الرياء والكبر، واحتقار أهل الإيـمان، سرفـا قد تـجاوز حدّه، فَضَيّع بذلك الـحقّ وهلك. وقد:

١٧٣٦٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال:

قـيـل له: كيف قرأ عاصم؟ فقال كانَ أمْرُهُ فُرُطا قال أبو كريب: قال أبو بكر: كان عُيـينة بن حصن يفخر بقول أنا وأنا.

٢٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ...}.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : وقل يا مـحمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا، واتبعوا أهواءهم: الـحقّ أيها الناس من عند ربكم، وإلـيه التوفـيق والـحذلان، وبـيده الهدى والضلال يهدي من يشاء منكم للرشاد، فـيؤمن، ويضلّ من يشاء عن الهدى فـيكفر، لـيس إلـيّ من ذلك شيء، ولست بطارد لهواكم من كان للـحقّ متبعا، وبـاللّه وبـما أنزل علـيّ مؤمنا، فإن شئتـم فآمنوا، وإن شئتـم فـاكفروا، فإنكم إن كفرتـم فقد أعدّ لكم ربكم علـى كفركم به نار أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتـم به وعملتـم بطاعته، فإن لكم ما وصف اللّه لأهل طاعته. وروي عن ابن عباس فـي ذلك ما:

١٧٣٦٨ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: فَمَنْ شاءَ فَلْـيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْـيَكْفُرْ يقول: من شاء اللّه له الإيـمان آمن، ومن شاء اللّه له الكفر كفر، وه

و قوله: وَما تَشاءُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّه رَبْ العَالَـمِينَ ولـيس هذا بإطلاق من اللّه الكفر لـمن شاء، والإيـمان لـمن أراد، وإنـما هو تهديد ووعيد.

وقد بـين أن ذلك كذلك قوله: إنّا اعْتَدْنا للظّالِـمينَ نارا والاَيات بعدها. كما:

١٧٣٦٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن عمر بن حبـيب، عن داود، عن مـجاهد ، فـي قوله: فَمَنْ شاءَ فَلْـيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْـيَكْفُرْ. قال: وعيد من اللّه ، فلـيس بـمعجزي.

١٧٣٧٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَمَنْ شاءَ فَلْـيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْـيَكْفُرْ، وقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُـمْ قال: هذا كله وعيد لـيس مصانعة ولا مراشاة ولا تفويضا.

و قوله: إنّا أعْتَدْنا للظّالِـمينَ نارا

يقول تعالـى ذكره: إنا أعددنا، وهو من العُدّة. للظالـمين: الذين كفروا بربهم. كما:

١٧٣٧١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، فـي قوله: إنّا أعْتَدْنا للظّالِـمِينَ نارا أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها قال: للكافرين.

و قوله: أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها يقول: أحاط سرادق النار التـي أعدّها اللّه للكافرين بربهم، وذلك فـيـما

قـيـل: حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط، وهي الـحجرة التـي تطيف بـالفسطاط، كما قال رؤبة:

يا حَكَمَ بنَ الـمُنْذِرِ بْنَ الـجارُودْسُرادِقُ الفَضْلِ عَلَـيْكَ مَـمْدُودْ

وكما قال سلامة بن جندل:

هُوَ الـمُوِلـجُ النّعْمانَ بـيْتا سَماؤُهُصُدُورُ الفُـيُولِ بعدَ بَـيْتٍ مُسَرْدَق

 يعني : بـيتا له سرادق. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٧٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس ، فـي قوله: إنّا أعْتَدْنا للظّالِـمِينَ نارا أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها قال: هي حائط من نار.

١٧٣٧٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عمن أخبره، قال أحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا قال: دخان يحيط بـالكفـار يوم القـيامة، وهو الذي قال اللّه : ظلّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ.

وقد رُوي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فـي ذلك خبر يدلّ علـى أن معنى قوله أحاطَ بِهمْ سرادِقُها أحاط بهم ذلك فـي الدنـيا، وأن ذلك السرادق هو البحر. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٧٤ـ حدثنـي العباس بن مـحمد والـحسين بن نصر، قالا: حدثنا أبو عاصم، عن عبد اللّه بن أمية، قال: ثنـي مـحمد بن حيـي بن يعلـى، عن صفوان بن يعلـى، عن يعلـى بن أمية، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (البَحْرُ هُوَ جَهَنّـمُ) قال: ف

قـيـل له: كيف ذلك، فتلا هذه الاَية، أو قرأ هذه الاَية: نارا أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها ثم قال: واللّه لا أدْخُـلُها أبَدا أوْ ما دُمْتُ حَيّا، وَلا تُصِيبُنـي مِنْها قَطْرَة.

١٧٣٧٥ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا يعمر بن بشر، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، قال: أخبرنا رشدين بن سعد، قال: ثنـي عمرو بن الـحارث، عن أبـي السمـح، عن أبـي الهيثم، عن أبـي سعيد الـخدري، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (سُرَادِقُ النّارِ أرْبَعَةُ جُدُرٍ، كِثْفُ كُلّ وَاحِدٍ مِثْلُ مَسِيرَةِ أرْبعِينَ سَنَةً) .

حدثنا بشر، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث، عن درّاج، عن أبـي الهيثم، عن أبـي سعيد، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إنّ لِسُرَادِقِ النّارِ أرْبَعَةَ جُدُرٍ، كِثْفُ كُلّ وَاحِدَة مِثْلُ مَسِيرةِ أرْبَعِينَ سَنَةً) .

١٧٣٧٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنـي عمرو، عن دراج، عن أبـي الهيثم، عن أبـي سعيد، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ماءٌ كالـمُهْلِ) ، قالَ: (كَعَكَرِ الزّيْتِ، فإذَا قَرّبَهُ إلَـيْه سقط فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِـيهِ) .

و قوله: وَإن يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِـمَاءٍ كالـمُهْلِ

يقول تعالـى ذكره: وإن يستغث هؤلاء الظالـمون يوم القـيامة فـي النار من شدّة ما بهم من العطش، فـيطلبونَ الـماء يُغاثوا بـماء الـمُهْل.

واختلف أهل التأويـل فـي الـمهل، فقال بعضهم: هو كلّ شيء أذيب وإنـماع. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٧٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: ذُكر لنا أن ابن مسعود أهديت إلـيه سِقاية من ذهب وفضة، فأمر بأخدود فخدّ فـي الأرض، ثم قذف فـيه من جزل حطب، ثم قذف فـيه تلك السقاية، حتـى إذا أزبدت وانـماعت قال لغلامه: ادع من يحضُرنا من أهل الكوفة، فدعا رهطا، فلـما دخـلوا علـيه قال: أترون هذا؟ قالوا: نعم، قال: ما رأينا فـي الدنـيا شبـيها للـمهل أدنى من هذا الذهب والفضة، حين أزبد وإنـماع.

وقال آخرون: هو القـيح والدم الأسود. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٧٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم، عن أبـي بَزّة، عن مـجاهد فـي قوله: وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثوا بِـمَاءٍ كالـمُهْلِ قال: القـيح والدم.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بـمَاءٍ كالـمُهْلِ قال: القـيح والدم الأسود، كعكر الزيت. قال الـحرث فـي حديثه: يعني درديّة.

١٧٣٧٩ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: كالـمُهْلِ قال: يقول: أسود كهيئة الزيت.

١٧٣٨٠ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: بِـمَاءٍ كالـمَهْلِ ماء جهنـم أسود، وهي سوداء، وشجرها أسود، وأهلها سود.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِـمَاءٍ كالـمُهْلِ قال: هو ماء غلـيظ مثل دردي الزيت.

وقال آخرون: هو الشيء الذي قد انتهى حرّة. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٨١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر وهارون بن عنترة، عن سعيد بن جبـير، قال: الـمهل: هو الذي قد انتهى حرّة.

وهذه الأقوال وإن اختلفت بها ألفـاظ قائلـيها، فمتقاربـات الـمعنى، وذلك أن كلّ ما أذيب من رصاص أو ذهب أو فضة فقد انتهى حرّة، وأن ما أوقدت علـيه من ذلك النار حتـى صار كدردي الزيت، فقد انتهى أيضا حرّة. وقد:

١٧٣٨٢ـ حُدثت عن معمر بن الـمثنى، أنه قال: سمعت الـمنتـجع بن نبهان يقول: واللّه لفلان أبغض إلـيّ من الطلـياء والـمهل، قال: فقلنا له: وما هما؟ فقال: الـجربـاء، والـملة التـي تنـحدر عن جوانب الـخبزة إذا ملت فـي النار من النار، كأنها سهلة حمراء مدققة، فهي أحمره، فـالـمهل إذا هو كلّ مائع قد أوقد علـيه حتـى بلغ غاية حرّة، أو لـم يكن مائعا، فإنـماع بـالوقود علـيه، وبلغ أقصى الغاية فـي شدّة الـحرّ.

و قوله: يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ

يقول جلّ ثناؤه: يشوي ذلك الـماء الذي يغاثون به وجوههم. كما:

١٧٣٨٣ـ حدثنـي مـحمد بن خـلف العسقلانـي، قال: حدثنا حيوة بن شريح، قال: حدثنا بقـية، عن صفوان بن عمرو، عن عبد اللّه بن بُسْر هكذا قال ابن خـلف عن أبـي أمامة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فـي قوله ويُسْقَـى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَـجَرّعُهُ قال: (يقرب إلـيه فـيتكرّهه، فإذا قرب منه، شوى وجهه، ووقعت فَرْوة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه) ، يقول اللّه : وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِـمَاءٍ كالـمُهْلِ يَشوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا إبراهيـم بن إسحاق الطالَقانـي ويعمر بن بشر، قالا: حدثنا ابن الـمبـارك، عن صفوان، عن عبد اللّه بن بُسْر، عن أبـي أمامة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بـمثله.

١٧٣٨٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر وهارون بن عنترة، عن سعيد بن جبـير، قال هارون: إذا جاع أهل النار. وقال جعفر: إذا جاء أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها، فـاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارّا مارّ بهم يعرفهم، لعرف جلود وجوههم فـيها، ثم يصبّ علـيهم العطش، فـيستغيثون، فـيغاثون بـماء كالـمهل، وهو الذي قد انتهى حرّة، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حرّة لـحوم وجوههم التـي قد سقطت عنها الـجلود.

و قوله: بِئْسَ الشّرابُ

يقول تعالـى ذكره: بئس الشراب، هذا الـماء الذي يغاث به هؤلاء الظالـمون فـي جهنـم الذي صفته ما وصف فـي هذه الاَية.

و قوله: وَساءَتْ مُرْتَفَقا

يقول تعالـى ذكره: وساءت هذه النار التـي أعتدناها لهؤلاء الظالـمين مرتفقا والـمرتفَق فـي كلام العرب: الـمتكأ، يقال منه: ارتفقت إذا اتكأت، كما قال الشاعر:

قالَتْ لَهُ وَارْتَفَقَتْ ألا فَتَـىيَسُوقُ بـالقَوْمِ غَزَالاتِ الضّحَى

أراد: واتكأت علـى مرفقها وقد ارتفق الرجل: إذا بـات علـى مرفقه لا يأتـيه نوم، وهو مرتفق، كما قال أبو ذؤيب الهذلـيّ:

نامَ الـخَـلِـيّ وَبِتّ اللّـيْـلَ مُرْتَفِقاكأنّ عَيْنِـيَ فِـيها الصّابُ مَذْبُوحُ

وأما من الرفق فإنه يقال: قد ارتفقت بك مرتفقا، وكان مـجاهد يتأوّل قوله: وَساءَتْ مُرْتَفَقا يعني الـمـجتـمع. ذكر الرواية بذلك:

١٧٣٨٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مُرْتَفَقا: أي مـجتـمعا.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا معتـمر، عن لـيث، عن مـجاهد وَساءَتْ مُرْتَفَقَا قال: مـجتـمعا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد مثله.

ولست أعرف الارتفـاق بـمعنى الاجتـماع فـي كلام العرب، وإنـما الارتفـاق: افتعال، إما من الـمرفق، وإما من الرفق.

٣٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }.

يقول تعالـى ذكره: إن الذين صدقوا اللّه ورسوله، وعملوا بطاعة اللّه ، وانتهوا إلـى أمره ونهيه، إنا لا نضيع ثواب من أحسن عملاً، فأطاع اللّه ، واتبع أمره ونهيه، بل نـجازيه بطاعته وعمله الـحسن جنات عدن تـجري من تـحتها الأنهار.

فإن قال قائل: وأين خَبَر (إنّ) الأولـى؟

قـيـل: جائز أن يكون خبرها قوله: إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ مَنْ أحْسَنَ عَمَلاً فـيكون معنى الكلام: إنا لا نضيع أجر من عمل صالـحا، فترك الكلام الأوّل، واعتـمد علـى الثانـي بنـية التكرير، كما

قـيـل: يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ بـمعنى: عن قتال فـيه علـى التكرير، وكما قال الشاعر:

إنّ الـخَـلِـيفَةَ إنّ اللّه سَرْبَلَهُسِرْبـالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الـخَواتِـيـمُ

ويروى: تُرْخَى وجائز أن يكون: إنّ الّذِينَ آمَنُوا جزاءً، فـيكون معنى الكلام: إن من عمل صالـحا فإنا لا نضيع أجره، فتضمر الفـاء فـي قوله (إنّا) وجائز أن يكون خبرها: أولئك لهم جنات عدن، فـيكون معنى الكلام: إن الذين آمنوا وعملوا الصالـحات، أولئك لهم جنات عدن.

٣١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ ...}.

يقول تعالـى ذكره: لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالـحات جناتُ عدن، يعني بساتـين إقامة فـي الاَخرة. تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهِمُ الأنهَارُ يقول: تـجري من دونهم ومن أيديهم الأنهار. وقال جلّ ثناؤه: من تـحتهم، ومعناه: من دونهم وبـين أيديهم، يُحَلّوْنَ فِـيها مِنْ أساوِرَ يقول: يـلبسون فـيها من الـحلـيّ أساور من ذهب، والأساور: جمع إسوار.

و قوله: يَـلْبَسُونَ ثِـيابـا خُضْرا مِنْ سُنْدُسٍ والسندس: جمع واحدها سندسة، وهي ما رقّ من الديبـاج: والاستبرق: ما غلظ منه وَثـخُن و

قـيـل: إن الاستبرق: هو الـحرير ومنه قول الـمرَقّش:

تَرَاهُنّ يَـلْبَسْنَ الـمَشاعِرَ مَرّةًواسْتَبْرَقَ الدّيبـاجِ طَوْرا لِبـاسُها

 يعني : وغلـيظ الديبـاج.

و قوله: مُتّكِيئنَ فِـيها علـى الأرَائِكِ يقول: متكئين فـي جنات عدن علـى الأرائك، وهي السّرُر فـي الـحِجال، واحدتها: أريكة ومنه قول الشاعر:

خُدُودا جَفَتْ فـي السّيْرِ حتـى كأنّـمايُبـاشِرْنَ بـالـمَعْزاءِ مَسّ الأرَائِك

ومنه قول الأعشى:

بـينَ الرّوَاقِ وجانِبٍ مِنْ سِتْرِهامِنْها وبـينَ أرِيكَةٍ الأنْضادِ

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٨٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله عَلَـى الأرَائِكِ قال: هي الـحجال. قال معمر، وقال غيره: السرر فـي الـحجال.

و قوله: نِعْمَ الثّوَابُ يقول: نعم الثواب جنات عدن، وما وصف جل ثناؤه أنه جعل لهؤلاء الذين آمنوا وعلـموا الصالـحات وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقا يقول: وحسُنت هذه الأرائك فـي هذه الـجنان التـي وصف تعالـى ذكره فـي هذه الاَية متكأ. وقال جلّ ثناؤه: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقا فأنث الفعل بـمعنى: وحسنت هذه الأرائك مرتَفَقا، ولو ذكر لتذكير الـمرتفق كان صوابـا، لأن نِعْم وبِئْس إنـما تدخـلهما العرب فـي الكلام لتدلا علـى الـمدح والذمّ لا للفعل، فلذلك تذكرهما مع الـمؤنث، وتوحّدهما مع الاثنـين والـجماعة.

٣٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلاً رّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ...}.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : واضرب يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين بـاللّه ، الذين سألوك أن تطرُد الذين يدعون ربهم بـالغداة والعشيّ يريدون وجهه، مَثلاً مثل رَجُلَـينِ جَعَلْنا لأَحَدهِما جَنّتَـيْنِ أي جعلنا له بساتـين من كروم وحَفَفْناهُمَا بنَـخْـلٍ يقول: وأطفنا هذين البساتـين بنـخـل.

و قوله: وَجَعَلْنا بَـيْنَهُما زَرْعا يقول: وجعلنا وسط هذين البساتـين زرعا.

٣٣

و قوله: كِلْتا الـجَنّتَـيْنِ آتَتْ أُكُلَها يقول: كلا البستانـين أطعم ثمره وما فـيه من الغروس من النـخـل والكرم وصنوف الزرع. وقال: كلتا الـجنتـين، ثم قال: آتت، فوحّد الـخبر، لأن كلتا لا يفرد واحدتها، وأصله كلّ، وقد تفرد العرب كلتا أحيانا، ويذهبون بها وهي مفردة إلـى التثنـية قال بعض الرّجاز فـي ذلك:

فِـي كِلْتَ رِجْلَـيْها سُلاَمي وَاحدَهكِلْتاهُما مَقْرُونَةٌ بِزَائِدَهْ

يريد بكلت: كلتا، وكذلك تفعل بكلتا وكلا وكل إذا أضيفت إلـى معرفة، وجاء الفعل بعدهن ويجمع ويوحد.

و قوله: ولَـمْ تَظْلِـمْ مِنْهُ شَيْئا يقول: ولـم تنقص من الأكل شيئا، بل آتت ذلك تاما كاملاً، ومنه قولهم: ظلـم فلان فلانا حقّه: إذا بخَسَهُ ونقصه، كما قال الشاعر:

تَظّلَـمَنِـي ما لـي كَذَا وَلَوى يَدِيلَوَى يَدَهُ اللّه الّذِي هُوَ غالِبُهْ

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ولَـمْ تَظْلِـمْ مِنْهُ شَيْئا: أي لـم تنقص منه شيئا.

و قوله: وَفَجّرْنا خِلاَلهُما نَهَرا

يقول تعالـى ذكره: وَسيّـلنا خلال هذين البستانـين نهرا، يعني بـينها وبـين أشجارهما نهرا. و

قـيـل: وفَجّرْنا فثقل الـجيـم منه، لأن التفجير فـي النهر كله، وذلك أنه يـميد ماء فـيُسيـل بعضه بعضا.

٣٤

و قوله: وكانَ لَهُ ثَمَرٌ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والعراق: (وكانَ لَهُ ثُمُرٌ) بضمّ الثاء والـميـم. واختلف قارئو ذلك كذلك، فقال بعضهم: كان له ذهب وفضة، وقالوا: ذلك هو الثمر، لأنها أموال مثمرة، يعني مكّثرة. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٨٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: وكانَ لَهُ ثَمَرٌ قال: ذهب وفضة، وفي قول اللّه عز وجل: بِثُمُرِهِ قال: هي أيضا ذهب وفضة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، فـي قوله ثَمَرٌ قال: ذهب وفضة. قال:

و قوله: وأُحِيطَ بِثُمُرِهِ هي هي أيضا.

وقال آخرون: بل عُنِـي به: الـمال الكثـير من صنوف الأموال. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٨٩ـ حدثنا أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: ثنـي حجاج، عن هارون، عن سعيد بن أبـي عَروبة، عن قتادة ، قال: قرأها ابن عباس : (وكانَ لَهُ ثُمُرُ) بـالضمّ، وقال: يعني أنواع الـمال.

حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس : (وكانَ لَهُ ثُمُرٌ) يقول: مال.

١٧٣٨٢حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد. قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، فـي قوله: (وكانَ لَهُ ثُمُرٌ) يقول: من كلّ الـمال.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله وأُحِيطَ بِثُمُرِهِ قال: الثمر من الـمال كله يعني الثمر، وغيره من الـمال كله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة ، قال: (الثّمُر) الـمال كله، قال: وكلّ مال إذا اجتـمع فهو ثُمُر إذا كان من لون الثمرة وغيرها من الـمال كله.

وقال آخرون: بل عنى به الأصل. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٩٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: (وكانَ لَهُ ثُمُرٌ) الثمر الأصل. قال وأُحيطَ بثُمُرِهِ قال: بأصله.

وكأنّ الذين وجّهوا معناها إلـى أنها أنواع من الـمال، أرادوا أنها جمع ثمار جمع ثمر، كما يجمع الكتاب كتبـا، والـحمار حمرا. وقد قرأ بعض من وافق هؤلاء فـي هذه القراءة (ثُمْرٌ) بضمّ الثاء وسكون الـميـم، وهو يريد الضمّ فـيها غير أنه سكنها طلب التـخفـيف. وقد يحتـمل أن يكون أراد بها جمع ثمرة، كما تـجمع الـخَشبة خَشَبـا. وقرأ ذلك بعض الـمدنـيـين: وكانَ لَهُ ثَمَرٌ بفتـح الثاء والـميـم، بـمعنى جمع الثّمرة، كما تـجمع الـخشبة خَشبـا. والقَصبة قَصبـا.

وأولـى القراءات فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأ وكانَ لَهُ ثُمُرٌ بضمّ الثاء والـميـم لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه وإن كانت جمع ثمار، كما الكتب جمع كتاب.

ومعنى الكلام: وَفَجّرْنا خِلاَلُهِما نَهَرا وكانَ لَهُ منهما ثُمُرٌ بـمعنى من جنتـيه أنواع من الثمار. وقد بـين ذلك لـمن وفق لفهمه، قوله: جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنّتَـيْنِ مِنْ أعْنابٍ وحَفَفْناهُما بنَـخْـلٍ وَجَعَلْنا بَـيْنَهُما زَرْعا ثم قال: وكان له من هذه الكروم والنـخـل والزرع ثمر.

و قوله: فَقالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ يقول عزّ وجلّ: فقال هذا الذي جعلنا له جنتـين من أعناب، لصاحبه الذي لا مال له وهو يخاطبه: أنا أكْثَرُ مِنْكَ مالاً وأعَزّ نَفَرا يقول: وأعزّ عشيرة ورَهْطِا، كما قال عُيـينة والأقرع لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نـحن سادات العرب، وأربـاب الأموال، فنـحّ عنا سلـمان وَخّبـابـا وصُهيبـا، احتقارا لهم، وتكبرا علـيهم، كما:

١٧٣٩١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أنا أكْثَرُ مِنْك مالاً وأعَزّ نَفَرا وتلك واللّه أمنـية الفـاجر: كثرة الـمال، وعزّة النفر.

٣٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَدَخَلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنّ أَن تَبِيدَ هَـَذِهِ أَبَداً }.

يقول تعالـى ذكره: هذا الذي جعلنا له جنتـين من أعناب دَخَـلَ جَنّتَهُ وهي بستانه وَهُوَ ظالِـمٌ لِنَفْسِهِ وظلـمه نفسه: كفره بـالبعث، وشكه فـي قـيام الساعة، ونسيانه الـمعاد إلـى اللّه تعالـى، فأوجب لها بذلك سخط اللّه وألـيـم عقابه.

٣٦

و قوله: قالَ ما أظُنّ أنْ تَبِـيدَ هَذِهِ أبَدا

يقول جلّ ثناؤه: قال لـما عاين جنته، ورآها وما فـيها من الأشجار والثمار والزروع والأنهار الـمطردة شكا فـي الـمعاد إلـى اللّه : ما أظنّ أن تبـيد هذه الـجنة أبدا، ولا تفنى ولا تـخْرب، وما أظنّ الساعة التـي وعد اللّه خـلقه الـحشر فـيها تقول فتـحدث، ثم تـمنى أمنـية أخرى علـى شكّ منه، فقال: وَلَئِنَ رُدِدْتُ إلـى رّبـي فرجعت إلـيه، وهو غير موقن أنه راجع إلـيه لأَجِدَنّ خَيْرا مِنْها مُنْقَلَبـا يقول: لأجدنّ خيرا من جنتـي هذه عند اللّه إن رددت إلـيه مرجعا ومردّا، يقول: لـم يعطنـي هذه الـجنة فـي الدنـيا إلا ولـى عنده أفضل منها فـي الـمعاد إن رددت إلـيه. كما:

١٧٣٩٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَما أظُنّ السّاعَةَ قائِمَةً قال: شكّ، ثم قال: وَلَئِنْ كان ذلك ثم رُدِدْتُ إلـى رَبّـي لأَجِدَنّ خَيْرا مِنْها مُنْقَلَبـا ما أعطانـي هذه إلا ولـي عنده خير من ذلك.

١٧٣٩٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَدَخَـلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظالِـمٌ لَنَفْسِهِ قالَ ما أظُنّ أنْ تَبِـيدَ هَذِهِ أبَدا وَما أظُنّ السّاعة قائمَةً كفور لنعم ربه، مكذّب بلقائه، متـمنّ علـى اللّه .

٣٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلاً }.

يقول تعالـى ذكره: قال لصاحب الـجنتـين صاحبه الذي هو أقلّ منه مالاً وولدا، وَهُوَ يُحاوِرُهُ: يقول: وهو يخاطبه ويكلـمه: أكَفَرْتَ بـالّذِي خَـلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ يعني خـلق أبـاك آدم من تراب ثُمّ مِنْ نُطْفَةٍ يقول: ثم أنشأك من نطفة الرجل والـمرأة، ثم سوّاك رَجُلاً يقول: ثم عَد لك بشرا سويا رجلاً، ذكرا لا أنثى، يقول: أكفرت بـمن فعل بك هذا أن يعيدك خـلقا جديدا بعد ما تصير رفـاتا

٣٨

لَكِنّا هُوَ اللّه رَبّـي يقول: أما أنا فلا أكفر بربـي، ولكن أنا هو اللّه ربـي، معناه أنه يقول: ولكن أنا أقول: هو اللّه ربـي وَلا أُشْرِكُ بِرَبـيّ أحَدا. وفـي قراءة ذلك وجهان: أحدهما لكنّ هو اللّه ربـي بتشديد النون وحذف الألف فـي حال الوصل، كما يقال: أنا قائم فتـحذف الألف من أنا، وذلك قراءة عامة قرّاء أهل العراق. وأما فـي الوقـف فإن القرأة كلها تثبت فـيها الألف، لأن النون إنـما شدّدت لاندغام النون من لكن، وهي ساكنة فـي النون التـي من أنا، إذ سقطت الهمزة التـي فـي أنا، فإذا وقـف علـيها ظهرت الألف التـي فـي أنا، ف

قـيـل: لكنا، لأنه يقال فـي الوقـف علـى أنا بإثبـات الألف لا بإسقاطها. وقرأ ذلك جماعة من أهل الـحجاز: لَكِنّا بإثبـات الألف فـي الوصل والوقـف، وذلك وإن كان مـما ينطق به فـي ضرورة الشعر، كما قال الشاعر:

أنا سَيْفُ العَشِيرَةِ فـاعْرِفُونِـيحُمَيْدا قد تَذَرّيْتُ السّنامَا

فأثبت الألف فـي أنا، فلـيس ذلك بـالفصيح من الكلام، والقراءة التـي هي القراءة الصحيحة عندنا ما ذكرنا عن العراقـيـين، وهو حذف الألف من (لكنّ) فـي الوصل، وإثبـاتها فـي الوقـف.

٣٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْلآ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللّه لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّه إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً }.

يقول عزّ ذكره: وهلا إذ دخـلت بستانك، فأعجبك ما رأيت منه، قلت ما شاء اللّه كان وفـي الكلام مـحذوف استغنـي بدلالة ما ظهر علـيه منه، وهو جواب الـجزاء، وذلك كان.

وإذا وجه الكلام إلـى هذا الـمعنى الذي قلنا كانت (ما) نصبـا بوقوع فعل اللّه علـيه، وهو شاء وجاز طرح الـجواب، لأن معنى الكلام معروف، كما

قـيـل: فإن استطعت أن تبتغي نفقا فـي الأرض، وترك الـجواب، إذ كان مفهوما معناه. وكان بعض أهل العربـية يقول (ما) من قوله: ما شاءَ اللّه فـي موضع رفع بإضمار هو، كأنه

قـيـل: قلت هو ما شاء اللّه لا قُوّةَ إلاّ بـاللّه يقول: لا قوّة علـى ما نـحاول من طاعته إلا به.

و قوله: إنْ تَرَنِ أنا أقَلّ مِنْكَ مالاً وَوَلَدا وهو قول الـمؤمن الذي لا مال له، ولا عشيرة، مثل صاحب الـجنتـين وعشيرته، وهو مثل سَلْـمان وصُهَيب وَخبـاب، يقول: قال الـمؤمن للكافر: إن ترن أيها الرجل أنا أقلّ منك مالاً وولدا فإذا جعلت أنا عمادا نصبت أقل، وبه القراءة عندنا، لأن علـيه قراءة الأمصار، وإذا جعلته اسما رفعت أقل.

٤٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فعسَىَ رَبّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مّن جَنّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مّنَ السّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً }.

يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل الـمؤمن الـموقن للـمعاد إلـى اللّه للكافر الـمرتاب فـي قـيام الساعة: إن تَرَن أيها الرجل أنا أقلّ منك مالاً وولدا فـي الدنـيا، فعسى ربـي أن يرزقنـي خيرا من بستانك هذا وَيُرْسِلَ عَلَـيْها يعني علـى جنة الكافر التـي قال لها: ما أظنّ أن تبـيد هذه أبدا حُسْبـانا مِنَ السّماءِ يقول: عذابـا من السماء ترمي به رميا، وتقذف. والـحُسْبـان: جمع حُسْبـانة، وهي الـمرامي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٣٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أوْ يُرْسِلَ عَلَـيْها حُسْبـانا مِنَ السّماءِ عذابـا.

١٧٣٩٥ـ حُدثت عن مـحمد بن يزيد، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: عذابـا.

١٧٣٩٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: أوْ يُرْسِلَ عَلَـيْها حُسْبـانا مِنَ السّماءِ. قال: عذابـا، قال: الـحُسبـان: قضاء من اللّه يقضيه.

١٧٣٩٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قال: الـحُسبـان: العذاب.

حدثنا الـحسن بن مـحمد، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله حُسْبـانا مِنَ السّماءِ قال: عذابـا.

و قوله: فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا يقول عزّ ذكره: فتصبح جنتك هذه أيها الرجل أرضا ملساء لا شيء فـيها، قد ذهب كلّ ما فـيها من غَرْس ونبت، وعادت خرابـا بلاقع، زَلَقا، لا يثبت فـي أرضها قدم لا ملساسها، ودروس ما كان نابتا فـيها.

١٧٣٩٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا: أي قد حُصِد ما فـيها فلـم يُترك فـيها شيء.

١٧٣٩٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس : فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا قال: مثل الـجُرز.

١٧٤٠٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد، فـي قوله: فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا قال: صعيدا زلقا وصعيدا جُرزا واحد لـيس فـيها شيء من النبـات.

٤١

و قوله: أوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرا يقول: أو يصبح ماؤها غائرا فوضع الغور وهو مصدر مكان الغائر، كما قال الشاعر:

تَظَلّ جِيادُهُ نَوْحا عَلَـيْهِمُقَلّدَةً أعِنّتَها صُفُونا

بـمعنى نائحة وكما قال الاَخر:

هَرِيقـي مِنْ دُمُوعِهِما سَجامَاضُبـاعَ وجَاوِبـي نَوْحا قِـيامَا

والعرب توحد الغَور مع الـجمع والاثنـين، وتذكر مع الـمذكر والـمؤنث، تقول: ماء غور، وماءان غَوْر ومياه غَور. و يعني ب قوله: غَوْرا ذاهبـا قد غار فـي الأرض، فذهب فلا تلـحقه الرّشاء، كما:

١٧٤٠١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرا أي ذاهبـا قد غار فـي الأرض.

و قوله: فَلنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَبـا يقول: فلن تطيق أن تدرك الـماء الذي كان فـي جنتك بعد غَوْره، بطلبك إياه.

٤٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا ...}.

يقول تعالـى ذكره: وأحاط الهلاك والـجوائح بثمره، وهي صنوف ثمار جنته التـي كان يقول لها: ما أظُنّ أنْ تَبِـيدَ هَذِهِ أبَدا فأصبح هذا الكافر صاحب هاتـين الـجنتـين، يقلب كفّـيه ظهرا لبطن، تلهفـا وأسفـا علـى ذهاب نفقته التـي أنفق فـي جنته وَهِيَ خاوِيَةٌ علـى عُرُوشِها يقول: وهي خالـية علـى نبـاتها وبـيوتها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٠٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فأصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّـيْهِ: أي يصفق كَفـيه عَلـى ما أنْفَقَ فِـيها متلهفـا علـى ما فـاته.

وَ هو يقول يا لَـيْتَنِـي لَـمْ أُشْرِكْ بِرَبّـي أحَدا ويقول: يا لـيتنـي، يقول: يتـمنى هذا الكافر بعد ما أصيب بجنته أنه لـم يكن كان أشرك بربه أحدا، يعني بذلك: هذا الكافر إذا هلك وزالت عنه دنـياه وانفرد بعمله، ودّ أنه لـم يكن كفر بـاللّه ولا أشرك به شيئا.

٤٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَمْ تَكُن لّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّه وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً }.

يقول تعالـى ذكره: ولـم يكن لصاحب هاتـين الـجنتـين فِئَة، وهم الـجماعة كما قال العَجّاج:

كمَا يَحُوزّ الفِئَةُ الكَمِيّ

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل، وإن خالف بعضهم فـي العبـارة عنه عبـارتنا، فإن معناهم نظير معنانا فـيه. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، في قول اللّه عز وجل: وَلَـمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّه قال: عشيرته.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٤٠٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ولَـمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّه : أي جند ينصرونه.

و قوله: يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّه يقول: يـمنعونه من عقاب اللّه وعذاب اللّه إذا عاقبه وعذّبه. وقوله وَما كانَ مُنْتَصِرا يقول: ولـم يكن مـمتنعا من عذاب اللّه إذا عذّبه، كما:

١٧٤٠٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَما كانَ مُنْتَصِرا: أي مـمتنعا.

٤٤

و قوله: هُنالكَ الوَلايَةُ للّه الـحَقّ يقول عزّ ذكره: ثم وذلك حين حلّ عذاب اللّه بصاحب الـجنتـين فـي القـيامة.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: الولاية، فقرأ بعض أهل الـمدينة والبصرة والكوفة هُنالكَ الوَلايَةُ بفتـح الواو من الولاية، يعنون بذلك هنالك الـمُوالاة للّه، كقول اللّه : اللّه وَلِـيّ الّذِينَ آمَنُوا وك قوله: ذلكَ بأنّ اللّه مَوْلَـى الّذِينَ آمَنُوا يذهبون بها إلـى الوَلاية فـي الدين. وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة: (هُنالِكَ الوِلايَةُ) بكسر الواو: من الـمُلك والسلطان، من قول القائل: وَلِـيتُ عمل كذا، أو بلدة كذا ألـيه ولاية.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب، قراءة من قرأ بكسر الواو، وذلك أن اللّه عقب ذلك خبره عن مُلكه وسلطانه، وأن من أحلّ به نقمته يوم القـيامة فلا ناصر له يومئذٍ، فإتبـاع ذلك الـخبر عن انفراده بـالـمـملكة والسلطان أولـى من الـخبر عن الـموالاة التـي لـم يجر لها ذكر ولا معنى، لقول من قال: لا يسمّى سلطان اللّه ولاية، وإنـما يسمى ذلك سلطان البشر، لأن الولاية معناها أنه يـلـي أمر خـلقه منفردا به دون جميع خـلقه، لا أنه يكون أميرا علـيهم.

واختلفوا أيضا فـي قراءة قوله الـحَقّ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الـمدينة والعراق خفضا، علـى توجيهه إلـى أنه من نعت اللّه ، وإلـى أن معنى الكلام: هنالك الولاية للّه الـحقّ ألوهيته، لا البـاطل بطول ألوهيته التـي يدعونها الـمشركون بـاللّه آلهة. وقرأ ذلك بعض أهل البصرة وبعض متأخري الكوفـيـين: (للّه الـحَقّ) برفع الـحقّ توجيها منهما إلـى أنه من نعت الولاية، ومعناه: هنالك الولاية الـحقّ، لا البـاطل للّه وحده لا شريك له.

وأولـى القراءتـين عندي فـي ذلك بـالصواب، قراءة من قرأه خفضا علـى أنه من نعت اللّه ، وأن معناه ما وصفت علـى قراءة من قرأه كذلك.

و قوله: هُوَ خَيْرٌ ثَوَابـا يقول عزّ ذكره: خير للـمنـيبـين فـي العاجل والاَجل ثوابـا وخَيْرٌ عُقْبـا يقول: وخيرهم عاقبة فـي الاَجل إذا صار إلـيه الـمطيع له، العامل بـما أمره اللّه ، والـمنتهى عما نهاه اللّه عنه. والعقب هو العاقبة، يقال: عاقبة أمر كذا وعُقْبـاه وعُقُبه، وذلك آخره وما يصير إلـيه منتهاه.

وقد اختلف القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة عُقْبـا بضم العين وتسكين القاف.

و القول فـي ذلك عندنا. أنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار بـمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.

٤٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاضْرِبْ لَهُم مّثَلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السّمَاءِ ...}.

يقول عزّ ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : واضرب لـحياة هؤلاء الـمستكبرين الذين قالوا لك: اطرد عنك هؤلاء الذين يدعون ربهم بـالغداة والعشيّ، إذا نـحن جئناك الدنـيا منهم مثلاً يقول: شبها كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السّماءِ يقول: كمطر أنزلناه من السماء فـاخْتَلَطَ بِهِ نَبـاتُ الأرْضِ يقول: فـاختلط بـالـماء نبـات الأرض فأصْبَحَ هَشِيـما يقول: فأصبح نبـات الأرض يابسا متفتتا تَذْرُوهُ الرّياحُ يقول تطيره الرياح وتفرّقه يقال منه: ذَرَته الريح تَذْروه ذَرْوا، وَذَرتْه ذَرْيا، وأذرته تُذْرِيهِ إذراء كما قال الشاعر:

فَقُلْتُ لَهُ صَوّبْ وَلا تُـجْهِدَنّهُفَـيُذْرِكَ مِنْ أُخْرَى القَطاةِ فَتزْلَقِ

يقال: أذريت الرجل عن الدابة والبعير: إذا ألقـيته عنه.

و قوله: وكانَ اللّه علـى كُلّ شَيْءٍ مُقْتَدِرا يقول: وكان اللّه علـى تـخريب جنة هذا القائل حين دخـل جنته: ما أظُنّ أنْ تَبِـيدَ هَذِهِ أبَدا وَما أظُنّ السّاعَةَ قائمَةً وإهلاك أموال ذي الأمْوَالِ البـاخـلـين بها عن حقوقها، وإزالة دنـيا الكافرين به عنهم، وغير ذلك مـما يشاء قادر، لا يعجزه شيء أراده، ولا يعْيـيه أمر أراده، يقول: فلا يفخر ذو الأموال بكثرة أمواله، ولا يستكبر علـى غيره بها، ولا يغترنّ أهل الدنـيا بدنـياهم، فإنـما مَثَلُها مثل هذا النبـات الذي حسُن استواؤه بـالـمطر، فلـم يكن إلا رَيْثَ أن انقطع عنه الـماء، فتناهى نهايته، عاد يابسا تذروه الرياح، فـاسدا، تنبو عنه أعين الناظرين، ولكن لـيعمل للبـاقـي الذي لا يفنى، والدائم الذي لا يبـيد ولا يتغير.

٤٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }.

يقول تعالـى ذكره: الـمال والبنون أيها الناس التـي يفخر بها عيـينة والأقرع، ويتكبران بها علـى سلـمان وخبـاب وصهيب، مـما يتزين به فـي الـحياة الدنـيا، ولـيسا من عداد الاَخرة والبـاقـياتُ الصّالِـحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابـا يقول: وما يعمل سلـمان وخبـاب وصهيب من طاعة اللّه ، ودعائهم ربهم بـالغداة والعشيّ يريدون وجهه، البـاقـي لهم من الأعمال الصالـحة بعد فناء الـحياة الدنـيا، خير يا مـحمد عند ربك ثوابـا من الـمال والبنـين التـي يفتـخر هؤلاء الـمشركون بها، التـي تفنى، فلا تبقـى لأهلها وخَيْرٌ أمَلاً يقول: وما يؤمل من ذلك سلـمان وصهيب وخبـاب، خير مـما يؤمل عيـينة والأقرع من أموالهما وأولادهما. وهذه الاَيات من لدن قوله: وَاتْلُ ما أُوحيَ إلَـيْكَ مِنْ كِتابِ رَبّكَ إلـى هذا الـموضع، ذُكر أنها نزلت فـي عيـينة والأقرع. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٠٦ـ حدثنا الـحسين بن عمرو العنقزي، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن السديّ، عن أبـي سعيد الأزدي، وكان قارىء الأزد، عن أبـي الكنود، عن خبـاب فـي قوله: وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بـالغَدَاةِ والعَشيّ ثم ذكر القصة التـي ذكرناها فـي سورة الأنعام فـي قصة عيـينة والأقرع، إلـى قوله: وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَه عَنْ ذِكْرِنا قال: عيـينة والأقرع وَاتّبعَ هَوَاهُ قال: قال: ثم قال ضرب لهم مثلاً رجلـين، ومثل الـحياة الدنـيا.

واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بـالبـاقـيات الصالـحات، اختلافهم فـي الـمعنىّ بـالدعاء الذي وصف جل ثناؤه به الذين نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، عن طردهم، وأمره بـالصبر معهم، فقال بعضهم: هي الصلوات الـخمس. وقال بعضهم: هي ذكر اللّه بـالتسبـيح والتقديس والتهلـيـل، ونـحو ذلك. وقال بعضهم: هي العمل بطاعة اللّه . وقال بعضهم: الكلام الطيب. ذكر من قال: هي الصلوات الـخمس:

١٧٤٠٧ـ حدثنـي مـحمد بن إبراهيـم الأنـماطي، قال: حدثنا يعقوب بن كاسب، قال: حدثنا عبد اللّه بن عبد اللّه الأموي قال: سمعت عبد اللّه بن يزيد بن هرمز، يحدّث عن عبـيد اللّه بن عتبة، عن ابن عباس أنه قال: البـاقـيات الصالـحات: الصلوات الـخمس.

١٧٤٠٨ـ حدثنـي زريق بن إسحاق، قال: حدثنا قبـيصة، عن سفـيان، عن عبد اللّه بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير، فـي قوله: وَالبـاقِـياتُ الصّالِـحاتُ قال: الصلوات الـخمس.

١٧٤٠٩ـ حدثنـي يحيى بن إبراهيـم الـمسعودي، قال: حدثنا أبـي، عن أبـيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن أبـي إسحاق عن عمرو بن شُرَحبـيـل فـي هذه الاَية والبـاقـياتُ الصّالِـحاتُ قال: هي الصلوات الـمكتوبـات.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد اللّه بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، قال: البـاقـيات الصالـحات: الصلوات الـخمس.

١٧٤١٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان عن الـحسن بن عبد اللّه ، عن إبراهيـم، قال البـاقِـياتُ الصّالِـحاتُ الصلوات الـخمس.

١٧٤١١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبـي إسحاق، عن أبـي ميسرة والبـاقِـياتُ الصّالِـحاتُ قال: الصلوات الـخمس. ذكر من قال: هنّ ذكر اللّه بـالتسبـيح والتـحميد ونـحو ذلك:

١٧٤١٢ـ حدثنا ابن حميد وعبد اللّه بن أبـي زياد ومـحمد بن عمارة الأسدي، قالوا: حدثنا عبد اللّه بن يزيد، قال: أخبرنا حيوة، قال: أخبرنا أبو عقـيـل زهرة بن معبد القرشي من بنـي تـيـم من رهط أبـي بكر الصدّيق، أنه سمع الـحرث مولـى عثمان بن عفـان، يقول: قـيـل لعثمان: ما البـاقـيات الصالـحات؟ قال: هنّ لا إله إلا اللّه ، وسبحان اللّه ، والـحمد للّه، واللّه أكبر، ولا حول ولا قوّة إلا بـاللّه .

حدثنـي سعيد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا أبو زرعة، قال: حدثنا حيوة، قال: حدثنا أبو عقـيـل زهرة بن معبد، أنه سمع الـحرث مولـى عثمان بن عفـان يقول: قـيـل لعثمان بن عفـان: ما البـاقـيات الصالـحات؟ قال: هي لا إله إلا اللّه ، وسبحان اللّه وبحمده، واللّه أكبر، والـحمد للّه، ولا حول ولا قوّة إلا بـاللّه .

حدثنـي ابن عبد الرحيـم البرّقـي، قال: حدثنا ابن أبـي مريـم، قال: حدثنا نافع بن يزيد ورشدين بن سعد، قالا: حدثنا زهرة بن معبد، قال: سمعت الـحارث مولـى عثمان بن عفـان يقول: قالوا لعثمان: ما البـاقـيات الصالـحات؟ فذكر مثله.

١٧٤١٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد اللّه بن مسلـم بن هرمز، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، فـي قوله: وَالبـاقِـياتُ الصّالِـحاتُ قال: سبحان اللّه ، والـحمد للّه، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت عبد الـملك، عن عطاء، عن ابن عباس ، فـي قوله وَالبـاقِـياتُ الصّالِـحاتُ قال: سبحان اللّه ، والـحمد للّه، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن عبد الـملك، عن عطاء، عن ابن عباس ، مثله.

١٧٤١٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا مالك، عن عمارة بن عبد اللّه بن صياد، عن سعيد بن الـمسيب، قال: البـاقِـياتُ الصّالِـحاتُ: سبحان اللّه ، والـحمد للّه، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر، ولا حول ولا قوّة إلا بـاللّه .

١٧٤١٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن عثمان بن خُثَـيـم، عن نافع بن سرجس، أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن البـاقـيات الصالـحات، قال: لا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر، وسبحان اللّه ، ولا حول ولا قوّة إلا بـاللّه . قال ابن جريج، وقال عطاء بن أبـي رَبـاح مثل ذلك.

١٧٤١٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد ، قال: البـاقـيات الصالـحات: سبحان اللّه ، والـحمد للّه، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن مـجاهد ، بنـحوه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد ، فـي قوله والبـاقـياتُ الصّالِـحاتُ قال: سبحان اللّه ، والـحمد للّه، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر.

١٧٤١٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي أبو صخر: أن عبد اللّه بن عبد الرحمن، مولـى سالـم بن عبد اللّه ، حدثه قال: أرسلنـي سالـم بن مـحمد بن كعب القُرَظي، فقال: قل له الْقَنِـي عند زاوية القبر، فإن لـي إلـيك حاجة، قال: فـالتقـيا، فسلـم أحدهما علـى الاَخر، ثم قال سالـم: ما تعدّ البـاقـيات الصالـحات؟ فقال: لا إله إلا اللّه ، والـحمد للّه، وسبحان اللّه ، واللّه أكبر، ولا حول ولا قوّة إلا بـاللّه ، فقال له سالـم: متـى جعلت فـيها لا حول ولا قوّة إلا بـاللّه ؟ فقال: ما زلت أجعلها، قال: فراجعه مرّتـين أو ثلاثا فلـم ينزع. قال: فأثبت، قال سالـم: أجل، فأثبت فإن أبـا أيوبَ الأنصاري حدثنـي أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يقول: (عُرِجَ بِـي إلـى السّماءِ فَأُرِيتُ إبْرَاهِيـمَ، فقال: يا جِبْرِيـلُ مَنْ هَذَا مَعَك؟ فقالَ: مُـحَمّد، فَرَحّبَ بِـي وَسَهّلَ، ثُمّ قالَ: مُرْ أمّتَكَ فَلْتُكْثِرْ مِنْ غِرَاسِ الـجَنّةِ، فإنّ تُرْبَتَها طَيّبَةٌ، وأرْضُها وَاسِعَةٌ، فَقُلْتُ: وَما غِرَاسُ الـجَنّةِ؟ قالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوّةَ إلاّ بـاللّه ) .

١٧٤١٨ـ وجدت فـي كتابـي عن الـحسن بن الصّبـاح البَرّار، عن أبـي نصر التـمار، عن عبد العزيز بن مسلـم، عن مـحمد بن عجلان، عن سعيد الـمَقْبُري، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (سُبْحَانَ اللّه ، والـحَمْدُ للّه، وَلا إلهَ إلاّ اللّه ، وَاللّه أكْبَرُ مِنَ البـاقِـياتِ الصّالِـحاتِ) .

١٧٤١٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن وقتادة ، فـي قوله: والبـاقِـياتُ الصّالِـحاتُ خَيْرٌ قال: لا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر، والـحمد للّه، وسبحان اللّه ، هنّ البـاقـيات الصالـحات.

١٧٤٢٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الـحارث، أن دراجا أبـا السمـح حدثه عن أبـي الهيثم، عن أبـي سعيد الـخُدريّ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (اسْتَكْثَرُوا مِنَ البـاقِـياتِ الصّالِـحاتِ) ،

قـيـلَ: وما هي يا رسول اللّه ؟ قال: (الـمِلّة) ،

قـيـل: وما هي يا رسول اللّه ؟ قال: (التّكْبِـيرُ والتّهْلِـيـلُ والتسبِـيحُ، والـحَمْدُ، ولا حَوْلَ وَلا قُوّةَ إلاّ بـاللّه ) .

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي مالك، عن عمارة بن صياد، أنه سمع سعيد بن الـمسيب يقول فـي البـاقـيات الصالـحات: إنها قول العبد: اللّه أكبر، وسبحان اللّه ، والـحمد للّه، ولا حول ولا قوّة إلا بـاللّه .

حدثنـي ابن البَرْقـي، قال: حدثنا ابن أبـي مريـم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: ثنـي ابن عَجْلان، عن عمارة بن صياد، قال: سألنـي سعيد بن الـمسيب، عن البـاقـيات الصالـحات، فقلت: الصلاة والصيام، قال: لـم تصب فقلت: الزكاة والـحجّ، فقال: لـم تصب، ولكنهنّ الكلـمات الـخمس: لا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر، وسبحان اللّه ، والـحمد للّه، ولا حول ولا قوّة إلا بـاللّه . ذكر من قال: هي العمل بطاعة اللّه عزّ وجلّ:

١٧٤٢١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـيّ، عن ابن عباس والبـاقِـياتُ الصّالـحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابـا وخَيْرٌ أمَلاً قال: الأعمال الصالـحة: سبحان اللّه ، والـحمد للّه، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر.

 

حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: والبـاقِـياتُ الصّالـحاتُ قال: هي ذكر اللّه قول لا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر، وسبحان اللّه ، والـحمد للّه، وتبـارك اللّه ، ولا حول ولا قوّة إلا بـاللّه ، وأستغفر اللّه ، وصلـى اللّه علـى رسول اللّه والصيام والصلاة والـحجّ والصدقة والعتق والـجهاد والصلة، وجميع أعمال الـحسنات، وهنّ البـاقـيات الصالـحات، التـي تبقـى لأهلها فـي الـجنة ما دامت السموات والأرض.

١٧٤٢٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله والبـاقِـياتُ الصّالِـحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابـا وخَيْرٌ أمَلاً قال: الأعمال الصالـحة. ذكر من قال: هي الكلـم الطيب:

١٧٤٢٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: والبـاقـياتُ الصّالِـحاتُ قال: الكلام الطيب.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: هنّ جميع أعمال الـخير، كالذي رُوي عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عباس ، لأن ذلك كله من الصالـحات التـي تبقـى لصاحبها فـي الاَخرة، وعلـيها يجازي ويُثاب، وإن اللّه عزّ ذكره لـم يخصص من قوله والبـاقِـياتُ الصّالِـحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابـا بعضا دون بعض فـي كتاب، ولا بخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .

فإن ظنّ ظانّ أن ذلك مخصوص بـالـخبر الذي رويناه عن أبـي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فإن ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنـما ورد بأن قول: سبحان اللّه ، والـحمد للّه، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر، هنّ من البـاقـيات الصالـحات، ولـم يقل: هنّ جميع البـاقـيات الصالـحات، ولا كلّ البـاقـيات الصالـحات وجائز أن تكون هذه بـاقـيات صالـحات، وغيرها من أعمال البرّ أيضا بـاقـيات صالـحات.

٤٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً }.

يقول تعالـى ذكره: وَيَوْمَ نُسَيّرُ الـجِبـالَ عن الأرض، فَنبسّها بَسّا، ونـجعلها هبـاء منبثا وَتَرَى الأرْضَ بـارِزَةً ظاهرة، وظهورها لرأي أعين الناظرين من غير شيء يسترها من جبل ولا شجر هو بروزها. وبنـحو ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٢٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَتَرى الأرْضَ بـارِزَةً قال: لا خَمَر فـيها ولا غيابة ولا بناء، ولا حجر فـيها.

حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٤٢٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَتَرى الأرْضَ بـارِزَةً لـيس علـيها بناء ولا شجر.

و

قـيـل: معنى ذلك: وترى الأرض بـارزا أهلها الذين كانوا فـي بطنها، فصاروا علـى ظهرها. وقوله وَحَشْرناهُمْ يقول: جمعناهم إلـى موقـف الـحساب فَلَـمْ نُغادِرُ مِنْهُمْ أحَدا، يقول: فلـم نترك، ولـم نبق منهم تـحت الأرض أحدا، يقال منه: ما غادرت من القوم أحدا، وما أغدرت منهم أحدا، ومن أغدرت قول الراجز:

هَلْ لكِ والعارِضُ مِنْكِ عائِضُفِـي هَجْمَةٍ يُغْدِرُ مِنْها القابِضُ

٤٨

و قوله: وَعُرِضُوا عَلـى رَبّكَ صَفّـا يقول عزّ ذكره: وعُرض الـخـلق علـى ربك يا مـحمد صفـا لَقَدْ جِئْتُـمُونا كمَا خَـلَقْناكُمْ أوّلَ مَرّةٍ يقول عزّ ذكره: يقال لهم إذ عُرضوا علـى اللّه : لقد جئتـمونا أيها الناس أحياء كهيئتكهم حين خـلقناكم أوّل مرّة وحذف يقال من الكلام لـمعرفة السامعين بأنه مراد فـي الكلام.

و قوله: بَلْ زَعَمْتُـمْ ألّنْ نَـجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدا وهذا الكلام خرج مخرج الـخبر عن خطاب اللّه به الـجميع، والـمراد منه الـخصوص، وذلك أنه قد يرد القـيامة خـلق من الأنبـياء والرسل، والـمؤمنـين بـاللّه ورسله وبـالبعث. ومعلوم أنه لا يُقال يومئذٍ لـمن وردها من أهل التصديق بوعد اللّه فـي الدنـيا، وأهل الـيقـين فـيها بقـيام الساعة، بل زعمتـم أن لن نـجعل لكم البعث بعد الـمـمات، والـحشر إلـى القـيامة موعدا، وأن ذلك إنـما يقال لـمن كان فـي الدنـيا مكذّبـا بـالبعث وقـيام الساعة.

٤٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ ...}.

يقول عزّ ذكره: ووضع اللّه يومئذٍ كتاب أعمال عبـاده فـي أيديهم، فأخذ واحد بـيـمينه وأخذ واحد بشماله فَتَرى الـمُـجْرِمينَ مُشْفقـينَ مِـمّا فِـيهِ يقول عزّ ذكره: فترى الـمـجرمين الـمشركين بـاللّه مشفقـين، يقول: خائفـين وجلـين مـما فـيه مكتوب من أعمالهم السيئة التـي عملوها فـي الدنـيا أن يؤاخذوا بها وَيَقُولُونَ يا وَيْـلَتَنا ما لَهَذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَلا كَبِـيرةً إلاّ أحْصَاها يعني أنهم يقولون إذا قرأوا كتابهم، ورأوا ما قد كُتب علـيهم فـيه من صغائر ذنوبهم وكبـائرها، نادوا بـالويـل حين أيقنوا بعذاب اللّه ، وضجوا مـما قد عرفوا من أفعالهم الـخبـيثة التـي قد أحصاها كتابهم، ولـم يقدروا أن ينكروا صحتها كما:

١٧٤٢٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ما لِهَذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِـيرَةً إلاّ أحْصَاها اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء، ولـم يشتك أحد ظلـما، (فإياكم والـمـحقّرات من الذنوب، فإنها تـجتـمع علـى صاحبها حتـى تهلكه) . ذُكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يضرب لها مثلاً، يقول كمثل قوم انطلقوا يسيرون حتـى نزلوا بفلاة من الأرض، وحضر صنـيع القوم، فـانطلق كلّ رجل يحتطب، فجعل الرجل يجيء بـالعود، ويجيء الاَخر بـالعود، حتـى جمعوا سوادا كثـيرا وأجّجوا نارا، فإن الذنب الصغير يجتـمع علـى صاحبه حتـى يهلكه. و

قـيـل: إنه عنى بـالصغيرة فـي هذا الـموضع: الضحك. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٢٧ـ حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة، قال: حدثنا عبد اللّه بن داود، قال: حدثنا مـحمد بن موسى، عن الزيال بن عمرو، عن ابن عباس لا يُغادِرُ صَغِيرةً وَلا كَبِـيرةً قال: الضحك.

١٧٤٢١حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثتنـي أمي حمادة ابنة مـحمد، قال: سمعت أبـي مـحمد بن عبد الرحمن يقول فـي هذه الاَية في قول اللّه عز وجل: ما لِهَذَا الكِتابِ لا يُغَادِرُ صَغيِرةً وَلا كَبِـيرةً إلاّ أحْصَاها قال: الصغيرة: الضحك.

و يعني ب قوله: ما لِهَذَا الكِتابِ: ما شأن هذا الكتاب لا يُغادِرُ صَغِيرةً وَلا كَبِـيرَةً يقول: لا يبقـى صغيرة من ذنوبنا وأعمالنا ولا كبـيرة منها إلاّ أحْصَاها يقول: إلا حفظها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا فـي الدنـيا من عمل حاضِرا فـي كتابهم ذلك مكتوبـا مثبتا، فجوّزوا بـالسيئة مثلها، والـحسنة ما اللّه جازيهم بها وَلا يَظْلِـمُ رَبّكَ أحَدا يقول: ولا يجازي ربك أحدا يا مـحمد بغير ما هو أهله، لا يجازي بـالإحسان إلا أهل الإحسان، ولا بـالسيئة إلا أهل السيئة، وذلك هو العدل.

٥٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ ...}.

يقول تعالـى ذكره مذكّرا هؤلاء الـمشركين حسد إبلـيس أبـاهم ومعلـمهم ما كان منه من كبره واستكبـاره علـيه حين أمره بـالسجود له، وأنه من العداوة والـحسد لهم علـى مثل الذي كان علـيه لأبـيهم: وَ اذكر يا مـحمد إذْ قُلْنا للْـمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِـيسَ الذي يطيعه هؤلاء الـمشركون ويتبعون أمره، ويخالفون أمر اللّه ، فإنه لـم يسجد له استكبـارا علـى اللّه ، وحسدا لاَدم كانَ مِنَ الـجِنّ.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله كانَ مِنَ الـجِنّ فقال بعضهم: إنه كان من قبـيـلة يقال لهم الـجنّ. وقال آخرون: بل كان من خزّان الـجنة، فنُسب إلـى الـجنة. وقال آخرون: بل قـيـل من الـجنّ، لأنه من الـجنّ الذين استـجنوا عن أعين بنـي آدم. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد بن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان اسمه قبل أن يركب الـمعصية عزازيـل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشدّ الـملائكة اجتهادا وأكثرهم علـما، فذلك هو الذي دعاه إلـى الكبر، وكان من حيّ يسمى جنا.

١٧٤٢٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال: كان إبلـيس من حيّ من أحياء الـملائكة يقال لهم الـجنّ، خُـلقوا من نار السموم من بـين الـملائكة، وكان اسمه الـحارث. قال: وكان خازنا من خزّان الـجنة. قال: وخُـلقت الـملائكة من نور غير هذ الـحيّ. قال: وخُـلقت الـجنّ الذين ذكروا فـي القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون فـي طرفها إذا التهبت.

١٧٤٣٠ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنـي شيبـان، قال: حدثنا سلام بن مسكين، عن قتادة ، عن سعيد بن الـمسيب، قال: كان إبلـيس رئيس ملائكة سماء الدنـيا.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن الأعمش، عن حبـيب بن أبـي ثابت، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، فـي قوله: إلاّ إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِن قال: كان إبلـيس من خزّان الـجنة، وكان يدبر أمر سماء الدنـيا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس : كان إبلـيس من أشراف الـملائكة وأكرمهم قبـيـلة. وكان خازنا علـى الـجنان، وكان له سلطان السماء الدنـيا، وكان له سلطان الأرض، وكان فـيـما قضى اللّه أنه رأى أن له بذلك شرفـا وعظمة علـى أهل السماء، فوقع من ذلك فـي قلبه كبر لا يعلـمه إلا اللّه فما كان عند السجود حين أمره أن يسجد لاَدم استـخرج اللّه كبره عند السجود، فلعنه وأخّره إلـى يوم الدين. قال: قال ابن عباس :

و قوله: كانَ مِنَ الـجِنّ إنـما سمي بـالـجنان أنه كان خازنا علـيها، كما يقال للرجل: مكيّ، ومدنـيّ، وكوفـيّ، وبصريّ، قاله ابن جريج.

وقال آخرون: هم سبط من الـملائكة قبـيـلة، وكان اسم قبـيـلته الـجنّ:

١٧٤٣١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن صالـح مولـى التوأمة، وشريك بن أبـي نـمر أحدهما أو كلاهما، عن ابن عباس ، قال: إن من الـملائكة قبـيـلة من الـجنّ، وكان إبلـيس منها، وكان يسوس ما بـين السماء والأرض، فعصى، فسخط اللّه علـيه فمسخه شيطانا رجيـما، لعنه اللّه مـمسوخا. قال: وإذا كانت خطيئة الرجل فـي كبر فلا ترجه، وإذا كانت خطيئته فـي معصية فـارجه، وكانت خطيئة آدم فـي معصية، وخطيئة إبلـيس فـي كبر.

١٧٤٣٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَإذْ قُلْنا للْـمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ قبـيـل من الـملائكة يقال لهم الـجنّ. وقال ابن عباس : لو لـم يكن من الـملائكة لـم يؤمر بـالسجود، وكان علـى خزانة السماء الدنـيا. قال: وكان قتادة يقول: جنّ عن طاعة ربه. وكان الـحسن يقول: ألـجأه اللّه إلـى نسبه.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله إلاّ إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ قال: كان من قبـيـل من الـملائكة يقال لهم الـجنّ.

١٧٤٣٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن عوف، عن الـحسن، قال: ما كان إبلـيس من الـملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الـجنّ، كما أن آدم علـيه السلام أصل الإنس.

١٧٤٣٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول: كان إبلـيس علـى السماء الدنـيا وعلـى الأرض وخازن الـجنان.

حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ: كان ابن عباس يقول: إن إبلـيس كان من أشراف الـملائكة وأكرمهم قبـيـلة، وكان خازنا علـى الـجنان، وكان له سلطان السماء الدنـيا وسلطان الأرض، وكان مـما سوّلت له نفسه من قضاء اللّه أنه رأى أن له بذلك شرفـا علـى أهل السماء، فوقع من ذلك فـي قلبه كبر لا يعلـمه إلا اللّه ، فـاستـخرج اللّه ذلك الكبر منه حين أمره بـالسجود لاَدم، فـاستكبر وكان من الكافرين، فذلك قوله للـملائكة: إنّـي أعْلَـمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ والأرْضِ وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـم تَكْتُـمُونَ يعني : ما أسرّ إبلـيس فـي نفسه من الكبر.

و قوله: كانَ مِنَ الـجِنّ كان ابن عباس يقول: قال اللّه كانَ مِنَ الـجِنّ لأنه كان خازنا علـى الـجنان، كما يقال للرجل: مكيّ، ومدنـي، وبصريّ، وكوفـيّ.

وقال آخرون: كان اسم قبـيـلة إبلـيس الـجنّ، وهم سبط من الـملائكة يقال لهم الـجنّ، فلذلك قال اللّه عزّ وجلّ كانَ مِنَ الـجِنّ فنسبه إلـى قبـيـلته.

١٧٤٣٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، فـي قوله كانَ مِنَ الـجِنّ قال: من الـجنانـين الذين يعملون فـي الـجنان.

١٧٤٣٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو سعيد الـيحمدي إسماعيـل بن إبراهيـم، قال: ثنـي سوار بن الـجعد الـيحمدي، عن شهر بن حوشب، قوله: مِنَ الـجنّ قال: كان إبلـيس من الـجنّ الذين طردتهم الـملائكة، فأسره بعض الـملائكة، فذهب به إلـى السماء.

١٧٤٣٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله إلاّ إبْلـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ قال: كان خازن الـجنان فسمي بـالـجنان.

١٧٤٣٨ـ حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا أحمد بن بشير، عن سفـيان بن أبـي الـمقدام، عن سعيد بن جبـير، قال: كان إبلـيس من خزنة الـجنة.

وقد بـيّنا

القول فـي ذلك فـيـما مضى من كتابنا هذا، وذكرنا اختلاف الـمختلفـين فـيه، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.

و قوله: فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ يقول: فخرج عن أمر ربه، وعدل عنه ومال، كما قال رؤبة:

يَهْوِينَ فِـي نَـجْدٍ وغَوْرا غائرَافَوَاسقا عَنْ قَصْدِها جَوَائِرَا

 يعني بـالفواسق: الإبل الـمنعدلة عن قصد نـجد، وكذلك الفسق فـي الدين إنـما هو الانعدال عن القصد، والـميـل عن الاستقامة. ويُحكى عن العرب سماعا: فسقت الرطبة من قشرها: إذا خرجت منه، وفسقت الفأرة: إذا خرجت من جحرها. وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يقول: إنـما

قـيـل: فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ لأنه مراد به: ففسق عن ردّه أمر اللّه ، كما تقول العرب: اتـخمت عن الطعام، بـمعنى: اتـخمت لـما أكلته. وقد بـيّنا

القول فـي ذلك، وأن معناه: عدل وجار عن أمر اللّه ، وخرج عنه. وقال بعض أهل العلـم بكلام العرب: معنى الفسق: الاتساع. وزعم أن العرب تقول: فسق فـي النفقة: بـمعنى اتسع فـيها. قال: وإنـما سمى الفـاسق فـاسقا، لاتساعه فـي مـحارم اللّه . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٣٩ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه تعالـى فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ قال: فـي السجود لاَدم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، فـي قوله فَفَسَق عَنْ أمْرِ رَبّهِ قال: عصى فـي السجود لاَدم.

و قوله: أفَتَتّـخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِـي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ

يقول تعالـى ذكره: أفتوالون يا بنـي آدم من استكبر علـى أبـيكم وحسده، وكفر نعمتـي علـيه، وغرّه حتـى أخرجه من الـجنة ونعيـم عيشه فـيها إلـى الأرض وضيق العيش فـيها، وتطيعونه وذرّيته من دون اللّه مع عدواته لكم قديـما وحديثا، وتتركون طاعة ربكم الذي أنعم علـيكم وأكرمكم، بأن أسجد لوالدكم ملائكته، وأسكنه جناته، وآتاكم من فواضل نعمه ما لا يحصى عدده، وذرّية إبلـيس: الشياطين الذين يغرّون بنـي آدم. كما:

١٧٤٤٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد أفَتَتّـخِذونَه وَذُرّيّتهُ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِـي قال: ذرّيته: هم الشياطين، وكان يعدّهم (زلنبوا) صاحب الأسواق ويضع رايته فـي كلّ سوق ما بـين السماء والأرض، و(ثبر) صاحب الـمصائب، و(الأعور) صاحب الزنا و(مسوط) صاحب الأخبـار، يأتـي بها فـيـلقـيها فـي أفواه الناس، ولا يجدون لها أصلاً، و(داسم) الذي إذا دخـل الرجل بـيته ولـم يسلـم ولـم يذكر اللّه بصره من الـمتاع ما لـم يرفع، وإذا أكل ولـم يذكر اسم اللّه أكل معه.

١٧٤٤١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: حدثنا حفص بن غياث، قال: سمعت الأعمش يقول: إذا دخـلتُ البـيت ولـم أسلـم، رأيت مطهرة، فقلت: ارفعوا ارفعوا، وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول: داسم داسم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي أبو معاوية، عن الأعمش، عن مـجاهد ، قال: هم أربعة ثبر، وداسم، وزلنبور، والأعور، ومسوط: أحدها.

١٧٤٤٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أفَتَتّـخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِـي... الاَية، وهم يتوالدون كما تتوالد بنو آدم، وهم لكم عدوّ.

١٧٤٤٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: أفَتَتّـخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِـي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ وهو أبو الـجنّ كما آدم أبو الإنس. وقال: قال اللّه لإبلـيس: إنـي لا أذرأ لاَدم ذرّية إلا ذرأت لك مثلها، فلـيس من ولد آدم أحد إلا له شيطان قد قرن به.

و قوله: بِئْسَ للظّالِـمينَ بَدَلاً يقول عزّ ذكره: بئس البدل للكافرين بـاللّه اتـخاذ إبلـيس وذرّيته أولـياء من دون اللّه ، وهم لكم عدّو من تركهم اتـخاذ اللّه ولـيا بـاتبـاعهم أمره ونهيه، وهو الـمنعم علـيهم وعلـى أبـيهم آدم من قبلهم، الـمتفضّل علـيهم من الفواضل ما لا يحصى بدلاً. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٤٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة بِئْسَ للظّالِـمِينَ بَدَلاً بئْسما استبدلوا بعبـادة ربهم إذ أطاعوا إبلـيس.

٥١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مّآ أَشْهَدتّهُمْ خَلْقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً }.

يقول عزّ ذكره: ما أشهدت إبلـيس وذرّيته خَـلْقَ السمَوَاتِ والأرْضِ يقول: ما أحضرتهم ذلك فأستعين بهم علـى خـلقها وَلا خَـلْقَ أنْفُسِهِمْ يقول: ولا أشهدت بعضهم أيضا خـلق بعض منهم، فأستعين به علـى خـلقه، بل تفرّدت بخـلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير، يقول: فكيف اتـخذوا عدوّهم أولـياء من دونـي، وهم خـلق من خـلق أمثالهم، وتركوا عبـادتـي وأنا الـمنعم علـيهم وعلـى أسلافهم، وخالقهم وخالق من يوالونه من دونـي منفردا بذلك من غير معين ولا ظهير.

و قوله: وَما كُنْتُ مُتّـخِذَ الـمُضِلّـينَ عَضُدا يقول: وما كنت متـخذ من لا يهدى إلـى الـحقّ، ولكنه يضلّ، فمن تبعه يجور به عن قصد السبـيـل أعوانا وأنصارا وهو من قولهم: فلان يعضد فلانا إذا كان يقوّيه ويعينه. وبنـحو ذلك قال بعض أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٤٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَما كُنْتَ مُتّـخِذَ الـمُضِلّـينَ عَضُدا: أي أعوانا.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، مثله، وإنـما يعني بذلك أن إبلـيس وذرّيته يضلون بنـي آدم عن الـحقّ، ولا يهدونهم للرشد، وقد يحتـمل أن يكون عنى بـالـمضلـين الذين هم أتبـاع علـى الضلالة، وأصحاب علـى غير هدى.

٥٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مّوْبِقاً }.

يقول عزّ ذكره وَيَوْمَ يَقُولُ اللّه عزّ ذكره للـمشركين به الاَلهة والأنداد نادُوا شُرَكائيَ الَذِينَ زَعَمْتُـمْ يقول لهم: ادعوا الذين كنتـم تزعمون أنهم شركائي فـي العبـادة لـينصروكم ويـمنعوكم منـي فَدَعَوهُمْ فَلَـمْ يَسْتَـجِيبُوا لَهُمْ يقول: فـاستغاثوا بهم فلـم يغيثوهم وجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ مَوْبِقا.

فـاختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: وجعلنا بـين هؤلاء الـمشركين وما كانوا يدعون من دون اللّه شركاء فـي الدنـيا يومئذٍ عداوة. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٤٦ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، عن عوف، عن الـحسن، فـي قول اللّه : وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ مَوْبِقا قال: جعل بـينهم عداوة يوم القـيامة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عثمان بن عمر، عن عوف، عن الـحسن وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ مَوْبِقا قال: عداوة.

وقال آخرون: معناه: وجعلنا فعلهم ذلك لهم مَهْلِكا. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٤٧ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ مَوْبِقا قال: مَهْلِكا.

١٧٤٤٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: مَوْبِقا قال: هلاكا.

١٧٤٤٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ مَوْبِقا قال: الـموبق: الـمهلك، الذي أهلك بعضهم بعضا فـيه، أوبق بعضهم بعضا. وقرأ وَجَعَلْنا لِـمَهْلِكِهمْ مَوْعِدا.

١٧٤٥٠ـ حُدثت عن مـحمد بن يزيد، عن جويبر، عن الضحاك مَوْبِقا قال: هلاكا.

١٧٤٥١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن عَرْفَجة، فـي قوله وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ مَوْبِقا قال: مهلكا.

وقال آخرون: هو اسم واد فـي جهنـم. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٥٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن سعيد، عن قتادة ، عن أبـي أيوب، عن عمرو البكّالـيّ: وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ مَوْبِقاقال: واد عميق فُصِل به بـين أهل الضلالة وأهل الهدى، وأهل الـجنة، وأهل النار.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ مَوْبِقا ذكر لنا أن عَمرا البكَالـي حدّث عن عبد اللّه بن عمرو، قال: هو واد عميق فُرق به يوم القـيامة بـين أهل الهدى وأهل الضلالة.

١٧٤٥٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عمر بن عبـيد، عن الـحجاج بن أرطاة، قال: قال مـجاهد وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ مَوْبِقا قال: واديا فـي النار.

حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ مَوْبِقا قال: واديا فـي جهنـم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٤٥٤ـ حدثنـي مـحمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا يزيد بن درهم، قال: سمعت أنس بن مالك يقول فـي قول اللّه عزّ وجلّ وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ مَوْبِقا قال: واد فـي جهنـم من قـيح ودم.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، ومن وافقه فـي تأويـل الـموبق: أنه الـمهلك، وذلك أن العرب تقول فـي كلامها: قد أوبقت فلانا: إذا أهلكته. ومنه قول اللّه عزّ وجلّ: أوْ يُوبِقْهُنّ بِـمَا كَسَبُوا بـمعنى: يهلكهنّ. ويقال للـمهلك نفسه: قد وبق فلان فهو يوبق وبقا. ولغة بنـي عامر: يابق بغير همز. وحُكي عن تـميـم أنها تقول: يبـيق. وقد حُكي وبق يبق وبوقا، حكاها الكسائي. وكان بعض أهل العلـم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: الـموبق: الوعد، ويستشهد لقـيـله ذلك بقول الشاعر:

وحادَ شَرَوْرَى فـالسّتارَ فَلَـمْ يَدَعْتِعارا لَهُ والوَادِيَـيْنِ بِـمَوْبِقِ

ويتأوّله بـموعد. وجائز أن يكون ذلك الـمهلك الذي جعل اللّه جل ثناؤه بـين هؤلاء الـمشركين، هو الوادي الذي ذكر عن عبد اللّه بن عمرو، وجائز أن يكون العداوة التـي قالها الـحسن.

٥٣

و قوله: وَرَأى الـمُـجْرِمُونَ النّارَ يقول: وعاين الـمشركون النار يومئذٍ فَظَنّوا أنّهُمْ مُوَاقعُوها يقول: فعلـموا أنهم داخـلوها، كما:

١٧٤٥٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: فَظَنّوا أنّهُمْ مُوَاقعُوها قال: علـموا.

١٧٤٥٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث، عن درّاج، عن أبـي الهيثم عن أبـي سعيد الـخدريّ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أنه قال: (إنّ الكافرَ يَرَى جَهَنّـمَ فَـيَظُنّ أنّها مُوَاقعَتُهُ مِنْ مَسيرَةِ أرْبَعينَ سَنَةَ) .

و قوله: ولَـمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفـا يقول: ولـم يجدوا عن النار التـي رأوا معدلاً يعدلون عنها إلـيه. يقول: لـم يجدوا من مواقعتها بدّا، لأن اللّه قد حتـم علـيهم ذلك. ومن الـمصرف بـمعنى الـمعدل قول أبـي كبـير الهذلـيّ:

أزُهَيْرُ هَلْ عَنْ شَيْبَةٍ مِنْ مَصْرِفِ أمْ لا خُـلُودَ لبـاذِلٍ مُتَكَلّفِ

٥٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }.

يقول عزّ ذكره: ولقد مثلنا فـي هذا القرآن للناس من كلّ مثل، ووعظناهم فـيه من كلّ عظة، واحتـججنا علـيهم فـيه بكلّ حجة لـيتذكّروا فـينـيبوا، ويعتبروا فـيتعظوا، وينزجروا عما هم علـيه مقـيـمون من الشرك بـاللّه وعبـادة الأوثان وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً يقول: وكان الإنسان أكثر شيء مراء وخصومة، لا ينـيب لـحقّ، ولا ينزجر لـموعظة، كما:

١٧٤٥٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً قال: الـجدل: الـخصومة، خصومة القوم لأنبـيائهم، وردّهم علـيهم ما جاءوا به. وقرأ: مَا هَذَا إلاّ بَشرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِـمّا تَأْكُلُونَ منه وَيَشْرَبُ مِـمّا تَشْرَبُونَ. وقرأ: يُرِيدُ أنْ يَتَفَضّلَ عَلَـيْكُمْ. وقرأ: حتـى تُوَفّـى... الاَية: وَلَوْ نَزّلْنا عَلَـيْكَ كِتابـا فِـي قِرْطاسٍ... الاَية. وقرأ: وَلَوْ فَتَـحْنا عَلَـيْهِمْ بـابـا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِـيهِ يَعْرُجُونَ قال: هم لـيس أنت لقالوا إنّـمَا سُكّرَت أبْصَارُنا بَلْ نَـحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ.

٥٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبّهُمْ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنّةُ الأوّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً }.

يقول عزّ ذكره: وما منع هؤلاء الـمشركين يا مـحمد الإيـمان بـاللّه إذ جاءهم الهدى بـيان اللّه ، وعلـموا صحة ما تدعوهم إلـيه وحقـيقته، والاستغفـار مـما هم علـيه مقـيـمون من شركهم، إلا مـجيئهم سنتنا فـي أمثالهم من الأمـم الـمكذبة رسلها قبلهم، أو إتـيانهم العذاب قُبُلا.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معناه: أو يأتـيهم العذاب فجأة. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٥٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: أوْ يَأتِـيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً قال فجأة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

وقال آخرون: معناه: أو يأتـيهم العذاب عيانا. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٥٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله أوْ يَأتِـيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً قال: قبلاً معاينة ذلك القبل.

وقد اختلف القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته جماعة ذات عدد أوْ يَأْتِـيَهُمْ العَذَابُ قُبُلاً بضمّ القاف والبـاء، بـمعنى أنه يأتـيهم من العذاب ألوان وضروب، ووجهوا القُبُل إلـى جمع قبـيـل، كما يُجمع القتـيـل القُتُل، والـجديد الـجُدُد. وقرأ جماعة أخرى: (أوْ يَأْتِـيَهُمْ العَذَابُ قِبَلاً) بكسر القاف وفتـح البـاء، بـمعنى أو يأتـيهم العذاب عيانا من قولهم: كلـمته قِبَلاً. وقد بـيّنت

القول فـي ذلك فـي سورة الأنعام بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

٥٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقّ وَاتّخَذُوَاْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً }.

يقول عزّ ذكره: وما نرسل إلا لـيبشروا أهل الإيـمان والتصديق بـاللّه بجزيـل ثوابه فـي الاَخرة، ولـينذروا أهل الكفر به والتكذيب، عظيـم عقابه، وألـيـم عذابه، فـينتهوا عن الشرك بـاللّه ، وينزجروا عن الكفر به ومعاصيه ويُجادِلُ الّذينَ كَفَرُوا بـالبـاطِلِ لِـيُدْحِضُوا بِهِ الـحَقّ يقول: ويخاصم الذين كذّبوا بـاللّه ورسوله بـالبـاطل، ذلك كقولهم للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم : أخبرنا عن حديث فتـية ذهبوا فـي أوّل الدهر لـم يدر ما شأنهم، وعن الرجل الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وعن الروح، وما أشبه ذلك مـما كانوا يخاصمونه به، يبتغون إسقاطه، تعنـيتا له صلى اللّه عليه وسلم ، فقال اللّه لهم: إنا لسنا نبعث إلـيكم رسلنا للـجدال والـخصومات، وإنـما نبعثهم مبشرين أهل الإيـمان بـالـجنة، ومنذرين أهل الكفر بـالنار، وأنتـم تـجادلونهم بـالبـاطل طلبـا منكم بذلك أن تبطلوا الـحقّ الذي جاءكم به رسولـي. وعنى ب قوله: لـيُدْحِضُوا بِهِ الـحَقّ لـيبطلوا به الـحقّ ويزيـلوه ويذهبوا به. يقال منه: دحض الشيء: إذا زال وذهب، ويقال: هذا مكان دَحْض: أي مُزِل مُزْلِق لا يثبت فـيه خفّ ولا حافر ولا قدم ومنه قوله الشاعر:

رَدِيتُ ونَـجّى الـيَشْكُرِيّ حِذَارُهُ

وحادَ كما حادَ البَعيرُ عَن الدّحْضِ

ويروى: ونـحّى، وأدحضته أنا: إذا أذهبته وأبطلته.

و قوله: واتّـخَذُوا آياتـي وَما أُنْذِرُوا هُزُوا يقول: واتـخذوا الكافرون بـاللّه حججه التـي احتـجّ بها علـيهم، وكتابه الذي أنزله إلـيهم، والنذر التـي أنذرهم بها سخريا يسخرون بها، يقولون: إنْ هَذَا إلاّ أساطِيرُ الأوّلِـينَ اكْتَتَبها فَهِيَ تُـمْلـىَ عَلـيْهِ بُكْرَةً وَأصِيلاً ولَوْ شِئْنا لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا.

٥٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن ذُكّرَ بِآيِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدّمَتْ يَدَاهُ ...}.

يقول عزّ ذكره: وأيّ الناس أوضع للإعراض والصدّ فـي غير موضعهما مـمن ذكره بآياته وحججه، فدله بها علـى سبـيـل الرشاد، وهداه بها إلـى طريق النـجاة، فأعرض عن آياته وأدلته التـي فـي استدلاله بها الوصول إلـى الـخلاص من الهلاك وَنَسِيَ ما قَدّمَتْ يَدَاهُ يقول: ونسي ما أسلف من الذنوب الـمهلكة فلـم يتب، ولـم ينب كما:

١٧٤٦٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَنَسِيَ ما قَدّمَتْ يَدَاهُ: أي نسي ما سلف من الذنوب.

و قوله: إنّا جَعَلْنا علـى قُلوبِهِمْ أكِنّةَ أنْ يَفْقَهُوهُ وفِـي آذانِهِمْ وَقْرا

يقول تعالـى ذكره: إنا جعلنا علـى قلوب هؤلاء الذين يعرضون عن آيات اللّه إذا ذكروا بها أغطية لئلا يفقهوه، لأن الـمعنى أن يفقهوا ما ذكروا به.

و قوله: وفِـي آذانِهِمْ وَقْرا يقول: فـي آذانهم ثقلاً لئلا يسمعوه وَإنْ تَدْعُهُمْ إلـى الهُدَى يقول عزّ ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : وَإنْ تَدْعُ يا مُـحَمّد هؤلاء الـمعرضين عن آيات اللّه عند التذكير بها إلـى الاستقامة علـى مـحجة الـحقّ والإيـمان بـاللّه ، وما جئتهم به من عند ربك فَلَنْ يَهْتَدُوا إذًا أبَدًا يقول: فلن يستقـيـموا إذا أبدا علـى الـحقّ، ولن يؤمنوا بـما دعوتهم إلـيه، لأن اللّه قد طبع علـى قلوبهم، وسمعهم وأبصارهم.

٥٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَرَبّكَ الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لّهُم مّوْعِدٌ لّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : وربك الساتر يا مـحمد علـى ذنوب عبـاده بعفوه عنهم إذا تابوا منهم ذُو الرّحمَةِ بِهِمْ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِـمَا كَسَبُوا هؤلاء الـمعرضين عن آياته إذا ذكروا بها بـما كسبوا من الذنوب والاَثام، لَعجّلَ لَهُمُ العَذَابَ ولكنه لرحمته بخـلقه غير فـاعل ذلك بهم إلـى ميقاتهم وآجالهم، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ يقول: لكن لهم موعد، وذلك ميقات مـحلّ عذابهم، وهو يوم بدر لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً يقول تعالـى: ذكره: لن يجد هؤلاء الـمشركون، وإن لـم يعجل لهم العذاب فـي الدنـيا من دون الـموعد الذي جعلته ميقاتا لعذابهم، ملـجأً يـلـجأون إلـيه، ومنـجى ينـجون معه، يعني أنهم لا يجدون معقلاً يعتقلون به من عذاب اللّه يقال منه: وألت من كذا إلـى كذا، أئل وُؤولاً، مثل وعولاً ومنه قول الشاعر:

لا وَاءَلَتْ نَفْسُكَ خَـلّـيْتَهاللْعامِرِيـيّن ولَـمْ تُكْلَـمِ

يقول: لانـجت وقول الأعشى:

وَقَدْ أُخالِسُ رَبّ البَـيْتِ غَفْلَتَهُوقَدْ يُحاذِرِ مِنّـي ثَمّ ما يَئِلُ

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٦١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: مَوْئِلاً قال: مـحرزا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٤٦٢ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً: يقول: ملـجأ.

١٧٤٦٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً: أي لن يجدوا من دونه ولـيا ولا ملْـجأً.

١٧٤٦٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئلاً قال: لـيس من دونه ملـجأ يـلـجأون إلـيه.

٥٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتِلْكَ الْقُرَىَ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مّوْعِداً }.

يقول تعالـى ذكره: وتلك القُرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة أهلكنا أهلها لـما ظلـموا، فكفروا بـاللّه وآياته، وَجَعَلْنا لِـمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدا يعني ميقاتا وأجلاً، حين بلغوه جاءهم عذاب فأهلكناهم به، يقول: فكذلك جعلنا لهؤلاء الـمشركين من قومك يا مـحمد الذين لا يؤمنون بك أبدا موعدا، إذا جاءهم ذلك الـموعد أهلكناهم سنتنا فـي الذين خـلوا من قبلهم من ضربـائهم كما:

١٧٤٦٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: لِـمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدا قال: أجلاً.

حدثنا القاسم، قال: ثنـي الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله لِـمَهْلِكِهِمْ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الـحجاز والعراق: (لِـمُهْلِكِهمْ) بضمّ الـميـم وفتـح اللام علـى توجيه ذلك إلـى أنه مصدر من أهلكوا إهلاكا. وقرأه عاصم: (لِـمَهْلَكِهِمْ) بفتـح الـميـم واللام علـى توجيهه إلـى الـمصدر من هلكوا هلاكا ومهلكا.

وأولـى القراءتـين بـالصواب عندي فـي ذلك قراءة من قرأه: (لـمُهْلَكِهِمْ) بضمّ الـميـم وفتـح اللام لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه، واستدلالاً ب قوله: وَتِلْكَ القُرَى أهْلَكْناهُمْ فأن يكون الـمصدر من أهلكنا، إذ كان قد تقدّم قبله أولـى. و

قـيـل: أهلكناهم، وقد قال قبل: وَتلكَ القُرَى، لأن الهلاك إنـما حلّ بأهل القرى، فعاد إلـى الـمعنى، وأجرى الكلام علـيه دون اللفظ.

وقال بعض نـحويـي البصرة: قال: وَتَلْكَ القُرَى أهْلَكْناهُمْ لَـمّا ظَلَـمُوا يعني أهلها، كما قال: وَاسْئَلِ القَرْيَةِ ولـم يجيء بلفظ القرى، ولكن أجرى اللفظ علـى القوم، وأجرى اللفظ فـي القرية علـيها إلـى قوله التـي كُنّا فِـيها، وقال: أهْلكْناهُمْ ولـم يقل: أهلكناها، حمله علـى القوم، كما قال: جاءت تـميـم، وجعل الفعل لبنـي تـميـم، ولـم يجعله لتـميـم، ولو فعل ذلك لقال: جاء تـميـم، وهذا لا يحُسن فـي نـحو هذا، لأنه قد أراد غير تـميـم فـي نـحو هذا الـموضع، فجعله اسما، ولـم يحتـمل إذا اعتلّ أن يحذف ما قبله كله معنى التاء من جاءت مع بنـي تـميـم، وترك الفعل علـى ما كان لـيعلـم أنه قد حذف شيئا قبل تـميـم. وقال بعضهم: إنـما جاز أن يقال: تلك القرى أهلكناهم، لأن القرية قامت مقام الأهل، فجاز أن ترد علـى الأهل مرة وعلـيها مرّة، ولا يجوز ذلك فـي تـميـم، لأن القبـيـلة تعرف به ولـيس تـميـم هو القبـيـلة، وإنـما عرفت القبـيـلة به، ولو كانت القبـيـلة قد سميت بـالرجل لـجرت علـيه، كما تقول: وقعت فـي هود، تريد فـي سورة هود ولـيس هود اسما للسورة وإنـما عرفت السورة به، فلو سميت السورة بهود لـم يجر، فقتل: وقعت فـي هود يا هذا، فلـم يجر، وكذلك لو سمي بنـي تـميـم تـميـما ل

قـيـل: هذه تـميـم قد أقبلت، فتأويـل الكلام: وتلك القرى أهلكناهم لـما ظلـموا، وجعلنا لإهلاكهم موعدا.

٦٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِفَتَاهُ لآ أَبْرَحُ حَتّىَ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً }.

يقول عزّ ذكره لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم : واذكر يا مـحمد إذ قال موسى بن عمران لفتاه يوشع: لا أبْرَحُ يقول: لا أزال أسير حتـى أبْلُغَ مَـجْمَعَ البَحْرَيْنِ، كما:

١٧٤٦٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: لا أبْرَحُ قال: لا أنتهي.

و

قـيـل: عنى ب قوله: مَـجْمَعَ البَحْرَيْنِ اجتـماع بحر فـارس والروم، والـمـجمع: مصدر من قولهم: جمع يجمع. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٦٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: حتـى أبْلُغَ مَـجْمَعَ البَحْرَيْنِ والبحران: بحر فـارس وبحر الروم، وبحر الروم مـما يـلـي الـمغرب، وبحر فـارس مـما يـلـي الـمشرق.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، قوله: مَـجْمَعَ البَحْرَيْنِ قال: بحر فـارس، وبحر الروم.

١٧٤٦٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد مـجمَع البَحْرَينِ قال: بحر الروم، وبحر فـارس، أحدهما قِبَل الـمشرق، والاَخر قِبَل الـمغرب.

١٧٤٦٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قال: مُـجْمَعَ البَحْرَيْنِ.

١٧٤٧٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن الضريس، قال: حدثنا أبو معشر، عن مـحمد بن كعب، فـي قوله: لا أبْرَحُ حتـى أبْلُغَ مَـجْمَعَ البَحْرَيْنِ قال: طنـجة.

و قوله: أوْ أمْضِيَ حُقُبـا يقول: أو أسير زمانا ودهرا، وهو واحد، ويجمع كثـيره وقلـيـله: أحقاب. وقد تقول العرب: كنت عنده حقبة من الدهر، ويجمعونها حُقبـا. وكان بعض أهل العربـية بوجه تأويـل قوله لا أبْرَحُ: أي لا أزول، ويستشهد لقوله ذلك ببـيت الفرزدق:

فمَا بَرِحُوا حتـى تَهادَتْ نِساؤُهُمْببَطْحاءِ ذِي قارٍ عِيابَ اللّطائِمِ

يقول: ما زالوا.

وذكر بعض أهل العلـم بكلام العرب، أن الـحقب فـي لغة قـيس: سنة. فأما أهل التأويـل فإنهم يقولون فـي ذلك ما أنا ذاكره، وهو أنهم اختلفوا فـيه، فقال بعضهم: هو ثمانون سنة. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٧١ـ حُدثت عن هشيـم، قال: حدثنا أبو بلـج، عن عمرو بن ميـمون، عن عبد اللّه بن عمرو، قال: الـحقب: ثمانون سنة.

وقال آخرون: هو سبعون سنة. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٧٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد أوْ أمْضِيَ حُقُبـا قال: سبعين خريفـا.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، مثله.

وقال آخرون فـي ذلك، بنـحو الذي قلنا. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٧٣ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: أوْ أمْضِيَ حُقُبـا قال: دهرا.

١٧٤٧٤ـ حدثنا أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله حُقَبـا قال: الـحقب: زمان.

١٧٤٧٥ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: أوْ أمْضِيَ حُقُبـا قال: الـحقب: الزمان.

٦١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً }.

 يعني تعالـى ذكره: فلـما بلغ موسى وفتاه مـجمع البحرين، كما:

١٧٤٧٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله مَـجْمَعَ بَـيْنِهِما قال: بـين البحرين.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

و قوله: نَسيا حُوَتهُما يعني ب قوله: نسيا: تركا، كما:

١٧٤٧٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد نَسيَا حُوَتهُما قال: أضلاه.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، قال: أضلاه.

قال بعض أهل العربـية: إن الـحوت كان مع يوشع، وهو الذي نسيه، فأضيف النسيان إلـيهما، كما قال: يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ والـمَرْجانُ وإنـما يخرج من الـملـح دون العذب.

وإنـما جاز عندي أن يقال: نَسِيا لأنهما كانا جميعا تزوّداه لسفرهما، فكان حمل أحدهما ذلك مضافـا إلـى أنه حمل منهما، كما يقال: خرج القوم من موضع كذا، وحملوا معهم كذا من الزاد، وإنـما حمله أحدهما ولكنه لـما كان ذلك عن رأيهم وأمرهم أضيف ذلك إلـى جميعهم، فكذلك إذا نسيه حامله فـي موضع

قـيـل: نسي القوم زادهم، فأضيف ذلك إلـى الـجميع بنسيان حامله ذلك، فـيجرى الكلام علـى الـجميع، والفعل من واحد، فكذلك ذلك فـي قوله: نَسِيا حُوَتُهما لأن اللّه عزّ ذكره خاطب العرب بلغتها، وما يتعارفونه بـينهم من الكلام.

وأما قوله: يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤلُؤُ والـمَرْجانُ فإن القول فـي ذلك عندنا بخلاف ما قال فـيه، وسنبـينه إن شاء اللّه تعالـى إذا انتهينا إلـيه.

وأما قوله: فـاتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـا فإنه يعني أن الـحوت اتـخذ طريقه الذي سلكه فـي البحر سربـا، كما:

١٧٤٧٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد فـاتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـا قال: الـحوت اتـخذ. و يعني بـالسرب: الـمسلك والـمذهب، يسرب فـيه: يذهب فـيه ويسلكه.

ثم اختلف أهل العلـم فـي صفة اتـخاذه سبـيـله فـي البحر سربـا، فقال بعضهم: صار طريقه الذي يسلك فـيه كالـحجر. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٧٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس ، قوله سَرَبـا قال: أثره كأنه حجر.

١٧٤٨٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبـيد اللّه بن عبد اللّه عن ابن عباس ، عن أبـيّ بن كعب، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: (ما انْـجابَ ماءٌ مُنْذُ كانَ النّاسُ غيرُهُ ثَبَتَ مَكانُ الـحُوتِ الّذِي فِـيهِ فـانْـجابَ كالكُوّةِ حتـى رَجَعَ إلَـيْهِ مُوسَى، فَرأى مَسْلَكَهُ، فقالَ: ذلكَ ما كُنّا نَبْغي) .

١٧٤٨١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبـيه، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، فـي قوله فـاتّـخَذَ سَبـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـا قال: جاء فرأى أثر جناحيه فـي الطين حين وقع فـي الـماء، قال ابن عباس فـاتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـا وحلق بـيده.

وقال آخرون: بل صار طريقه فـي البحر ماء جامدا. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٨٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: سرب من الـجرّ حتـى أفضى إلـى البحر، ثم سلك، فجعل لا يسلك فـيه طريقا إلا صار ماء جامدا.

وقال آخرون: بل صار طريقه فـي البحر حجرا. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٨٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قال: جعل الـحوت لا يـمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتـى يكون صخرة.

وقال آخرون: بل إنـما اتـخذ سبـيـله سربـا فـي البرّ إلـى الـماء، حتـى وصل إلـيه لا فـي البحر. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٨٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فـاتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـا قال: قال: حشر الـحوت فـي البطحاء بعد موته حين أحياه اللّه . قال ابن زيد، وأخبرنـي أبو شجاع أنه رآه قال: أتـيت به فإذا هو شقة حوت وعين واحدة، وشقّ آخر لـيس فـيه شيء.

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال كما قال اللّه عزّ وجلّ: واتـخذ الـحوت طريقه فـي البحر سربـا. وجائز أن يكون ذلك السرب كان بـانـجياب عن الأرض وجائز أن يكون كان بجمود الـماء وجائز أن يكون كان بتـحوّله حجرا.

وأصحّ الأقوال فـيه ما رُوي الـخبر به عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي ذكرنا عن أبـيّ عنه.

٦٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـَذَا نَصَباً }.

يقول تعالـى ذكره: فلـما جاوز موسى وفتاه مـجمع البحرين، قال موسى لفتاه يوشع آتِنا غَدَاءَنا يقول: جئنا بغدائنا وأعطناه، وقال: آتنا غداءنا، كما يقال: أتـى الغداء وأتـيته، مثل ذهب وأذهبته، لَقَدْ لَقِـينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَبـا يقول: لقد لقـينا من سفرنا هذا عناء وتعبـا وقال ذلك موسى، فـيـما ذُكر، بعد ما جاوز الصخرة، حين ألقـي علـيه الـجوع لـيتذكر الـحوت، ويرجع إلـى موضع مطلبه.

٦٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصّخْرَةِ فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً }.

يقول تعالـى ذكره: قال فتـى موسى لـموسى حين قال له: آتنا غداءنا لنطعم: أرأيت إذا أوينا إلـى الصخرة فإنـي نسيت الـحوت هنالك وَما أنْسانـيهُ إلاّ الشّيْطانُ يقول: وما أنسانـي الـحوت إلا الشيطان أنْ أذْكُرَهُ فأن فـي موضع نصب ردّا علـى الـحوت، لأن معنى الكلام: وما أنسانـي أن أذكر الـحوت إلا الشيطان سبق الـحوت إلـى الفعل، وردّ علـيه قوله أنْ أذْكُرَهُ وقد ذكر أن ذلك فـي مصحف عبد اللّه : (وما أنسانـيه أن أذكره إلا الشيطان) .

١٧٤٨٥ـ حدثنـي بذلك بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة حدثنـي العباس بن الولـيد قال: سمعت مـحمد بن معقل، يحدّث عن أبـيه، أن الصخرة التـي أوى إلـيها موسى هي الصخرة التـي دون نهر الذئب علـى الطريق.

واتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ عَجَبـا يُعْجَبُ منه. كما:

١٧٤٨٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: فِـي البَحْرِ عَجَبـا قال: موسى يعجب من أثر الـحوت فـي البحر ودوراته التـي غاب فـيها، فوجد عندها خضرا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٤٨٧ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: واتّـخَذَ سَبـيـلَهُ فِـي البَحْرِ عَجَبـا فكان موسى لـما اتـخذ سبـيـله فـي البحر عجبـا، يعجب من سرب الـحوت.

١٧٤٨٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: واتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فـي البَحْرِ عَجَبـا قال: عجب واللّه حوت كان يؤكل منه أدهرا، أيّ شيء أعجب من حوت كان دهرا من الدهور يؤكل منه، ثم صار حيا حتـى حشر فـي البحر.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قال: جعل الـحوت لا يـمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتـى يكون صخرة، فجعل نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعجب من ذلك.

١٧٤٨٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الـحسن بن عطية، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبـيه، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس واتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ عَجَبـا قال: يعني كان سرب الـحوت فـي البحر لـموسى عجبـا.

٦٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلَىَ آثَارِهِمَا قَصَصاً }.

يقول تعالـى ذكره: فقال موسى لفتاه ذلكَ يعني بذلك: نسيانك الـحوت وما كُنّا نَبْغِ يقول: الذي كنا نلتـمس ونطلب، لأن موسى كان قـيـل له صاحبك الذي تريده حيث تنسى الـحوت، كما:

١٧٤٩٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: ذلكَ ما كُنّا نَبْغِ قال موسى: فذلك حين أخبرت أنـي واجد خضرا حيث يفوتنـي الـحوت.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله، إلا أنه قال: حيث يفـارقنـي الـحوت.

و قوله: فـارْتَدّا علـى آثارِهِما قَصَصَا يقول: فرجعا فـي الطريق الذي كانا قطعاه ناكصين علـى أديارهما يقصان آثارهما التـي كانا سلكاهما. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٩١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: قَصصا قال: اتبع موسى وفتاه أثر الـحوت، فشقا البحر راجعين.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، قوله: فـارْتَدا علـى آثارِهِما قَصَصا قال: اتبـاع موسى وفتاه أثر الـحوت بشقّ البحر، وموسى وفتاه راجعان وموسى يعجب من أثر الـحوت فـي البحر، ودوراته التـي غاب فـيها.

١٧٤٩٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: رجعا عودهما علـى بدئهما فـارْتَدّا عَلـى آثارِهما قَصَصا.

١٧٤٩٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبـيد اللّه بن عبد اللّه عن ابن عباس ، عن أبّـي بن كعب، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي قوله: ذلكَ ما كُنّا نَبْغِ فـارْتَدّا عَلـى آثارِهما قَصَصا: (أيْ يَقُصّان آثارَهما حتـى انْتَهَيا إلـى مَدْخَـلِ الـحُوتِ) .

٦٥

و قوله: فَوَجَدَا عَبْدا مِنْ عبـادِنا آتَـيْناه رحْمَةً مِنْ عِنْدِنا يقول: وهبنا له رحمة من عندنا وَعَلّـمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْـما يقول: وعلـمناه من عندنا أيضا علـما. كما:

١٧٤٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة مِنْ لَدُنّا عِلْـما: أي من عندنا علـما.

وكان سبب سفر سُئل: هل فـي الأرض أحد أعلـم منك؟ فقال: لا، أو حدّثته نفسه بذلك، فكره ذلك له، فأراد اللّه تعريفه أن من عبـاده فـي الأرض من هو أعلـم منه، وأنه لـم يكن له أن يحتـم علـى ما لا علـم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل إلـى عالـمه.

وقال آخرون: بل كان سبب ذلك أنه سأل اللّه جل ثناؤه أن يدله علـى عالـم يزداد من علـمه إلـى علـم نفسه. ذكر من قال ذلك:

١٧٤٩٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن هارون بن عنترة، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قال: سأل موسى ربه وقال: ربّ أيّ عبـادك أحبّ إلـيك؟ قال: الذي يذكرنـي ولا ينسانـي قال: فأيّ عبـادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بـالـحقّ ولا يتبع الهوى قال: أي ربّ أيّ عبـادك أعلـم؟ قال: الذي يبتغي علـم الناس إلـى علـم نفسه، عسى أن يصيب كلـمة تهديه إلـى هُدَى، أو تردّه عن رَدَى قال: ربّ فهل فـي الأرض أحدٌ؟ قال: نعم قال: ربّ، فمن هو؟ قال: الـخضر قال: وأين أطلبه؟ قال: علـى الساحل عند الصخرة التـي ينفلت عندها الـحوت قال: فخرج موسى يطلبه، حتـى كان ما ذكر اللّه ، وانتهى إلـيه موسى عند الصخرة، فسلـم كلّ واحد منهما علـى صاحبه، فقال له موسى: إنـي أريد أن تستصحبنـي، قال: إنك لن تطيق صحبتـي، قال: بلـى، قال: فإن صحبتنـي (فَلا تَسْأَلْنِـي عَنْ شَيْءٍ حتـى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا فـانْطَلَقا حتـى إذَا رَكِبـا فِـي السّفِـينَةِ خَرَقَها قال أخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا قالَ أَلَـمْ أقُلْ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا قال لا تُؤَاخِذْنِـي بِـمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِـي مِنْ أمْرِي عُسْرا فـانْطَلَقَا حتـى إذَا لَقِـيا غُلاما فَقَتَلَهُ قالَ أقَتَلْتَ نَفْسا زَكيّةً بغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جئْتَ شَيْئا نُكْرا) ... إلـى قوله: لاتّـخَذْتَ عَلَـيْهِ أجْرا قال: فكان قول موسى فـي الـجدار لنفسه، ولطلب شيء من الدنـيا، وكان قوله فـي السفـينة وفـي الغلام للّه، قالَ هَذَا فِرَاقُ بَـيْنِـي وَبَـيْنِكَ سأُنَبّئُكَ بتَأْوِيـلِ ما لَـمْ تَسْتَطِعْ عَلَـيْهِ صَبْرا فأخبره بـما قال أما السفـينة وأما الغلام وأما الـجدار، قال: فسار به فـي البحر حتـى انتهى إلـى مـجمع البحور، ولـيس فـي الأرض مكان أكثر ماء منه، قال: وبعث ربك الـخُطّاف فجعل يستقـي منه بـمنقاره، فقـيـل لـموسى: كم ترى هذا الـخطاف رَزَأ من هذا الـماء؟ قال: ما أقلّ ما رَزَأ قال: يا موسى فإن علـمي وعلـمك فـي علـم اللّه كقدر ما استقـى هذا الـخطاف من هذا الـماء وكان موسى قد حدّث نفسه أنه لـيس أحد أعلـم منه، أو تكلـم به، فمن ثَم أُمِرَ أن يأتـي الـخضر.

١٧٤٩٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبـي إسحاق، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، قال: خطب موسى بنـي إسرائيـل، فقال: ما أحد أعلـم بـاللّه وبأمره منـي، فأوحى اللّه إلـيه أن يأتـي هذا الرجل.

١٧٤٩٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة أنه

قـيـل له: إن آية لقـيك إياه أن تنسى بعض متاعك، فخرج هو وفتاه يوشع بن نون، وتزوّدا حوتا مـملوحا، حتـى إذا كانا حيث شاء اللّه ، ردّ اللّه إلـى الـحوت روحه، فسرب فـي البحر، فـاتـخذ الـحوت طريقه سربـا فـي البحر، فسرب فـيه فَلَـمّا جاوَزَا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَدَاءنا لَقَدْ لَقِـينا مِنْ سَفَرِنا هَذا نَصَبـا... حتـى بلغ واتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ عَجَبـا فكان موسى اتـخذ سبـيـله فـي البحر عجبـا، فكان يعجب من سرب الـحوت.

 

١٧٤٩٨ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبـي إسحاق، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس قال: لـما اقتص موسى أثر الـحوت انتهى إلـى رجل، راقد قد سجى علـيه ثوبه فسلـم علـيه موسى فكشف الرجل عن وجهه الثوب وردّ علـيه السلام وقال: من أنت؟ قال: موسى، قال: صاحب بنـي إسرائيـل؟ قال: نعم، قال: أوَ ما كان لك فـي بنـي إسرائيـل شغل؟ قال: بلـى، ولكن أُمرت أن آتـيك وأصحبك، قال: إنك لن تستطيع معي صبرا، كما قصّ اللّه ، حتـى بلغ فلـما رَكِبـا فِـي السَفـينَةِ خَرَقَها صاحب موسى قالَ أخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا يقول: نُكرا قالَ لا تُؤَاخِذْنِـي بِـمعا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِـي مِنْ أمْرِي عُسْرا فـانْطَلَقَا حتـى إذَا لَقِـيا غُلاما فَقَتَلَهُ، قالَ أقَتَلْتَ نَفْسا زَكِيّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ.

١٧٤٩٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا سفـيان، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبـير، قال: قلت لابن عباس : إن نوفـا يزعم أن الـخضر لـيس بصاحب موسى، فقال: كذب عدوّ اللّه . حدثنا أبـيّ بن كعب، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّ مُوسَى قامَ فِـي بَنِـي إسْرَائِيـلَ خَطِيبـا فَ

قِـيـلَ: أيّ النّاسُ أعْلَـمُ؟ فَقالَ: أنا، فعَتَبَ اللّه عَلَـيْهِ حِينَ لَـمْ يَرُدّ العِلْـمَ إلَـيْهِ، فقالَ: بَلـى عَبْدٌ لـي عِنْدَ مَـجْمَعَ البَحْرَيْنِ، فَقالَ: يا رَبّ كَيْفَ بِهِ؟ فَ

قِـيـلَ: تَأْخُذُ حُوتا، فَتَـجْعَلُهُ فِـي مِكْتَلٍ، ثُمّ قالَ لِفُتاهُ: إذَا فَقَدْتَ هَذَا الـحُوتَ فَأَخْبِرْنِـي، فـانْطَلَقا يَـمْشِيانِ عَلـى ساحِلِ البَحْرِ حتـى أتَـيا صَخْرَةً، فَرَقَدَ مُوسَى، فـاضْطَرَب الـحُوتُ فِـي الـمِكْتَلِ، فَخَرَجَ فَوَقَعَ فِـي البَحْرِ، فأمْسَكَ اللّه عَنْهُ جِرْيَةَ الـمَاءِ، فَصَارَ مِثْلَ الطّاقِ، فَصَارِتْ للْـحُوتِ سَرَبـا وكانَ لَهُما عَجَبـا. ثُمّ انْطَلَقا، فَلَـمّا كانَ حِينَ الغَدِ، قالَ مُوسَى لَفَتاهُ: آتِنا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِـينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَبـا، قالَ: وَلـمْ يَجِدْ مُوسَى النّصَبَ حتـى جاوَزَ حَيْثُ أمَرَهُ اللّه قالَ: فَقالَ: أرَأَيْتَ إذْ أوَيْنا إلـى الصّخْرَةِ فإنّـي نَسِيتُ الـحُوتَ، وَما أنْسانِـيهُ إلاّ الشّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ، واتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ عَجَبـا، قالَ: فَقالَ: ذلكَ ما كُنّا نَبْغِ، فـارْتَدّا عَلـى آثارِهما قَصَصا، قالَ: يَقُصّانِ آثارَهما، قالَ: فَأَتَـيَا الصّخْرَةَ، فإذَا رَجُلٌ نائمٌ مُسّجّى بِثَوْبِهِ، فَسَلّـمَ عَلَـيْهِ مُوسَى، فَقالَ: وأنّـي بأرْضِنَا السّلامُ؟ فَقالَ: أنا مُوسَى، قالَ: مُوسَى بَنِـي إسْرَائِيـلَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: يا مُوسَى، إنّـي عَلـى عِلْـمٍ مِنْ عِلْـمٍ اللّه ، عَلّـمَنِـيَهِ اللّه لا تعْلَـمُهُ، وأنْتَ عَلـى عِلْـمٍ مِنْ عِلْـمِهِ عَلّـمَكَهُ لا أعْلَـمُهُ، قالَ: فإنّـي أتّبِعُكَ عَلـى أنْ تُعَلّـمَنِـي مِـمّا عُلّـمْتَ رُشْدا، قالَ: فإنِ اتّبِعْتَنِـي فَلا تَسْأَلْنِـي عَنْ شَيْءٍ حتـى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا. فـانْطَلَقا يَـمْشِيانِ عَلـى السّاحِلِ، فَعُرِفَ الـخَضِرُ، فَحُمِل بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ عَلـى حَرْفِها فَنَقَرَ، أوْ فَنَقَدَ فِـي الـمَاءِ، فَقالَ الـخَضِرُ لِـمُوسَى: ما نَقَصَ عِلْـمِي وَعِلْـمُكَ مِنْ عِلْـمِ اللّه إلاّ مِقْدَارَ ما نَقَرَ أوْ نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ مِنَ البَحْرِ) . أبو جعفر الطبري يشكّ، وهو فـي كتابه نَقَر، قالَ: (فَبَـيْنـما هُوَ إذْ لَـمْ يَفْجَأهُ مُوسَى إلاّ وَهُوَ يَتِدُ وَتِدا أوْ يَنْزِعُ تَـحْتا مِنْها، فَقالَ لَهُ مُوسَى: حُمِلْنا بِغَيرِ نَوْلٍ وَتـخْرِقُها لِتُغْرِقَ أهْلَها؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا، قالَ: أَلـمْ أقُل إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعَيَ صَبْرا، قالَ: لا تُؤَاخِذْنِـي بِـمَا نَسِيتُ، قالَ: وكانَتِ الأُوَلـى مِنْ مُوسَى نِسْيانا قالَ: ثُمّ خَرَجا فـانْطَلَقَا يَـمْشيانِ، فَأَبْصَرَا غُلاما يَـلْعَبُ مَعَ الغلْـمانِ، فَأخَذَ برأْسِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أقَتَلْتَ نَفْسا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا نُكْرا، قالَ: أَلْـمْ أقُلْ لَكَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعَي صَبْرا؟ قالَ: إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحِبْنِـي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّـي عُذْرا. قالَ: فـانْطَلَقّ حتـى إذَا أتَـيا أهْلَ قَرْيَةِ اسْتَطْعَما أهْلَها، فَلَـمْ يَجدَا أحَدا يُطْعِمُهُمْ وَلا يَسْقِـيهِمْ، فَوَجَدَا فِـيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ، فأقاَمهُ بـيَدِهِ، قالَ: مَسَحَه بِـيَدِهِ فَقالَ لَهُ مُوسَى: لَـمْ يُضَيّفُونا ولَـمْ يُنْزِلُونا، لَوْ شِئْتَ لاتّـخَذْتَ عَلَـيْهِ أجْرا، قالَ: هَذَا فِرَقُ بَـيْنِـي وَبَـيْنِكَ) فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لَوَددْتُ أنّهُ كانَ صَبَرَ حتـى يَقُصّ عَلَـيْنا قَصَصَهُمْ) .

١٧٥٠٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن الـحسن بن عمارة، عن الـحكم بن عتـيبة، عن سعيد بن جبـير، قال: جلست فأسنَدَ ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبـا العباس ، إن نوفـا ابن امرأة كعب يزعم عن كعب، أن موسى النبي الذي طلب العالـم، إنـما هو موسى بن ميشا. قال سعيد: قال ابن عباس : أنوف يقول هذا؟ قال سعيد: فقلت له نعم، أنا سمعت نوفـا يقول ذلك، قال: أنت سمعته يا سعيد؟ قال: قلت: نعم، قال: كذب نوف ثم قال ابن عباس : حدثنـي أبـيّ بن كعب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّ مُوسَى هُوَ نَبِـيّ بَنِـي إسْرَائِيـلَ سأَلَ رَبّهُ فَقالَ: أيْ رَبّ إنْ كانَ فِـي عِبـادِكَ أحَدٌ هُوَ أعْلَـمُ مِنّـي فـادْلُلْنِـي عَلَـيْهِ، فَقالَ لَهُ: نَعَمْ فـي عِبـادِي مَنْ هُوَ أعْلَـمُ مِنْكَ، ثُمّ نَعَتَ لَهُ مَكانَهُ، وأذِنَ لَهُ فِـي لُقِـيّهِ فخَرَجَ مُوسَى مَعَهُ فَتاه وَمَعَهُ حُوتٌ مَلْـيحٌ، وَقَدْ

قِـيـلَ لَهُ: إذَا حَيِـيَ هَذَا الـحُوتُ فِـي مَكانِ فصاحبُكَ هُنالكَ وَقَدْ أدْرَكْتَ حاجَتَكَ فَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ، وَمَعَهُ ذلكَ الـحُوتُ يَحْمِلانِهِ، فَسارَ حتـى جَهَدَهُ السّيْرُ، وَانْتَهَى إلـى الصّخْرَةِ وَإلـى ذلكَ الـمَاءِ، ماءِ الـحَياةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ خَـلَدَ، وَلا يُقاربُهُ شَيْءٌ مَيّتٌ إلاّ حَيِـيَ فَلَـمّا نَزَلا، وَمَسّ الـحُوتَ الـمَاءُ حَيِـيَ، فـاتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـا فـانْطَلَقا، فَلَـمّا جاوَزَا مُنْقَلَبَهُ قالَ مُوسَى: آتِنا غَدَاءَنا لَقَدْ لَقِـينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَبـا. قالَ الفَتـى وَذَكَرَ: أرَأَيْتَ إذْ أوَيْنا إلـى الصّخْرَةِ فإنّـي نَسِيتُ الـحُوتَ وَما أنْسانِـيهُ إلاّ الشّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ. واتّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ عَجَبـا) قال ابن عباس : فظهر موسى علـى الصخرة حين انتهيا إلـيها، فإذا رجل متلفف فـي كساء له، فسلـم موسى، فردّ علـيه العالـم، ثم قال له: وما جاء بك؟ إن كان لك فـي قومك لشغل؟ قال له موسى: جئتك لتعلـمنـي مـما علـمت رشدا، قالَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعَيَ صَبْرا، وكان رجلاً يعلـم علـم الغيب قد علّـم ذلك، فقال موسى: بلـى قالَ وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلـى ما لَـمْ تُـحِطْ بِهِ خُبرا: أي إنـما تعرف ظاهر ما ترى من العدل، ولـم تُـحط من علـم الغيب بـما أعلـم قالَ سَتَـجِدُنِـي إنْ شاءَ اللّه صَابِرا وَلا أعْصِيَ لَكَ أمْرا وإن رأيتَ ما يخالفنـي، قالَ فإنِ اتّبَعْتَنِـي فَلا تَسْأَلْنِـي عَنْ شَيْءٍ وإن أنكرته حتـى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا، فـانطلقا يـمشيان علـى ساحل البحر، يتعرّضان الناس، يـلتـمسان من يحملهما، حتـى مرّت بهما سفـينة جديدة وثـيقة لـم يـمرّ بهما من السفن شيء أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها، فسألا أهلها أن يحملوهما، فحملوهما، فلـما اطمأنا فـيها، ولـجت بهما مع أهلها، أخرج منقارا له ومطرقة، ثم عمد إلـى ناحية منها فضرب فـيها بـالـمنقار حتـى خرقها، ثم أخذ لوحا فطبقه علـيها، ثم جلس علـيها يرقعها. قال له موسى ورأى أمرا فظع به: أخَرَقْتَهَا لتُقْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا قالَ أَلْـمْ أقُلْ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعَي صَبْرا قالَ لا تؤاخِذْنِـي بِـمَا نَسِيتُ: أي ما تركت من عهدك وَلا تُرْهقْنِـي منْ أمْرِي عُسْرا. ثم خرجا من السفـينة، فـانطلقا حتـى إذا أتـيا أهل قرية فإذا غلـمان يـلعبون خـلفها، فـيهم غلام لـيس فـي الغلـمان أظرف منه، ولا أثرى ولا أوضأ منه، فأخذه بـيده، وأخذ حجرا، قال: فضرب به رأسه حتـى دمغه فقتله، قال: فرأى موسى أمرا فظيعا لا صبر علـيه، صبـيّ صغير لا ذنب له قالَ أقَتَلْتَ نَفْسا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي صغيرة بغير نفس لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا نُكْرا قالَ أَلْـم أقُلْ لَكَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعيَ صَبْرا قالَ إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحبْنِـي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّـي عُذْرا: أي قد أعذرتَ فـي شأنـي فـانْطَلَقا حتـى إذَا أتَـيا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أهْلَها فأَبَوْا أنْ يُضَيّفُوهَما فَوَجَدَا فِـيها جَدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ فهدمه، ثم قعد يبنـيه، فضجر موسى مـما رآه يصنع من التكلـيف لـما لـيس علـيه صبر، فقال: لَوْ شِئْتَ لاتّـخَذْتَ عَلَـيْهِ أجْرا أي قد استطعمناهم فلـم يطعمونا، وضفناهم فلـم يضيفونا، ثم قعدت فـي غير صنـيعة، ولو شئت لأعطيت علـيه أجرا فـي عمله قالَ هَذَا فِراقُ بَـيْنِـي وَبَـيْنِكَ سأُنَبّئُكَ بَتأْوِيـلِ ما لَـمْ تَسْتَطِعْ عَلَـيْهِ صَبْرا أمّا السّفِـينَةُ فَكانَتْ لِـمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِـي البَحْرِ فأرَدْتُ أنْ أعِيبَها، وَكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يأْخُذُ كُلّ سَفِـينَةٍ غَصْبـا، وفـي قراءة أبـيّ بن كعب: (كلّ سفـينة صالـحة) ، وإنـما عبتها لأردّه عنها، فسلـمت حين رأى العيب الذي صنعت بها. وأمّا الغُلامُ فَكانَ أبَوَاهُ مُؤْمِنَـيْنِ فَخَشِيا أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانا وكُفْرا. فأرَدْنا أنْ يُبْدِ لَهُما رَبّهُما خَيْرا مِنْهُ زَكاةً وأقْرَبَ رُحْما وأمّا الـجِدَارُ فَكانَ لغُلامَيْنِ يَتِـيـمَيْنِ فِـي الـمَدينَةِ وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لهما وكانَ أبُوهُمَا صَالِـحا فأرَادَ رَبّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدّهُما ويَسْتَـخْرِجا كَنْزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي: أي ما فعلته عن نفسي ذلكَ تَأْوِيـلُ ما لَـمْ تَسْطِعْ عَلَـيْهِ صَبْرا فكان ابن عباس يقول: ما كان الكنز إلا علـما.

١٧٥٠١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، عن الـحسن بن عُمارة، عن أبـيه، عن عكرِمة قال: قـيـل لابن عباس : لـم نسمع لفتـى موسى بذكر من حديث، وقد كان معه، فقال ابن عباس فـيـما يذكر من حديث الفتـى قال: شرب الفتـى من الـماء فخـلّد، فأخذه العالـم فطابق به سفـينة، ثم أرسله فـي البحر، فإنها لتـموج به إلـى يوم القـيامة، وذلك أنه لـم يكن له أن يشرب منه فشرب.

١٧٥٠٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَإذْ قالَ مُوسَى لفَتاهُ لا أبْرَحُ حتـى أبْلُغَ مَـجْمَعَ البَحْرَيْنِ أوْ أمْضِيَ حُقُبـا قال: لـما ظهر موسى وقومه علـى مصر أنزل قومه مصر فلـما استقرّت بهم الدار أنزل اللّه علـيه أن ذَكّرْهُمْ بِأيّامِ اللّه فخطب قومه، فذكر ما آتاهم اللّه من الـخير والنعمة، وذكّرَهم إذ أنـجاهم اللّه من أل فرعون، وذكرهم هلاك عدوّهم، وما استـخـلفهم اللّه فـي الأرض، وقال: كلـم اللّه نبـيكم تكلـيـما، واصطفـانـي لنفسه، وأنزل علـيّ مـحبة منه، وآتاكم اللّه من كلّ ما سألتـموه، فنبـيكم أفضل أهل الأرض، وأنتـم تقرأون التوراة، فلـم يترك نعمة أنعمها اللّه علـيهم إلا ذكرها، وعرّفها إياهم، فقال له رجل من بنـي إسرائيـل: هم كذلك يا نبـيّ اللّه ، قد عرفنا الذي تقول، فهل علـى الأرض أحد أعلـم منك يا نبـيّ اللّه ؟ قال: لا فبعث اللّه جبرئيـل إلـى موسى علـيهما السلام، فقال: إن اللّه يقول: وما يدريك أين أضع علـمي؟ بلـى إن علـى شطّ البحر رجلاً أعلـم منك فقال ابن عباس : هو الـخَضِر، فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى اللّه إلـيه أن ائت البحر، فإنك تـجد علـى شطّ البحر حُوتا، فخذه فـادفعه إلـى فتاك، ثم الزم شطّ البحر، فإذا نسيتَ الـحوت وهَلك منك، فثمّ تـجد العبد الصالـح الذي تطلب فلـما طال سفر موسى نبـيّ اللّه ونصب فـيه، سأل فتاه عن الـحوت، فقال له فتاه وهو غلامه أرَأَيْتَ إذْ أوَيْنا إلـى الصّخْرَةِ فإنّـي نَسِيتُ الـحُوتَ وَما أنْسانِـيهُ إلاّ الشّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ قال الفتـى: لقد رأيت الـحوت حين اتـخذ سبـيـله فـي البحر سَرَبـا، فأعجب ذلك موسى فرجع حتـى أتـى الصخرة، فوجد الـحوت يضرب فـي البحر، ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدّم عصاه يفرُج بها عن الـماء يتبع الـحوت، وجعل الـحوت لا تـمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتـى يكون صخرة، فجعل نبـيّ اللّه يعجب من ذلك حتـى انتهى به الـحوت إلـى جزيرة من جزائر البحر، فلقـى الـخَضِر بها فسلـم علـيه، فقال الـخضر: وعلـيك السلام، وأنى يكون هذا السلام بهذه الأرض، ومن أنت؟ قال: أنا موسى، فقال له الـخضر: أصاحبُ بنـي إسرائيـل؟ قال: نعم فرحب به، وقال: ما جاء بك؟ قال: جئتك علـى أن تعلـمنـي مـما علّـمت رُشدا قَالَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا قال: لا تطيق ذلك، قال موسى: سَتَـجِدُنِـي إنْ شاءَ اللّه صَابِرا وَلا أعْصِيَ لَكَ أمْرا قال: فـانطلق به وقال له: لا تسألنـي عن شيء أصنعه حتـى أبّـين لك شأنه، فذلك قوله: أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا. فركبـا فـي السفـينة يريدان البرّ، فقام الـخضر فخرق السفـينة، فقال له موسى أخَرَقْتَها لتُقْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا.

١٧٥٠٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فَلَـمّا بَلَغا مَـجْمَعَ بَـيْنِهِما نَسِيا حُوَتَهُما ذُكِر أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـما قطع البحر وأنـجاه اللّه من آل فرعون، جمع بنـي إسرائيـل، فخطبهم فقال: أنتـم خير أهل الأرض وأعلـمه، قد أهلك اللّه عدوّكم، وأقطعكم البحر، وأنزل علـيكم التوراة قال: ف

قـيـل له: إن ههنا رجلاً هو أعلـم منك. قال: فـانطلق هو وفتاه يوشع بن نون يطلبـانه، وتزوّدا سمكة مـملوحة فـي مِكتل لهما، وقـيـل لهما: إذا نسيتـما ما معكما لقـيتـما رجلاً عالـما يقال له الـخضر فلـما أتـيا ذلك الـمكان، ردّ اللّه إلـى الـحوت روحه، فسرب له من الـجسر حتـى أفضى إلـى البحر، ثم سلك فجعل لا يسلك فـيه طريقا إلا صار ماء جامدا. قال: ومضى موسى وفتاه يقول اللّه عزّ وجلّ: فَلَـمّا جاوَزَا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَدَاءَنا لَقَدْ لَقِـينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَبـا قالَ أرَأَيْتَ إذْ أوَيْنا إلـى الصّخْرَةِ فإنّـي نَسِيتُ الـحُوتَ... ثم تلا إلـى قوله: وَعَلّـمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْـما فلقـيا رجلاً عالـما يقال له الـخَضِر، فذُكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّـما سُمّىَ الـخَضِرُ خَضِرا لأنهُ قَعَدَ عَلـى فَرْوَةٍ بَـيْضَاءَ، فـاهْتَزّتْ بِهِ خَضراء) .

١٧٥٠٤ـ حدثنـي العباس بن الولـيد، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا الأوزاعيّ، قال: حدثنا الزهريّ، عن عبـيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس أنه تـمارى هو والـحرّ بن قـيس بن حِصْن الفزاريّ فـي صاحب موسى، فقال ابن عباس : هو خَضِر، فمرّ بهما أبـيّ بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إنـي تـماريت أنا وصاحبـي هذا فـي صاحب موسى الذي سأل السبـيـل إلـى لقـيّه، فقال سمت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: إنـي سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (بَـيْنا مُوسَى فِـي مَلأ مِنْ بَنِـي إسْرَائِيـلَ إذْ جاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ: تَعْلَـمُ مَكانَ أحَدٍ أعْلَـمُ مِنْكَ؟ قالَ مُوسَى: لا، فَأوْحَى اللّه إلـى مُوسَى: بَلـى عَبْدُنا خَضِرٌ، فَسأَلَ مُوسَى السّبِـيـلَ إلـى لُقِـيّهِ، فَجَعَلَ اللّه لَهُ الـحُوتَ آيَةً، وَ

قِـيـلَ لَهُ: إذَا فَقَدْتَ الـحُوتَ فـارْجِعْ فإنّكَ سَتَلْقاهُ، فَكانَ مُوسَى يَتْبَعُ أثَرَ الـحُوتِ فِـي البَحْرِ، فَقال فَتِـى مُوسَى لـمُوسَى: أرَأَيْتَ إذْ أوَيْنا إلـى الصّخْرَةِ، فإنّـي نَسِيتُ الـحُوتَ، قالَ مُوسَى: ذلكَ ما كُنّا نَبْغِ، فـارْتَدّا عَلـى آثارِهِما قَصَصا، فَوَجَدَا عَبْدَنا خَضِرا، وكانَ مِنْ شأْنِهِما ما قَصّ اللّه فـي كِتابِهِ) .

حدثنـي مـحمد بن مرزوق، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا عبد اللّه بن عمر النـميري، عن يونس بن يزيد، قال: سمعت الزهريّ يحدّث، قال: أخبرنـي عميد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس ، أنه تـمارى هو والـحرّ بن قـيس بن حصن الفزاري فـي صاحب موسى، ثم ذكر نـحو حديث العباس ، عن أُبـيّ بن كعب، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم .

٦٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ لَهُ مُوسَىَ هَلْ أَتّبِعُكَ عَلَىَ أَن تُعَلّمَنِ مِمّا عُلّمْتَ رُشْداً }.

يقول تعالـى ذكره: قال موسى للعالـم: هَلْ أَتّبِعُكَ عَلـى أنْ تَعَلّـمَنِ من العلـم الذي علـمك اللّه ما هو رشاد إلـى الـحقّ، ودلـيـل علـى هدى؟

٦٧

قالَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعَي صَبْرا

يقول تعالـى ذكره: قال العالـم: إنك لن تطيق الصبر معي، وذلك أنـي أعمل ببـاطن علـم علّـمنـيه اللّه ، ولا علـم لك إلا بظاهر من الأمور، فلا تصبر علـى ما ترى من الأفعال، كما ذكرنا من الـخبر عن ابن عباس قَبلُ من أنه كان رجلاً يعمل علـى الغيب قد علـم ذلك.

٦٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىَ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً }.

يقول عزّ ذكره مخبرا عن قول العالـم لـموسى: وكيف تصبر يا موسى علـى ما ترى منـي من الأفعال التـي لا علـم لك بوجوه صوابها، وتقـيـم معي علـيها، وأنت إنـما تـحكم علـى صواب الـمصيب وخطأ الـمخطىء بـالظاهر الذي عندك، وبـمبلغ علـمك، وأفعالـي تقع بغير دلـيـل ظاهر لرأي عينك علـى صوابها، لأنها تُبتدأ لأسبـاب تـحدث آجلة غير عاجلة، لا علـم لك بـالـحادث عنها، لأنها غيب، ولا تـحيط بعلـم الغيب خبرا يقول علـما،

٦٩

قال: سَتَـجِدُنِـي إنْ شاءَ اللّه صَابِرا علـى ما أرى منك وإن كان خلافـا لـما هو عندي صواب وَلا أعْصِي لَكَ أمْرا يقول: وأنتهي إلـى ما تأمرنـي، وإن لـم يكن موافقا هواي.

٧٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ فَإِنِ اتّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتّىَ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً }.

يقول تبـارك وتعالـى: قال العالـم لـموسى: فإن اتبعتنـي الاَن فلا تسألنـي عن شيء أعمله مـما تستنكره، فإنـي قد أعلـمتك أنـي أعمل العمل علـى الغيب الذي لا تـحيط به علـما حتـى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا يقول: حتـى أحدث أنا لك مـما ترى من الأفعال التـي أفعلها التـي تستنكرها أذكرها لك وأبـين لك شأنها، وأبتدئك الـخبر عنها، كما:

١٧٥٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس فَلا تَسأَلْنِـي عَنْ شَيْءٍ حتـى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا يعني عن شيء أصنعه حتـى أبـين لك شأنه.

٧١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا رَكِبَا فِي السّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً }.

يقول تعالـى ذكره: فـانطلق موسى والعالـم يسيران يطلبـان سفـينة يركبـانها، حتـى إذا أصابـاها ركبـا فـي السفـينة، فلـما ركبـاها، خرق العالـم السفـينة، قال له موسى: أخرقتها بعد ما لَـجَجنا فـي البحر لِتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا يقول: لقد جئت شيئا عظيـما، وفعلت فعلاً مُنكرا.

١٧٥٠٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا: أي عجبـا، إن قوما لـججوا سفـينتهم فخرقتها، كأحوج ما نكون إلـيها، ولكن علـم من ذلك ما لـم يعلـم نبـيّ اللّه موسى ذلك من علـم اللّه الذي آتاه، وقد قال لنبـيّ اللّه موسى علـيه السلام: فإنِ اتّبَعْتَنِـي فَلا تَسألْنِـي عَنْ شَيْءٍ حتـى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا يقول: نُكرا.

١٧٥٠٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا قال: منكرا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

والإمر: فـي كلام العرب: الداهية ومنه قول الراجز:

قَدْ لَقِـيَ الأقْرَانُ مّنِـي نُكْرَادَاهِيَةً دَهْياءَ إدّا إمْرَا

وكان بعض أهل العلـم بكلام العرب يقول: أصله: كلّ شيء شديد كثـير، ويقول منه: قـيـل للقوم: قد أَمِروا: إذا كثروا واشتدّ أمرهم. قال: والـمصدر منه: الأَمَر، والاسم: الإمْر.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: لِتُغْرِقَ أهْلَها فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين لِتُغْرِقَ أهْلَها بـالتاء فـي لتغرق، ونصب الأهل، بـمعنى: لتُغرق أنت أيها الرجل أهل هذه السفـينة بـالـخرق الذي خرقت فـيها. وقرأه عامة قرّاء الكوفة: (لِـيَغْرَقَ) بـالـياء أهلها بـالرفع، علـى أن الأهل هم الذين يغرقون.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار، متفقتا الـمعنى وإن اختلفت ألفـاظهما، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب.

وإنـما قلنا: هما متفقتا الـمعنى، لأنه معلوم أن إنكار موسى علـى العالِـم خرق السفـينة إنـما كان لأنه كان عنده أن ذلك سبب لغرق أهلها إذا أحدث مثل ذلك الـحدث فـيها فلا خفـاء علـى أحد معنى ذلك قرىء بـالتاء ونصب الأهل، أو بـالـياء ورفع الأهل.

٧٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً }.

يقول عزّ ذكره: قَالَ العالـم لـموسى إذ قال له ما قال أَلـمْ أقُل إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا علـى ما ترى من أفعالـي، لأنك ترى ما لـم تُـحِط به خبرا

٧٣

قال له موسى: لا تُؤَاخِذْنِـي بِـمَا نَسِيتُ. فـاختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: كان هذا الكلام من موسى علـيه السلام للعالِـم معارضة، لا أنه كان نسي عهده، وما كان تقدّم فـيه حين استصحبه ب قوله: فإنِ اتّبَعْتَنِـي فَلا تَسألْنِـي عَنْ شَيْءٍ حتـى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٠٨ـ حُدثت عن يحيى بن زياد، قال: ثنـي يحيى بن الـمهلب، عن رجل، عن سعيد بن جبـير، عن أبـيّ بن كعب الأنصاريّ فـي قوله: لا تُؤَاخِذْنِـي بِـمَا نَسِيتُ قال: لـم ينس، ولكنها من معاريض الكلام.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تؤاخذنـي بتركي عهدك، ووجه أن معنى النسيان: الترك. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٠٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن الـحسن بن عمارة، عن الـحكم، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس قالَ لا تُؤاخِذْنِـي بِـمَا نَسِيتُ: أي بـما تركت من عهدك.

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن موسى سأل صاحبه أن لا يؤاخذِه بِـما نسِي فـيه عهده من سؤاله إياه علـى وجه ما فعل وسببه لا بـما سأله عنه، وهو لعهده ذاكر للصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بأن ذلك معناه من الـخبر، وذلك ما:

١٧٥١٠ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، عن أبـيّ بن كعب، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تُؤاخِذْنِـي بِـمَا نَسِيتُ قالَ: (كانَتِ الأُوَلـى مِنْ مُوسَى نِسْيانا) .

و قوله: ولا تُرْهِقْنِـي مِنْ أمْرِي عُسْرا يقول: لا تُغْشِنـي من أمري عسرا، يقول: لا تضيق علـيّ أمري معك، وصحبتـي إياك.

٧٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نّكْراً }.

يقول تعالـى ذكره: فـانطلقا حتـى إذا لقـيا غلاما فقتله العالـم، فقال له موسى: أقتلت نفسا زكية.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والبصرة: (أقَتَلْتَ نَفْسا زَاكِيَةً) وقالوا معنى ذلك: الـمطهرة التـي لا ذنب لها، ولـم تذنب قطّ لصغرها. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: نَفْسا زَكِيّةً بـمعنى: التائبة الـمغفور لها ذنوبها. ذكر من قال ذلك:

١٧٥١١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس : أقَتَلْتَ نَفْسا زَكِيّةً والزكية: التائبة.

١٧٥١٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قالَ أقَتَلْتَ نَفْسا زَكِيّةً قال: الزكية: التائبة.

١٧٥١٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر أقَتَلْتَ نَفْسا زَاكِيَةً قال: قال الـحسن: تائبة، هكذا فـي حديث الـحسن وشهْر زاكية.

١٧٥١٤ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله نَفْسا زَكيّةً قال: تائبة. ذكر من قال: معناها الـمسلـمة التـي لا ذنب لها:

١٧٥١٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي يعلـى بن مسلـم، أنه سمع سعيد بن جبـير يقول: وجد خضر غلـمانا يـلعبون، فأخذ غلاما ظريفـا فأضجعه ثم ذبحه بـالسكين. قال: وأخبرنـي وهب بن سلـيـمان عن شعيب الـجبئي قال: اسم الغلام الذي قتله الـخضر: جيسور (قالَ أقَتَلْتَ نَفْسا زَاكِيَةً) قال: مسلـمة. قال: وقرأها ابن عباس : زَكِيّةً كقولك: زكيا.

وكان بعض أهل العلـم بكلام العرب من أهل الكوفة يقول: معنى الزكية والزاكية واحد، كالقاسية والقسية، ويقول: هي التـي لـم تـجن شيئا، وذلك هو الصواب عندي لأنـي لـم أجد فرقا بـينهما فـي شيء من كلام العرب.

فإذا كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءتـين قرأ ذلك القارىء فمصيب، لأنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار بـمعنى واحد.

و قوله: بِغَيْرِ نَفْسٍ يقول: بغير قصاص بنفس قتلت، فلزمها القتل قودا بها.

و قوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا نُكْرا يقول: لقد جئت بشيء منكر، وفعلت فعلاً غير معروف. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك:

١٧٥١٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا نُكْرا والنّكْرُ أشدّ من الإمر.

٧٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً }.

يقول تعالـى ذكره: قال العالـم لـموسى ألَـمْ أقُلْ لكَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْرا علـى ما ترى من أفعالـي التـي لـم تُـحط بها خبرا،

٧٦

قال موسى له: إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها يقول: بعد هذه الـمرّة فَلا تُصَاحِبْنِـي يقول: ففـارقنـي، فلا تكن لـي مصاحبـا قَدَ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّـي عُذْرا يقول: قد بلغت العذر فـي شأنـي.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة: (مِنْ لَدُنِـي عُذْرا) بفتـح اللام وضم الدال وتـخفـيف النون. وقرأه عامة قرّاء الكوفة والبصرة بفتـح اللام وضمّ الدال وتشديد النون. وقرأه بعض قرّاء الكوفة بإشمام اللام الضم وتسكين الدال وتـخفـيف النون، وكأن الذين شدّدوا النون طلبوا للنون التـي فـي لدن السلامة من الـحركة، إذ كانت فـي الأصل ساكنة، ولو لـم تشدّد لتـحرّكت، فشدّدوها كراهة منهم تـحريكها، كما فعلوا فـي (من، وعن) إذ أضافوهما إلـى مكنـيّ الـمخبر عن نفسه، فشدّدوهما، فقالوا منـي وعنّـي. وأما الذين خفّفوها، فإنهم وجدوا مكنـيّ الـمخبر عن نفسه فـي حال الـخفض ياء وحدها لا نون معها، فأجروا ذلك من لدن علـى حسب ما جرى به كلامهم فـي ذلك مع سائر الأشياء غيرها.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أنهما لغتان فصيحتان، قد قرأ بكلّ واحدة منهما علـماء من القرّاء بـالقرآن، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، غير أن أعجب القراءتـين إلـيّ فـي ذلك قراءة من فتـح اللام وضمّ الدال وشدّد النون. لعلتـين: إحداهما أنها أشهر اللغتـين، والأخرى أن مـحمد بن نافع البصري:

١٧٥١٧ـ حدثنا ، قال: حدثنا أمية بن خالد، قال: حدثنا أبو الـجارية العبدي، عن أبـي إسحاق، عن سعد بن جبـير، عن ابن عباس ، عن أبـيّ بن كعب، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأ قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّـي عُذْرا مثقلة.

١٧٥١٨ـ حدثنـي عبد اللّه بن أبـي زياد، قال: حدثنا حجاج بن مـحمد، عن حمزة الزيات، عن أبـي إسحاق، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، عن أبـيّ بن كعب، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مثله، وذكر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلا هذه الاَية فقال: (اسْتَـحيْا فِـي اللّه مُوسَى) .

١٧٥١٩ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا بدل بن الـمـحبر، قال: حدثنا عبـاد بن راشد، قال: حدثنا داود، فـي قول اللّه عزّ وجلّ إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحِبْنِـي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّـي عُذْرا قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (اسْتَـحيْا فِـي اللّه مُوسَى عِنْدَها) .

حدثنـي عبد اللّه بن أبـي زياد، قال: حدثنا حجاج بن مـحمد، عن حمزة الزيات، عن أبـي إسحاق، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، عن أبـيّ بن كعب، قال: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: (رَحْمَةُ اللّه عَلَـيْنا وَعلـى مُوسَى، لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لأَبْصَرَ العَجَبَ وَلَكِنّهُ قالَ: إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحِبْنِـي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّـي عُذْرا) مُثَقلة.

٧٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَانطَلَقَا حَتّىَ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا ...}.

يقول تعالـى ذكره: فـانطلق موسى والعالـم حَتّـى إذَا أتَـيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعمَا أهْلَها من الطعام فلـم يطعموهما واستضافـاهم فَأبَوْا أن يُضَيّفُوهُما فَوَجَدَا فِـيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ يقول: وجدا فـي القرية حائطا يريد أن يسقط ويقع يقال منه: انقضّت الدار: إذا انهدمت وسقطت ومنه انقضاض الكوكب، وذلك سقوطه وزواله عن مكانه ومنه قول ذي الرّمة:

ـانْقَضّ كالكَوْكَبِ الدّرّي مُنْصَلِتا

وقد رُوي عن يحيى بن يعمر أنه قرأ ذلك: (يُرِيدُ أنْ يَنْقاضّ) .

وقد اختلف أهل العلـم بكلام العرب إذا قرىء ذلك كذلك فـي معناه، فقال بعض أهل البصرة منهم: مـجاز ينقاضّ: أي ينقلع من أصله، ويتصدّع، بـمنزلة قولهم: قد انقاضت السنّ: أي تصدّعت، وتصدّعت من أصلها، يقال: فراق كقبض السنّ: أي لا يجتـمع أهله. وقال بعض أهل الكوفة منهم: الانقـياض: الشقّ فـي طول الـحائط فـي طيّ البئر وفـي سنّ الرجل، يقال: قد انقاضت سنة: إذا انشقّت طولاً. و

قـيـل: إن القرية التـي استطعم أهلها موسى وصاحبه، فأبوا أن يضيفوهما: الاَيـلة. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٢٠ـ حدثنـي الـحسين بن مـحمد الذارع، قال: حدثنا عمران بن الـمعتـمر صاحب الكرابـيسي، قال: حدثنا حماد أبو صالـح، عن مـحمد بن سيرين، قال: انتابوا الأيـلة، فإنه قلّ من يأتـيها فـيرجع منها خائبـا، وهي الأرض التـي أبوا أن يضيفوهما، وهي أبعد أرض اللّه من السماء.

١٧٥٢١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فـانْطَلَقا حتـى إذَا أتـيَا أهْلَ قَرْيَةٍ، وتلا إلـى قوله لاتّـخَذْتَ عَلَـيْهِ أجْرا شرّ القرى التـي لا تُضِيف الضيف، ولا تعرف لابن السبـيـل حقه.

واختلف أهل العلـم بكلام العرب فـي معنى قول اللّه عزّ وجلّ يَرِيدُ أنْ يَنْقَضّ فقال بعض أهل البصرة: لـيس للـحائط إرادة ولا للـمَوَات، ولكنه إذا كان فـي هذه الـحال من رثة فهو إرادته. وهذا كقول العرب فـي غيره:

يُرِيدُ الرّمْـحُ صَدْرَ أبـي بَرَاءٍوَيَرْغَبُ عَنْ دِماءه بَنِـي عُقَـيْـلِ

وقال آخر منهم: إنـما كلـم القوم بـما يعقلون، قال: وذلك لـما دنا من الانقضاض، جاز أن يقول: يريد أن ينقضّ، قال: ومثله تَكادُ السّمَواتُ يَتَفَطّرْنَ وقولهم: إنـي لأكاد أطير من الفرح، وأنت لـم تقرب من ذلك، ولـم تهمّ به، ولكن لعظيـم الأمر عندك. وقال بعض الكوفـيـين منهم: من كلام العرب أن يقولوا: الـجدار يريد أن يسقط قال: ومثله من قول العرب قول الشاعر:

إنّ دهْرا يَـلُفّ شَمِلـي بِجُمْلٍلَزَمانٌ يَهُمّ بـالإِحْسانِ

وقول الاَخر:

يَشْكُو إلـيّ جَمَلِـي طُولَ السّرَىصَبْرا جَمِيلاً فَكِلانا مُبْتَلَـى

قال: والـجمل لـم يشك، إنـما تكلّـم به علـى أنه لو تكلـم لقال ذلك قال: وكذلك قول عنترة:

وَازْوَرّ مِنْ وَقْعِ القَنا بِلَبـانِهِوشَكا إلـيّ بعَبْرَةٍ وتَـحَمْـحُمِ

قال: ومنه قول اللّه عزّ وجلّ: ولَـمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ والغضب لا يسكت، وإنـما يسكت صاحبه. وإنـما معناه: سكن.

و قوله: فَإذَا عَزَمَ الأَمْرُ إنـما يعزم أهله. وقال آخر منهم: هذا من أفصح كلام العرب، وقال: إما إرادة الـجدار: ميـله، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم (لا تَرَاءى نارَاهُما) وإنـما هو أن تكون ناران كلّ واحدة من صاحبتها بـموضع لو قام فـيه إنسان رأى الأخرى فـي القُرب قال: وهو كقول اللّه عزّ وجلّ فـي الأصنام: وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَـيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال: والعرب تقول: داري تنظر إلـى دار فلان، تعنـي: قرب ما بـينهما واستشهد بقول ذي الرّمّة فـي وصفه حوضا أو منزلاً دارسا:

قَدْ كادَ أوْ قَدْ هَمّ بـالبُـيُودِ

قال: فجعله يهمّ، وإنـما معناه: أنه قد تغير للبلـى. والذي نقول به فـي ذلك أن اللّه عزّ ذكره بلطفه، جعل الكلام بـين خـلقه رحمة منه بهم، لـيبـين بعضهم لبعض عما فـي ضمائرهم. مـما لا تـحسّه أبصارهم، وقد عقلت العرب معنى القائل:

فِـي مَهْمَةٍ قَلِقَتْ بِهِ هاماتُهاقَلَقَ الفُؤُوسِ إذَا أرَدْنَ نُصُولا

وفهمت أن الفؤوس لا توصف به بنو آدم من ضمائر الصدور مع وصفها إياهما بأنها تريد. وعلـمت ما يريد القائل ب قوله:

كمِثْلِ هَيْـلِ النّقا طافَ الـمُشاةُ بِهِيَنْهالُ حِينا ويَنْهاهُ الثّرَى حِينا

وإنـما لـم يرد أن الثرى نطق، ولكنه أراد به أنه تلبّد بـالندى، فمنعه من الانهيال، فكان منعه إياه من ذلك كالنهي من ذوي الـمنطق فلا ينهال. وكذلك قوله: جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقُضّ قد علـمت أن معناه: قد قارب من أن يقع أو يسقط، وإنـما خاطب جل ثناؤه بـالقرآن من أنزل الوحي بلسانه، وقد عقلوا ما عنى به وإن استعجم عن فهمه ذوو البلادة والعمى، وضلّ فـيه ذوو الـجهالة والغبـا.

و قوله: فَأقامَهُ ذكر عن ابن عباس أنه قال: هدمه ثم قعد يبنـيه.

١٧٥٢٢ـ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، عن الـحسن بن عُمارة، عن الـحكم بن عتـيبة، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس . وقال آخرون فـي ذلك ما:

١٧٥٢٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبـير فوجدا فـيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ قال: رفع الـجدار بـيده فـاستقام.

والصواب من القول فـي ذلك أن يُقال: إن اللّه عزّ ذكره أخبر أن صاحب موسى وموسى وجدا جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه صاحب موسى، بـمعنى: عَدَل مَيَـله حتـى عاد مستويا. وجائز أن يكون كان ذلك بإصلاح بعد هدم. وجائز أن يكون كان برفع منه له بـيده، فـاستوى بقدرة اللّه ، وزال عنه مَيْـلُه بلطفه، ولا دلالة من كتاب اللّه ولا خبر للعذر قاطع بأيّ ذلك كان من أيّ.

و قوله: قالَ لَوْ شِئْتَ لاتّـخَذْتَ عَلَـيْهِ أجْرا يقول: قال موسى لصاحبه: لو شئت لـم تقم لهؤلاء القوم جدارهم حتـى يعطوك علـى إقامتك أجرا، فقال بعضهم: إنـما عَنَى موسى بـالأجر الذي قال له لَوْ شِئْتَ لاتّـخَذْتَ عَلَـيْهِ أجْرا القِرى: أي حتـى يَقْرُونا، فإنهم قد أبوا أن يضّيفونا.

وقال آخرون: بل عنى بذلك العِوَض والـجزاء علـى إقامته الـحائط الـمائل.

واختلف القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء أهل الـمدينة والكوفة لَوْ شِئْتَ لاتّـخَذْتَ عَلَـيْهِ أجْرا علـى التوجيه منهم له إلـى أنه لافتعلت من الأخذ. وقرأ ذلك بعض أهل البصرة (لَوْ شَئِتَ لَتَـخِذْتَ) بتـخفـيف التاء وكسر الـخاء، وأصله: لافتعلت، غير أنهم جعلوا التاء كأنهم من أصل الكلـمة، ولأن الكلام عندهم فـي فعل ويفعل من ذلك: تـخِذ فلان كذا يَتْـخَذُهُ تَـخْذا، وهي لغة فـيـما ذكر لهُذَيـل. وقال بعض الشعراء:

وَقَدْ تَـخِذَتْ رِجْلِـي لَدَى جَنْبِ غَرْزِهانَسِيفـا كأُفُحُوصِ القَطاةِ الـمُطَرّقِ

والصواب من القول فـي ذلك عندي: أنهما لغتان معروفتان من لغات العرب بـمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، غير أنـي أختار قراءته بتشديد التاء علـى لافتعلت، لأنها أفصح اللغتـين وأشهرهما، وأكثرهما علـى ألسن العرب.

٧٨

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: ٧٨][ص:٣٥٣]

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ صَاحِبُ مُوسَى لِمُوسَى: هَذَا الَّذِي قُلْتُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: ٧٧] {فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: ٧٨] يَقُولُ: فُرْقَةٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ: أَيْ مُفَرَّقِ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. {سَأُنَبِّئُكَ} [الكهف: ٧٨] يَقُولُ: سَأُخْبِرُكَ {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: ٧٨] يَقُولُ: بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ عَاقِبَةُ أَفْعَالِي الَّتِي فَعَلْتُهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيَّ تَرْكَ الْمَسْأَلَةِ عَنْهَا، وَعَنِ النَّكِيرِ عَلَيَّ فِيهَا صَبْرًا، وَاللّه أَعْلَمُ

٧٩

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: ٧٩] يَقُولُ: أَمَّا فِعْلِي مَا فَعَلْتُ بِالسَّفِينَةِ، فَلِأَنَّهَا كَانَتْ لِقَوْمٍ مَسَاكِينَ {يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: ٧٩] بِالْخَرْقِ الَّذِي خَرَقْتُهَا، كَمَا:

حَدَّثَنِي ابْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللّه عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: ٧٩] قَالَ: أَخْرِقُهَا حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، مِثْلَهُ

وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: ٧٩] وَكَانَ أَمَامَهُمْ وَقُدَّامَهُمْ مَلِكٌ. كَمَا:

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: ٧٩] قَالَ قَتَادَةُ: أَمَامَهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: ١٠] وَهِيَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ غَصْبًا

وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ: «وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ»

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَرَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْأَضْدَادِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يَكُونُ لِمَا هُوَ أَمَامَهُ وَلِمَا خَلْفَهُ، وَاسْتَشْهَدَ لِصِحَّةِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

أَيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ... وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَا

[ص:٣٥٥] بِمَعْنَى أَمَامِي، وَقَدْ أَغْفَلَ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ: هُوَ وَرَائِي، لِأَنَّكَ مِنْ وَرَائِهِ، فَأَنْتَ مُلَاقِيهِ كَمَا هُوَ مُلَاقِيكَ، فَصَارَ: إِذْ كَانَ مُلَاقِيكَ، كَأَنَّهُ مِنْ وَرَائِكَ وَأَنْتَ أَمَامَهُ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَا يُجِيزُ أَنْ يُقَالَ لِرَجُلٍ بَيْنَ يَدَيْكَ: هُوَ وَرَائِي، وَلَا إِذَا كَانَ وَرَاءَكَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ أَمَامِي، وَيَقُولُ: إِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنَ الْأَيَّامِ وَالْأَزْمِنَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَرَاءَكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ حَرٌّ شَدِيدٌ، لِأَنَّكَ أَنْتَ وَرَاءَهُ، فَجَازَ لِأَنَّهُ شَيْءٌ يَأْتِي، فَكَأَنَّهُ إِذَا لَحِقَكَ صَارَ مِنْ وَرَائِكَ، وَكَأَنَّكَ إِذَا بَلَغْتَهُ صَارَ بَيْنَ يَدَيْكَ. قَالَ: فَلِذَلِكَ جَازَ الْوَجْهَانِ

وَقَوْلُهُ: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: ٧٩] فَيَقُولُ الْقَائِلُ: فَمَا أَغْنَى خَرْقَ هَذَا الْعَالِمِ السَّفِينَةَ الَّتِي رَكِبَهَا عَنْ أَهْلِهَا، إِذْ كَانَ مِنْ أَجْلِ خَرْقِهَا يَأْخُذُ السُّفُنَ كُلَّهَا، مَعِيبُهَا وَغَيْرُ مَعِيبِهَا، وَمَا كَانَ وَجْهُ اعْتِلَالِهِ فِي خَرْقِهَا بِأَنَّهُ خَرَقَهَا، لِأَنَّ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ، أَنَّهُ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ غَصْبًا، وَيَدَعُ مِنْهَا كُلَّ مَعِيبَةٍ، لَا أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ صِحَاحَهَا وَغَيْرَ صِحَاحِهَا. فَإِنْ قَالَ: وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ؟ قِيلَ: قَوْلُهُ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: ٧٩] فَأَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا عَابَهَا، لِأَنَّ الْمَعِيبَةَ مِنْهَا لَا يَعْرِضُ لَهَا، فَاكْتَفَى بِذَلِكَ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ غَصْبًا، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ كَذَلِكَ

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: هِيَ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا»

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فِي قِرَاءَةِ أَبِي: «وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا» . وَإِنَّمَا عِبْتُهَا لِأَرُدَّهُ عَنْهَا

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: ٧٩] فَإِذَا خَلَّفُوهُ أَصْلَحُوهَا بِزِفْتٍ فَاسْتَمْتَعُوا بِهَا

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَئِيِّ، أَنَّ اسْمَ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا: هُدَدُ بْنُ بُدَدٍ

٨٠

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا...}

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَمَّا الْغُلَامُ، فَإِنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ [ص:٣٥٧] يُرْهِقُهُمَا. يَقُولُ: يُغْشِيهِمَا طُغْيَانًا، وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ عَلَى اللّه ، وَكُفْرًا بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ. وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا

ذكر من قال ذلك:

١٧٥٣٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة : (وأمّا الغُلامُ فَكانَ كافِرا) فـي حرف أُبـيّ، وكان أبواه مؤمنـين فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما.

١٧٥٣١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَأمّا الغُلامُ فَكانَ أبَوَاه مُوْمِنَـيْنِ وكان كافرا بعض القراءة.

و قوله: فَخَشِينا وهي فـي مصحف عبد اللّه : (فخَافَ رَبّكَ أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانا وكُفْرا) .

١٧٥٣٢ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا أبو قتـيبة، قال: حدثنا عبد الـجبـار بن عباس الهمْدانـي، عنا بن إسحاق، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، عن أبـيّ بن كعب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (الغُلامُ الّذِي قَتَلَهُ الـخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كافِرا) .

والـخشية والـخوف توجههما العرب إلـى معنى الظنّ، وتوجه هذه الـحروف إلـى معنى العلـم بـالشيء الذي يُدرك من غير جهة الـحسّ والعيان. وقد بـيّنا ذلك بشواهده فـي غير هذا الـموضع، بـما أغنى عن إعادته.

وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يقول: معنى قوله خَشِينا فـي هذا الـموضع: كرهنا، لأنّ اللّه لا يخشَى. وقال فـي بعض القراءات: فخاف ربكُ، قال: وهو مثل خفت الرجلـين أن يعولا، وهو لا يخاف من ذلك أكثر من أنه يكرهه لهما.

٨١

و قوله: فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا: اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأه جماعة من قرّاء الـمكيـين والـمدنـيـين والبصريـين: (فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا) . وكان بعضهم يعتلّ لصحة ذلك بأنه وجد ذلك مشدّدا فـي عامّة القرآن، كقول اللّه عزّ وجلّ: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا،

و قوله: وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ إيَةٍ، فألـحق قوله: فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا بِه. وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة: فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا بتـخفـيف الدال. وكان بعض من قرأ ذلك كذلك من أهل العربـية يقول: أبدل يُبْدِل بـالتـخفـيف وبَدّل يُبدّل بـالتشديد: بـمعنى واحد.

والصواب من القول فـي ذلك عندي: أنهما قراءتان متقاربتا الـمعنى، قد قرأ بكلّ واحدة منهما جماعة من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. و

قـيـل: إن اللّه عزّ وجلّ أبدل أبَوَي الغلام الذي قتله صاحب موسى منه بجارية. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٣٣ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا الـمبـارك بن سعيد، قال: حدثنا عمرو بن قـيس فـي قوله: فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما قال: بلغنـي أنها جارية.

١٧٥٣٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، أخبرنـي سلـيـمان بن أميّة أنه سمع يعقوب بن عاصم يقول: أُبْدِلاَ مكان الغلام جارية.

١٧٥٣٥ـ قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد اللّه بن عثمان بن خُثَـيـم، أنه سمع سعيد بن جبـير يقول: أبدلا مكان الغلام جارية.

وقال آخرون: أبدلهما ربهما بغلام مسلـم. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٣٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما قال: كانت أمه حُبلـى يومئذ بغلام مسلـم.

١٧٥٣٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة ، أنه ذكر الغلام الذي قتله الـخضر، فقال: قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا علـيه حين قتل، ولو بقـي كان فـيه هلاكهما، فلـيرض امرؤ بقضاء اللّه ، فإن قضاء اللّه للـمؤمن فـيـماط يكره خير له من قضائه فـيـما يحبّ.

و قوله: خَيْرا مِنْهُ زَكاةً يقول: خيرا من الغلام الذي قتله صلاحا ودينا، كما:

١٧٥٣٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً قال: الإسلام.

و قوله: وأقْرَبَ رُحْما اختلف أهل التأويـل فـي تأويـله، فقال بعضهم: معنى ذلك: وأقرب رحمة بوالديه وأبرّ بهما من الـمقتول. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٣٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة وأقْرَبَ رُحْما: أبرّ بوالديه.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سيعد، عن قتادة وأقْرَبَ رُحْما أي أقرب خيرا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأقرب أن يرحمه أبواه منهما للـمقتول. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٤٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج وأقْرَبَ رُحْما أرحم به منهما بـالذي قتل الـخضر.

وكان بعض أهل العربـية يتأوّل ذلك: وأقرب أن يرحماه والرّحْم: مصدر رحمت، يقال: رَحِمته رَحْمة ورُحما. وكان بعض البصريـين يقول: من الرّحِم والقرابة. وقد يقال: رُحْم ورُحُم مثل عُسْر وعُسُر، وهُلْك وهُلُك، واستشهد لقوله ذلك ببـيت العجاج:

ولَـمْ تُعَوّجْ رُحْمُ مَنْ تَعَوّجا

ولا وجه للرّحيـم فـي هذا الـموضع. لأن الـمقتول كان الذي أبدل اللّه منه والديه ولدا لأبوي الـمقتول، فقرابتهما من والديه، وقربهما منه فـي الرّحيـم سواء. وإنـما معنى ذلك: وأقرب من الـمقتول أن يرحم والديه فـيبرهما كما قال قتادة . وقد يتوجه الكلام إلـى أن يكون معناه. وأقرب أن يرحماه، غير أنه لا قائل من أهل تأويـل تأوّله كذلك. فإذ لـم يكن فـيه قائل، فـالصواب فـيه ما قلنا لـما بـيّنا.

٨٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ...}.

يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قول صاحب موسى: وأما الـحائط الذي أقمته، فإنه كان لغلامين يتـيـمين فـي الـمدينة، وكان تـحته كنزلهما.

اختلف أهل التأويـل فـي ذكل الكنز، فقال بعضهم: كان صُحُفـا فـيها علِـم مدفونة. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٤١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: كان تـحته كنْزُ علـم.

١٧٥٤٢ـ حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن سعيد بن جبـير: وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: كان كنز علـم.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: علـم.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: علـم.

١٧٥٤٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: صحف لغلامين فـيها علـم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، قال: صحف علـم.

١٧٥٤٤ـ حدثنـي أحمد بن حازم الغفـاريّ، قال: حدثنا هنادة ابنة مالك الشيبـانـية، قالت: سمعت صاحبـي حماد بن الولـيد الثقـفـي يقول: سمعت جعفر بن مـحمد يقول في قول اللّه عز وجل: وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: سطران ونصف، لـم يتـمّ الثالث: (عجبت للـموقن بـالرزق كيف يتعب، وعجبت للـموقن بـالـحساب كيف يغفل، وعجبت للـموقن بـالـموت كيف يفرح) وقد قال: وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلِ أتـيْنا بِها وَكَفـى بِنا حاسِبِـينَ قالت: وذكر أنهما حُفِظا بصلاح أبـيهما، ولـم يذكر منهما صلاح، وكان بـينهما وبـين الأب الذي حُفظا به سبعة آبـاء، كان نساجا.

١٧٥٤٥ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا الـحسن بن ندبة، قال: حدثنا سلـمة بن مـحمد، عن نعيـم العنبريّ، وكان من جُلساء الـحسن، قال: سمعت الـحسن يقول فـي قوله: وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: لوح من ذهب مكتوب فـيه: (بسم اللّه الرحمَن الرحيـم: عجبت لـمن يؤمن كيف يحزن وعجبت لـمن يوقن بـالـموت كيف يفرح وعجبت لـمن يعرف الدنـيا وتقلبها بأهلها، كيف يطمئنّ إلـيها لا إله إلا اللّه ، مـحمد رسول اللّه ) .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، عن الـحسن بن عمارة، عن الـحكم، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس أنه كان يقول: ما كان الكنز إلا علْـما.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن حميد، عن مـجاهد ، فـي قوله وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: صُحُف من علـم.

١٧٥٤٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وعب، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن عياش، عن عمر مولـى غُفْرة، قال: إن الكنز الذي قال اللّه فـي السورة التـي يذكر فـيها الكهف وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: كان لوحا من ذهب مصمت، مكتوبـا فـيه: بسم اللّه الرحمَن الرحيـم. عَجَبٌ مـمن عرف الـموت ثم ضحك، عَجَبٌ مـمن أيقن بـالقدر ثم نَصِب، عَجَبٌ مـمن أيقن بـالـموت ثم أمن، أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن مـحمدا عبده ورسوله.

وقال آخرون: بل كان مالاً مكنوزا. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٤٧ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: كنز مال.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي حصين، عن عكرمة، مثله.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو داود، عن شعبة، قال: أخبرنـي أبو حُصَين، عن عكرمة، مثله، قال شعبة: ولـم نسمعه منه.

١٧٥٤٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال: مال لهما، قال قتادة : أُحِلّ الكنز لـمن كان قبلنا، وحُرّم علـينا، فإن اللّه يُحلّ من أمره ما يشاء، ويحرّم، وهي السنن والفرائض، ويحلّ لأمة، ويحرّم علـى أخرى، لكنّ اللّه لا يقبل من أحد مضى إلا الإخلاص والتوحيد له.

وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب: القول الذي قاله عِكْرمة، لأن الـمعروف من كلام العرب أن الكنز اسم لـما يكنز من من مال، وأن كلّ ما كنز فقد وقع علـيه اسم كنز، فإن التأويـل مصروف إلـى الأغلب من استعمال الـمخاطبـين بـالتنزيـل، ما لـم يأت دلـيـل يجب من أجله صرفه إلـى غير ذلك، لعلل قد بـيّناها فـي غير موضع.

و قوله: وكان أبُوهُما صَالِـحا فأرَادَ رَبّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدّهُما يقول: فأراد ربك أن يدركا ويبلغا قوتهما وشدّتهما، ويستـخرجا حينئذ كنزهما الـمكنوز تـحت الـجدار الذي أقمته، رحمة من ربك بهما، يقول: فعلت فعل هذا بـالـجدار، رحمة من ربك للـيتـيـمين. وكان ابن عباس يقول فـي ذلك ما:

١٧٥٤٩ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو أسامة، عن مسعر، عن عبد الـملك بن ميسرة، عن سعيد بن جبـير، قال: قال ابن عباس ، فـي قوله وَكانَ أبُوهُما صالِـحا قال: حُفِظا بصلاح أبـيهما، وما ذكر منهما صلاح.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سفـيان، عن مسعر، عن عبد الـملك بن ميسرة، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، مثله.

و قوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي يقول: وما فعلت يا موسى جميع الذي رأيتنـي فعلته عن رأيـي، ومن تلقاء نفسي، وإنـما فعلته عن أمر اللّه إياي به، كما:

١٧٥٥٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي: كان عبدا مأمورا، فمضى لأمر اللّه .

١٧٥٥١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي ما رأيت أجمع ما فعلته عن نفسي.

و قوله: ذَلِكَ تَأْوِيـلُ ما لَـمْ تَسْطِعْ عَلَـيْهِ صَبْرا يقول: هذا الذي ذكرت لك من الأسبـاب التـي من أجلها فعلت الأفعال التـي استنكرتها منـي، تأويـل. يقول: ما تؤول إلـيه وترجع الأفعال التـي لـم تسطع علـى ترك مسألتك إياي عنها، وإنكارك لها صبرا.

وهذه القصص التـي أخبر اللّه عزّ وجلّ نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه، تأديب منه له، وتقدمٌ إلـيه بترك الاستعجال بعقوبة الـمشركين الذين كذّبوه واستهزؤوا به وبكتابه، وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فـيـما ترى الأعين بـما قد يجري مثله أحيانا لأولـيائه، فإن تأويـله صائر بهم إلـى أحوال أعدائه فـيها، كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف الصحة فـي الظاهر عند موسى، إذ لـم يكن عالـما بعواقبها، وهي ماضية علـى الصحة فـي الـحقـيقة وآئلة إلـى الصواب فـي العاقبة، ينبىء عن صحة ذلك قوله: وَرَبّكَ الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ لَوْ يُوءَاخِذُهُمْ بِـمَا كَسَبُوا لَعَجّلَ لَهُمْ العَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا. ثم عقب ذلك بقصة موسى وصاحبه، يعلـم نبـيه أن تركه جلّ جلاله تعجيـل العذاب لهؤلاء الـمشركين، بغير نظر منه لهم، وإن ذلك فـيـما يَحْسِب من لا علـم له بـما اللّه مدبر فـيهم، نظرا منه لهم، لأن تأويـل ذلك صائر إلـى هلاكهم وبوارهم بـالسيف فـي الدنـيا واستـحقاقهم من اللّه فـي الاَخرة الـخَزْيَ الدائم.

٨٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : ويسألك يا مـحمد هؤلاء الـمشركون عن ذي القرنـين ما كان شأنه، وما كانت قصته، فقل لهم: سأتلو علـيكم من خبره ذكرا يقول: سأقصّ علـيكم منه خبرا. وقد

قـيـل: إن الذين سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أمر ذي القرنـين، كانوا قوما من أهل الكتاب. فأما الـخبر بأن الذين سألوه عن ذلك كانوا مشركي قومه فقد ذكرناه قبل. وأما الـخبر بأن الذين سألوه، كانوا قوما من أهل الكتاب.

١٧٥٥٢ـ فحدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا زيد بن حبـاب عن ابن لهيعة، قال: ثنـي عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن شيخين من نـجيب، قال: أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلـى عقبة بن عامر نتـحدّث، قالا: فأتـياه فقالا: جئنا لتـحدثنا، فقال: كنت يوما أخدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فخرجت من عنده، فلقـينـي قوم من أهل الكتاب، فقالوا: نريد أن نسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فـاستأذن لنا علـيه، فدخـلت علـيه، فأخبرته، فقال:

(مالـي ومالهم، مالـي علـم إلا ما علـمنـي اللّه ) ، ثم قال:

(اسكب لـي ماء) ، فتوضأ ثم صلـى، قال: فما فرغ حتـى عرفت السرور فـي وجهه، ثم قال:

(أدخـلهم علـيّ، ومن رأيت من أصحابـي) فدخـلوا فقاموا بـين يديه، فقال:

(إن شئتـم سألتـم فأخبرتكم عما تـجدونه فـي كتابكم مكتوبـا، وإن شئتـم أخبرتكم) ، قالوا: بلـى أخبرنا، قال: (جئتـم تسألونـي عن ذي القرنـين، وما تـجدونه فـي كتابكم: كان شبـابـا من الروم، فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية فلـما فرغ جاءه ملك فعلا به فـي السماء، فقال له ما ترى؟ فقال: أرى مدينتـي ومدائن، ثم علا به، فقال: ما ترى؟ فقال: أرى مدينتـي، ثم علا به فقال: ما ترى؟ قال: أرى الأرض، قال: فهذا ألـيـم مـحيط بـالدنـيا، إن اللّه بعثنـي إلـيك تعلـم الـجاهل، وتثبت العالـم، فأتـى به السدّ، وهو جبلان لـينان يَزْلَق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتـى جاوز يأجوج ومأجوج، ثم مضى به إلـى أمة أخرى، وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتـى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب، ثم مضى حتـى قطع به هؤلاء إلـى أمة أخرى قد سماهم) .

واختلف أهل العلـم فـي الـمعنى الذي من أجله قـيـل لذي القرنـين: ذو القرنـين، فقال بعضهم: قـيـل له ذلك من أجل أنه ضُرِب علـى قَرنه فهلك، ثم أُحْيِـي فضُرب علـى القرن الاَخر فهلك. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٥٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن عبـيد الـمُكْتِب، عن أبـي الطّفَـيـل، قال: سأل ابن الكوّاء علـيا عن ذي القرنـين، فقال: هو عبد أحبّ اللّه فأحبه، وناصح اللّه فنصحه، فأمرهم بتقوى اللّه فضربوه علـى قَرْنه فقتلوه، ثم بعثه اللّه ، فضربوه علـى قرنه فمات.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفـيان، عن حبـيب بن أبـي ثابت، عن أبـي الطفـيـل، قال: سئل علـيّ رضوان اللّه علـيه عن ذي القرنـين، فقال: كان عبدا ناصح اللّه فناصحه، فدعا قومه إلـى اللّه ، فضربوه علـى قرنه فمات، فأحياه اللّه ، فدعا قومه إلـى اللّه ، فضربوه علـى قرنه فمات، فسمي ذا القرنـين.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: قال: حدثنا شعبة، عن القاسم بن أبـي بَزّة، عن أبـي الطفـيـل، قال: سمعت علـيا وسألوه عن ذي القرنـين أنبـيا كان؟ قال: كان عبدا صالـحا، أحبّ اللّه فأحبه، وناصَحَ اللّه فنصحه، فبعثه اللّه إلـى قومه، فضربوه ضربتـين فـي رأسه، فسمي ذا القرنـين، وفـيكم الـيوم مثله.

وقال آخرون فـي ذلك بـما:

١٧٥٥٤ـ حدثنـي به مـحمد بن سهل البخاريّ، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل، قال: قال وهب بن منبه: كان ذو القرنـين مَلِكا، ف

قـيـل له: فلـم سُمّي ذا القرنـين؟ قال: اختلف فـيه أهل الكتاب، فقال بعضهم: مَلَك الروم وفـارس. وقال بعضهم: كان فـي رأسه شبه القرنـين.

وقال آخرون: إنـما سمي ذلك لأن صفحتـي رأسه كانتا من نـحاس. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٥٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: ثنـي من لا أتهم عن وهب بن منبه الـيـمانـي، قال: إنـما سمي ذا القرنـين أن صفحتـي رأسه كانتا من نـحاس.

٨٤

و قوله: إنّا مَكّنا لَهُ الأرْضِ وآتَـيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبـا يقول: إنا وطأنا له فـي الأرض، وآتَـيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبـا يقول: وآتـيناه من كلّ شيء: يعني ما يتسبب إلـيه وهو العلـم به.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٥٦ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وآتَـيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبـا يقول: علـما.

١٧٥٥٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وآتَـيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبـا: أي علـما.

١٧٥٥٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وآتَـيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبـا قال: من كلّ شيء علـما.

١٧٥٥٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: وآتَـيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبـا قال: علـم كلّ شيء.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس وآتَـيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبـا علـما.

١٧٥٦٠ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وآتَـيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبـا يقول: علـما.

٨٥

و قوله: فَأَتْبَعَ سبَبـا اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: (فـاتّبع) بوصل الألف، وتشديد التاء، بـمعنى: سلك وسار، من قول القائل: اتّبعتُ أثر فلان: إذا قـفوته وسرت وراءه. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة فَأَتْبَعَ بهمز، وتـخفـيف التاء، بـمعنى لـحق.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب: قراءة من قرأ: (فـاتّبَعَ) بوصل الألف، وتشديد التاء، لأن ذلك خبر من اللّه تعالـى ذكره عن مسير ذي القرنـين فـي الأرض التـي مكن له فـيها، لا عن لـحاقه السبب، وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٦١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس (فـاتّبَعَ سَبَبـا) يعني بـالسبب: الـمنزل.

١٧٥٦٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: سَبَبـا قال: منزلاً وطريقا ما بـين الـمشرق والـمغرب.

حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، نـحوه.

حدثنـي مـحمد بن عُمارة الأسديّ، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى، عن مـجاهد (فـاتّبَعَ سَبَبـا) قال: طريقا فـي الأرض.

١٧٥٦٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة (فـاتّبَعَ سَبَبـا) : اتبع منازل الأرض ومعالـمها.

١٧٥٦٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله (فـاتّبَعَ سَبَبـا) قال: هذه الاَن سبب الطرق كما قال فرعون يا هامانُ ابْنِ لـي صَرْحا لَعَلّـي أبْلُغُ الأسْبَـابَ أسْبـابَ السّمَوَاتِ قال: طُرق السموات.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: (فـاتّبَعَ سَبَبـا) قال: منازل الأرض.

١٧٥٦٥ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله: (فـاتّبَعَ سَبَبـا) قال: الـمنازل.

٨٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {حَتّىَ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ...}.

يقول تعالـى ذكره: حتـى إذَا بَلَغَ ذو القرنـين مَغْرِبَ الشّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، فـاختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء الـمدينة والبصرة: فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ بـمعنى: أنها تغرب فـي عين ماء ذات حمأة، وقرأته جماعة من قراء الـمدينة، وعامّة قرّاء الكوفة: (فـي عَيْنٍ حَامِيَةٍ) يعني أنها تغرب فـي عين ماء حارّة.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـلهم ذلك علـى نـحو اختلاف القرّاء فـي قراءته. ذكر من قال ذلك: تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ:

١٧٥٦٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس وَجَدَها تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قال: فـي طين أسود.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قال: ذات حمأة.

١٧٥٦٧ـ حدثنا الـحسين بن الـجنـيد، قال: حدثنا سعيد بن مسلـمة، قال: حدثنا إسماعيـل بن عُلَـية، عن عثمان بن حاضر، قال: سمعت عبد اللّه بن عباس يقول: قرأ معاوية هذه الاَية، فقال: (عَيْن حامِيَة) فقال ابن عباس : إنها عين حمئة، قال: فجعلا كعبـا بـينهما، قال: فأرسلا إلـى كعب الأحبـار، فسألاه، فقال كعب: أما الشمس فإنها تغيب فـي ثأط، فكانت علـى ما قال ابن عباس ، والثأط: الطين.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي نافع بن أبـي نعيـم، قال: سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول: كان ابن عباس يقول فِـي عَيْنِ حَمِئَة ثم فسرها: ذات حمأة، قال نافع: وسئل عنها كعب، فقال: أنتـم أعلـم بـالقرآن منـي، ولكنـي أجدها فـي الكتاب تغيب فـي طينة سوداء.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس وَجَدَها تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قال: هي الـحمأة.

١٧٥٦٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فِـي عَيْنِ حَمِئَة قال: ثأط.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد فـي قول اللّه عزّ ذكره تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قال: ثأطة.

قال: وأخبرنـي عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبـي ربـاح، عن ابن عباس ، قال: قرأت فِـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وقرأ عمرو بن العاص فِـي عَيْنٍ حامِيَةٍ فأرسلنا إلـى كعب، فقال: إنها تغرب فـي حمأة طينة سوداء.

١٧٥٦٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ والـحمئة: الـحمأة السوداء.

حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن ورقاء، قال: سمعت سعيد بن جبـير، قال: كان ابن عباس يقرأ هذا الـحرف فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ويقول: حمأة سوداء تغرب فـيها الشمس.

وقال آخرون: بل هي تغيب فـي عين حارّة. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٧٠ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس (وَجَدَها تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَامِيَةٍ) يقول: فـي عين حارّة.

١٧٥٧١ـ حدثنا يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، قال: سمعت الـحسن يقول: (فِـي عَيْنٍ حَامِيَةٍ) قال: حارّة.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله: (فِـي عَيْنٍ حَامِيَةً) قال: حارّة، وكذلك قرأها الـحسن.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار، ولكلّ واحدة منهما وجه صحيح ومعنى مفهوم، وكلا وجهيه غير مفسد أحدهما صاحبه، وذلك أنه جائز أن تكون الشمس تغرب فـي عين حارّة ذات حمأة وطين، فـيكون القارىء فـي عين حامية بصفتها التـي هي لها، وهي الـحرارة، ويكون القارىء فـي عين حمئة واصفها بصفتها التـي هي بها وهي أنها ذات حمأة وطين. وقد رُوي بكلا صيغتـيها اللتـين قلت إنهما من صفتـيها أخبـار.

١٧٥٧٢ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا العوّام، قال: ثنـي مولـى لعبد اللّه بن عمرو، عن عبد اللّه ، قال: نظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى الشمس حين غابت، فقال: (فِـي نارِ اللّه الـحامِيَةِ، فِـي نارِ اللّه الـحامِيَةِ، لَوْلا ما يَزَعُها مِنْ أمْرِ اللّه لأَحْرَقَتْ ما عَلـى الأرْض) .

١٧٥٧٣ـ حدثنـي الفضل بن داود الواسطي، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا مـحمد بن دينار، عن سعد بن أوس، عن مصدع، عن ابن عباس ، عن أبـيّ بن كعب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أقرأه: حَمِئَةٍ.

و قوله: وَوَجَدَ عَنْدَها قَوْما ذكر أن أولئك القوم يقال لهم: ناسك.

و قوله: قُلْنا يا ذَا القَرْنَـيْنِ إمّا أنْ تُعَذّبَ يقول: إما أن تقتلهم إن هم لـم يدخـلوا فـي الإقرار بتوحيد اللّه ، ويذعنوا لك بـما تدعوهم إلـيه من طاعة ربهم وإمّا أنْ تَتّـخِذَ فِـيهِمْ حُسْنا يقول: وإما أن تأسرهم فتعلـمهم الهدى وتبصرهم الرشاد.

٨٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ أَمّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ ثُمّ يُرَدّ إِلَىَ رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نّكْراً }.

يقول جل ثناؤه قال أمّا مَنْ ظَلَـمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ يقول: أما من كفر فسوف نقتله، كما:

١٧٥٧٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: أمّا مَنْ ظَلَـمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ قال: هو القتل.

و قوله: ثُمّ يُرَدّ إلـى رَبّهِ فَـيُعَذّبُهُ عَذَابـا نُكْرا يقول: ثم يرجع إلـى اللّه تعالـى بعد قتله، فـيعذّبه عذابـا عظيـما، وهو النكر، وذلك عذاب جهنـم.

٨٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَمّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىَ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً }.

يقول: وأما من صدّق اللّه منهم ووحدّه، وعمل بطاعته، فله عند اللّه الـحسنى، وهي الـجنة، جزاء يعني ثوابـا علـى إيـمانه، وطاعته ربه.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل البصرة والكوفة: (فَلَهُ جَزَاءُ الـحُسْنَى) برفع الـجزاء وإضافته إلـى الـحسنى.

وإذا قرىء ذلك كذلك، فله وجهان من التأويـل:

أحدهما: أن يجعل الـحسنى مرادا بها إيـمانه وأعماله الصالـحة، فـيكون معنى الكلام إذا أريد بها ذلك: وإما من آمن وعمل صالـحا فله جزاؤها، يعني جزاء هذه الأفعال الـحسنة.

والوجه الثانـي: أن يكون معنـيا بـالـحسنى: الـجنة، وأضيف الـجزاء إلـيها، كما قـيـل وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ والدار: هي الاَخرة، وكما قال: وَذلكَ دِينُ القَـيّـمَة والدين: هو القـيـم.

وقرأ آخرون: فَلَهُ جَزَاءً الـحُسْنى بـمعنى: فله الـجنة جزاء فـيكون الـجزاء منصوبـا علـى الـمصدر، بـمعنى: يجازيهم جزاء الـجنة.

وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك عندي قراءة من قرأه: فَلَهُ جَزاءً الـحُسْنَى بنصب الـجزاء وتنوينه علـى الـمعنى الذي وصفت، من أن لهم الـجنة جزاء، فـيكون الـجزاء نصبـا علـى التفسير.

و قوله: وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أمْرِنا يُسْرا يقول: وسنعلـمه نـحن فـي الدنـيا ما تـيسر لنا تعلـيـمه مـما يقرّ به إلـى اللّه ويـلـين له من القول. وكان مـجاهد ا يقول نـحوا مـما قلنا فـي ذلك.

١٧٥٧٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: مِنْ أمْرِنا يُسْرا قال معروفـا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

٨٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً }.

يقول تعالـى ذكره: ثم سار وسلك ذو القرنـين طرقا ومنازل، كما:

١٧٥٧٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس قوله: ثُمّ أتْبَعَ سَبَبـا يعني منزلاً.

١٧٥٧٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ثُمّ أتْبَعَ سَبَبـا: منازل الأرض ومعالـمها.

٩٠

حتـى إذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ علـى قَوْمٍ لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونها سِتْرا:

يقول تعالـى ذكره: ووجد ذو القرنـين الشمس تطلع علـى قوم لـم نـجعل لهم من دونها سترا، وذلك أن أرضهم لا جبل فـيها ولا شجر، ولا تـحتـمل بناء، فـيسكنوا البـيوت، وإنـما يغورون فـي الـمياه، أو يَسْرُبون فـي الأسراب. كما:

١٧٥٧٨ـ حدثنـي إبراهيـم بن الـمستـمر، قال: حدثنا سلـيـمان بن داود وأبو داود، قال: حدثنا سهل بن أبـي الصلت السراج، عن الـحسن تَطْلُعُ علـى قَوْمٍ لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونها سِتْرا قال: كانت أرضا لا تـحتـمل البناء، وكانوا إذا طلعت علـيهم الشمس تغوروا فـي الـماء، فإذا غربت خرجوا يتراعون، كما ترعى البهائم، قال: ثم قال الـحسن: هذا حديث سَمُرة.

١٧٥٧٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة حتـى إذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ علـى قَوْمٍ لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونها سِتْرا ذُكِر لنا أنهم كانوا فـي مكان لا يستقرّ علـيه البناء، وإنـما يكونون فـي أسراب لهم، حتـى إذا زالت عنهم الشمس خرجوا إلـى معايشهم وحروثهم، قال: كذلك وقد أحطنا بـما لديه خبرا.

١٧٥٨٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج فـي قوله: وَجَدَها تَطْلُعُ علـى قَوْمٍ لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونها سِتْرا قال: لـم يبنوا فـيها بناء قَطّ، ولـم يُبْنَ علـيهم فـيها بناء قَطّ، وكانوا إذا طلعت علـيهم الشمس دخـلوا أسرابـا لهم تزول الشمس، أو دخـلوا البحر، وذلك أن أرضهم لـيس فـيها جبل، وجاءهم جيش مرّة، فقال لهم أهلها: لا تطلُعَنّ علـيكم الشمس وأنتـم بها، فقالوا: لا نبرح حتـى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا: هذه جِيفَ جيش طلعت الشمس ها هنا فماتوا، قال: فذهبوا هاربـين فـي الأرض.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، قوله: تَطْلُعُ علـى قَوْمٍ لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونها سِتْرا قال: بلغنا أنهم كانوا فـي مكان لا يثبت علـيهم بناء، فكانوا يدخـلون فـي أسراب لهم إذا طلعت الشمس، حتـى تزول عنهم، ثم يخرجون إلـى معايشهم.

وقال آخرون: هم الزّنـج. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٨١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله تَطْلُعُ علـى قَوْمٍ لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونها سِتْرا قال: يقال: هم الزّنْـج.

٩١

وأما قوله: كَذَلِكَ فإن معناه: ثم أتبع سببـا كذلك، حتـى إذا بلغ مطلع الشمس وكذلك: من صلة أتبع. وإنـما معنى الكلام: ثم أتبع سببـا، حتـى بلغ مطلع الشمس، كما أتبع سببـا حتـى بلغ مغربها.

و قوله: وَقَدْ أحَطْنا بِـمَا لَدَيْهِ خُبْرا يقول: وقد أحطنا بـما عند مطلع الشمس عالـما، لا يخفـى علـينا مـما هنالك من الـخـلق وأحوالهم وأسبـابهم، ولا من غيرهم، شيء. وبـالذي قلنا فـي معنى الـخبر، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: خُبْرا قال: علـما.

حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٥٨٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله كَذَلكَ وَقَدْ أحَطْنا بِـمَا لَدَيْهِ خُبْرا قال: علـما.

٩٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً }.

يقول تعالـى ذكره: ثم سار طرقا ومنازل، وسلك سبلاً

٩٣

حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السّدّيْنِ.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة بعض الكوفـيـين: (حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السّدّيْنِ) بضمّ السين وكذلك جميع ما فـي القرآن من ذلك بضم السين. وكان بعض قرّاء الـمكيـين يقرؤه بفتـح ذلك كله. وكان أبو عمرو بن العلاء يفتـح السين فـي هذه السورة، ويضمّ السين فـي يس، ويقول: السدّ بـالفتـح: هو الـحاجز بـينك وبـين الشيء والسدّ بـالضم: ما كان من غشاوة فـي العين. وأما الكوفـيون فإن قراءة عامتهم فـي جميع القرآن بفتـح السين غير قوله: حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السّدّيْنِ فإنهم ضموا السين فـي ذلك خاصة. وروي عن عكرمة فـي ذلك ما:

١٧٥٨٤ـ حدثنا به أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما كان من صنعة بنـي آدم فهو السّدّ، يعني بـالفتـح، وما كان من صنع اللّه فهو السدّ. وكان الكسائي يقول: هما لغتان بـمعنى واحد.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار، ولغتان متفقتا الـمعنى غير مختلفة، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، ولا معنى للفرق الذي ذكر عن أبـي عمرو بن العلاء، وعكرمة بـين السّد والسّد، لأنا لـم نـجد لذلك شاهدا يبـين عن فرقان ما بـين ذلك علـى ما حكي عنهما. ومـما يبـين ذلك أن جمع أهل التأويـل الذي رُوي لنا عنهم فـي ذلك قول، لـم يحك لنا عن أحد منهم تفصيـل بـين فتـح ذلك وضمه، ولو كان مختلفـي الـمعنى لنقل الفصل مع التأويـل إن شاء اللّه ، ولكن معنى ذلك كان عندهم غير مفترق، فـيفسر الـحرف بغير تفصيـل منهم بـين ذلك. وأما ما ذُكر عن عكرمة فـي ذلك، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب وهارون، وفـي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه. والسّد والسّد جميعا: الـحاجز بـين الشيئين، وهما ههنا فـيـما ذُكر جبلان سدّ ما بـينهما، فردم ذو القرنـين حاجزا بـين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم، لـيقطع مادّ غوائلهم وعيثهم عنهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٨٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عباس (حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السّدّيْنِ) قال: الـجبلـين الردم الذي بـين يأجوج ومأجوج، أمتـين من وراء ردم ذي القرنـين، قال: الـجبلان: أرمينـية وأذربـيجان.

١٧٥٨٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة (حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السّدّيْنِ) وهما جبلان.

١٧٥٨٧ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: (بـينَ السّدّيْنِ) يعني بـين جبلـين.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: (بـينَ السّدّيْنِ) قال: هما جبلان.

وقوله وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْما لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً يقول عزّ ذكره: وجد من دون السدّين قوما لا يكادون يفقهون قول القائل سوى كلامهم.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله يَفْقَهُونَ فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة يَفْقَهُونَ قَوْلاً بفتـح القاف والـياء، من فقَه الرجل يفقه فقها. وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة (يُفْقِهُونَ قَوْلاً) بضمّ الـياء وكسر القاف: من أفقهت فلانا كذا أفقهه إفقاها: إذا فهمته ذلك.

والصواب عندي من القول فـي ذلك، أنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قراءة الأمصار، غير دافعة إحداهما الأخرى وذلك أن القوم الذين أخبر اللّه عنهم هذا الـخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولاً لغيرهم عنهم، فـيكون صوابـا القراءة بذلك. وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل: إما بألسنتهم، وإما بـمنطقهم، فتكون القراءة بذلك أيضا صوابـا.

٩٤

و قوله: قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ فقرأت القرّاء من أهل الـحجاز والعراق وغيرهم: (إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ) بغير همز علـى فـاعول من يججت ومـججت، وجعلوا الألفـين فـيهما زائدتـين، غير عاصم بن أبـي النـجود والأعرج، فإنه ذكر أنهما قرآ ذلك بـالهمز فـيهما جميعا، وجعلا الهمز فـيهما من أصل الكلام، وكأنهما جعلا يأجوج: يفعول من أججت، ومأجوج: مفعول.

والقراءة التـي هي القراءة الصحيحة عندنا، أن يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ بألف بغير همز لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه، وأنه الكلام الـمعروف علـى ألسن العرب ومنه قول رؤبة بن العجاج.

لَوْ أنّ ياجُوجَ ومَاجُوجَ معَاوعادَ عادُوا واسْتَـجاشُوا تُبّعا

وهم أمّتان من وراء السدّ.

و قوله: مِفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ اختلف أهل التأويـل فـي معنى الإفساد الذي وصف اللّه به هاتـين الأمتـين، فقال بعضهم: كانوا يأكلون الناس. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٨٨ـ حدثنا أحمد بن الولـيد الرملـي، قال: حدثنا إبراهيـم بن أيوب الـخوزانـي، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول فـي قوله إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ قال: كانوا يأكلون الناس.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن يأجوج ومأجوج سيفسدون فـي الأرض، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون. ذكر من قال ذلك، وذكر صفة اتبـاع ذي القرنـين الأسبـاب التـي ذكرها اللّه فـي هذه الاَية، وذكر سبب بنائه للردم:

١٧٥٨٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب، مـمن قد أسلـم، مـما توارثوا من علـم ذي القرنـين، أن ذا القرنـين كان رجلاً من أهل مصر اسمه مرزِبـا بن مردَبة الـيونانـي، من ولد يونن بن يافث بن نوح.

١٧٥٩٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي، وكان خالد رجلاً قد أدرك الناس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن ذي القرنـين فقال: (مَلِكٌ مَسَحَ الأرْضَ مِنْ تَـحْتِها بـالأسْبـابِ) قال خالد: وسمع عمر بن الـخطاب رجلاً يقول: يا ذا القرنـين، فقال: اللّه مّ غفرا، أما رضيتـم أن تسموا بأسماء الأنبـياء، حتـى تسموا بأسماء الـملائكة؟ فإن كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذلك، فـالـحقّ ما قال، والبـاطل ما خالفه.

١٧٥٩١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: فحدثنـي من لا أتهم عن وهب بن منبه الـيـمانـي، وكان له علـم بـالأحاديث الأول، أنه كان يقول: ذو القرنـين رجل من الروم. ابن عجوز من عجائزهم، لـيس لها ولد غيره، وكان اسمه الإسكندر. وإنـما سمي ذا القرنـين أن صفحتـي رأسه كانتا من نـحاس فلـما بلغ وكان عبدا صالـحا، قال اللّه عزّ وجلّ له: يا ذا القرنـين إنـي بـاعثك إلـى أمـم الأرض، وهي أمـم مختلفة ألسنتهم، وهم جميع أهل الأرض ومنهم أمتان بـينهما طول الأرض كله ومنهم أمتان بـينهما عرض الأرض كله، وأمـم فـي وسط الأرض منهم الـجنّ والإنس ويأجوج ومأجوج. فأما الأمتان اللتان بـينهما طول الأرض: فأمه عند مغرب الشمس، يقال لها: ناسك. وأما الأخرى: فعند مطلعها يقال لها: منسك. وأما اللتان بـينهما عرض الأرض، فأمة فـي قطر الأرض الأيـمن، فقال لها: هاويـل. وأما الأخرى التـي فـي قطر الأرض الأيسر، فأمة يقال لها: تأويـل فلـما قال اللّه له ذلك، قال له ذو القرنـين: إلهي إنك قد ندبتنـي لأمر عظيـم لا يَقدر قَدره إلا أنت، فأخبرنـي عن هذه الأمـم التـي بعثتنـي إلـيها، بأيّ قوّة أكابرهم، وبأيّ جمع أكاثرهم، وبأيّ حيـلة أكايدهم، وبأيّ صبر أقاسيهم، وبأيّ لسان أناطقهم، وكيف لـي بأن أفقه لغاتهم، وبأيّ سمع أعي قولهم، وبأيّ بصر أنفذهم، وبأيّ حجة أخاصمهم، وبأيّ قلب أعقل عنهم، وبأيّ حكمة أدبر أمرهم، وبأيّ قسط أعدل بـينهم، وبأيّ حلـم أصابرهم، وبأيّ معرفة أفصل بـينهم، وبأيّ علـم أتقن أمورهم، وبأيّ يد أسطو علـيهم، وبأيّ رجل أطؤهم، وبأيّ طاقة أخصمهم، وبأيّ جند أقاتلهم، وبأيّ رفق أستألفهم، فإنه لـيس عندي يا إلهي شيء مـما ذكرت يقول لهم، ولا يقوى علـيهم ولا يطيقهم، وأنت الربّ الرحيـم، الذي لا يكلّف نفسا إلا وسعها، ولا يحملها إلا طاقتها، ولا يعنتها ولا يفدحها، بل أنت ترأفها وترحمها. قال اللّه عزّ وجلّ: إنـي سأطوّقك ما حمّلتك، أشرح لك صدرك، فـيسع كلّ شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كلّ شيء، وأبسط لك لسانك، فتنطق بكلّ شيء، وأفتـح لك سمعك فتعي كلّ شيء، وأمدّ لك بصرك، فتنفذ كلّ شيء، وأدبر لك أمرك فتتقن كلّ شيء، وأحصي لك فلا يفوتك شيء، وأحفظ علـيك فلا يعزب عنك شيء، وأشدّ لك ظهرك، فلا يهدّك شيء، وأشدّ لك ركنك فلا يغلبك شيء، وأشدّ لك قلبك فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلـمة، فأجعلهما جندا من جنودك، يهديك النور أمامك، وتـحوطك الظلـمة من ورائك، وأشدّ لك عقلك فلا يهولك شيء، وأبسط لك من بـين يديك، فتسطو فوق كلّ شيء، وأشدّ لك وطأتك، فتهدّ كلّ شيء، وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء.

ولـما قـيـل له ذلك، انطلق يؤمّ الأمة التـي عند مغرب الشمس، فلـما بلغهم، وجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا اللّه ، وقوّة وبأسا لا يطيقه إلا اللّه ، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة، وقلوبـا متفرّقة فلـما رأى ذلك كاثرهم بـالظلـمة، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها، فأحاطتهم من كلّ مكان، وحاشتهم حتـى جمعتهم فـي مكان واحد، ثم أخذ علـيه بـالنور، فدعاهم إلـى اللّه وإلـى عبـادته، فمنهم من آمن له، ومنهم من صدّ، فعمد إلـى الذين تولوا عنه، فأدخـل علـيهم الظلـمة، فدخـلت فـي أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم، ودخـلت فـي بـيوتهم ودورهم، وغشيتهم من فوقهم، ومن تـحتهم ومن كلّ جانب منهم، فماجوا فـيها وتـحيروا فلـما أشفقوا أن يهلكوا فـيها عجوا إلـيه بصوت واحد، فكشفها عنهم وأخدهم عنوة، فدخـلوا فـي دعوته، فجنّد من أهل الـمغرب أمـما عظيـمة، فجعلهم جندا واحدا، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلـمة تسوقهم من خـلفهم وتـحرسهم من حولهم، والنور أمامهم يقودهم ويدلهم، وهو يسير فـي ناحية الأرض الـيـمنى، وهو يريد الأمة التـي فـي قطر الأرض الأيـمن التـي يقال لها هاويـل، وسخر اللّه له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتـماره، فلا يخطىء إذا ائتـمر، وإذا عمل عملاً أتقنه. فـانطلق يقود تلك الأمـم وهي تتبعه، فإذا انتهى إلـى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال، فنظمها فـي ساعة، ثم جعل فـيها جميع من معه من تلك الأمـم وتلك الـجنود، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها، ثم دفع إلـى كلّ إنسان لوحا فلا يكرثه حمله، فلـم يزل كذلك دأبة حتـى انتهى إلـى هاويـل، فعمل فـيها كعمله فـي ناسك. فلـما فرغ منها مضى علـى وجهه فـي ناحية الأرض الـيـمنى حتـى انتهى إلـى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فـيها وجند منها جنودا، كفعله فـي الأمتـين اللتـين قبلها، ثم كرّ مقبلاً فـي ناحية الأرض الـيسرى، وهو يريد تأويـل وهي الأمة التـي بجيال هاويـل، وهما متقابلتان بـينهما عرض الأرض كله فلـما بلغها عمل فـيها، وجند منها كفعله فـيـما قبلها فلـما فرغ منها عطف منها إلـى الأمـم التـي وسط الأرض من الـجنّ وسائر الناس، ويأجوج ومأجوج فلـما كان فـي بعض الطريق مـما يـلـي منقطع الترك نـحو الـمشرق، قالت له أمة من الإنس صالـحة: يا ذا القرنـين، إن بـين هذين الـجبلـين خـلقا من خـلق اللّه ، وكثـير منهم مشابه للإنس، وهم أشبـاه البهائم، يأكلون العشب، ويفترسون الدوابّ والوحوش كما تفترسها السبـاع، ويأكلون خشاش الأرض كلها من الـحيات والعقارب، وكلّ ذي روح مـما خـلق اللّه فـي الأرض، ولـيس للّه خـلق ينـمو نـماءهم فـي العام الواحد، ولا يزداد كزيادتهم، ولا يكثر ككثرتهم، فإن كانت لهم مدّة علـى ما نرى من نـمائهم وزيادتهم، فلا شكّ أنهم سيـملئون الأرض، ويجلون أهلها عنها ويظهرون علـيها فـيفسدون فـيها، ولـيست تـمرّ بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونـحن نتوقعهم، وننتظر أن يطلع علـينا أوائلهم من بـين هذين الـجبلـين فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرْجا علـى أنْ تَـجْعَلَ بَـيْنَنا وبَـيْنَهُمْ سَدّا قالَ ما مَكّنِـي فِـيهِ رَبّـي خَيْرٌ فأعِينُونِـي بِقُوّةٍ أجْعَلْ بَـيْنَكُمْ وَبَـيْنَهُمْ رَدْما أعدّوا إلـيّ الصخور والـحديد والنـحاس حتـى أرتاد بلادهم، وأعلـم علـمهم، وأقـيس ما بـين جبلـيهم.

ثم انطلق يؤمهم حتـى دفع إلـيهم وتوسط بلادهم، فوجدهم علـى مقدار واحد، ذكرهم وأنثاهم، مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل الـمربوع منا، لهم مخالب فـي موضع الأظفـار من أيدينا، وأضراس وأنـياب كأضراس السبـاع وأنـيابها، وأحناك كأحناك الإبل قوّة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الـجِرّة من الإبل، أو كقضم الفحل الـمسنّ، أو الفرس القويّ، وهم هلب، علـيهم من الشعر فـي أجسادهم ما يواريهم، وما يتقون به الـحرّ والبرد إذا أصابهم ولكل واحد منهم أذنان عظيـمتان: إحداهما وبرة ظهرها وبطنها، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها، تَسعانة إذا لبسهما، يـلتـحف إحداهما، ويفترش الأخرى، ويصيف فـي إحداهما، ويَشْتـى فـي الأخرى، ولـيس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يـموت فـيه، ومنقطع عمره، وذلك أنه لا يـموت ميت من ذكورهم حتـى يخرج من صلبه ألف ولد، ولا تـموت الأنثى حتـى يخرج من رحمها ألف ولد، فإذا كان ذلك أيقن بـالـموت، وهم يرزقون التنـين يام الربـيع، ويستـمطرونه إذا تـحينوه كما نستـمطر الغيث لـحينه، فـيقذفون منه كلّ سنة بواحد، فـيأكلونه عامهم كله إلـى مثله من العام القابل، فـيغنـيهم علـى كثرتهم ونـمائهم، فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا، ورؤي أثره علـيهم، فدرّت علـيهم الإناث، وشَبقت منهم الرجال الذكور، وإذا أخطأهم هَزَلُوا وأجدبوا، وجفرت الذكور، وحالت الإناث، وتبـين أثر ذلك علـيهم، وهم يتداعون تداعي الـحَمام، ويعوُون عُواء الكلاب، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم.

فلـما عاين ذلك منهم ذو القرنـين انصرف إلـى ما بـين الصّدَفـين، فقاس ما بـينهما وهو فـي منقطع أرض الترك مـما يـلـي مشرق الشمس، فوجد بُعد ما بـينهما مئة فرسخ فلـما أنشأ فـي عمله، حفر له أساسا حتـى بلغ الـماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا، وجعل حشوه الصخور، وطينه النـحاس، يذاب ثم يُصبّ علـيه، فصار كأنه عِرْق من جبل تـحت الأرض، ثم علاه وشَرّفه بزُبَر الـحديد والنـحاس الـمذاب، وجعل خلاله عِرْقا من نـحاس أصفر، فصار كأنه بُرد مـحبّر من صفرة النـحاس وحمرته وسواد الـحديد فلـما فرغ منه وأحكمه، انطلق عامدا إلـى جماعة الإنس والـجنّ فبـينا هو يسير، دفع إلـى أمة صالـحة يهدون بـالـحقّ وبه يعدلون، فوجد أمة مقسطة مقتصدة، يقسمون بـالسوية، ويحكمون بـالعدل، ويتآسون ويتراحمون، حالهم واحدة، وكلـمتهم واحدة، وأخلاقهم مشتبهة، وطريقتهم مستقـيـمة، وقلوبهم متألفة، وسيرتهم حسنة، وقبورهم بأبواب بـيوتهم، ولـيس علـى بـيوتهم أبواب، ولـيس علـيهم أمراء، ولـيس بـينهم قضاة، ولـيس بـينهم أغنـياء، ولا ملوك، ولا أشراف، ولا يتفـاوتون، ولا يتفـاضلون، ولا يختلفون، ولا يتنازعون، ولا يستبّون، ولا يقتتلون، ولا يَقْحَطُون، ولا يحردون، ولا تصيبهم الاَفـات التـي تصيب الناس، وهم أطول الناس أعمارا، ولـيس فـيهم مسكين، ولا فقـير، ولا فظّ، ولا غلـيظ فلـما رأى ذلك ذو القرنـين من أمرهم، عجب منه وقال: أخبرونـي أيها القوم خبركم، فإنـي قد أحصيت الأرض كلها برّها وبحرها، وشرقها وغربها، ونورها وظلـمتها، فلـم أجد مثلكم، فأخبرونـي خبركم قالوا: نعم، فسلنا عما تريد، قال: أخبرونـي، ما بـال قبور موتاكم علـى أبواب بـيوتكم؟ قالوا: عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الـموت، ولا يخرج ذِكرُه من قلوبنا قال: فما بـال بـيوتكم لـيس علـيها أبواب؟ قالوا: لـيس فـينا متهم، ولـيس منا إلا أمين مؤتـمن قال: فما لكم لـيس علـيكم أمراء؟ قالوا: لا نتظالـم قال: فما بـالكم لـيس فـيكم حكام؟ قالوا: لا نـختصم قال: فما بـالكم لـيس فـيكم أغنـياء؟ قالوا: لا نتكاثر قال: فما بـالكم لـيس فـيكم ملوك؟ قالوا: لا نتكابر قال: فما بـالكم لا تتنازعون ولا تـختلفون؟ قالوا: من قِبَل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بـيننا قال: فما بـالكم لا تستَبّون ولا تقتتلون؟ قالوا: من قبل أنا غلبنا طبـائعنا بـالعزم، وسسنا أنفسنا بـالأحلام قال: فما بـالكم كلـمتكم واحدة، وطريقتكم مستقـيـمة مستوية؟ قالوا: من قبل أنا لا نتكاذب، ولا نتـخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضا قال: فأخبرونـي من أين تشابهت قلوبكم، واعتدلت سيرتكم؟ قالوا: صحّت صدورنا، فنزع بذلك الغلّ والـحسد من قلوبنا قال: فما بـالكم لـيس فـيكم مسكين ولا فقـير؟ قالوا: من قبل أنا نقتسم بـالسوية قال: فما بـالكم لـيس فـيكم فظّ ولا غلـيظ؟ قالوا: من قبل الذلّ والتواضع قال: فما جعلكم أطول الناس أعمارا؟ قالوا: من قِبَل أنا نتعاطى الـحقّ ونـحكم بـالعدل قال: فما بـالكم لا تُقْحَطون؟ قالوا: لا نغفل عن الاسغفـار قال: فما بـالكم لا تَـحْرَدون؟ قالوا: من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا، وأحببناه وحرصنا علـيه، فعرينا منه قال: فما بـالكم لا تصيبكم الاَفـات كما تصيب الناس؟ قالوا: لا نتوكل علـى غير اللّه ، ولا نعمل بـالأنواء والنـجوم قال: حدثونـي أهكذا وجدتـم آبـاءكم يفعلون؟ قالوا: نعم وجدنا آبـاءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، وَيعفون عمن ظلـمهم، ويُحسنون إلـى من أساء إلـيهم، ويحلُـمون عمن جهل علـيهم، ويستغفرون لـمن سبهم، ويَصِلون أرحامهم، ويؤدّون أماناتهم، ويحفظون وقتهم لصلاتهم، ويُوَفّون بعهودهم، ويَصدُقون فـي مواعيدهم، ولا يرغبون عن أكفـائهم، ولا يستنكفون عن أقاربهم، فأصلـح اللّه لهم بذلك أمرهم، وحفظهم ما كانوا أحياء، وكان حقا علـى اللّه أن يحفظهم فـي تركتهم.

١٧٥٩٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن أبـي رافع، عن أبـي هريرة، عن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ يَحْفُرُونَ السّدّ كُلّ يَوْمٍ، حتـى إذَا كادُوا يَرَوْنَ شُعاعَ الشّمْسِ قالَ الّذِي عَلَـيْهِمْ ارْجِعُوا فَتَـحْفِرُونَهُ غَدا، فَـيُعِيدُهُ اللّه وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ تَرَكُوهُ، حتـى إذَا جاءَ الوَقْتُ قالَ: إنْ شاءَ اللّه ، فَـيَحْفُرُونَهُ ويَخْرُجُون علـى النّاسِ، فَـيَنْشِفُونَ الـمِياهَ، ويَتَـحَصّنُ النّاسُ فِـي حُصُونِهِمْ، فَـيرْمُونَ بِسِهامِهِمْ إلـى السّماءِ، فَـيرْجِعُ فِـيها كَهَيْئَةِ الدّماءِ، فَـيَقُولُونَ: قَهَرْنا أهْلِ الأرْضِ، وَعَلَوْنا أهْلَ السّماءِ، فَـيَبْعَثُ اللّه عَلَـيْهِمْ نَغَفـا فِـي أقْـفـائِهمْ فَتَقْتُلُهُمْ) فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (والّذِي نَفْسُ مُـحَمّدٍ بِـيَدِهِ إنّ دَوَابّ الأرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكَرُ مِنْ لُـحُومِهِمْ) .

١٧٥٩٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاريّ ثم الظّفَريّ، عن مـحمود بن لبـيد أخي بنـي عبد الأشهل، عن أبـي سعيد الـخدري، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (يُفْتَـحُ يأْجُوجُ ومَأْجُوجُ فَـيَخْرُجُونَ علـى النّاسِ كمَا قالَ اللّه عَزّ وَجَلّ وَهُمْ مِنْ كُلّ حَدَبٍ يِنْسِلُونَ فَـيَغْشُونَ الأرْضَ، ويَنْـحازُ الـمُسْلِـمُونَ عَنْهُمْ إلـى مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَيَضُمّونَ إلَـيْهِمْ مَوَاشيَهُمْ، فَـيَشْرَبُونَ مِياهَ الأرْضِ، حتـى إنّ بَعْضَهُمْ لَـيَـمُرّ بـالنّهْرَ فَـيَشْرَبُونَ ما فِـيهِ، حتـى يَتْرُكُوهُ يابسا، حتـى إنّ بَعْدَهمْ لَـيَـمُرّ بِذلكَ النّهْرِ، فـيَقُولُ: لَقَدْ كانَ هَا هُنا ماءٌ مَرّةً، حتـى لَـمْ يَبْقَ مِنَ النّاسِ أحَدٌ إلاّ انْـحازَ إلـى حِصْنٍ أوْ مَدِينَةٍ، قالَ قائِلُهُمْ: هَولاءِ أهْلُ الأرْضِ قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ، بَقِـيَ أهْلُ السّمَاءِ، قالَ: ثُمّ يَهُزّ أحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ، ثُمّ يَرْمي بها إلـى السّماءِ، فَترْجِعُ إلَـيْهِ مُخَضّبَةً دَما للْبِلاءِ وَالفِتْنَةِ. فَبَـيّناهُمْ علـى ذلكَ، بَعَثَ اللّه عَلَـيْهِمْ دُودا فـي أعناقِهِمْ كالنّغَفِ، فَتَـخْرجُ فِـي أعْناقِهِمْ فِـيُصْبِحُونَ مَوْتَـى، لا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسّ، فَـيَقُولُ الـمُسلِـمُونَ: ألا رَجُلٌ يَشْري لَنا نَفْسَهُ، فَـيَنْظُرُ ما فعل العدوّ، قال: فَـيَتَـجَرّدُ رَجُلٌ مِنْهُمْ لذلكَ مُـحْتَسِبـا لِنَفْسِهِ، قَدْ وَطّنَها علـى أنّهُ مَقُتُولٌ، فـيَنْزِلُ فَـيَجِدُهُمْ مَوْتـى، بَعْضُهُمْ عَلـى بَعْضٍ، فَـيْنادي: يا مَعْشَرَ الـمُسْلِـمِينَ، ألا أبْشِرُوا، فإنّ اللّه قَدْ كَفـاكُمْ عَدُوّكُمْ، فـيَخْرُجونَ مِنْ مَدَائِنِهمْ وَحُصُونِهِمْ، وَيُسَرّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَمَا يَكُونُ لَهَا رَعْيٌ إلاّ لُـحُومُهُمْ، فَتَشْكَرُ عَنْهُمْ أحُسَنَ ما شَكَرَتْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النّبـاتِ أصَابَتْ قَطّ) .

١٧٥٩٤ـ حدثنـي بحر بن نصر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي معاوية، عن أبـي الزاهرية وشريح بن عبـيد: أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف: صنف طولهم كطول الأرز، وصنف طوله وعرضه سواء، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويـلتـحف بـالأخرى فتغطى سائر جسده.

١٧٥٩٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس : قالوا يا ذَا القَرْنَـيْنِ إنّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ قال: كان أبو سعيد الـخُدريّ يقول: إن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا يَـمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ حتـى يُولَدَ لِصُلْبِهِ ألْفُ رَجُلٍ) قال: وكان عبد اللّه بن مسعود يعجب من كثرتهم ويقول: لا يـموت من يأجوج ومأجوج أحد يولد له ألف رجل من صلبه.

فـالـخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه فـي قصة يأجوج ومأجوج، يدلّ علـى أن الذين قالوا لذي القرنـين إنّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ إنـما أعلـموه خوفَهم ما يُحدث منهم من الإفساد فـي الأرض، لا أنهم شَكَوا منهم فسادا كان منهم فـيهم أو فـي غيرهم، والأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد فـي الأرض، ولا دلالة فـيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنـين السدّ الذي أحدثه بـينهم وبـين من دونهم من الناس فـي الناس غيرهم إفساد.

فإذا كان ذلك كذلك بـالذي بـيّنا، فـالصحيح من تأويـل قوله إنّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ إن يأجوج ومأجوج سيفسدون فـي الأرض.

وقوله فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرْجا اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرْجا كأنهم نـحوا به نـحو الـمصدر من خَرْج الرأس، وذلك جعله. وقرأته عامّة قرّاء الكوفـيـين: (فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجا) بـالألف، وكأنهم نـحوا به نـحو الاسم، وعنوا به أجرة علـى بنائك لنا سدّا بـيننا وبـين هؤلاء القوم.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك عدنا بـالصواب قراءة من قرأه: (فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجا) بـالألف، لأن القوم فـيـما ذُكر عنهم، إنـما عرضوا علـى ذي القرنـين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به علـى بناء السدّ، وقد بـين ذلك ب قوله: فَأعِينُونِـي بقُوّةٍ أجْعَلْ بَـيْنَكُمْ وبَـيْنَهُمْ رَدْما ولـم يعرضوا علـيه جزية رؤوسهم. والـخراج عند العرب: هو الغلة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٩٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـيّ، عن ابن عباس (فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجا) قال: أجرا علَـى أنْ تَـجعَلَ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَهُمْ سَدّا.

١٧٥٩٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: (فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجا) قال: أجرا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة ، قوله: (فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجا) قال: أجرا.

و قوله: علَـى أنْ تَـجْعَلَ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَهُمْ سَدّا يقول: قالوا له: هل نـجعل لك خراجا حتـى أن تـجعل بـيننا وبـين يأجوج ومأجوج حاجزا يحجز بـيننا وبـينهم، ويـمنعهم من الـخروج إلـينا، وهو السدّ.

٩٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ مَا مَكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً }.

يقول تعالـى ذكره: قال ذو القرنـين: الذي مكننـي فـي عمل ما سألتـمونـي من السدّ بـينكم وبـين هؤلاء القوم ربـي، ووطأه لـي، وقوّانـي علـيه، خير من جُعلكم، والأجرة التـي تعرضونها علـيّ لبناء ذلك، وأكثر وأطيب، ولكن أعينونـي منكم بقوّة، أعينونـي بفَعلة وصناع يُحسنون البناء والعمل. كما:

١٧٥٩٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ما مَكّنّـي فِـيهِ رَبّـي خَيْرٌ فَأَعِينونـي بقُوَةٍ قال: برجال أجْعَلْ بَـيْنَكُمْ وَبَـيْنَهُمْ رَدْما وقال ما مكنـي، فأدغم إحدى النونـين فـي الأخرى، وإنـما هو ما مكننـي فـيه.

و قوله: أجعَلْ بَـيْنَكُمْ وَبَـيْنَهُمْ رَدْما يقول: أجعل بـينكم وبـين يأجوج ومأجوج ردما. والردم: حاجز الـحائط والسدّ، إلا أنه أمنع منه وأشدّ، يقال منه: قد ردم فلان موضع كذا يَردِمه رَدْما ورُداما ويقال أيضا: رَدّم ثوبه يردمه، وهو ثوب مُرَدّم: إذا كان كثـير الرقاع ومنه قول عنترة:

هَلْ غادَرَ الشّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدّمِأمْ هَلْ عَرَفْتَ الدّارَ بَعْدَ تَوَهّمِ

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٥٩٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: أجْعَلْ بَـيْنَكُمْ وَبَـيْنَهُمْ رَدْما قال: هو كأشدّ الـحجاب.

١٧٦٠٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبـيّ اللّه قد رأيت سدّ يأجوج ومأجوج، قال: (انْعَتْهُ لـي) ، قال: كأنه البرد الـمـحّبر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء، قالَ: (قَدْ رأيَتَهُ) .

٩٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتّىَ إِذَا سَاوَىَ بَيْنَ الصّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ ...}.

يقول عزّ ذكره: قال ذو القرنـين للذين سألوه أن يجعل بـينهم وبـين يأجوج ومأجوج سدّا آتونِـي أي جيئونـي بِزُبَر الـحديد، وهي جمع زُبْرة، والزّبْرة: القطعة من الـحديد. كما:

١٧٦٠١ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: زُبَرَ الـحَدِيدِ يقول: قطع الـحديد.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: آتُونِـي زُبَرَ الـحَدِيدِ قال: قطع الـحديد.

١٧٦٠٢ـ حدثنـي إسماعيـل بن سيف، قال: حدثنا علـيّ بن مسهر، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح، قوله: زُبَرَ الـحَدِيدِ قال: قطع الـحديد.

١٧٦٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسديّ، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى عن مـجاهد ، قوله: آتُونِـي زُبَرَ الـحَدِيدِ قال: قطع الـحديد.

١٧٦٠٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة آتُونِـي زُبَرُ الـحَدِيدِ: أي فَلَق الـحديث.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: آتُونِـي زُبَرُ الـحَدِيدِ قال: قطع الـحديد.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس : آتُونِـي زُبَرَ الـحَدِيدِ قال: قطع الـحديد.

و قوله: حتـى إذَا ساوَى بـينَ الصّدفَـيْنِ يقول عزّ ذكره: فآتُوهُ زُبَر الـحديد، فجعلها بـين الصدفـين حتـى إذا ساوى بـين الـجبلـين بـما جعل بـينهما من زُبر الـحديد، ويقال: سوّى. والصدفـان: ما بـين ناحيتـي الـجبلـين ورؤوسهما ومنه قوله الراجز:

قدْ أخَذَتْ ما بـينَ عَرْضِ الصّدُفَـيْنِناحِيَتَـيْها وأعالـي الرّكْنَـيْنِ

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٠٥ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله بـينَ الصّدَفَـيْنِ يقول: بـين الـجبلـين.

حدثنـي مـحمد، بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس : حتـى إذَا بَلَغَ بـينَ السّدّيْنِ قال: هو سدّ كان بـين صَدَفـين، والصدفـان: الـجبلان.

١٧٦٠٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: الصّدَفَـيْنِ رؤوس الـجبلـين.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٦٠٧ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا مُعاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: بـينَ الصّدَفَـيْنِ يعني الـجبلـين، وهما من قبل أرمينـية وأذربـيجان.

١٧٦٠٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة حتـى إذَا ساوَى بـينَ الصّدَفَـيْنِ وهما الـجبلان.

١٧٦٠٩ـ حدثنـي أحمد بن يوسف، قال: أخبرنا القاسم، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم أنه قرأها: بـينَ الصّدَفَـيْنِ منصوبة الصاد والدال، وقال: بـين الـجبلـين، وللعرب فـي الصدفـين: لغات ثلاث، وقد قرأ بكلّ واحدة منها جماعة من القراء: الفتـح فـي الصاد والدال، وذلك قراءة عامة قرّاء أهل الـمدينة والكوفة والضمّ فـيهما، وهي قراءة أهل البصرة والضم فـي الصاد وتسكين الدال، وذلك قراءة بعض أهل مكة والكوفة. والفتـح فـي الصاد والدال أشهر هذه اللغات، والقراءة بها أعجب إلـيّ، وإن كنت مستـجيزا القراءة بجميعها، لاتفـاق معانـيها. وإنـما اخترت الفتـح فـيهما لـما ذكرت من العلة.

و قوله: قالَ انْفُخُوا يقول عزّ ذكره، قال للفعلة: انفخوا النار علـى هذه الزّبر من الـحديد.

و قوله: حتـى إذَا جَعَلَهُ نارا وفـي الكلام متروك، وهو فنفخوا، حتـى إذا جعل ما بـين الصدفـين من الـحديد نارا قالَ آتُونِـي أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قَطْرا فـاختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة، وبعض أهل الكوفة: قالَ آتُونِـي بـمدّ الألف من آتُونِـي بـمعنى: أعطونـي قطرا أفرغ علـيه. وقرأه بعض قرّاء الكوفة، قال: (ائْتُونِـي) بوصل الألف، بـمعنى: جيئونـي قِطْرا أفرغ علـيه، كما علـيه: أخذت الـخطام، وأخذت بـالـخطام، وجئتك زيدا، وجئتك بزبر. وقد يتوجه معنى ذلك إذا قرىء كذلك إلـى معنى أعطونـي، فـيكون كأنه قارئه أراد مدّ الألف من آتونـي، فترك الهمزة الأولـى من آتونـي، وإذا سقطت الأولـى همز الثانـية.)

و قوله: أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قِطْرا يقول: أصبّ علـيه قطرا، والقِطْر: النّـحاس. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦١٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قِطْرا قال: القِطر: النـحاس.

١٧٦١١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، مثله.

١٧٦١٢ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا مُعاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قِطْرا: يعني النـحاس.

١٧٦١٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قِطْرا أي النـحاس لـيـلزمه به.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قِطْرا قال: نـحاسا.

وكان بعض أهل العلـم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: القِطر: الـحديد الـمذاب، ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر:

حُساما كَلَوْنِ الـمِلْـحِ صَافٍ حَديدُهجُزَارا مِنَ اقْطارِ الـحَديدِ الـمُنَعّتِ

٩٧

و قوله: فَمَا اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ يقول عزّ ذكره: فما اسطاع يأجوج ومأجوج أن يَعلُوا الردم الذي جعله ذو القرنـين حاجزا بـينهم، وبـين من دونهم من الناس، فـيصيروا فوقه وينزلوا منه إلـى الناس.

يقال منه: ظهر فلان فوق البـيت: إذا علاه ومنه قول الناس: ظهر فلان علـى فلان: إذا قهره وعلاه. وَما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبـا يقول: ولـم يستطيعوا أن ينقبوه من أسفله. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦١٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فَمَا اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ من قوله: وَما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبـا: أي من أسفله.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله فَمَا اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ قال: ما استطاعوا أن ينزعوه.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة فَمَا اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ قال: أن يرتقُوه وَما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبـا.

١٧٦١٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، فَمَا اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ قال: أن يرتقُوه وَما اسْتَطاعُوا لَهْ نَقْبـا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثن حجاج، عن ابن جريج فَمَا اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ قال: يعلوه وَما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبـا: أي ينقبوه من أسفله.

واختلف أهل العربـية فـي وجه حذف التاء من قوله: فَمَا اسْطاعُوا فقال بعض نـحويـي البصرة: فعل ذلك لأن لغة العرب أن تقول: اسطاع يسطيع، يريدون بها: استطاع يستطيع، ولكن حذفوا التاء إذا جُمعت مع الطاء ومخرجهما واحد. قال: وقال بعضهم: استاع، فحذف الطاء لذلك. وقال بعضهم: أسطاع يسطيع، فجعلها من القطع كأنها أطاع يطيع، فجعل السين عوضا من إسكان الواو. وقال بعض نـحويـيّ الكوفة: هذا حرف استعمل فكثر حتـى حذف.

٩٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ هَـَذَا رَحْمَةٌ مّن رّبّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً }.

يقول عزّ ذكره: فلـما رأى ذو القرنـين أن يأجوج ومأجوج لا يستطيعون أن يظهروا ما بنـي من الردم، ولا يقدرون عل نقبه، قال: هذا الذي بنـيته وسوّيته حاجزا بـين هذه الأمة، ومن دون الردم رحمة من ربـي رحم بها من دون الردم من الناس، فأعاننـي برحمته لهم حتـى بنـيته وسوّيته لـيكفّ بذلك غائلة هذه الأمة عنهم.

و قوله: فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبّـي جَعَلَهُ دَكّاءَ يقول: فإذا جاء وعد ربـي الذي جعله ميقاتا لظهور هذه الأمة وخروجها من وراء هذا الردم لهم، جعله دكاء، يقول: سوّاه بـالأرض، فألزقه بها، من قولهم: ناقة دكاء: مستوية الظهر لا سنام لها. وإنـما معنى الكلام: جعله مدكوكا، ف

قـيـل: دكاء. وكان قتادة يقول فـي ذلك ما:

١٧٦١٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فإذَا جاءَ وَعدُ رَبـي جَعَلَه دَكّاءَ قال: لا أدري الـجبلـين يعني به، أو ما بـينهما.

وذُكر أن ذلك يكون كذلك بعد قتل عيسى ابن مريـم علـيه السلام الدجال. ذكر من قال ذلك:

١٧٦١٧ـ حدثنـي أحمد بن إبراهيـم الدورقـي، قال: حدثنا هشيـم بن بشير، قال: أخبرنا العوّام، عن جبلة بن سحيـم، عن مؤثر، وهو ابن عفـارة العبدي، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لَقِـيتُ لَـيْـلَةَ الإسْرَاءِ إبْرَاهِيـمَ وَمُوسَى وَعيسَى فَتَذَاكرُوا أمْر السّاعَةِ، وَرَدّوا الأَمْرَ إلـى إبْرَاهِيـمَ فَقالَ إبْرَاهِيـمُ: لا عِلْـمَ لـي بِها، فَرَدّوا الأمْرَ إلـى مُوسَى، فقالَ مُوسَى: لا عِلْـمَ لـي بها، فَرَدّوا الأَمْرَ إلـى عِيسَى قالَ عِيسَى: أمّا قِـيامُ السّاعَةِ لا يَعْلَـمُهُ إلاّ اللّه ، وَلَكِنّ رَبّـي قَدْ عَهِدَ إلـيّ بِـمَا هُوَ كائِنٌ دُونَ وَقْتِها، عَهِدَ إلـيّ أنّ الدّجّالَ خارجٌ، وأنّهُ مُهْبطي إلَـيْه، فَذَكَرَ أنّ مَعَهُ قَصَبَتَـيْنِ، فإذَا رآنِـي أهْلَكَهُ اللّه ، قالَ: فَـيَذُوبُ كمَا يَذُوبُ الرّصَاصُ، حتـى إنّ الـحَجَرَ والشّجَرَ لَـيَقُولُ: يا مُسْلِـمُ هَذَا كافِرٌ فـاقْتُلْهُ، فَـيُهْلِكُهُمْ اللّه ، وَيَرْجِعُ الناسُ إلـى بِلادِهِمْ وأوْطانِهِمْ فَـيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجَ مِنْ كُلّ حَدْبٍ يَنْسِلُونَ، لا يَأْتُونَ عَلـى شَيْءٍ إلاّ أكَلُوهُ، وَالا يَـمُرّونَ عَلـى ماءِ إلاّ شَرِبُوهُ، فـيَرّجِعُ النّاسُ إلـيّ، فَـيَشْكُونَهُمْ، فأدْعُوا اللّه عَلَـيْهِمْ فَـيُـمِيتُهُمْ حتـى تَـجْوَى الأرْضُ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِمُ، فَـيَنْزِلُ الـمَطَرُ، فَـيَجُرّ أجْسادَهُمْ، فـيُـلْقِـيهِمْ فِـي البَحْرِ، ثُمّ يَنْسِفُ الـجِبـالَ حتـى تَكُونَ الأرْضُ كالأديـم، فَعَهِدَ إلـيّ رَبّـي أنّ ذلكَ إذا كان كذلك، فَإنّ السّاعَةَ مِنْهُمْ كالـحامِلِ الـمُتِـمّ الّتِـي لا يَدْرِي أهْلُها مَتـى تَفْجَوهُمْ بِوِلادِها، لَـيْلاً أوْ نَهارا) .

١٧٦١٨ـ حدثنـي عبـيد بن إسماعيـل، قال: حدثنا الـمـحاربـيّ، عن أصبع بن زيد، عن العوّام بن حوشب، عن جبلة بن سحيـم، عن مؤثر بن عَفـازَة، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: لـما أُسْري برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التقـي هو وإبراهيـم وموسى وعيسى علـيهم السلام. فتذاكروا أمر الساعة. فذكر نـحو حديث إبراهيـم الدورقـي عن هشيـم، وزاد فـيه: قال العوّام بن حوشب: فوجدت تصديق ذلك فـي كتاب اللّه تعالـى، قال اللّه عزّ وجلّ: حتـى إذَا فُتِـحَتْ يأْجُوجُ ومَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الـحَقّ فإذَا هِيَ شاخِصَةٌ أبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُوا وقال: فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبّـي جَعَلَهُ دَكّاءَ وكانَ وَعْدُ رَبّـي حَقّا يقول: وكان وعد ربـي الذي وعد خـلقه فـي دكّ هذا الردم، وخروج هؤلاء القوم علـى الناس، وعيثهم فـيه، وغير ذلك من وعده حقا، لأنه لا يخـلف الـميعاد فلا يقع غير ما وعد أنه كائن.

٩٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً }.

يقول تعالـى ذكره: وتركنا عبـادنا يوم يأتـيهم وعدنا الذي وعدناهم، بأنا ندكّ الـجبـال ونَنْسِفها عن الأرض نسفـا، فنذرها قاعا صفصفـا، بعضهم يـموج فـي بعض، يقول: يختلط جنهم بإنسهم. كما:

١٧٦١٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن هارون بن عنترة، عن شيخ من بنـي فزارة، فـي قوله: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَـمُوجُ فـي بَعْضٍ قال: إذا ماج الـجنّ والإنس، قال إبلـيس: فأنا أعلـم لكم علـم هذا الأمر، فـيظعن إلـى الـمشرق، فـيجد الـملائكة قد قطعوا الأرض، ثم يظعن إلـى الـمغرب، فـيجد الـملائكة قد قطعوا الأرض، ثم يصعد يـمينا وشمالاً إلـى أقصى الأرض، فـيجد الـملائكة قطعوا الأرض، فـيقول: ما من مَـحِيص، فبـينا هو كذلك، إذ عرض له طريق كالشراك، فأخذ علـيه هو وذريّته، فبـينـما هم علـيه، إذ هجموا علـى النار، فأخرج اللّه خازنا من خُزّان النار، قال: يا إبلـيس ألـم تكن لك الـمنزلة عند ربك، ألـم تكن فـي الـجنان؟ فـيقول: لـيس هذا يوم عتاب، لو أن اللّه فرض علـيّ فريضة لعبدته فـيها عبـادة لـم يعبده مثلها أحد من خـلقه، فـيقول: فإن اللّه قد فرض علـيك فريضة، فـيقول: ما هي؟ فـيقول: يأمرك أن تدخـل النار، فـيتلكأ علـيه، فـيقول به وبذرّيته بجناحيه، فـيقذفهم فـي النار، فَتزفر النار زفرة فلا يبقـى مَلَك مقرّب، ولا نبـيّ مرسل إلا جثى لركبتـيه.

١٧٦٢٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَـمُوجُ فـي بَعْضٍ قال: هذا أوّل القـيامة، ثم نفخ فـي الصور علـى أثر ذلك فجمعناهم جمعا.

وَنُفِخَ فِـي الصّورِ قد ذكرنا اختلاف أهل التأويـل فـيـما مضى فـي الصّور، وما هو، وما عُنِـي به. واخترنا الصواب من القول فـي ذلك بشواهده الـمغنـية عن إعادته فـي هذا الـموضع، غير أنا نذكر فـي هذا الـموضع بعض ما لـم نذكر فـي ذلك الـموضع من الأخبـار. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٢١ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، قال: حدثنا أسلـم، عن بشر بن شغاف، عن عبد اللّه بن عمرو، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن أعرابـيا سأله عن الصّور، قال: (قَرْنٌ يُنْفَخُ فِـيهِ) .

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن سفـيان، عن سلـيـمان التـيـميّ، عن العجلـي، عن بشر بن شغاف، عن عبد اللّه بن عمرو، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، بنـحوه.

١٧٦٢٢ـ حدثنا مـحمد بن الـحارث القنطري، قال: حدثنا يحيى بن أبـي بكير، قال: كنت فـي جنازة عمر بن ذرّ فلقـيت مالك بن مغول، فحدثنا عن عطية العوفـي، عن أبـي سعيد الـخُدريّ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ وَحَنى الـجَبْهَةَ، وأصْغَى بـالأذُنُ مَتـى يُوءْمَرُ) فشقّ ذلك علـى أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: (قُولُوا حَسْبُنا اللّه وَعَلـى اللّه تَوَكّلْنا، ولوِ اجْتَـمَعَ أهْلُ مِنًى ما أقالُوا ذلكَ القَرْنَ) كذا قال، وإنـما هو ماأقلوا.

حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا حفص، عن الـحجاج، عن عطية، عن أبـي سعيد الـخُدريّ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَم القَرْنَ، وَحَنى ظَهْرَهُ وَجَحَظَ بعَيْنَـيْهِ) ، قالوا: ما نقول يارسول اللّه ؟ قال: (قُولُوا: حَسْبُنا اللّه ، تَوَكّلْنا علَـى اللّه ) .

١٧٦٢٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن مطرف، عن عطية، عن ابن عباس ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْن قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ، وَحَنى جَبْهَتَهُ، يَسْتَـمِعُ مَتـى يُوءْمَرُ فَـيَنْفُخُ فِـيهِ) ، فقال أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فكيف نقول؟ قال: (تَقُولُونَ: حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الوَكِيـلُ، تَوَكّلنا علـى اللّه ) .

حدثنا أبو كريب والـحسن بن عرفة، قالا: حدثنا أسبـاط، عن مطرف، عن عطية، عن ابن عباس ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، مثله.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا شعيب بن حرب، قال: حدثنا خالد أبو العلاء، قال: حدثنا عطية العوفـيّ، عن أبـي سعيد الـخُدريّ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنى الـجَبْهَةَ، وأصْغَى بـالأُذُنِ مَتـى يُوءْمَرُ أنْ يَنْفُخَ، وَلَوْ أنّ أهْلَ مِنًى اجْتَـمَعُوا علـى القَرْنَ علَـى أنْ يُقِلّوهُ مِنَ الأرْضِ، ما قَدَرُوا عَلَـيْهِ) قال: فأُبِلسَ أصحابُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وشقّ علـيهم، قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (قُولُوا: حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الوَكِيـلُ، عَلـى اللّه تَوَكّلْنا) .

١٧٦٢٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـيّ، عن إسماعيـل بن رافع الـمدنـي، عن يزيد بن فلان، عن رجل من الأنصار، عن مـحمد بن كعب الْقُرَظيّ، عن رجل من الأنصار، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لَـمّا فَرَغَ اللّه مِنْ خَـلْقِ السّمَوَاتِ وّلأرْضِ، خَـلَقَ الصّورَ، فأعْطاهُ إسْرَافِـيـلَ، فَهُوَ وَضَعَهُ عَلـى فِـيهِ شاخِصٌ بَصَرُهُ إلـى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتـى يُوءْمَرُ) . قال أبو هريرة: يا رسول اللّه ، ما الصّور؟ قال: (قَرْنٌ) . قال: وكيف هو؟ قال: (قَرْنٌ عَظِيـمٌ يُنْفَخُ فِـيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ: الأُولـى: نَفْخَةُ الفَزَعِ، والثّانِـيَةُ: نَفْخَةُ الصّعْقِ، والثّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِـيامِ لِرَبّ العالَـمِينَ) .

و قوله: فَجَمَعْناهُمْ جَمْعا يقول: فجمعنا جميع الـخـلق حينئذ لـموقـف الـحساب جميعا.

١٠٠

و قوله: وعَرَضْنا جَهَنّـمَ يَوْمَئِذٍ للكافِرِينَ عَرْضا يقول: وأبرزنا جهنـم يوم ينفخ فـي الصور، فأظهرناها للكافرين بـاللّه ، حتـى يروها ويعاينوها كهيئة السراب ولو جعل الفعل لها

قـيـل: أعرضت إذا استبـانت، كما قال عمرو بن كلثوم:

وأعْرَضَتِ الـيَـمامَةُ واشْمَخَرّتْكأسْيافٍ بأيْدِي مُصْلِتِـينا

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٢٥ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن سلـمة بن كهيـل، قال: حدثنا أبو الزعراء، عن عبد اللّه ، قال: يقوم الـخـلق للّه إذا نفخ فـي الصور، قـيام رجل واحد، ثم يتـمثّل اللّه عزّ وجلّ فما يـلقاه أحد من الـخلائق كان يعبد من دون اللّه شيئا إلا وهو مرفوع له يتبعه، قال: فـيـلقـى الـيهود فـيقول: من تعبدون؟ قال: فـيقولون: نعبد عُزَيرا، قال: فـيقول: هل يسركم الـماء؟ فـيقولون نعم، فـيريهم جهنـم وهي كهيئة السراب، ثم قرأ وَعَرَضْنا جَهَنّـمَ يَوْمَئِذٍ للكافِرِينَ عَرْضا ثم يـلقـى النصارى فـيقول: من تعبدون؟ فـيقولون: نعبد الـمسيح، فـيقول: هل يسركم الـماء، فـيقولون نعم، قال: فـيريهم جهنـم وهي كهيئة السراب، ثم كذلك لـمن كان يعبد من دون اللّه شيئا، ثم قرأ عبد اللّه وَقِـفوهُم إنّهُمْ مَسْئُولُونَ.

١٠١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً }.

يقول تعالـى: وعرضنا جهنـم يومئذ للكافرين الذين كانوا لا ينظرون فـي آيات اللّه ، فـيتفكّرون فـيها ولا يتأمّلون حججه، فـيعتبرون بها، فـيتذكرون وينـيبون إلـى توحيد اللّه ، وينقادون لأمره ونهيه، وكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعا يقول: وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر اللّه الذي ذكّرهم به، وبـيانه الذي بـيّنه لهم فـي إي كتابه، بخذلان اللّه إياهم، وغلبة الشقاء علـيهم، وشُغْلِهم بـالكفر بـاللّه وطاعة الشيطان، فـيتعظون به، ويتدبّرونه، فـيعرفون الهدى من الضلالة، والكفر من الإيـمان. وكان مـجاهد يقول فـي ذلك ما:

١٧٦٢٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعا قال: لا يعقلون.

١٧٦٢٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد وكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعا قال: لا يعلـمون.

١٧٦٢٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله الّذِينَ كانَت أعْيُنُهُمْ فـي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِى... الاَية، قال: هؤلاء أهل الكفر.

١٠٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَحَسِبَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَن يَتّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيَ أَوْلِيَآءَ إِنّآ أَعْتَدْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً }.

يقول عزّ ذكره: أفظن الذين كفروا بـاللّه من عبدة الـملائكة والـمسيح، أن يتـخذوا عبـادي الذين عبدوهم من دون اللّه أولـياء، يقول كلا بل هم لهم أعداء. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٢٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، فـي قوله: أفَحَسِبَ الّذينَ كَفَرُوا أنْ يَتّـخِذُوا عِبـادِي مِنْ دُونِـي أوْلِـياءَ قال: يعني من يعبد الـمسيح ابن مريـم والـملائكة، وهم عبـاد اللّه ، ولـم يكونوا للكفـار أولـياء. وبهذه القراءة، أعنـي بكسر السين من أفَحَسبَ بـمعنى الظنّ قرأت هذا الـحرف قرّاء الأمصار. ورُوي عن علـيّ بن أبـي طالب رضي اللّه عنه وعكرِمة ومـجاهد أنهم قرءوا ذلك أفَحَسْبُ الّذيِنَ كَفَرُوا بتسكين السين، ورفع الـحرف بعدها، بـمعنى: أفحسبهم ذلك: أي أفكفـاهم أن يتـخذوا عبـادي من دونـي أولـياء من عبـاداتـي وموالاتـي. كما:

١٧٦٣٠ـ حُدثت عن إسحاق بن يوسف الأزرق، عن عمران بن حدير، عن عكرمة أفَحَسْبُ الّذينَ كَفَرُوا قال: أفحسبهم ذلك.

والقراءة التـي نقرؤها هي القراءة التـي علـيها قرّاء الأمصار أفَحَسِبَ الّذِينَ بكسر السين، بـمعنى أفظنّ، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها.

و قوله: إنّا أعْتَدْنا جَهَنّـمَ للْكافِرِينَ نُزُلاً يقول: أعددنا لـمن كفر بـاللّه جهنـم منزلاً.

١٠٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قُلْ يا مـحمد لهؤلاء الذين يبغون عَنَتَك ويجادلونك بـالبـاطل، ويحاورونك بـالـمسائل من أهل الكتابـين: الـيهود، والنصارى هَلْ نُنَبّئُكُمْ أيها القوم بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً يعني بـالذين أتعبوا أنفسهم فـي عمل يبغون به ربحا وفضلاً، فنالوا به عَطَبـا وهلاكا ولـم يدركوا طلبـا، كالـمشتري سلعة يرجو بها فضلاً وربحا، فخاب رجاؤه، وخسر بـيعه، ووكس فـي الذي رجا فضله.

واختلف أهل التأويـل فـي الذين عُنوا بذلك، فقال بعضهم: عُنِـي به الرهبـانْ والقسوس. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٣١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـمقبري، قال: حدثنا حيوة بن شريح، قال: أخبرنـي السكن بن أبـي كريـمة، أن أمه أخبرته أنها سمعت أبـا خميصة عبد اللّه بن قـيس يقول: سمعت علـيّ بن أبـي طالب يقول فـي هذه الاَية قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً: هم الرهبـان الذين حبسوا أنفسهم فـي الصوامع.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت حيوة يقول: ثنـي السكن بن أبـي كريـمة، عن أمه أخبرته أنها سمعت عبد اللّه بن قـيس يقول: سمعت علـيّ بن أبـي طالب يقول، فذكر نـحوه.

١٧٦٣٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن هلال بن يِساف، عن مصعب بن سعد، قال: قلت لأبـي: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا أهم الـحَرورية؟ قال: هم أصحاب الصوامع.

١٧٦٣٣ـ حدثنا فضالة بن الفضل، قال: قال بزيع: سأل رجل الضحاك عن هذه الاَية قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً قال: هم القِسيسون والرهبـان.

١٧٦٣٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن منصور، عن هلال بن يِساف، عن مصعب بن سعد، قال: قال سعد: هم أصحاب الصوامع.

حدثنا ابن حميد، قال حدثنا جرير، عن منصور، عن ابن سعد، قال: قلت لسعد: يا أبت هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً أهم الـحَرورية، فقال: لا، ولكنهم أصحاب الصوامع، ولكن الـحَرورية قوم زاغوا فأزاغ اللّه قلوبهم.

وقال آخرون: بل هم جميع أهل الكتابـين. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٣٥ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مصعب بن سعد، قال: سألت أبـي عن هذه الاَية قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً الّذينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فـي الـحَياةِ الدّنْـيا أهم الـحَرورية؟ قال: لا، هم أهل الكتاب، الـيهود والنصارى. أما الـيهود فكذبوا بـمـحمد. وأما النصارى فكفروا بـالـجنة وقالوا: لـيس فـيها طعام ولا شراب، ولكن الـحَرورية الّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقَطْعُونَ ما أمَرَ اللّه بِهِ أنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فـي الأرض أُولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ فكان سعد يسميهم الفـاسقـين.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن إبراهيـم بن أبـي حُرّة عن مصعب بن سعد بن أبـي وقاص، عن أبـيه، فـي قوله قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً قال: هم الـيهود والنصارى.

١٧٦٣٦ـ حدثنا القاسم، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن أبـي حرب بن أبـي الأسود عن زاذان، عن علـيّ بن أبـي طالب، أنه سئل عن قوله: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً قال: هم كفرة أهل الكتاب كان أوائلهم علـى حقّ، فأشركوا بربهم، وابتدعوا فـي دينهم، الذين يجتهدون فـي البـاطل، ويحسبون أنهم علـى حقّ، ويجتهدون فـي الضلالة، ويحسبون أنهم علـى هدى، فضلّ سعيهم فـي الـحياة الدنـيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ثم رفعِ صوته، فقال: وما أهل النار منهم ببعيد. وقال آخرون: بل هم الـخوارج. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٣٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفـيان بن سَلَـمة، عن سلـمة بن كُهَيـل، عن أبـي الطفـيـل، قال: سأل عبد اللّه بن الكوّاء علـيا عن قوله: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً قال: أنتـم يا أهل حَروراء.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، عن أبـي صخر، عن أبـي معاوية البجلـي، عن أبـي الصهبـاء البكريّ، عن علـيّ بن أبـي طالب، أن ابن الكوّاء سأله، عن قول اللّه عزّ وجلّ: هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً فقال علـيّ: أنت وأصحابك.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن سلـمة بن كهيـل، عن أبـي الطفـيـل، قال: قام ابن الكوّاء إلـى علـيّ، فقال: مَن الأخسرين أعمالاً الذي ضلّ سعيهم فـي الـحياة الدنـيا، وهم يحسبون أنهم يحسبون صنعا، قال: ويْـلَك أهلُ حَروراء منهم.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن خالد ابن عَثْمة، قال: حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد اللّه ، قال: ثنـي أبو الـحويرث، عن نافع بن جبـير بن مطعم، قال: قال ابن الكوّاء لعلـيّ بن أبـي طالب: ما الأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم فـي الـحياة الدنـيا؟ قال: أنت وأصحابك.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا، أن يقال: إن اللّه عزّ وجلّ عنى ب قوله: هَلْ نُنَبّئُكُمْ بـالأَخْسَرِينَ أعمالاً كلّ عامل عملاً يحسبه فـيه مصيبـا، وأنه اللّه بفعله ذلك مطيع مرض، وهو بفعله ذلك اللّه مسخط، وعن طريق أهل الإيـمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الاجتهاد فـي ضلالتهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بـاللّه كفرة، من أهل أيّ دين كانوا.

وقد اختلف أهل العربـية فـي وجه نصب قوله أعمالاً، فكان بعض نـحويـي البصرة يقول: نصب ذلك لأنه لـما أدخـل الألف واللام والنون فـي الأخسرين لـم يوصل إلـى الإضافة، وكانت الأعمال من الأخسرين فلذلك نصب. وقال غيره: هذا بـاب الأفعل والفُعْلَـى، مثل الأفضل والفُضْلَـى، والأخسر والـخُسْرَى، ولا تدخـل فـيه الواو، ولا يكون فـيه مفسر، لأنه قد انفصل بـمن هو كقوله الأفضل والفُضْلَـى، وإذا جاء معه مفسر كان للأوّل والاَخر، وقال: ألا ترى أنك تقول: مررت برجل حَسَنٍ وجها، فـيكون الـحسن للرجل والوجه، وكذلك كبـير عقلاً، وما أشبهه قال: وإنـما جاز فـي الأخسرين، لأنه ردّه إلـى الأفْعَل والأَفَعَلة. قال: وسمعت العرب تقول: الأوّلات دخولاً، والاَخرات خروجا، فصار للأوّل والثانـي كسائر البـاب قال: وعلـى هذا يقاس.

١٠٤

و قوله: الّذيِنَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فـي الـحَياةِ الدّنْـيا يقول: هم الذين لـم يكن عملهم الذي عملوه فـي حياتهم الدنـيا علـى هدى واستقامة، بل كان علـى جور وضلالة، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم اللّه به بل علـى كفر منهم به، وهُمْ يحسَبُونَ أنّهُمْ يُحسِنُونَ صُنْعا يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك للّه مطيعون، وفـيـما ندب عبـاده إلـيه مـجتهدون، وهذا من أدلّ الدلائل علـى خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بـاللّه أحد إلا من حيث يقصد إلـى الكفر بعد العلـم بوحدانـيته، وذلك أن اللّه تعالـى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم فـي هذه الاَية، أن سعيهم الذي سعوا فـي الدنـيا ذهب ضلالاً، وقد كانوا يحسبون أنهم مـحسنون فـي صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم. ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بـاللّه أحد إلا من حيث يعلـم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم فـي عملهم الذي أخبر اللّه عنهم أنهم كانوا يحسبون فـيه أنهم يحسنون صنعه، كانوا مثابـين مأجورين علـيها، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بـاللّه كفرة، وأن أعمالهم حابطة. وزعنـي ب قوله: أنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا عملاً، والصنّع والصنّعة والصنـيع واحد، يقال: فرس صنـيع بـمعنى مصنوع.

١٠٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً }.

يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا صفتهم، الأخسرون أعمالاً، الذين كفروا بحُجج ربهم وأدلته، وأنكروا لقاءه فَحَبِطَتْ أعمالهُمْ يقول: فبطلت أعمالهم، فلـم يكن لها ثواب ينفع أصحابها فـي الاَخرة، بل لهم منها عذاب وخِزي طويـل فَلا نُقِـيـمُ لَهُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ وَزْنا

يقول تعالـى ذكره: فلا نـجعل لهم ثقلاً. وإنـما عنى بذلك: أنهم لا تثقل بهم موازينهم، لأن الـموازين إنـما تثقل بـالأعمال الصالـحة، ولـيس لهؤلاء شيء من الأعمال الصالـحة، فتثقل به موازينهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٣٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن شمر، عن أبـي يحيى عن كعب، قال: يؤتـى يوم القـيامة برجل عظيـم طويـل، فلا يزن عند اللّه جناح بعوضة، اقرأوا: فَلا نُقِـيـمُ لَهُمْ القـيامَةِ وَزْنا.

١٧٦٣٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن الصلت، قال: حدثنا ابن أبـي الزناد، عن صالـح مولـى التوأمة، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول صلى اللّه عليه وسلم : (يُؤْتَـى بـالأَكُولِ الشّرُوب الطّوِيـلِ، فَـيُوزَنُ فَلا يَزِنُ جَناحَ بَعُوضَةٍ) ثم قرأ فَلا نُقِـيـمُ لَهُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ وَزْنا

١٠٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتّخَذُوَاْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً }.

يقول تعالـى ذكره: أولئك ثوابهم جهنـم بكفرهم بـاللّه ، واتـخاذهم آيات كتابه، وحجج رسله سُخْريا، واستهزائهم برسله.

١٠٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً }.

يقول تعالـى ذكره: إن الذين صدقوا بـاللّه ورسوله، وأقرّوا بتوحيد اللّه وما أنزل من كتبه وعملوا بطاعته، كانت لهم بساتـين الفردوس، والفردوس: معظم الـجنة، كما قال أمية:

كانَتْ مَنازِلُهُمْ إذْ ذاكَ ظاهِرَةًفِـيها الفَراديسُ والفُومانُ والبَصَلُ

واختلف أهل التأويـل فـي معنى الفردوس فقال بعضهم: عنى به أفضل الـجنة وأوسطها. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٤٠ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عباس بن الولـيد، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة ، قال: الفردوس: رَبوة الـجنة وأوسطها وأفضلها.

١٧٦٤١ـ حدثنا أحمد بن سريج الرازي، قال: حدثنا الهيثم أبو بشر، قال: أخبرنا الفرج بن فضالة، عن لقمان، عن عامر، قال: سئل أبو أسامة عن الفردوس، فقال: هي سرّة الـجنة.

١٧٦٤٢ـ حدثنا أحمد بن أبـي سريج، قال: حدثنا حماد بن عمرو النصيبـي، عن أبـي علـيّ، عن كعب، قال: لـيس فـي الـجنان جنة أعلـى من جنة الفردوس، وفـيها الاَمرون بـالـمعروف، والناهون عن الـمنكر.

وقال آخرون: هو البستان بـالرومية. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٤٣ـ حدثنـي علـيّ بن سهل الرملـي، قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج، عن عبد اللّه بن كثـير، عن مـجاهد ، قال: الفردوس: بستان بـالرومية.

حدثنا العباس بن مـحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: ابن جريج: أخبرنـي عبد اللّه عن مـجاهد ، مثله.

وقال آخرون: هو البستان الذي فـيه الأعناب. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٤٤ـ حدثنا عباس بن مـحمد، قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد، عن الأعمش، عن يزيد بن أبـي زياد، عن عبد اللّه بن الـحارث، عن كعب، قال: جنات الفردوس التـي فـيها الأعناب.

والصواب من القول فـي ذلك، ما تظاهرت به الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . وذلك ما:

١٧٦٤٥ـ حدثنا به أحمد بن أبـي سريج، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا همام بن يحيى، قال: حدثنا زيد بن أسلـم، عن عطاء بن يسار، عن عبـادة بن الصامت، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (الـجَنّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ، ما بـينَ كُلّ دَرَجَتَـينِ مَسِيرَةُ عامٍ والفِرْدَوْسُ أعْلاها دَرَجَةً، وَمِنْها الأنهَارُ الأرْبَعَةُ، والفِرْدَوْسُ مِنْ فَوْقِها، فإذَا سألْتُـمُ اللّه فـاسألُوهُ الفِرْدَوْسَ) .

حدثنا موسى بن سهل، قال: حدثنا موسى بن داود، قال: حدثنا همام بن يحيى، عن زيد بن أسلـم، عن عطاء بن يسار، عن عُبـادة بن الصامت، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (الـجَنّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ ما بـينَ كُلّ دَرَجَتَـينِ كمَا بـينَ السّماءِ والأرْضِ، أعْلاها الفِرْدَوْسُ، ومِنْها تُفَجّر أنهَارُ الـجَنّةِ الأرْبَعَةُ، فإذَا سألْتُـمُ اللّه فـاسألُوهُ الفِرْدَوْسَ) .

١٧٦٤٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي أبو يحيى بن سلـيـمان، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن أبـي هريرة، أو أبـي سعيد الـخُدريّ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إذَا سألْتُـمُ اللّه فـاسألُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنّها أوْسَطُ الـجَنّةِ وأعْلَـى الـجَنّةِ، وَفَوْقَها عَرْشُ الرّحْمنِ تَبـارَكَ وَتَعالـى، ومِنْهُ تَفَجّرُ أنهارُ الـجَنّةِ) .

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا فلـيح، عن هلال، عن عبد الرحمن بن أبـي عمرة، عن أبـي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مثله، إلا أنه قال: (وَسَطُ الـجَنّةِ) وقالَ أيضا: (وَمِنهُ تُفَجّرُ أو تَتَفَجّرُ) .

١٧٦٤٧ـ حدثنـي عمار بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا يحيى بن صالـح، قال: حدثنا عبد العزيز بن مـحمد، قال: حدثنا زيد بن أسلـم، عن عطاء بن يسار، عن معاذ بن جبل، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّ فِـي الـجَنّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، ما بـينَ كُلّ دَرَجَتَـينِ كمَا بـينَ السّماءِ والأرْضِ، والفِرْدَوْسُ أعْلَـى الـجنّةِ وأوْسَطُها، وفَوْقُها عَرْشُ الرّحْمنِ، ومِنْها تَفَجّر أنهَارُ الـجَنّةِ، فإذَا سألْتُـمُ اللّه فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ) .

١٧٦٤٨ـ حدثنا أحمد بن منصور، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا الـحارث بن عمير، عن أبـيه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ أرْبَعَةٌ، اثْنَتانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْـيَتُهُما وآنِـيَتُهُما، وَما فِـيهِما مِنْ شَيْءٍ، وَاثْنَتانِ مِنْ فِضّةٍ حِلْـيَتُهُما وآنِـيَتُهُما، وَما فِـيهِما مِنْ شَيْءٍ) .

١٧٦٤٩ـ حدثنا أحمد بن أبـي سريج، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا أبو قدامة، عن أبـي عمران الـجونـي، عن أبـي بكر بن عبد اللّه بن قـيس، عن أبـيه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ أرْبَعٌ: ثِنْتانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْـيَتهُما وآنِـيَتُهُما وَما فِـيهِما، وَثِنْتانِ مِنْ فِضّةٍ حِلْـيَتُهُما وآنِـيَتُهُما وَما فِـيهِما) .

١٧٦٥٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن حفص، عن شمر، قال: خـلق اللّه جنة الفردوس بـيده، فهو يفتـحها فـي كلّ يوم خميس، فـيقول: ازدادي طيبـا لأولـيائي، ازدادي حسنا لأولـيائي.

حدثنا ابن البرقـيّ، قال: حدثنا ابن أبـي مريـم، قال: أخبرنا مـحمد بن جعفر وابن الدراورديّ، قالا: حدثنا زيد بن أسلـم، عن عطاء بن يسار، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنّ للْـجَنّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، كُلّ دَرَجَةٍ مِنْها كَمَا بـينَ السّماءِ والأرْضِ، أعْلَـى دَرَجَةً مِنْها الفِرْدَوْسُ) .

١٧٦٥١ـ حدثنـي أحمد بن يحيى الصوفـيّ، قال: حدثنا أحمد بن الفرج الطائيّ، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة ، عن الـحسن، عن سَمُرة بن جُنْدَب، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (الفِرْدَوْسُ مِنْ رَبْوَةِ الـجَنّةِ، هِيَ أوْسَطُها وأحْسَنُها) .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، قال: أنبأنا إسماعيـل بن مسلـم، عن الـحسن، عن سمرة بن جندب، قال: أخبرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أنّ الفِرْدَوْسَ هِيَ أعْلَـى الـجَنّةِ وأحْسَنُها وأرْفَعُها) .

١٧٦٥٢ـ حدثنـي مـحمد بن مرزوق، قال: حدثنا روح بن عبـادة، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن أنس بن مالك أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال للربـيع ابنة النضر: (يا أُمّ حارثَةَ، إنّها جِنانٌ، وإنّ ابْنَكِ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَـى) . والفردوس: ربوة الـجنة وأوسطها وأفضلها.

و قوله: نُزُلاً يقول: منازل ومساكن، والـمنزل: من النزول، وهو من نزول بعض الناس علـى بعض. وأما النّزْل: فهو الرّيْع، يقال: ما لطعامكم هذا نَزْل، يراد به الرّيْع، وما وجدنا عندكم نزلاً: أي نزولاً.

١٠٨

و قوله: خالِدِينَ يقول: لابثـين فـيها أبدا لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً يقول: لا يريدون عنها تـحوّلاً، وهو مصدر تـحوّلت، أخرج إلـى أصله، كما يقال: صغُر يصغُر صِغَرا، وعاج يعوج عِوَجا.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٥٣ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً قال: متـحوّلاً.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، بنـحوه.

١٧٦٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: سمعت مخـلد بن الـحسين يقول: وسئل عنها، قال: سمعت بعض أصحاب أنس يقول: قال: (يقول أوّلهم دخولاً إنـما أدخـلنـي اللّه أوّلهم، لأنه لـيس أحد أفضل منـي، ويقول آخرهم دخولاً: إنـما أخرنـي اللّه ، لأنه لـيس أحد أعطاه اللّه مثل الذي أعطانـي) .

١٠٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُل لّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً }.

يقول عز ذُكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قُلْ يا مـحمد: لَوْ كانَ البَحْرُ مِدَادا لِلقلـم الذي يُكتب به كَلِـماتِ رَبّـي لَنَفِدَ ماء البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِـماتُ رَبّـي وَلَوْ جِئْنَا بِـمِثْلِهِ مددا يقول: ولو مددنا البحر بـمثل ما فـيه من الـماء مددا، من قول القائل: جئتك مددا لك، وذلك من معنى الزيادة. وقد ذُكر عن بعضهم: ولو جئنا بـمثله مددا، كأن قارىء ذلك كذلك أراد: لنفد البحر قبل أن تنفد كلـمات ربـي، ولو زدنا بـمثل ما فـيه من الـمداد الذي يكتب به مدادا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٥٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحارث قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: البَحْرُ مِدَادا لكلـمات ربـي للقلـم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٦٥٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: لَوْ كانَ البَحْرُ مِدَادا لكَلِـماتِ رَبّـي يقول: إذا لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلـمات اللّه وحكمه.

١١٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا }.

يقول تعالـى ذكره: قل لهؤلاء الـمشركين يا مـحمد: إنـما أنا بشر مثلكم من بنـي آدم لا علـم لـي إلا ما علـمنـي اللّه وإن اللّه يوحي إلـيّ أن معبودكم الذي يجب علـيكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، معبود واحد لا ثانـي له، ولا شريك فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّهِ يقول: فمن يخاف ربه يوم لقائه، ويراقبه علـى معاصيه، ويرجوا ثوابه علـى طاعته فَلْـيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِـحا يقول: فلـيخـلص له العبـادة، ولـيفرد له الربوبـية. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٥٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الربـيع بن أبـي راشد، عن سعيد بن جبـير فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّهِ قال: ثواب ربه.

و قوله: وَلا يُشْرِكْ بِعِبـادَةِ رَبّهِ أحَدا يقول: ولا يجعل له شريكا فـي عبـادته إياه، وإنـما يكون جاعلاً له شريكا بعبـادته إذا راءى بعمله الذي ظاهره أنه للّه وهو مريد به غيره. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٥٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عمرو بن عبـيد، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس وَلا يُشْرِكْ بِعِبـادَةِ رَبّهِ أحَدا.

١٧٦٥٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان وَلا يُشْرِكْ بِعِبـادَةِ رَبّهِ أحَدا قال: لا يرائي.

١٧٦٦٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريـم الـجزري، عن طاوس، قال: جاء رجل، فقال: يا نبـيّ اللّه إنـي أحبّ الـجهاد فـي سبـيـل اللّه ، وأحبّ أن يرى موطنـي ويرى مكانـي، فأنزل اللّه عزّ وجل: فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّه فَلْـيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِـحا وَلا يُشْرِكْ بِعِبـادَةِ رَبّهِ أحَدا.

١٧٦٦١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ومسلـم بن خالد الزنـجي عن صدقة بن يسار، قال: جاء رجل إلـى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فذكر نـحوه، وزاد فـيه: وإنـي أعمل العمل وأتصدّق وأحبّ أن يراه الناس وسائر الـحديث نـحوه.

١٧٦٦٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، قال: حدثنا حمزة أبو عمارة مولـى بنـي هاشم، عن شهر بن حوشب، قال: جاء رجل إلـى عُبـادة بن الصامت، فسأله فقال: أنبئنـي عما أسألك عنه، أرأيت رجلاً يصلـي يبتغي وجه اللّه ويحبّ أن يُحْمَد ويصوم ويبتغي وجه اللّه ويحبّ أن يُحْمَد، فقال عبـادة: لـيس له شيء، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله، لا حاجة لـي فـيه.

١٧٦٦٣ـ حدثنا أبو عامر إسماعيـل بن عمرو السّكونـي، قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا ابن عياش، قال: حدثنا عمرو بن قـيس الكندي، أنه سمع معاوية بن أبـي سفـيان تلا هذه الاَية: فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبهِ فَلْـيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِـحا وَلا يُشْرِكْ بِعِبـادَةِ رَبّهِ أحَدا وقال: إنها آخر آية أنزلت من القرآن.

﴿ ٠