تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة مريم

 مكية وآياتها ثمان وتسعون

بِسمِ اللّه الرحمَن الرّحِيـمِ

١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَهيعَصَ }.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله تعالـى ذكره: كاف من كهيعص فقال بعضهم: تأويـل ذلك أنها حرف من اسمه الذي هو كبـير، دلّ به علـيه، واستغنى بذكره عن ذكر بـاقـي الاسم. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٦٤ـ حدثنـي أبو حصين عبد اللّه بن أحمد بن يونس، قال: حدثنا عبثر، قال: حدثنا حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس فـي هذه الاَية كهيعص قال: كبـير، يعني بـالكبـير: الكاف من كهيعص.

حدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير، مثله.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، كان يقول كهيعص قال: كاف: كبـير.

حدثنـي أبو السائب، قال: أخبرنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير فـي كهيعص قال: كاف: كبـير.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحم بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن حصين، عن إسماعيـل، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، نـحوه.

وقال آخرون: بل الكاف من ذلك حرف من حروف اسمه الذي هو كاف. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٦٥ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي، قال: أخبرنا شريك، عن سالـم، عن سعيد، فـي قوله كهيعص قال: كاف: كافٍ.

١٧٦٦٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا أبو روق، عن الضحاك بن مزاحم فـي قوله: كهيعص قال: كاف: كافٍ.

١٧٦٦٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عنبسة، عن الكلبـي مثله.

وقال آخرون: بل هو حرف من حروف اسمه الذي هو كريـم. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٦٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير كهيعص قال: كاف من كريـم.

وقال الذين فسروا ذلك هذا التفسير الهاء من كهيعص: حرف من حروف اسمه الذي هو هاد. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٦٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أبو حصين، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، قال: كان يقول فـي الهاء من كهيعص: هاد.

حدثنا أبو حصين، قال: حدثنا عبثر، قال: حدثنا حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، مثله.

حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيـل، عن سعيد، مثله.

حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير نـحوه.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن حُصَين، عن إسماعيـل، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، مثله.

حدثنـي يحيى بن طلـحة، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير، قال: ها: هاد.

١٧٦٧٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا أبو روق، عن الضحاك بن مزاحم، فـي قوله كهيعص قال: ها: هاد.

١٧٦٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا عنبسة، عن الكلبـيّ، مثله.

واختلفوا فـي تأويـل الـياء من ذلك، فقال بعضهم: هو حرف من حروف اسمه الذي هو يـمين. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٧٢ـ حدثنـي أبو حصين، قال: حدثنا عبثر، قال: حدثنا حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير عن ابن عباس ، قال: (يا) من كهيعص ياء يـمين.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، مثله.

حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن حُصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير مثله.

حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن حُصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير ياء: يـمين.

وقال آخرون: بل هو حرف من حروف اسمه الذي هو حكيـم. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٧٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير كهيعص قال: يا: من حكيـم.

وقال آخرون: بل هي حرف من قول القائل: يا من يجير. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٧٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا إبراهيـم بن الضريس، قال: سمعت الربـيع بن أنس فـي قوله كهيعص قال: يا من يجير ولا يجار علـيه.

واختلف متأوّلو ذلك كذلك فـي معنى العين، فقال بعضهم: هي حرف من حروف اسمه الذي هو عالـم. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٧٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد كهيعص قال: عين من عالـم.

١٧٦٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الكلبـي، مثله.

١٧٦٧٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، مثله.

١٧٦٧٨ـ حدثنا عمرو، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن العلاء بن الـمسيب بن رافع، عن أبـيه، فـي قوله كهيعص قال: عين: من عالـم.

وقال آخرون: بل هي حرف من حروف اسمه الذي هو عزيز. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٧٩ـ حدثنـي أبو حصين، قال: حدثنا عبثر، قال: حدثنا حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس كهيعص عين: عزيز.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن حصين، عن إسماعيـل، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، مثله.

حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير مثله.

حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير مثله.

حدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير، فـي قوله كهيعص قال: عين عزيز.

وقال آخرون: بل هي حرف من حروف اسمه الذي هو عدل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٨٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا أبو روق، عن الضحاك بن مزاحم، فـي قوله كهيعص قال: عين: عدل.

وقال الذين تأوّلوا ذلك هذا التأويـل: الصاد من قوله كهيعص: حرف من حروف اسمه الذي هو صادق. ذكر الرواية بذلك:

١٧٦٨١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، قال: كان يقول فـي كهيعص صاد: صادق.

حدثنـي أبو حصين، قال: حدثنا عبثر، قال: حدثنا حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، مثله.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن حصين، عن إسماعيـل، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، مثله.

حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير مثله.

حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيـل بن راشد، عن سعيد بن جبـير، مثله.

١٧٦٨٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا أبو روق، عن الضحاك بن مزاحم، قال: صاد: صادق.

حدثنـي يحيى بن طلـحة، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد، قال: صادق، يعني الصاد من كهيعص.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد كهيعص قال: صاد صادق.

١٧٦٨٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا عنبسة، عن الكلبـي، قال: صادق.

وقال آخرون: بل هذه الكلـمة كلها اسم من أسماء اللّه تعالـى. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن خالد بن خداش، قال: ثنـي سالـم بن قتـيبة، عن أبـي بكر الهُذَلـيّ، عن عاتكة، عن فـاطمة ابنة علـيّ قالت: كان علـيّ يقول: يا كهيعص: اغفر لـي.

١٧٦٨٥ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، فـي قوله: كهيعص قال: فإنه قسم أقسم اللّه به، وهو من أسماء اللّه .

وقال آخرون: كلّ حرف من ذلك اسم من أسماء اللّه عزّ وجلّ. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٨٦ـ حدثنـي مطر بن مـحمد الضبـي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد العزيز بن مسلـم القسملـي، عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية، قال: كهيعص لـيس منها حرف إلا وهو اسم.

وقال آخرون: هذه الكلـمة اسم من أسماء القرآن. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٨٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله كهيعص قال: اسم من أسماء القرآن.

قال أبو جعفر: والقول فـي ذلك عندنا نظير القول فـي الـم وسائر فواتـح سور القرآن التـي افتتـحت أوائلها بحروف الـمعجم، وقد ذكرنا ذلك فـيـما مضى قبل، فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّآ }.

اختلف أهل العربـية فـي الرافع للذكر، والناصب للعبد، فقال بعض نـحويـي البصرة فـي معنى ذلك كأنه قال: مـما نقصّ علـيك ذكر رحمة ربك عبده، وانتصب العبد بـالرحمة كما تقول: ذكر ضرب زيد عمرا. وقال بعض نـحويـي الكوفة: رفعت الذكر بكهيعص، وإن شئت أضمرت هذا ذكر رحمة ربك، قال: والـمعنى ذكر ربك عبده برحمته تقديـم وتأخير.

قال أبو جعفر: والقول الذي هو الصواب عندي فـي ذلك أن يقال: الذكر مرفوع بـمضمر مـحذوف، وهو هذا كما فعل ذلك فـي غيرها من السور، وذلك كقول اللّه : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ وك قوله: سُورَةٌ أنْزَلْناها ونـحو ذلك. والعبد منصوب بـالرحمة، وزكريا فـي موضع نصب، لأنه بـيان عن العبد، فتأويـل الكلام: هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا.

٣

و قوله: إذْ نادَى رَبّهُ نِدَاءً خَفِـيّا يقول حين دعا ربه، وسأله بنداء خفـيّ، يعني : وهو مستسرّ بدعائه ومسألته إياه ما سأل كراهته منه للرياء، كما:

١٧٦٨٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: إذْ نادَى رَبّهُ نِدَاءً خَفِـيّا أي سرّا، وإن اللّه يعلـم القلب النقـيّ، ويسمع الصوت الـخفـيّ.

١٧٦٨٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: إذْ نادَى رَبّهُ نِدَاءً خَفِـيّا قال: لا يريد رياء.

١٧٦٩٠ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: رغب زكريا فـي الولد، فقام فصلـى، ثم دعا ربه سرّا، فقال: رَبّ إنّـي وَهَنَ العَظْمُ مِنّـي... إلـى وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّا.

٤

و قوله: قالَ رَبّ إنّـي وَهَنَ العَظْمُ مِنّـي

يقول تعالـى ذكره، فكان نداؤه الـخفـيّ الذي نادى به ربه أن قال: رَبّ إنّـي وَهَنَ العَظْمُ مِنّـي يعني بقوله وَهَنَ ضعف ورقّ من الكبر، كما:

١٧٦٩١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قالَ رَبّ إنّـي وَهَنَ العَظْمُ مِنّـي أي ضعف العظم منـي.

١٧٦٩٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: وَهَنَ العَظْمُ مِنّـي قال: نَـحَل العظم. قال عبد الرزاق، قال: الثوريّ: وبلغنـي أن زكريا كان ابن سبعين سنة.

وقد اختلف أهل العربـية فـي وجه النصب فـي الشّيْب، فقال بعض نـحويّـي البصرة: نصب علـى الـمصدر من معنى الكلام، كأنه حين قال: اشتعل، قال: شاب، فقال: شَيْبـا علـى الـمصدر. قال: ولـيس هو فـي معنى: تفقأت شحما وامتلأت ماء، لأن ذلك لـيس بـمصدر. وقال غيره: نصب الشيب علـى التفسير، لأنه يقال: اشتعل شيبُ رأسي، واشتعل رأسي شيبـا، كما يقال: تفقّأت شحما، وتفقّأ شحمي.

و قوله: ولَـمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبّ شَقِـيّا يقول: ولـم أشق يا ربّ بدعائك، لأنك لـم تـخيب دعائي قبل إذ كنت أدعوك فـي حاجتـي إلـيك، بل كنت تـجيب وتقضي حاجتـي قبلك. كما:

١٧٦٩٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج عن ابن جريج، قوله: ولَـمْ أكُنْ بدُعائِكَ رَبّ شَقِـيّا يقول: قد كنت تعرّفنـي الإجابة فـيـما مضى.

٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً }.

يقول: وإنـي خفت بنـي عمي وعصبتـي من ورائي. يقول: من بعدي أن يرثونـي، و

قـيـل: عنى بقوله مِنْ وَرَائي من قدّامي ومن بـين يديّ وقد بـيّنت جواز ذلك فـيـما مضى قبل. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٩٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وإنّـي خِفْتُ الـمَوَالِـيَ مِنْ وَرَائي يعني بـالـموالـي: الكَلالة الأولـياء أن يرثوه، فوهب اللّه له يحيى.

١٧٦٩٥ـ حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح فـي قوله: وإنّـي خِفْتُ الـمَوَالِـيَ مِنْ وَرَائي قال: العصبة.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح فـي قوله وإنّـي خِفْتُ الـمَوَالِـيَ مِنْ وَرَائي قال: خاف موالـيَ الكلالة.

حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح بنـحوه.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح وإنّـي خِفْتُ الـمَوَالِـيَ مِنْ وَرَائي قال: يعني الكلالة.

١٧٦٩٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : خِفْتُ الـمَوَالِـيَ مِنْ وَرَائي قال: العَصَبة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٦٩٧ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، قوله: وإنّـي خِفْتُ الـمَوَالِـيَ مِنْ وَرَائي قال: العصبة.

١٧٦٩٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ وإنّـي خِفْتُ الـمَوَالِـيَ مِنْ وَرَائي والـموالـي: هنّ العصبة، والـموالـي: جمع مولـى، والـمولـى والولـيّ فـي كلام العرب واحد.

وقرأت قراء الأمصار: وإنّـي خِفْتُ الـمَوَالِـيَ بـمعنى: الـخوف الذي هو خلاف الأمن. وروي عن عثمان بن عفـان أنه قرأه: (وإنّـي خَفّتِ الـمَوَالـيَ) بتشديد الفـاء وفتـح الـخاء من الـخفة، كأنه وجه تأويـل الكلام: وإنـي ذهبت عصبتـي ومن يرثنـي من بنـي أعمامي. وإذا قرىء ذلك كذلك كانت الـياء من الـموالـي مسكنة غير متـحركة، لأنها تكون فـي موضع رفع بخفّتْ.

و قوله: وكانَتِ امْرأتـي عاقِرا يقول: وكانت زوجتـي لا تلد، يقال منه: رجل عاقر، وامرأة عاقر بلفظ واحد، كما قال الشاعر:

لَبِئْسَ الفَتـى أنْ كُنْتُ أعْوَرَ عاقِراجَبـانا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلّ مَـحْضَرِ

و قوله: فَهَبْ لـي مِنْ لَدُنْكَ وَلِـيّا يقول: فـارزقنـي من عندك ولدا وارثا ومعينا) .

٦

و قوله: يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يقول: يرثنـي من بعد وفـاتـي مالـي، ويرث من آل يعقوب النبوّة، وذلك أن زكريا كان من ولد يعقوب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٦٩٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح، قوله يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يقول: يرث مالـي، ويرث من آل يعقوب النبوّة.

حدثنا مـجاهد ، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا إسماعيـل، عن أبـي صالـح فـي قوله يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال: يرث مالـي، ويرث من آل يعقوب النبوّة.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح، فـي قوله يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال: يرثنـي مالـي، ويرث من آل يعقوب النبوّة.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح، فـي قوله يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال: يكون نبـيا كما كانت أبـاؤه أنبـياء.

١٧٧٠٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال: وكان وارثته علـما، وكان زكريا من ذرّية يعقوب.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، قال: كان وارثته علـما، وكان زكريا من ذرية يعقوب.

١٧٧٠١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، عن الـحسن، فـي قوله: يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال: نبوّته وعلـمه.

١٧٧٠٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، عن مبـارك، عن الـحسن، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (رَحِمَ اللّه أخِي زَكَرِيّا، ما كانَ عَلَـيْهِ مِنْ وَرَثَةِ مالِهِ حِينَ يَقُولُ فَهَبْ لـي مِنْ لَدُنْكَ وَلِـيّا، يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) .

١٧٧٠٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال: كان الـحسن يقول: يرث نبوّته وعلـمه. قال قتادة : ذُكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الاَية، وأتـى علـى يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال: (رحم اللّه زكريا ما كان علـيه من ورثته) .

١٧٧٠٤ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قال: (يَرْحَمُ اللّه زَكَرِيّا وَما كانَ عَلَـيْهِ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَيَرْحَمُ اللّه لُوطا إنْ كانَ لَـيَأْوِي إلـى رُكْنٍ شَدِيدٍ) .

١٧٧٠٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فَهَبْ لـي مِنْ لَدُنْكَ وَلِـيّا يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال: يرث نبوّتـي ونبوّة آل يعقوب.

واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ فقرأت ذلك عامّة قرّاء الـمدينة ومكة وجماعة من أهل الكوفة: يَرِثُنِـي وَيَرِثُ برفع الـحرفـين كلـيهما، بـمعنى: فهب الذي يرثنـي ويرث من آل يعقوب، علـى أن يرثنـي ويرث من آل يعقوب، من صلة الولـيّ. وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة والبصرة: (يَرِثْنِـي ويَرِثْ) بجزم الـحرفـين علـى الـجزاء والشرط، بـمعنى: فهب لـي من لدنك ولـيا فإنه يرثنـي إذا وهبته لـي. وقال الذين قرأوا ذلك كذلك: إنـما حسُن ذلك فـي هذا الـموضع، لأن يرثنـي من آية غير التـي قبلها. قالوا: وإنـما يحسُن أن يكون مثل هذا صلة، إذا كان غير منقطع عما هو له صلة، ك قوله: رِدْءا يُصَدّقُنِـي.

قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين عندي فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأه برفع الـحرفـين علـى الصلة للولـيّ، لأنّ الولـيّ نكرة، وأن زكريا إنـما سأل ربه أن يهب له ولـيا يكون بهذه الصفة، كما رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لا أنه سأله ولـيا، ثم أخبر أنه إذا وهب له ذلك كانت هذه صفته، لأن ذلك لو كان كذلك، كان ذلك من زكريا دخولاً فـي علـم الغيب الذي قد حجبه اللّه عن خـلقه.

و قوله: وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّا يقول: واجعل يا ربّ الولـيّ الذي تهبه لـي مرضيا ترضاه أنت ويرضاه عبـادك دينا وخُـلُقا وخَـلْقا. والرضي: فعيـل صرف من مفعول إلـيه.

٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { يا يَزَكَرِيّآ إِنّا نُبَشّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَىَ لَمْ نَجْعَل لّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فـاستـجاب له ربه، فقال له: يا زكريا إنا نبشرك بهبتنا لك غلاما اسمه يحيى. كان قتادة يقول: إنـما سماه اللّه يحيى لإحيائه إياه بـالإيـمان.

١٧٧٠٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله يا زَكَرِيّا إنّا نُبَشّرُكَ بغُلام اسمُهُ يَحْيَى عبد أحياه اللّه للإيـمان.

و قوله: لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معناه لـم تلد مثله عاقر قط. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٠٧ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله لـيحيى: لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا يقول: لـم تلد العواقر مثله ولدا قط.

وقال آخرون: بل معناه: لـم نـجعل له من قبله مثلاً. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٠٨ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا أبو الربـيع، قال: حدثنا سالـم بن قتـيبة، قال: أخبرنا شعبة، عن الـحكم، عن مـجاهد ، فـي قوله لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا قال: شبـيها.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا قال: مثلاً.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك، أنه لـم يسمّ بـاسمه أحد قبله. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٠٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا لـم يسمّ به أحد قبله.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا قال: لـم يسمّ يحيى أحد قبله.

١٧٧١٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، مثله.

١٧٧١١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلـم فـي قول اللّه : لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا قال: لـم يسمّ أحد قبله بهذا الاسم.

١٧٧١٢ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ إنّ اللّه يُبَشّرُكَ بغُلامٍ اسمُهُ يَحْيَى لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا لـم يسمّ أحد قبله يحيى.

قال أبو جعفر: وهذا القول أعنـي قول من قال: لـم يكن لـيحيى قبل يحيى أحد سمي بـاسمه أشبه بتأويـل ذلك، وإنـما معنى الكلام: لـم نـجعل للغلام الذي نهب لك الذي اسمه يحيى من قبله أحدا مسمى بـاسمه، والسميّ: فعيـل صرف من مفعول إلـيه.

٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: قال زكريا لـما بشره اللّه بـيحيى: ربّ أنّـي يكونُ لـي غُلام، ومن أيّ وجه يكون لـي ذلك، وامرأتـي عاقر لا تـحبل، وقد ضعُفت من الكبر عن مبـاضعة النساء أبأن تقوّينـي علـى ما ضعفت عنه من ذلك، وتـجعل زوجتـي ولودا، فإنك القادر علـى ذلك وعلـى ما تشاء، أم بأن أنكح زوجة غير زوجتـي العاقر، يستثبت ربه الـخبر، عن الوجه الذي يكون من قبله له الولد، الذي بشره اللّه به، لا إنكارا منه صلى اللّه عليه وسلم حقـيقة كون ما وعده اللّه من الولد، وكيف يكون ذلك منه إنكارا لأن يرزقه الولد الذي بشّره به، وهو الـمبتدىء مسألة ربه ذلك ب قوله: فَهَبْ لـي مِنْ لَدُنْكَ وَلِـيّا يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ بعد قوله إنّـي وَهَنَ العَظْمُ مِنـي وَاشْتَعَلَ الرّأسُ شَيْبـا. وقال السدّي فـي ذلك ما:

١٧٧١٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: نادى جبرائيـل زكريا: إنّ اللّه يُبَشّرُكَ بغُلام اسمُهُ يَحْيَى لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا فلـما سمع النداء، جاءه الشيطان فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت لـيس من اللّه ، إنـما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من اللّه أوحاه إلـيك كما يوحي إلـيك غيره من الأمر، فشكّ وقال: إنّـي يَكُونُ لـي غُلامٌ يقول: من أين يكون وَقَدْ بَلَغَنِـيَ الكِبَرُ وَامْرَأتِـي عاقِرٌ.

و قوله: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِـيّا يقول: وقد عتوت من الكبر فصرت نـحل العظام يابسها، يقال منه للعود الـيابس: عود عاتٍ وعاسٍ، وقد عتا يعتو عِتِـيّا وعُتُوّا، وعسى يعسو عِسِيا وعسوّا، وكلّ متناه إلـى غايته فـي كبر أو فساد، أو كفر، فهو عات وعاس. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧١٤ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس ، قال: قد علـمتُ السنة كلها، غير أنـي لا أدري أكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ فـي الظهر والعصر أم لا، ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الـحرف: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِـيّا أو (عِسِيّا) .

١٧٧١٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِـيّا قال: يعني بـالعِتـيّ: الكبر..

١٧٧١٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله عِتِـيّا قال: نُـحول العظم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٧١٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله مِنَ الكِبَرِ عِتِـيّا قال: سنّا، وكان ابن بضع وسبعين سنة.

١٧٧١٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَقَدْ بَلَغْت مِنَ الكِبَرِ عِتِـيّا قال: العتـيّ: الذي قد عتا عن الولد فـيـما يرى نفسه لا يولد له.

١٧٧١٩ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَقَدْ بَلَغْتُ منَ الكبَرِ عتـيّا قال: هو الكبر.

٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }.

يقول تعالـى ذكره: قال اللّه لزكريا مـجيبـا له قالَ كَذلكَ يقول: هكذا الأمر كما تقول من أنّ امرأتك عاقر، وأنك قد بلغت من الكبر العتـيّ، ولكن ربك يقول: خـلْق ما بشّرتك به من الغلام الذي ذكرت لك أن اسمه يحيى علـيّ هين، فهو إذن من قوله: قالَ رَبّكَ هُوَ عَلـيّ هَيّنٌ كناية عن الـخـلق.

و قوله: وَقَدْ خـلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ ولَـمْ تَك شَيْئا

يقول تعالـى ذكره: ولـيس خـلق ما وعدتك أن أهبه لك من الغلام الذي ذكرت لك أمره منك مع كبر سنك، وعقم زوجتك بأعجب من خـلقـيك، فإنـي قد خـلقتك، فأنشأتك بشرا سويا من قبل خـلقـي ما بشرتك بأنـي واهبه لك من الولد، ولـم تك شيئا، فكذلك أخـلق لك الولد الذي بشرتك به من زوجتك العاقر، مع عِتـيك ووهن عظامك، واشتعال شيب رأسك.

١٠

و قوله: قالَ رَبّ اجْعَلْ لـي آيَة

يقول تعالـى ذكره: قال زكريا: يا ربّ اجعل لـي علـما ودلـيلاً علـى ما بشّرَتنـي به ملائكتك من هذا الغلام عن أمرك ورسالتك، لـيطمئنّ إلـى ذلك قلبـي. كما:

١٧٧٢٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: قالَ رَبّ اجْعَلْ لـي آيَةً قال: قال ربّ اجعل لـي آية أن هذا منك.

١٧٧٢١ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: قال ربّ، فإن كان هذا الصوت منك فـاجعل لـي آية.

قال اللّه آيَتُكَ لذلك ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاثَ لَـيالٍ سَوِيّا

يقول جلّ ثناؤه: علامتك لذلك، ودلـيـلك علـيه أن لا تكلـم الناس ثلاث لـيال وأنت سويّ صحيح، لا علة بك من خرس ولا مرض يـمنعك من الكلام. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٢٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس ثَلاثَ لَـيالٍ سَوِيّا قال: اعتقل لسانه من غير مرض.

حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله ثَلاثَ لَـيالٍ سَوِيّا يقول: من غير خرس.

١٧٧٢٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله ثَلاثَ لَـيالٍ سَوِيّا قال: لا يـمنعك من الكلام مرض.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاثَ لَـيالٍ سَوِيّا قال: صحيحا لا يـمنعك من الكلام مرض.

١٧٧٢٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاثَ لَـيالٍ سَوِيّا من غير بأس ولا خرس، وإنـما عوقب بذلك لأنه سأل آية بعد ما شافهته الـملائكة مشافهة، أُخذ بلسانه حتـى ما كان يفـيض الكلام إلا أومأ إيـماء.

١٧٧٢٥ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، عن عكرمة، فـي قوله ثَلاثَ لَـيالٍ سَوِيّا قال: سويا من غير خرس.

١٧٧٢٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاثَ لَـيالٍ سَوِيّا وأنت صحيح، قال: فحبس لسانه، فكان لا يستطيع أن يكلـم أحدا، وهو فـي ذلك يسبح، ويقرأ التوراة ويقرأ الإنـجيـل، فإذا أراد كلام الناس لـم يستطع أن يكلـمهم.

١٧٧٢٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لايتهم، عن وهب بن منبه الـيـمانـي، قال: أخذ اللّه بلسانه من غير سوء، فجعل لا يطيق الكلام، وإنـما كلامه لقومه بـالإشارة، حتـى مضت الثلاثة الأيام التـي جعلها اللّه آية لـمصداق ما وعده من هبته له.

١٧٧٢٨ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاثَ لَـيالٍ سَوِيّا يقول: من غير خَرَس إلا رمزا، فـاعتُقل لسانه ثلاثة أيام وثلاث لـيال.

وقال آخرون: السويّ من صفة الأيام، قالوا: ومعنى الكلام: قال: آيتك ألا تكلـم الناس ثلاث لـيال متتابعات. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٢٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاثَ لَـيالٍ سَوِيّا: قال: ثلاث لـيال متتابعات.

١١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَخَرَجَ عَلَىَ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فخرج زكريا علـى قومه من مُصَلاه حين حُبس لسانه عن كلام الناس، آية من اللّه له علـى حقـيقة وعده إياه ما وعد. فكان ابن جريج يقول فـي معنى خروجه من مـحرابه، ما:

١٧٧٣٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج فَخَرَجَ علـى قَوْمِهِ مِنَ الـمِـحْرابِ قال: أشرف علـى قومه من الـمـحراب.

قال أبو جعفر: وقد بـيّنا معنى الـمـحراب فـيـما مضى قبل، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

١٧٧٣١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فَخَرَجَ عَلـى قومِهِ مِنَ الـمِـحْرابِ قال: الـمـحراب: مُصَلاه، وقرأ: فَنادَتْهُ الـمَلائِكَةُ وَهُوَ قائمٌ يُصَلّـي فِـي الـمِـحْرَابِ.

و قوله: فَأوْحَى إلَـيْهِمْ يقول: أشار إلـيهم، وقد تكون تلك الإشارة بـالـيد وبـالكتاب وبغير ذلك، مـما يفهم به عنه ما يريد. وللعرب فـي ذلك لغتان: وَحَى، وأوحى فمن قال: وَحَى، قال فـي يفعل: يَحِي ومن قال: أوحى، قال: يُوحِي، وكذلك أَومَى ووَمَى، فمن قال: وَمَى، قال فـي يفعل يَـمِي ومن قال أَومَى، قال يُومِي.

واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي به أوحى إلـى قومه، فقال بعضهم: أوحى إلـيهم إشارة بـالـيد. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٣٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فَأَوْحَى: فأشار زكريا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٧٣٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه فَأَوْحَى إلَـيْهِمْ قال: الوحي: الإشارة.

١٧٧٣٤ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فأَوْحَى إلَـيْهِمْ قال: أومى إلـيهم.

وقال آخرون: معنى أوحى: كتب. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٣٥ـ حدثنا مـحمود بن خداش، قال: حدثنا عبـاد بن العوّام، عن سفـيان بن حسين، عن الـحكم، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه تعالـى: فأَوْحَى إلَـيْهِمْ أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا قال: كتب لهم فـي الأرض.

١٧٧٣٦ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوريّ، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن الـحكم فأَوْحَى إلَـيْهِمْ قال: كتب لهم.

١٧٧٣٧ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فَخَرَجَ عَلـى قَوْمِهِ مِنَ الـمِـحْرابِ فكتب لهم فـي كتاب أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا، وذلك قوله: فأَوْحَى إلَـيْهِمْ.

وقال آخرون: معنى ذلك: أمرهم. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٣٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فأَوْحَى إلَـيْهِمْ أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا قال: ما أدري كتابـا كتبه لهم، أو إشارة أشارها، واللّه أعلـم، قال: أمرهم أن سَبّحوا بكرة وعشيا، وهو لا يكلـمهم.

و قوله: أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا قد بـيّنت فـيـما مضى الوجوه التـي ينصرف فـيها التسبـيح، وقد يجوز فـي هذا الـموضع أن يكون عَنَى به التسبـيح الذي هو ذكر اللّه ، فـيكون أمرهم بـالفراغ لذكر اللّه فـي طرفـي النهار بـالتسبـيح، ويجوز أن يكون عنى به الصلاة، فـيكون أمرهم بـالصلاة فـي هذين الوقتـين. وكان قتادة يقول فـي ذلك ما:

١٧٧٣٩ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: فأَوْحَي إلَـيْهِمْ أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا قال: أَوْمَى إلـيهم أن صلوا بكرة وعشيا.

١٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَيَحْيَىَ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فولد لزكريا يحيى، فلـما ولد، قال اللّه له: يا يحيى، خذ هذا الكتاب بقوّة، يعني كتاب اللّه الذي أنزله علـى موسى، وهو التوراة. بقوّة، يقول: بجدّ. كما:

١٧٧٤٠ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: خُذِ الكِتابَ بِقُوّةٍ قال: بجدّ.

١٧٧٤١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد خُذِ الكِتابَ بِقُوّةٍ قال: بجدّ.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

وقال ابن زيد فـي ذلك ما:

١٧٧٤٢ـ حدثنـي به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: يا يَحْيَى خُذِ الكِتابَ بِقُوّةٍ قال: القوّة: أن يعمل ما أمره اللّه به، ويجانب فـيه ما نهاه اللّه .

قال أبو جعفر: وقد بـيّنت معنى ذلك بشواهده فـيـما مضى من كتابنا هذا، فـي سورة آل عمران، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.

و قوله: وآتَـيْناهُ الـحُكْمَ صَبِـيّا

يقول تعالـى ذكره: وأعطيناه الفهم لكتاب اللّه فـي حال صبـاه قبل بلوغه أسنان الرجال. وقد:

١٧٧٤٣ـ حدثنا أحمد بن منـيع، قال: حدثنا عبد اللّه بن الـمبـارك، قال: أخبرنـي معمر، ولـم يذكره عن أحد فـي هذه الاَية وآتَـيْناهُ الـحُكْمَ صَبِـيّا قال: بلغنـي أن الصبـيان قالوا لـيحيى: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خُـلِقتُ، فأنزل اللّه : وآتَـيْناهُ الـحُكْمَ صَبِـيّا.

١٣

و قوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا

يقول تعالـى ذكره: ورحمة منا ومـحبة له آتـيناه الـحكم صبـيا.

وقد اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـحنان، فقال بعضهم: معناه: الرحمة، ووجهوا الكلام إلـى نـحو الـمعنى الذي وجهناه إلـيه. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٤٤ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول: ورحمة من عندنا.

١٧٧٤٥ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة، فـي هذه الاَية وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال: رحمة.

١٧٧٤٦ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال: رحمة من عندنا.

١٧٧٤٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال: رحمة من عندنا لا يـملك عطاءها أحد غيرنا.

حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول: رحمة من عندنا، لا يقدر علـى أن يعطيها أحد غيرنا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ورحمة من عندنا لزكريا، آتـيناه الـحكم صبـيا، وفعلنا به الذي فعلنا. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٤٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول: رحمة من عندنا.

وقال آخرون: معنى ذلك: وتعطفـا من عندنا علـيه، فعلنا ذلك. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٤٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال: تعطفـا من ربه علـيه.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

وقال آخرون: بل معنى الـحنان: الـمـحبة. ووجهوا معنى الكلام إلـى: ومـحبة من عندنا فعلنا ذلك. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٥٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن يحيى بن سعيد، عن عكرمة وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال: مـحبة علـيه.

١٧٧٥١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَحَنانا قال: أما الـحَنان فـالـمـحبة.

وقال آخرون معناه تعظيـما منا له. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٥٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو تـميـلة، عن أبـي حمزة، عن جابر، عن عطاء بن أبـي ربـاح وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال: تعظيـما من لدنا. وقد ذكر عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: لا أدري ما الـحنان.

١٧٧٥٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة، عن ابن عباس ، قال: واللّه ما أدري ما حنانا.

وللعرب فـي حَنَانَك لغتان: حَنَانَك يا ربنا، وحَنانَـيك كما قال طَرَفة بن العبد فـي حنانـيك:

أبـا مُنْذِرٍ أفْنَـيْتَ فـاسْتَبْقِ بَعْضَناحَنانَـيْكَ بعضُ الشّرّ أهْوَنُ مِن بعض

وقال امرؤ القـيس فـي اللغة الأخرى:

ويَـمْنَـحُها بَنُو شَمَـجَي بْنِ جَرْمٍمَعِيزَهُمُ حَنانَكَ ذَا الـحَنانِ

وقد اختلف أهل العربـية فـي (حنانـيك) فقال بعضهم: هو تثنـية (حنان) . وقال آخرون: بل هي لغة لـيست بتثنـية قالوا: وذلك كقولهم: حَوَالـيك وكما قال الشاعر:

ضَرْبـا هَذَا ذَيْكَ وطَعْنا وَخْضا

وقد سوّي بـين جميع ذلك الذين قالوا حنانـيك تثنـية، فـي أن كل ذلك تثنـية. وأصل ذلك أعنـي الـحنان، من قول القائل: حنّ فلان إلـى كذا، وذلك إذا ارتاح إلـيه واشتاق، ثم يقال: تـحّننَ فلان علـى فلان، إذا وصف بـالتعطّف علـيه والرقة به، والرحمة له، كما قال الشاعر:

تَـحَنّنْ عَلـيّ هَدَاكَ الـمَلِـيكُ فإنّ لِكُلّ مَقامٍ مَقالا

بـمعنى: تعطّف علـيّ. فـالـحنان: مصدر من قول القائل: حنّ فلان علـى فلان، يقال منه: حننت علـيه، فأنا أحنّ علـيه حنـينا وحنانا، ومن ذلك قـيـل لزوجة الرجل: حَنّته، لتـحننه علـيها وتعطفه، كما قال الراجز:

وَلَـيْـلَةٍ ذَاتِ دُجىً سَرَيْتُولَـم تَضِرْنِـي حَنّةٌ وَبَـيْتُ

و قوله: وَزَكَاةً

يقول تعالـى ذكره: وآتـينا يحيى الـحكم صبـيا، وزكاة: وهو الطهارة من الذنوب، واستعمال بدنه فـي طاعة ربه، فـالزكاة عطف علـى الـحكم من قوله: وآتَـيْناهُ الـحُكْمَ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٥٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وزَكاةً قال: الزكاة: العمل الصالـح.

١٧٧٥٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: وزَكاةً قال: العمل الصالـح الزكيّ.

١٧٧٥٦ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول: فـي قوله وزَكاةً يعني العمل الصالـح الزاكيّ.

و قوله: وكانَ تَقِـيّا

يقول تعالـى ذكره: وكان للّه خائفـا مؤدّيا فرائضه، مـجتنبـا مـحارمه مسارعا فـي طاعته. كما:

١٧٧٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس وَزَكاةً وكانَ تَقِـيّا قال: طهر فلـم يعمل بذنب.

١٧٧٥٨ـ حدثنـي يونس، قال: خبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَزَكاةً وكانَ تَقِـيّا قال: أما الزكاة والتقوى فقد عرفهما الناس.

١٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبّاراً عَصِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: وكان برّا بوالديه، مسارعا فـي طاعتهما ومـحبتهما، غير عاقّ بهما ولَـمْ يَكُنْ جَبّـارا عَصِيّا

يقول جلّ ثناؤه: ولـم يكن مستكبرا عن طاعة ربه وطاعة والديه، ولكنه كان للّه ولوالديه متواضعا متذللاً، يأتـمر لـما أمر به، وينتهى عما نُهِي عنه، لا يَعْصِي ربه، ولا والديه.

و قوله: عَصِيّا فعيـل بـمعنى أنه ذو عصيان، من قول القائل: عَصَى فلان ربه، فهو يعصيه عصيا.

١٥

و قوله: وسَلامٌ عَلَـيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَـمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا يقول: وأمان من اللّه يوم ولد، من أن يناله الشيطان من السوء، بـما ينال به بنـي آدم، وذلك أنه رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (كُلّ بَنِـي آدَمَ يَأْتِـي يَوْمَ القِـيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيّا) .

١٧٧٥٩ـ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب، قال: ثنـي ابن العاص، أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ذلك.

١٧٧٦٠ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: جَبّـارا عَصِيّا قال: كان ابن الـمسيب يذكر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ما مِنْ أحَدٍ يَـلْقـي اللّه يَوْمَ القِـيامَةِ، إلاّ ذَا ذَنْبٍ، إلاّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيّا) .

قال: وقال قتادة : ما أذنب، ولا هم بـامرأة.

و قوله: ويَوْمَ يَـمُوتُ يقول: وأمان من اللّه تعالـى ذكره له من فَتّانَـيِ القبر، ومن هول الـمطلع وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا يقول: وأمان له من عذاب اللّه يوم القـيامة، يوم الفزع الأكبر، من أن يروعه شيء، أو أن يفزعه ما يفزع الـخـلق. وقد ذكر ابن عيـينة فـي ذلك ما:

حدثنـي أحمد بن منصور الفَـيروزِيّ، قال: أخبرنـي صدقة بن الفضل قال: سمعت ابن عطية يقول: أوحش ما يكون الـخـلق فـي ثلاثة مواطن: يوم يولد فـيرى نفسه خارجا مـما كان فـيه، ويوم يـموت فـيرى قوما لـم يكن عاينهم، ويوم يُبعث فـيرى نفسه فـي مـحشر عظيـم، قال: فأكرم اللّه فـيها يحيى بن زكريا، فخصه بـالسلام علـيه، فقال سَلامٌ عَلَـيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَـمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا.

١٧٧٦١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، أن الـحسن قال: إن عيسى ويحيى التقـيا فقال له عيسى: استغفر لـي، أنت خير منـي، فقال له الاَخر: استغفر لـي، أنت خير منـي، فقال له عيسى: أنت خير منـي، سَلّـمت علـى نفسي، وسلم اللّه علـيك، فعرف واللّه فضلها.

١٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : واذكر يا مـحمد فـي كتاب اللّه الذي أنزله علـيك بـالـحقّ مريـم ابنة عمران، حين اعتزلت من أهلها، وانفردت عنهم، وهو افتعل من النّبذ، والنّبذ: الطّرْح، وقد بـيّنا ذلك بشواهده فـيـما مضى قبلُ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٦٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، فـي قوله: وَاذْكُرْ فِـي الكِتابِ مَرْيَـمَ إذِ انْتَبَذَتْ أي انفردت من أهلها.

١٧٧٦٣ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: حدثنا مـحمد بن الصّلْت، قال: حدثنا أبو كُدَينة، عن قابوس، عن أبـيه، عن ابن عباس إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها مَكانا شَرْقِـيّا قال: خرجت مكانا شرقـيا.

١٧٧٦٤ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: خرجت مريـم إلـى جانب الـمـحراب لـحيض أصابها، وه

و قوله: فـانتبذت من أهلها مكانا شرقـيا: فـي شرقـيّ الـمـحراب.

و قوله: مَكانا شَرْقِـيّا يقول: فتنـحت واعتزلت من أهلها فـي موضع قِبَلَ مَشرق الشمس دون مَغربها، كما:

١٧٧٦٥ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: مَكانا شَرْقِـيّا قال: من قِبَل الـمشرق.

١٧٧٦٦ـ حدثنـي إسحاق بن شاهين، قال: حدثنا خالد بن عبد اللّه ، عن داود، عن عامر، عن ابن عباس ، قال: إنـي لأعلـم خـلق اللّه لأيّ شيء اتـخذت النصارى الـمشرق قبلة؟ لقول اللّه : فـانتبذت من أهلها مكانا شرقـيا، فـاتـخذوا ميلاد عيسى قبلة.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنـي عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عامر، عن ابن عباس ، مثله.

١٧٧٦٧ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: أخبرنا مـحمد بن الصّلْت، قال: حدثنا أبو كُدَينة، عن قابوس، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قال: إن أهل الكتاب كتب علـيهم الصلاة إلـى البـيت، والـحجّ للّه، وما صرفهم عنهما إلا قـيـل ربك إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها مَكانا شَرْقِـيّا فصلوا قبل مطلع الشمس.

١٧٧٦٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها مَكانا شَرْقِـيّا قال: شاسعا متنـحيا، و

قـيـل: إنها إنـما صارت بـمكان يـلـي مشرق الشمس، لأن ما يـلـي الـمشرق عندهم كان خيرا مـما يـلـي الـمغرب، وكذلك ذلك فـيـما ذُكر عند العرب.

١٧

و قوله: فـاتّـخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجابـا يقول: فـاتـخذت من دون أهلها سترا يسترها عنهم وعن الناس. وذُكر عن ابن عباس ، أنها صارت بـمكان يـلـي الـمشرق، لأن اللّه أظلها بـالشمس، وجعل لها منها حجابـا.

١٧٧٦٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها مَكانا شَرْقِـيّا قال: مكانا أظلتها الشمس أن يراها أحد منهم.

وقال غيره فـي ذلك ما.

١٧٧٧٠ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فـاتّـخَذَتْ مِنْ دونِهِمْ حِجابـا من الـجدران.

و قوله: فأرْسَلْنا إلَـيْها رُوحَنا

يقول تعالـى ذكره: فأرسلنا إلـيها حين انتبذت من أهلها مكانا شرقـيا، واتـخذت من دونهم حجابـا: جبريـل. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٧١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فأرْسَلْنا إلَـيْها رُوحَنا قال: أرسل إلـيها فـيـما ذُكر لنا جبريـل.

١٧٧٧٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: وجدت عندها جبريـل قد مثله اللّه بشرا سويا.

١٧٧٧٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: فأرْسَلْنا إلَـيْها رُوحَنا قال: جبريـل.

حدثنـي مـحمد بن سهل، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل بن أخي وهب، قال: سمعت وهب بن منبه، قال: أرسل اللّه جبريـل إلـى مريـم، فَمَثَلَ لها بشرا سويا.

١٧٧٧٤ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: فلـما طهرت، يعني مريـم من حيضها، إذا هي برجل معها، وهي قوله: فأرْسَلْنا إلَـيْها رُوحَنا فَتَـمَثّلَ لَها بَشَرا سَوِيّا

يقول تعالـى ذكره: فتشبه لها فـي صورة آدميّ سويّ الـخـلق منهم، يعني فـي صورة رجل من بنـي آدم معتدل الـخـلق.

١٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَـَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فخافت مريـم رسولنا، إذ تـمثّل لها بشرا سويا، وظنته رجلاً يريدها علـى نفسها.

١٧٧٧٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله إنّـي أعُوذُ بـالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِـيّا قال: خشيت أن يكون إنـما يريدها علـى نفسها.

١٧٧٧٦ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فَتَـمَثّلَ لَهَا بَشَرا سَوِيّا فلـما رأته فزعت منه وقالت: إنّـي أعُوذُ بـالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِـيّا.

فقالت: إنـي أعوذ أيها الرجل بـالرحمن منك، تقول: أستـجير بـالرحمن منك أن تنال منـي ما حرّمه علـيك إن كنت ذا تقوى له تتقـي مـحارمه، وتـجتنب معاصيه لأن من كان للّه تقـيا، فإنه يجتنب ذلك. ولو وجه ذلك إلـى أنها عَنَت: إنـي أعوذ بـالرحمن منك إن كنت تتقـي اللّه فـي استـجارتـي واستعاذتـي به منك كان وجها. كما:

١٧٧٧٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه قالَتْ إنّـي أعُوذُ بـالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِـيّا ولا ترى إلا أنه رجل من بنـي آدم.

١٧٧٧٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، عن عاصم، قال: قال ابن زيد: وذكر قَصَص مريـم فقال: قد علـمت أن التقـيّ ذو نُهية حين قالت: إنّـي أعُوذُ بـالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِـيّا

١٩

قالَ إنّـمَا أنا رَسُولُ رَبّكِ.

يقول تعالـى ذكره: فقال لها روحنا: إنـما أنا رسول ربك يا مريـم أرسلنـي إلـيك لأهَبَ لكِ غُلاما زكيا.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الـحجاز والعراق غير أبـي عمرو: لاِءَهَبَ لَكِ بـمعنى: إنـما أنا رسول ربك: يقول: أرسلنـي إلـيك لأهب لك غُلاَما زَكِيّا علـى الـحكاية. وقرأ ذلك أبو عمرو بن العلاء: (لِـيَهَبَ لَكِ غُلاما زَكِيّا) بـمعنى: إنـما أنا رسول ربك أرسلنـي إلـيك لـيهب اللّه لك غلاما زكيا.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة فـي ذلك، ما علـيه قرّاء الأمصار، وهو لاِءَهَبَ لَكِ بـالألف دون الـياء، لأن ذلك كذلك فـي مصاحف الـمسلـمين، وعلـيه قراءة قديـمهم وحديثهم، غير أبـي عمرو، وغير جائز خلافهم فـيـما أجمعوا علـيه، ولا سائغ لأحد خلاف مصاحفهم، والغلام الزكيّ: هو الطاهر من الذنوب وكذلك تقول العرب: غلام زاكٍ وزكيّ، وعال وعلـيّ.

٢٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَتْ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: قالت مريـم لـجبريـل: أنّـي يَكُونُ لـي غُلامٌ من أيّ وجه يكون لـي غلام؟ أمن قِبَل زوج أتزوّج، فأرزقه منه، أم يبتدىء اللّه فـيّ خـلقه ابتداء ولَـمْ يَـمْسَسْنِـي بَشَرٌ من ولد آدم بنكاح حلال ولَـمْ أكُ إذ لـم يـمسسنـي منهم أحد علـى وجه الـحلال بَغِيّا بغيت ففعلت ذلك من الوجه الـحرام، فحملته من زنا، كما:

١٧٧٧٩ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ ولَـمْ أكُ بَغِيّا يقول: زانـية.

٢١

قالَ كَذلكِ قالَ رَبّكِ هُوَ عَلـيّ هَيّنٌ

يقول تعالـى ذكره: قال لها جبريـل: هكذا الأمر كما تصفـين، من أنك لـم يـمسسك بشر ولـم تكونـي بغيا، ولكن ربك قال: هو علـيّ هين: أي خَـلْق الغلام الذي قلت أن أهبه لك علـيّ هين لا يتعذّر علـيّ خـلقه وهبته لك من غير فحل يفتـحلك.

وَلِنَـجْعَلَهُ آيَةً للنّاسِ يقول: وكي نـجعل الغلام الذي نهبه لك علامة وحجة علـى خـلقـي أهبه لك. وَرَحْمَةً مِنّا يقول: ورحمة منا لك، ولـمن آمن به وصدّقه أخـلقه منك وكانَ أمْرا مَقْضِيّا يقول: وكان خـلقه منك أمرا قد قضاه اللّه ، ومضى فـي حكمه وسابق علـمه أنه كائن منك. كما:

١٧٧٨٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي من لا أتهم، عن وهب بن منبه وكانَ أمْرا مَقْضِيّا أي إن اللّه قد عزم علـى ذلك، فلـيس منه بدّ.

٢٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً }.

وفـي هذا الكلام متروك تُرِك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر منه عنه فَنَفَخْنا فِـيهِ مِنْ رُوحِنا بغلام فحَمَلَتْهُ فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصيّا وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٨١ـ حدثنـي مـحمد بن سهل، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقِل ابن أخي وهب بن منبه، قال: سمعت وهبـا قال: لـما أرسل اللّه جبريـل إلـى مريـم تـمثّل لها بشرا سويا فقالت له: إنّـي أعُوذُ بـالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِـيّا ثم نفخ فـي جيب درعها حتـى وصلت النفخة إلـى الرحم فـاشتـملت.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه الـيـمانـي، قال: لـما قال ذلك، يعني لـما قال جبريـل قالَ كذلكِ قالَ رَبّكَ هُوَ عَلـيّ هَيّنٌ... الاَية استسلـمت لأمر اللّه ، فنفخ فـي جيبها ثم انصرف عنها.

١٧٧٨٢ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: طرحَتْ علـيها جلبـابها لـما قال جبريـل ذلك لها، فأخذ جبريـل بكميها، فنفخ فـي جيب درعها، وكان مشقوقا من قُدامها، فدخـلت النفخة صدرها، فحملت، فأتتها أختها امرأة زكريا لـيـلة تزورها فلـما فتـحت لها البـاب التزمتها، فقالت امرأة زكريا: يا مريـم أشعرت أنـي حبلـى، قالت مريـم: أشعرت أيضا أنـي حُبلـى، قالت امرأة زكريا: إنـي وجدت ما فـي بطنـي يسجد لـما فـي بطنك، فذلك قوله مُصَدّقا بكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه .

١٧٧٨٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: يقولون: إنه إنـما نفخ فـي جيب درعها وكمها.

و قوله: فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا يقول: فـاعتزلت بـالذي حملته، وهو عيسى، وتنـحّت به عن الناس مكانا قَصِيا يقول: مكانا نائيا قاصيا عن الناس، يقال: هو بـمكان قاص، وقصيّ بـمعنى واحد، كما قال الراجز:

لَتَقْعُدِنّ مَقْعَدَ القَصِيّمِنّـي ذي القاذُورَةِ الـمَقْلِـيّ

يقال منه: قصا الـمكان يقصو قصوا: إذا تبـاعد، وأقصيت الشيء: إذا أبعدته وأخّرته.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا قال: مكانا نائيا.

١٧٧٨٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: مَكانا قَصِيّا قال: قاصيا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٧٨٦ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما بلغ أن تضع مريـم، خرجت إلـى جانب الـمـحراب الشرقـي منه فأتت أقصاه.

٢٣

و قوله: فأجاءَها الـمَخاضُ إلـى جِذْعِ النّـخْـلَةِ

يقول تعالـى ذكره: فجاء بها الـمخاض إلـى جذع النـخـلة، ثم

قـيـل: لـما أسقطت البـاء منه أجاءها، كما يقال: أتـيتك بزيد، فإذا حذفت البـاء قـيـل آتـيتك زيدا، كما قال جلّ ثناؤه: آتُونِـي زُبُرَ الـحَدِيدِ والـمعنى: ائتونـي بزُبَر الـحديد، ولكن الألف مُدّت لـما حذفت البـاء، وكما قالوا: خرجت به وأخرجته، وذهبت به وأذهبته، وإنـما هو أفعل من الـمـجيء، كما يقال: جاء هو، وأجأته أنا: أي جئت به، ومثل من أمثال العرب: (شرّ ما أجاءنـي إلـى مُخّة عرقوب) ، وأشاء ويقال: شرّ ما يُجِيئك ويُشِيئك إلـى ذلك ومنه قول زهير:

وَجارٍ سارَ مُعْتَـمِدا إلَـيْكُمْأجاءَتْهُ الـمَـحافَةُ وَالرّجاءُ

 يعني : جاء به، وأجاءه إلـينا وأشاءك: من لغة تـميـم، وأجاءك من لغة أهل العالـية، وإنـما تأوّل من تأوّل ذلك بـمعنى: ألـجأها، لأن الـمخاض لـما جاءها إلـى جذع النـخـلة، كان قد ألـجأها إلـيه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٨٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: فأجاءَها الـمَخاضُ قال: الـمخاض ألـجأها.

١٧٧٨٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، قال: ألـجأها الـمخاض. قال ابن جريج: وقال ابن عباس : ألـجأها الـمخاض إلـى جذع النـخـلة.

١٧٧٨٩ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فأجاءَها الـمَخاضُ إلـى جِذْعِ النّـخْـلَةِ يقول: ألـجأها الـمخاض إلـى جذع النـخـلة.

١٧٧٩٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فأجاءَها الـمَخاضُ إلـى جِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: اضطرّها إلـى جذع النـخـلة.

واختلفوا فـي أيّ الـمكان الذي انتبذتْ مريـم بعيسى لوضعه، وأجاءها إلـيه الـمخاض، فقال بعضهم: كان ذلك فـي أدنى أرض مصر، وآخر أرض الشأم، وذلك أنها هربت من قومها لـما حملت، فتوجهت نـحو مصر هاربة منهم. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٩١ـ حدثنا مـحمد بن سهل، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقِل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: لـما اشتـملت مريـم علـى الـحمل، كان معها قَرابة لها، يقال له يوسف النـجّار، وكانا منطلقـين إلـى الـمسجد الذي عند جبل صِهْيَون، وكان ذلك الـمسجد يؤمئذ من أعظم مساجدهم، فكانت مريـم ويوسف يخدمان فـي ذلك الـمسجد، فـي ذلك الزمان، وكان لـخدمته فضل عظيـم، فرغبـا فـي ذلك، فكانا يـلـيان معالـجته بأنفسهما، تـحبـيره وكناسته وطهوره، وكلّ عمل يعمل فـيه، وكان لا يعمل من أهل زمانهما أحد أشدّ اجتهادا وعبـادة منهما، فكان أوّل من أنكر حَمْل مريـم صاحُبها يوسف فلـما رأى الذي بها استفظعه، وعظُم علـيه، وفُظِع به، فلـم يدر علـى ماذا يضع أمرها، فإذا أراد يوسف أن يتهمها، ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لـم تغب عنه ساعة قطّ وإذا أراد أن يبرئها، رأى الذي ظهر علـيها فلـما اشتدّ علـيه ذلك كلّـمها، فكان أوّل كلامه إياها أن قال لها: إنه قد حدث فـي نفسي من أمرك أمر قد خشيته، وقد حَرَصت علـى أن أميته وأكتـمه فـي نفسي، فغلبنـي ذلك، فرأيت الكلام فـيه أشفـى لصدري، قالت: فقل قولاً جميلاً، قال: ما كنت لأقول لك إلا ذلك، فحدثـينـي، هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم، قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألـم تعلـم أن اللّه تبـارك وتعالـى أنبت الزرع يوم خـلقه من غير بذر، والبذر يومئذ إنـما صار من الزرع الذي أنبته اللّه من غير بذر أو لـم تعلـم أن اللّه بقدرته أنبت الشجر بغير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خـلق كلّ واحد منهما وحده، أم تقول: لن يقدر اللّه علـى أن ينبت الشجر حتـى استعان علـيه بـالـماء، ولولا ذلك لـم يقدر علـى إنبـاته؟ قال يوسف لها: لا أقول هذا، ولكنـي أعلـم أن اللّه تبـارك وتعالـى بقدرته علـى ما يشاء يقول لذلك كن فـيكون، قالت مريـم: أو لـم تعلـم أن اللّه تبـارك وتعالـى خـلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر؟ قال: بلـى، فلـما قالت له ذلك، وقع فـي نفسه أن الذي بها شيء من اللّه تبـارك وتعالـى، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لـما رأى من كتـمانها لذلك.

ثم تولـى يوسف خدمة الـمسجد، وكفـاها كلّ عمل كانت تعمل فـيه، وذلك لـما رأى من رقة جسمها، واصفرار لونها، وكلف وجهها، ونتوّ بطنها، وضعف قوّتها، ودأب نظرها، ولـم تكن مريـم قبل ذلك كذلك فلـما دنا نفـاسها أوحى اللّه إلـيها أن اخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك عيروك، وقتلوا ولدك، فأفضت ذلك إلـى أختها، وأختها حينئذ حُبلـى، وقد بشرت بـيحيى، فلـما التقـيا وجدت أمّ يحيى ما فـي بطنها خرّ لوجهه ساجدا معترفـا لعيسى، فـاحتـملها يوسف إلـى أرض مصر علـى حمار له لـيس بـينها حين ركبت وبـين الإكاف شيء، فـانطلق يوسف بها حتـى إذا كان متاخما لأرض مصر فـي منقطع بلاد قومها، أدرك مريـم النفـاس، ألـجأها إلـى آريّ حمار، يعني مذود الـحمار، وأصل نـخـلة، وذلك فـي زمان أحسبه بردا أو حرّا (الشكّ من أبـي جعفر) ، فـاشتدّ علـى مريـم الـمخاض فلـما وجدت منه شدّة التـجأت إلـى النـخـلة فـاحتضنتها واحتوشتها الـملائكة، قاموا صفوفـا مـحدقـين بها.

وقد رُوي عن وهب بن منبه قول آخر غير هذا، وذلك ما:

١٧٧٩٢ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لايتهم، عن وهب بن منبه، قال: لـما حضر ولادُها، يعني مريـم، ووجدت ما تـجد الـمرأة من الطلق، خرجت من الـمدينة مغربة من إيـلـياء، حتـى تدركها الولادة إلـى قرية من إيـلـياء علـى ستة أميال يقال لها بـيت لـحم، فأجاءها الـمخاض إلـى أصل نـخـلة إلـيها مذود بقرة تـحتها ربـيع من الـماء، فوضعته عندها.

وقال آخرون: بل خرجت لـما حضر وضعها ما فـي بطنها إلـى جانب الـمـحراب الشرقـي منه، فأتت أقصاه فألـجأها الـمخاض إلـى جِذع النـخـلة، وذلك قول السدي، وقد ذكرت الرواية به قبل.

١٧٧٩٣ـ حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي الـمغيرة بن عثمان، قال: سمعت ابن عباس يقول: ما هي إلا أن حملت فوضعت.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: وأخبرنـي الـمغيرة بن عثمان بن عبد اللّه أنه سمع ابن عباس يقول: لـيس إلا أن حملتْ فولدتْ.

و قوله: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا ذكر أنها قالت ذلك فـي حال الطلق استـحياء من الناس، كما:

١٧٧٩٤ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: قالت وهي تطلق من الـحبل استـحياء من الناس: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا.

تقول: يا لـيتنـي متّ قبل هذا الكرب الذي أنا فـيه، والـحزن بولادتـي الـمولود من غير بَعْل، وكنت نِسيا منسيا: شيئا نُسي فُترك طلبه كخرق الـحيض التـي إذا ألقـيت وطرحت لـم تطلب ولـم تذكر، وكذلك كل شيء نسي وترك ولـم يطلب فهو نسيّ. ونسي بفتـح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بـمعنى واحد، مثل الوَتر والوِتر، والـجَسر والـجِسر، وبأيتهما قرأ القاريء فمصيب عندنا وبـالكسر قرأت عامة قرّاء الـحجاز والـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة وبـالفتـح قرأه أهل الكوفة ومنه قول الشاعر:

كأنّ لَهَا فِـي الأرْضِ نِسْيا تَقُصّهُإذَا ما غَدَتْ وَإنْ تُـحَدّثْكَ تَبْلَتِ

و يعني ب قوله: تقصه: تطلبه، لأنها كانت نسيته حتـى ضاع، ثم ذكرته فطلبته، و يعني ب قوله: تبلت: تـحسن وتصدّق، ولو وجه النسي إلـى الـمصدر من النسيان كان صوابـا، وذلك أن العرب فـيـما ذكر عنها تقول: نسيته نسيانا ونسيا، كما قال بعضهم من طاعة الربّ وعصي الشيطان، يعني وعصيان، وكما تقول أتـيته إتـيانا وأتـيا، كما قال الشاعر:

أَتُـي الفَوَاحِشِ فِـيهِمُ مَعْرُوفَةٌويَرَوْنَ فِعْلَ الـمَكْرُماتِ حَرَامَا

وقوله مَنْسِيّا مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت: لـيتنـي كنت الشيء الذي ألقـي، فترك ونسي.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٩٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عطاء الـخراسانـي عن ابن عباس ، قوله: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لـم أخـلق، ولـم أك شيئا.

١٧٧٩٦ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا يقول: نِسيا: نُسي ذكري، ومنسيا: تقول: نسي أثري، فلا يُرى لـي أثر ولا عين.

١٧٧٩٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا: أي شيئا لا يعرف ولا يذكر.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، قوله وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا قال: لا أعرف ولا يدري من أنا.

١٧٧٩٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن أبـي جعفر، عن الربـيع بن أنس نَسْيا مَنْسِيّا قال: هو السقط.

١٧٧٩٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لـم أكن فـي الأرض شيئا قط.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً }.

اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والعراق فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها بـمعنى: فناداها جبرائيـل من بـين يديها علـى اختلاف منهم فـي تأويـله فمن متأوّل منهم إذا قرأه مِنْ تـحْتِها كذلك ومن متأوّل منهم أنه عيسى، وأنه ناداها من تـحتها بعد ما ولدته. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة: (فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها) بفتـح التاءين من تـحت، بـمعنى: فناداها الذي تـحتها، علـى أن الذي تـحتها عيسى، وأنه الذي نادى أمه. ذكر من قال: الذي ناداها من تـحتها الـمَلَك:

١٧٨٠٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبد الـمؤمن، قال: سمعت ابن عباس قرأ: فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها يعني : جبرائيـل.

١٧٨٠١ـ حدثنـي أحمد بن عبد اللّه أحمد بن يونس، قال: أخبرنا عبَثر، قال: حدثنا حصين، عن عمرو بن ميـمون الأَوْديّ، قال: الذي ناداها الـملك.

١٧٨٠٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة، أنه قرأ: فخاطبها من تـحتها.

حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة. أنه قرأ: فخاطبها من تـحتها.

حدثنا الرفـاعي، قال: حدثنا وكيع، عن أبـيه، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة أنه قرأها كذلك.

١٧٨٠٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفـيان، عن جويبر، عن الضحاك فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: جبرائيـل.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، عن سفـيان، عن جويبر، عن الضحاك ، مثله.

١٧٨٠٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها: أي من تـحت النـخـلة.

١٧٨٠٥ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فَنادَاها جبرائيـل مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي.

١٧٨٠٦ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: الـمَلَك.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها يعني : جبرائيـل كان أسفل منها.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: ناداها جبرائيـل ولـم يتكلـم عيسى حتـى أتت قومها.

ذكر من قال: ناداها عيسى صلى اللّه عليه وسلم :

١٧٨٠٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: عيسى بن مريـم.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، مثله.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٨٠٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن الـحسن فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها ابنها.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، قال: قال الـحسن: هو ابنها.

١٧٨٠٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه فَنادَاها عيسى مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي.

١٧٨١٠ـ حدثنـي أبو حميد أحمد بن الـمغيرة الـحمصي، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا مـحمد بن مهاجر، عن ثابت بن عجلان، عن سعيد بن جبـير، قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال عيسى: أما تسمع اللّه يقول: فأشارَتْ إلَـيْهِ.

١٧٨١١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: عيسى ناداها: أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعل رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا.

١٧٨١٢ـ حُدثت عن عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية الرياحيّ، عن أبـيّ بن كعب قال: الذي خاطبها هو الذي حملته فـي جوفها ودخـل من فـيها.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك عندنا قول من قال: الذي ناداها ابنها عيسى، وذلك أنه من كناية ذكره أقرب منه من ذكر جبرائيـل، فردّه علـى الذي هو أقرب إلـيه أولـى من ردّه علـى الذي هو أبعد منه، ألا ترى فـي سياق قوله فحَمَلَتْهُ فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا يعني به: فحملت عيسى فـانتبذت به، ثم

قـيـل: فناداها نسقا علـى ذلك من ذكر عيسى والـخبر عنه. ولعلة أخرى، وهي قوله: فأشارَتْ إلَـيْهِ ولـم تشر إلـيه إن شاء اللّه إلا وقد علـمت أنه ناطق فـي حاله تلك، وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بـمخاطبته إياها بقوله لها: أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا وما أخبر اللّه عنه أنه قال لها أشيري للقوم إلـيه، ولو كان ذلك قولاً من جبرائيـل، لكان خـلـيقا أن يكون فـي ظاهر الـخبر، مبـينا أن عيسى سينطق، ويحتـجّ عنها للقوم، وأمر منه لها بأن تشير إلـيه للقوم إذا سألوها عن حالها وحاله.

فإذا كان ذلك هو الصواب من التأويـل الذي بـيّنا، فبـين أن كلتا القراءتـين، أعنـي مِنْ تَـحْتِها بـالكسر، و(مَنْ تَـحْتَها) بـالفتـح صواب. وذلك أنه إذا قرىء بـالكسر كان فـي قوله فَنادَاها ذكر من عيسى: وإذا قرىء مِنْ تَـحْتِها بـالفتـح كان الفعل لـمن وهو عيسى. فتأويـل الكلام إذن: فناداها الـمولد من تـحتها أن لا تـحزنـي يا أمه قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا كما:

١٧٨١٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي، لا ذات زوج فأقول ومن زوج، ولا مـملوكة فأقول من سيدي، أيّ شيء عذري عند الناس يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا فقال لها عيسى: أنا أكفـيك الكلام.

واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بـالسريّ فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: عنـي به: النهر الصغير. ذكر من قال ذلك:

١٧٨١٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن البراء بن عازب قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: الـجدول.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول فـي هذه الاَية قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: الـجدول.

١٧٨١٥ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا وهو نهر عيسى.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: السريّ: النهر الذي كان تـحت مريـم حين ولدته كان يجري يسمى سَريا.

١٧٨١٦ـ حدثنـي أبو حصين، قال: حدثنا عبثر، قال: حدثنا حصين، عن عمرو بن ميـمون الأَوْدِيّ، قال فـي هذه الاَية: قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: السريّ: نهر يُشرب منه.

حدثنا يعقوب وأبو كريب، قالا: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن عمرو بن ميـمون، فـي قوله: قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: هو الـجدول.

١٧٨١٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد سَرِيّا قال: نهر بـالسريانـية.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله، قال ابن جريج: نهر إلـى جنبها.

١٧٨١٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة ، عن الـحسن، فـي قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: كان سريا فقال حميد بن عبد الرحمن: إن السريّ: الـجدول، فقال: غلبتنا علـيك الأمراء.

١٧٨١٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: هو الـجدول، النهر الصغير، وهو بـالنبطية: السريّ.

حدثنـي أبو حميد الـحمصي، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا مـحمد بن مهاجر، عن ثابت بن عجلان قال: سألت سعيد بن جبـير، عن السريّ، قال: نهر.

١٧٨٢٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: النهر الصغير.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم، أنه قال: هو النهر الصغير: يعني الـجدول، يعني قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا.

١٧٨٢١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك ، قال: جدول صغير بـالسريانـية.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله تَـحْتَكِ سَرِيّا: الـجدول الصغير من الأنهار.

١٧٨٢٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا والسريّ: هو الـجدول، تسميه أهل الـحجاز.

١٧٨٢٣ـ حدثنا الـحسن، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، فـي قوله سَرِيّا قال: هو جدول.

١٧٨٢٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم وعن وهب بن منبه قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا يعني ربـيع الـماء.

١٧٨٢٥ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا والسريّ: هو النهر.

وقال آخرون: عنى به عيسى. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٢٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن الـحسن قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا والسريّ: عيسى نفسه.

١٧٨٢٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا يعني نفسه، قال: وأيّ شيء أسرى منه، قال: والذين يقولون: السريّ: هو النهر لـيس كذلك النهر، لو كان النهر لكان إنـما يكون إلـى جنبها، ولا يكون النهر تـحتها.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب قـيـل من قال: عنى به الـجدول، وذلك أنه أعلـمها ما قد أعطاها اللّه من الـماء الذي جعله عندها، وقال لها وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـا جَنِـيّا فَكُلِـي من هذا الرطب وَاشْرَبِـي من هذا الـماء وَقَرّي عَيْنا بولدك، والسريّ معروف من كلام العرب أنه النهر الصغير ومنه قول لبـيد:

فَتَوَسّطا عُرْضَ السّرِيّ وَصَدّعامَسْجُورَةً مُتَـجاوِرا قُلاّمُها

ويُروى: مثلـما مسجورة، ويُروى أيضا: فغارا.

و قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ ذكر أن الـجذع كان جذعا يابسا، وأمرها أن تهزّه، وذلك فـي أيام الشتاء، وهزّها إياه كان تـحريكه، كما:

١٧٨٢٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: حركيها. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٢٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: كان جذعا يابسا، فقال لها: هزّيه تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـا جَنِـيّا.

١٧٨٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبد الـمؤمن، قال: سمعت أبـا نهيك يقول: كانت نـخـلة يابسة.

١٧٨٣١ـ حدثنـي مـحمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول فـي قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ فكان الرطب يتساقط علـيها وذلك فـي الشتاء.

١٧٨٣٢ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ: وكان جذعا منها مقطوعا فهزّته، فإذا هو نـخـلة، وأُجري لها فـي الـمـحراب نهر، فتساقطت النـخـلة رطبـا جنـيا فَقال لها: كُلِـي وَاشْرَبِـي وَقَرّي عَيْنا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهزّي إلـيك بـالنـخـلة. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٣٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، قال: قال مـجاهد وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: النـخـلة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن عيسى بن ميـمون، عن مـجاهد ، فـي قوله وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: العجوة.

١٧٨٣٤ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن عمرو بن ميـمون، أنه تلا هذه الاَية: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـا جَنِـيّا قال: فقال عمرو: ما من شيء خير للنفساء من التـمر والرطب.

وأدخـلت البـاء فـي قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ كما يقال: زوجتك فلانة، وزوّجتك بفلانة وكما قال تَنْبُتُ بِـالدّهْنِ بـمعنى: تنبت الدهن. وإنـما تفعل العرب بذلك، لأن الأفعال تكنى عنها بـالبـاء، فـيقال إذا كنـيت عن ضربت عمرا: فعلت به، وكذلك كلّ فعل، فلذلك تدخـل البـاء فـي الأفعال وتـخرِج، فـيكون دخولها وخروجها بـمعنى، فمعنى الكلام: وهزّي إلـيك جذع النـخـلة وقد كان لو أن الـمفسرين كانوا فسروه كذلك: وهزّي إلـيك رطبـا بجذع النـخـلة، بـمعنى: علـى جذع النـخـلة، وجها صحيحا، ولكن لست أحفظ عن أحد أنه فسره كذلك. ومن الشاهد علـى دخول البـاء فـي موضع دخولها وخروجها منه سواء قول الشاعر:

بِوَادٍ يَـمانٍ يُنْبِتُ السّدْرَ صَدْرُهُوأسْفَلُهُ بـالـمَرْخِ والشّبَهانِ

واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: تُسَاقِطْ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الـمدينة والبصرة والكوفة: (تَسّاقَطُ) بـالتاء من تساقط وتشديد السين، بـمعنى: تتساقط علـيك النـخـلة رطبـا جنـيا، ثم تُدغم إحدى التاءين فـي الأخرى فتشدد، وكأن الذين قرأوا ذلك كذلك وجهوا معنى الكلام إلـي: وهزّي إلـيك بجذع النـخـلة تساقط النـخـلة علـيك رطبـا. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة: (تَساقَطُ) بـالتاء وتـخفـيف السين، ووجه معنى الكلام، إلـى مثل ما وجه إلـيه مشدّدوها، غير أنهم خالفوهم فـي القراءة. ورُوي عن البراء بن عازب أنه قرأ ذلك: (يُساقِط) بـالـياء.

١٧٨٣٥ـ حدثنـي بذلك أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن أبـي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقرؤه كذلك، وكأنه وجه معنى الكلام إلـي: وهزّي إلـيك بجذع النـخـلة يتساقط الـجذع علـيك رطبـا جنـيا.

ورُوي عن أبـي نهيك أنه كان يقرؤه: (تُسْقِطُ) بضمّ التاء وإساقط الألف.

١٧٨٣٦ـ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبد الـمؤمن، قال: سمعت أبـا نَهِيك يقرؤه كذلك، وكأنه وجه معنى الكلام إلـي: تسقط النـخـلة علـيك رطبـا جنـيا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إن هذه القراءات الثلاث، أعنـي تَسّاقَطُ بـالتاء وتشديد السين، وبـالتاء وتـخفـيف السين، وبـالـياء وتشديد السين، قراءات متقاربـات الـمعانـي، قد قرأ بكل واحدة منهنّ قرّاء أهل معرفة بـالقرآن، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب الصواب فـيه، وذلك أن الـجذع إذا تساقط رطبـا، وهو ثابت غير مقطوع، فقد تساقطت النـخـلة رطبـا، وإذا تساقطت النـخـلة رطبـا، فقد تساقطت النـخـلة بأجمعها، جذعها وغير جذعها، وذلك أن النـخـلة ما دامت قائمة علـى أصلها، فإنـما هي جذع وجريد وسعف، فإذا قطعت صارت جذعا، فـالـجذع الذي أمرت مريـم بهزّه لـم يذكر أحد نعلـمه أنه كان جذعا مقطوعا غير السديّ، وقد زعم أنه عاد بهزّها إياه نـخـلة، فقد صار معناه ومعنى من قال: كان الـمتساقط علـيها رطبـا نـخـلة واحدا، فتبـين بذلك صحة ما قلنا.

و قوله: جَنِـيّا يعني مـجنـيا وإنـما كان أصله مفعولاً فصرف إلـى فعيـل والـمـجنـي: الـمأخوذ طريا، وكل ما أخذ من ثمرة، أو نقل من موضعه بطراوته فقد اجتنـي، ولذلك

قـيـل: فلان يجتنـي الكمأة ومنه قول ابن أخت جذيـمة:

هَذَا جَنايَ وخِيارُهُ فِـيهْإذْ كُلّ جانٍ يَدُهُ إلـى فِـيهْ

٢٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً }.

وفـي هذا الكلام متروك تُرِك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر منه عنه فَنَفَخْنا فِـيهِ مِنْ رُوحِنا بغلام فحَمَلَتْهُ فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصيّا وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٨١ـ حدثنـي مـحمد بن سهل، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقِل ابن أخي وهب بن منبه، قال: سمعت وهبـا قال: لـما أرسل اللّه جبريـل إلـى مريـم تـمثّل لها بشرا سويا فقالت له: إنّـي أعُوذُ بـالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِـيّا ثم نفخ فـي جيب درعها حتـى وصلت النفخة إلـى الرحم فـاشتـملت.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه الـيـمانـي، قال: لـما قال ذلك، يعني لـما قال جبريـل قالَ كذلكِ قالَ رَبّكَ هُوَ عَلـيّ هَيّنٌ... الاَية استسلـمت لأمر اللّه ، فنفخ فـي جيبها ثم انصرف عنها.

١٧٧٨٢ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: طرحَتْ علـيها جلبـابها لـما قال جبريـل ذلك لها، فأخذ جبريـل بكميها، فنفخ فـي جيب درعها، وكان مشقوقا من قُدامها، فدخـلت النفخة صدرها، فحملت، فأتتها أختها امرأة زكريا لـيـلة تزورها فلـما فتـحت لها البـاب التزمتها، فقالت امرأة زكريا: يا مريـم أشعرت أنـي حبلـى، قالت مريـم: أشعرت أيضا أنـي حُبلـى، قالت امرأة زكريا: إنـي وجدت ما فـي بطنـي يسجد لـما فـي بطنك، فذلك قوله مُصَدّقا بكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه .

١٧٧٨٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: يقولون: إنه إنـما نفخ فـي جيب درعها وكمها.

و قوله: فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا يقول: فـاعتزلت بـالذي حملته، وهو عيسى، وتنـحّت به عن الناس مكانا قَصِيا يقول: مكانا نائيا قاصيا عن الناس، يقال: هو بـمكان قاص، وقصيّ بـمعنى واحد، كما قال الراجز:

لَتَقْعُدِنّ مَقْعَدَ القَصِيّمِنّـي ذي القاذُورَةِ الـمَقْلِـيّ

يقال منه: قصا الـمكان يقصو قصوا: إذا تبـاعد، وأقصيت الشيء: إذا أبعدته وأخّرته.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا قال: مكانا نائيا.

١٧٧٨٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: مَكانا قَصِيّا قال: قاصيا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٧٨٦ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما بلغ أن تضع مريـم، خرجت إلـى جانب الـمـحراب الشرقـي منه فأتت أقصاه.

و قوله: فأجاءَها الـمَخاضُ إلـى جِذْعِ النّـخْـلَةِ

يقول تعالـى ذكره: فجاء بها الـمخاض إلـى جذع النـخـلة، ثم

قـيـل: لـما أسقطت البـاء منه أجاءها، كما يقال: أتـيتك بزيد، فإذا حذفت البـاء قـيـل آتـيتك زيدا، كما قال جلّ ثناؤه: آتُونِـي زُبُرَ الـحَدِيدِ والـمعنى: ائتونـي بزُبَر الـحديد، ولكن الألف مُدّت لـما حذفت البـاء، وكما قالوا: خرجت به وأخرجته، وذهبت به وأذهبته، وإنـما هو أفعل من الـمـجيء، كما يقال: جاء هو، وأجأته أنا: أي جئت به، ومثل من أمثال العرب: (شرّ ما أجاءنـي إلـى مُخّة عرقوب) ، وأشاء ويقال: شرّ ما يُجِيئك ويُشِيئك إلـى ذلك ومنه قول زهير:

وَجارٍ سارَ مُعْتَـمِدا إلَـيْكُمْأجاءَتْهُ الـمَـحافَةُ وَالرّجاءُ

 يعني : جاء به، وأجاءه إلـينا وأشاءك: من لغة تـميـم، وأجاءك من لغة أهل العالـية، وإنـما تأوّل من تأوّل ذلك بـمعنى: ألـجأها، لأن الـمخاض لـما جاءها إلـى جذع النـخـلة، كان قد ألـجأها إلـيه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٨٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: فأجاءَها الـمَخاضُ قال: الـمخاض ألـجأها.

١٧٧٨٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، قال: ألـجأها الـمخاض. قال ابن جريج: وقال ابن عباس : ألـجأها الـمخاض إلـى جذع النـخـلة.

١٧٧٨٩ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فأجاءَها الـمَخاضُ إلـى جِذْعِ النّـخْـلَةِ يقول: ألـجأها الـمخاض إلـى جذع النـخـلة.

١٧٧٩٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فأجاءَها الـمَخاضُ إلـى جِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: اضطرّها إلـى جذع النـخـلة.

واختلفوا فـي أيّ الـمكان الذي انتبذتْ مريـم بعيسى لوضعه، وأجاءها إلـيه الـمخاض، فقال بعضهم: كان ذلك فـي أدنى أرض مصر، وآخر أرض الشأم، وذلك أنها هربت من قومها لـما حملت، فتوجهت نـحو مصر هاربة منهم. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٩١ـ حدثنا مـحمد بن سهل، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقِل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: لـما اشتـملت مريـم علـى الـحمل، كان معها قَرابة لها، يقال له يوسف النـجّار، وكانا منطلقـين إلـى الـمسجد الذي عند جبل صِهْيَون، وكان ذلك الـمسجد يؤمئذ من أعظم مساجدهم، فكانت مريـم ويوسف يخدمان فـي ذلك الـمسجد، فـي ذلك الزمان، وكان لـخدمته فضل عظيـم، فرغبـا فـي ذلك، فكانا يـلـيان معالـجته بأنفسهما، تـحبـيره وكناسته وطهوره، وكلّ عمل يعمل فـيه، وكان لا يعمل من أهل زمانهما أحد أشدّ اجتهادا وعبـادة منهما، فكان أوّل من أنكر حَمْل مريـم صاحُبها يوسف فلـما رأى الذي بها استفظعه، وعظُم علـيه، وفُظِع به، فلـم يدر علـى ماذا يضع أمرها، فإذا أراد يوسف أن يتهمها، ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لـم تغب عنه ساعة قطّ وإذا أراد أن يبرئها، رأى الذي ظهر علـيها فلـما اشتدّ علـيه ذلك كلّـمها، فكان أوّل كلامه إياها أن قال لها: إنه قد حدث فـي نفسي من أمرك أمر قد خشيته، وقد حَرَصت علـى أن أميته وأكتـمه فـي نفسي، فغلبنـي ذلك، فرأيت الكلام فـيه أشفـى لصدري، قالت: فقل قولاً جميلاً، قال: ما كنت لأقول لك إلا ذلك، فحدثـينـي، هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم، قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألـم تعلـم أن اللّه تبـارك وتعالـى أنبت الزرع يوم خـلقه من غير بذر، والبذر يومئذ إنـما صار من الزرع الذي أنبته اللّه من غير بذر أو لـم تعلـم أن اللّه بقدرته أنبت الشجر بغير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خـلق كلّ واحد منهما وحده، أم تقول: لن يقدر اللّه علـى أن ينبت الشجر حتـى استعان علـيه بـالـماء، ولولا ذلك لـم يقدر علـى إنبـاته؟ قال يوسف لها: لا أقول هذا، ولكنـي أعلـم أن اللّه تبـارك وتعالـى بقدرته علـى ما يشاء يقول لذلك كن فـيكون، قالت مريـم: أو لـم تعلـم أن اللّه تبـارك وتعالـى خـلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر؟ قال: بلـى، فلـما قالت له ذلك، وقع فـي نفسه أن الذي بها شيء من اللّه تبـارك وتعالـى، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لـما رأى من كتـمانها لذلك.

ثم تولـى يوسف خدمة الـمسجد، وكفـاها كلّ عمل كانت تعمل فـيه، وذلك لـما رأى من رقة جسمها، واصفرار لونها، وكلف وجهها، ونتوّ بطنها، وضعف قوّتها، ودأب نظرها، ولـم تكن مريـم قبل ذلك كذلك فلـما دنا نفـاسها أوحى اللّه إلـيها أن اخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك عيروك، وقتلوا ولدك، فأفضت ذلك إلـى أختها، وأختها حينئذ حُبلـى، وقد بشرت بـيحيى، فلـما التقـيا وجدت أمّ يحيى ما فـي بطنها خرّ لوجهه ساجدا معترفـا لعيسى، فـاحتـملها يوسف إلـى أرض مصر علـى حمار له لـيس بـينها حين ركبت وبـين الإكاف شيء، فـانطلق يوسف بها حتـى إذا كان متاخما لأرض مصر فـي منقطع بلاد قومها، أدرك مريـم النفـاس، ألـجأها إلـى آريّ حمار، يعني مذود الـحمار، وأصل نـخـلة، وذلك فـي زمان أحسبه بردا أو حرّا (الشكّ من أبـي جعفر) ، فـاشتدّ علـى مريـم الـمخاض فلـما وجدت منه شدّة التـجأت إلـى النـخـلة فـاحتضنتها واحتوشتها الـملائكة، قاموا صفوفـا مـحدقـين بها.

وقد رُوي عن وهب بن منبه قول آخر غير هذا، وذلك ما:

١٧٧٩٢ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لايتهم، عن وهب بن منبه، قال: لـما حضر ولادُها، يعني مريـم، ووجدت ما تـجد الـمرأة من الطلق، خرجت من الـمدينة مغربة من إيـلـياء، حتـى تدركها الولادة إلـى قرية من إيـلـياء علـى ستة أميال يقال لها بـيت لـحم، فأجاءها الـمخاض إلـى أصل نـخـلة إلـيها مذود بقرة تـحتها ربـيع من الـماء، فوضعته عندها.

وقال آخرون: بل خرجت لـما حضر وضعها ما فـي بطنها إلـى جانب الـمـحراب الشرقـي منه، فأتت أقصاه فألـجأها الـمخاض إلـى جِذع النـخـلة، وذلك قول السدي، وقد ذكرت الرواية به قبل.

١٧٧٩٣ـ حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي الـمغيرة بن عثمان، قال: سمعت ابن عباس يقول: ما هي إلا أن حملت فوضعت.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: وأخبرنـي الـمغيرة بن عثمان بن عبد اللّه أنه سمع ابن عباس يقول: لـيس إلا أن حملتْ فولدتْ.

و قوله: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا ذكر أنها قالت ذلك فـي حال الطلق استـحياء من الناس، كما:

١٧٧٩٤ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: قالت وهي تطلق من الـحبل استـحياء من الناس: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا.

تقول: يا لـيتنـي متّ قبل هذا الكرب الذي أنا فـيه، والـحزن بولادتـي الـمولود من غير بَعْل، وكنت نِسيا منسيا: شيئا نُسي فُترك طلبه كخرق الـحيض التـي إذا ألقـيت وطرحت لـم تطلب ولـم تذكر، وكذلك كل شيء نسي وترك ولـم يطلب فهو نسيّ. ونسي بفتـح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بـمعنى واحد، مثل الوَتر والوِتر، والـجَسر والـجِسر، وبأيتهما قرأ القاريء فمصيب عندنا وبـالكسر قرأت عامة قرّاء الـحجاز والـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة وبـالفتـح قرأه أهل الكوفة ومنه قول الشاعر:

كأنّ لَهَا فِـي الأرْضِ نِسْيا تَقُصّهُإذَا ما غَدَتْ وَإنْ تُـحَدّثْكَ تَبْلَتِ

و يعني ب قوله: تقصه: تطلبه، لأنها كانت نسيته حتـى ضاع، ثم ذكرته فطلبته، و يعني ب قوله: تبلت: تـحسن وتصدّق، ولو وجه النسي إلـى الـمصدر من النسيان كان صوابـا، وذلك أن العرب فـيـما ذكر عنها تقول: نسيته نسيانا ونسيا، كما قال بعضهم من طاعة الربّ وعصي الشيطان، يعني وعصيان، وكما تقول أتـيته إتـيانا وأتـيا، كما قال الشاعر:

أَتُـي الفَوَاحِشِ فِـيهِمُ مَعْرُوفَةٌويَرَوْنَ فِعْلَ الـمَكْرُماتِ حَرَامَا

وقوله مَنْسِيّا مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت: لـيتنـي كنت الشيء الذي ألقـي، فترك ونسي.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٧٩٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عطاء الـخراسانـي عن ابن عباس ، قوله: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لـم أخـلق، ولـم أك شيئا.

١٧٧٩٦ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا يقول: نِسيا: نُسي ذكري، ومنسيا: تقول: نسي أثري، فلا يُرى لـي أثر ولا عين.

١٧٧٩٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا: أي شيئا لا يعرف ولا يذكر.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، قوله وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا قال: لا أعرف ولا يدري من أنا.

١٧٧٩٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن أبـي جعفر، عن الربـيع بن أنس نَسْيا مَنْسِيّا قال: هو السقط.

١٧٧٩٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لـم أكن فـي الأرض شيئا قط.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً }.

اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والعراق فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها بـمعنى: فناداها جبرائيـل من بـين يديها علـى اختلاف منهم فـي تأويـله فمن متأوّل منهم إذا قرأه مِنْ تـحْتِها كذلك ومن متأوّل منهم أنه عيسى، وأنه ناداها من تـحتها بعد ما ولدته. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة: (فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها) بفتـح التاءين من تـحت، بـمعنى: فناداها الذي تـحتها، علـى أن الذي تـحتها عيسى، وأنه الذي نادى أمه. ذكر من قال: الذي ناداها من تـحتها الـمَلَك:

١٧٨٠٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبد الـمؤمن، قال: سمعت ابن عباس قرأ: فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها يعني : جبرائيـل.

١٧٨٠١ـ حدثنـي أحمد بن عبد اللّه أحمد بن يونس، قال: أخبرنا عبَثر، قال: حدثنا حصين، عن عمرو بن ميـمون الأَوْديّ، قال: الذي ناداها الـملك.

١٧٨٠٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة، أنه قرأ: فخاطبها من تـحتها.

حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة. أنه قرأ: فخاطبها من تـحتها.

حدثنا الرفـاعي، قال: حدثنا وكيع، عن أبـيه، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة أنه قرأها كذلك.

١٧٨٠٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفـيان، عن جويبر، عن الضحاك فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: جبرائيـل.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، عن سفـيان، عن جويبر، عن الضحاك ، مثله.

١٧٨٠٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها: أي من تـحت النـخـلة.

١٧٨٠٥ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فَنادَاها جبرائيـل مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي.

١٧٨٠٦ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: الـمَلَك.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها يعني : جبرائيـل كان أسفل منها.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: ناداها جبرائيـل ولـم يتكلـم عيسى حتـى أتت قومها.

ذكر من قال: ناداها عيسى صلى اللّه عليه وسلم :

١٧٨٠٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: عيسى بن مريـم.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، مثله.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٨٠٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن الـحسن فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها ابنها.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، قال: قال الـحسن: هو ابنها.

١٧٨٠٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه فَنادَاها عيسى مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي.

١٧٨١٠ـ حدثنـي أبو حميد أحمد بن الـمغيرة الـحمصي، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا مـحمد بن مهاجر، عن ثابت بن عجلان، عن سعيد بن جبـير، قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال عيسى: أما تسمع اللّه يقول: فأشارَتْ إلَـيْهِ.

١٧٨١١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: عيسى ناداها: أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعل رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا.

١٧٨١٢ـ حُدثت عن عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية الرياحيّ، عن أبـيّ بن كعب قال: الذي خاطبها هو الذي حملته فـي جوفها ودخـل من فـيها.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك عندنا قول من قال: الذي ناداها ابنها عيسى، وذلك أنه من كناية ذكره أقرب منه من ذكر جبرائيـل، فردّه علـى الذي هو أقرب إلـيه أولـى من ردّه علـى الذي هو أبعد منه، ألا ترى فـي سياق قوله فحَمَلَتْهُ فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا يعني به: فحملت عيسى فـانتبذت به، ثم

قـيـل: فناداها نسقا علـى ذلك من ذكر عيسى والـخبر عنه. ولعلة أخرى، وهي قوله: فأشارَتْ إلَـيْهِ ولـم تشر إلـيه إن شاء اللّه إلا وقد علـمت أنه ناطق فـي حاله تلك، وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بـمخاطبته إياها بقوله لها: أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا وما أخبر اللّه عنه أنه قال لها أشيري للقوم إلـيه، ولو كان ذلك قولاً من جبرائيـل، لكان خـلـيقا أن يكون فـي ظاهر الـخبر، مبـينا أن عيسى سينطق، ويحتـجّ عنها للقوم، وأمر منه لها بأن تشير إلـيه للقوم إذا سألوها عن حالها وحاله.

فإذا كان ذلك هو الصواب من التأويـل الذي بـيّنا، فبـين أن كلتا القراءتـين، أعنـي مِنْ تَـحْتِها بـالكسر، و(مَنْ تَـحْتَها) بـالفتـح صواب. وذلك أنه إذا قرىء بـالكسر كان فـي قوله فَنادَاها ذكر من عيسى: وإذا قرىء مِنْ تَـحْتِها بـالفتـح كان الفعل لـمن وهو عيسى. فتأويـل الكلام إذن: فناداها الـمولد من تـحتها أن لا تـحزنـي يا أمه قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا كما:

١٧٨١٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي، لا ذات زوج فأقول ومن زوج، ولا مـملوكة فأقول من سيدي، أيّ شيء عذري عند الناس يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا فقال لها عيسى: أنا أكفـيك الكلام.

واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بـالسريّ فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: عنـي به: النهر الصغير. ذكر من قال ذلك:

١٧٨١٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن البراء بن عازب قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: الـجدول.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول فـي هذه الاَية قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: الـجدول.

١٧٨١٥ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا وهو نهر عيسى.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: السريّ: النهر الذي كان تـحت مريـم حين ولدته كان يجري يسمى سَريا.

١٧٨١٦ـ حدثنـي أبو حصين، قال: حدثنا عبثر، قال: حدثنا حصين، عن عمرو بن ميـمون الأَوْدِيّ، قال فـي هذه الاَية: قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: السريّ: نهر يُشرب منه.

حدثنا يعقوب وأبو كريب، قالا: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن عمرو بن ميـمون، فـي قوله: قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: هو الـجدول.

١٧٨١٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد سَرِيّا قال: نهر بـالسريانـية.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله، قال ابن جريج: نهر إلـى جنبها.

١٧٨١٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة ، عن الـحسن، فـي قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: كان سريا فقال حميد بن عبد الرحمن: إن السريّ: الـجدول، فقال: غلبتنا علـيك الأمراء.

١٧٨١٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: هو الـجدول، النهر الصغير، وهو بـالنبطية: السريّ.

حدثنـي أبو حميد الـحمصي، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا مـحمد بن مهاجر، عن ثابت بن عجلان قال: سألت سعيد بن جبـير، عن السريّ، قال: نهر.

١٧٨٢٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: النهر الصغير.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم، أنه قال: هو النهر الصغير: يعني الـجدول، يعني قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا.

١٧٨٢١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك ، قال: جدول صغير بـالسريانـية.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله تَـحْتَكِ سَرِيّا: الـجدول الصغير من الأنهار.

١٧٨٢٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا والسريّ: هو الـجدول، تسميه أهل الـحجاز.

١٧٨٢٣ـ حدثنا الـحسن، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، فـي قوله سَرِيّا قال: هو جدول.

١٧٨٢٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم وعن وهب بن منبه قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا يعني ربـيع الـماء.

١٧٨٢٥ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا والسريّ: هو النهر.

وقال آخرون: عنى به عيسى. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٢٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن الـحسن قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا والسريّ: عيسى نفسه.

١٧٨٢٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا يعني نفسه، قال: وأيّ شيء أسرى منه، قال: والذين يقولون: السريّ: هو النهر لـيس كذلك النهر، لو كان النهر لكان إنـما يكون إلـى جنبها، ولا يكون النهر تـحتها.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب قـيـل من قال: عنى به الـجدول، وذلك أنه أعلـمها ما قد أعطاها اللّه من الـماء الذي جعله عندها، وقال لها وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـا جَنِـيّا فَكُلِـي من هذا الرطب وَاشْرَبِـي من هذا الـماء وَقَرّي عَيْنا بولدك، والسريّ معروف من كلام العرب أنه النهر الصغير ومنه قول لبـيد:

فَتَوَسّطا عُرْضَ السّرِيّ وَصَدّعامَسْجُورَةً مُتَـجاوِرا قُلاّمُها

ويُروى: مثلـما مسجورة، ويُروى أيضا: فغارا.

٢٥

و قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ ذكر أن الـجذع كان جذعا يابسا، وأمرها أن تهزّه، وذلك فـي أيام الشتاء، وهزّها إياه كان تـحريكه، كما:

١٧٨٢٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: حركيها. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٢٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: كان جذعا يابسا، فقال لها: هزّيه تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـا جَنِـيّا.

١٧٨٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبد الـمؤمن، قال: سمعت أبـا نهيك يقول: كانت نـخـلة يابسة.

١٧٨٣١ـ حدثنـي مـحمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول فـي قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ فكان الرطب يتساقط علـيها وذلك فـي الشتاء.

١٧٨٣٢ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ: وكان جذعا منها مقطوعا فهزّته، فإذا هو نـخـلة، وأُجري لها فـي الـمـحراب نهر، فتساقطت النـخـلة رطبـا جنـيا فَقال لها: كُلِـي وَاشْرَبِـي وَقَرّي عَيْنا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهزّي إلـيك بـالنـخـلة. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٣٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، قال: قال مـجاهد وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: النـخـلة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن عيسى بن ميـمون، عن مـجاهد ، فـي قوله وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: العجوة.

١٧٨٣٤ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن عمرو بن ميـمون، أنه تلا هذه الاَية: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـا جَنِـيّا قال: فقال عمرو: ما من شيء خير للنفساء من التـمر والرطب.

وأدخـلت البـاء فـي قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ كما يقال: زوجتك فلانة، وزوّجتك بفلانة وكما قال تَنْبُتُ بِـالدّهْنِ بـمعنى: تنبت الدهن. وإنـما تفعل العرب بذلك، لأن الأفعال تكنى عنها بـالبـاء، فـيقال إذا كنـيت عن ضربت عمرا: فعلت به، وكذلك كلّ فعل، فلذلك تدخـل البـاء فـي الأفعال وتـخرِج، فـيكون دخولها وخروجها بـمعنى، فمعنى الكلام: وهزّي إلـيك جذع النـخـلة وقد كان لو أن الـمفسرين كانوا فسروه كذلك: وهزّي إلـيك رطبـا بجذع النـخـلة، بـمعنى: علـى جذع النـخـلة، وجها صحيحا، ولكن لست أحفظ عن أحد أنه فسره كذلك. ومن الشاهد علـى دخول البـاء فـي موضع دخولها وخروجها منه سواء قول الشاعر:

بِوَادٍ يَـمانٍ يُنْبِتُ السّدْرَ صَدْرُهُوأسْفَلُهُ بـالـمَرْخِ والشّبَهانِ

واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: تُسَاقِطْ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الـمدينة والبصرة والكوفة: (تَسّاقَطُ) بـالتاء من تساقط وتشديد السين، بـمعنى: تتساقط علـيك النـخـلة رطبـا جنـيا، ثم تُدغم إحدى التاءين فـي الأخرى فتشدد، وكأن الذين قرأوا ذلك كذلك وجهوا معنى الكلام إلـي: وهزّي إلـيك بجذع النـخـلة تساقط النـخـلة علـيك رطبـا. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة: (تَساقَطُ) بـالتاء وتـخفـيف السين، ووجه معنى الكلام، إلـى مثل ما وجه إلـيه مشدّدوها، غير أنهم خالفوهم فـي القراءة. ورُوي عن البراء بن عازب أنه قرأ ذلك: (يُساقِط) بـالـياء.

١٧٨٣٥ـ حدثنـي بذلك أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن أبـي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقرؤه كذلك، وكأنه وجه معنى الكلام إلـي: وهزّي إلـيك بجذع النـخـلة يتساقط الـجذع علـيك رطبـا جنـيا.

ورُوي عن أبـي نهيك أنه كان يقرؤه: (تُسْقِطُ) بضمّ التاء وإساقط الألف.

١٧٨٣٦ـ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبد الـمؤمن، قال: سمعت أبـا نَهِيك يقرؤه كذلك، وكأنه وجه معنى الكلام إلـي: تسقط النـخـلة علـيك رطبـا جنـيا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إن هذه القراءات الثلاث، أعنـي تَسّاقَطُ بـالتاء وتشديد السين، وبـالتاء وتـخفـيف السين، وبـالـياء وتشديد السين، قراءات متقاربـات الـمعانـي، قد قرأ بكل واحدة منهنّ قرّاء أهل معرفة بـالقرآن، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب الصواب فـيه، وذلك أن الـجذع إذا تساقط رطبـا، وهو ثابت غير مقطوع، فقد تساقطت النـخـلة رطبـا، وإذا تساقطت النـخـلة رطبـا، فقد تساقطت النـخـلة بأجمعها، جذعها وغير جذعها، وذلك أن النـخـلة ما دامت قائمة علـى أصلها، فإنـما هي جذع وجريد وسعف، فإذا قطعت صارت جذعا، فـالـجذع الذي أمرت مريـم بهزّه لـم يذكر أحد نعلـمه أنه كان جذعا مقطوعا غير السديّ، وقد زعم أنه عاد بهزّها إياه نـخـلة، فقد صار معناه ومعنى من قال: كان الـمتساقط علـيها رطبـا نـخـلة واحدا، فتبـين بذلك صحة ما قلنا.

و قوله: جَنِـيّا يعني مـجنـيا وإنـما كان أصله مفعولاً فصرف إلـى فعيـل والـمـجنـي: الـمأخوذ طريا، وكل ما أخذ من ثمرة، أو نقل من موضعه بطراوته فقد اجتنـي، ولذلك

قـيـل: فلان يجتنـي الكمأة ومنه قول ابن أخت جذيـمة:

هَذَا جَنايَ وخِيارُهُ فِـيهْإذْ كُلّ جانٍ يَدُهُ إلـى فِـيهْ

٢٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَـَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فكلـي من الرطب الذي يتساقط علـيك، واشربـي من ماء السريّ الذي جعله ربك تـحتك، لا تـخشي جوعا ولا عطشا وَقَرّي عَيْنا يقول: وطيبـي نفسا وَافرحي بولادتك إياي ولا تـحزنـي. ونصبت العين لأنها هي الـموصوفة بـالقرار. وإنـما معنى الكلام: ولتقرِر عينك بولدك، ثم حوّل الفعل عن العين إلـى الـمرأة صاحبة العين، فنصبت العين إذ كان الفعل لها فـي الأصل علـى التفسير، نظير ما فعل ب قوله: فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا وإنـما هو: فإن طابت أنفسهن لكم.

و قوله: وَضَاقَ بِهِم ذَرْعا ومنه قوله: (يُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطُبـا جَنِـيّا) إنـما هو يساقط علـيك رطب الـجذع، فحوّل الفعل إلـى الـجِذع، فـي قراءة من قرأه بـالـياء. وفـي قراءة من قرأه: تُساقِطْ بـالتاء، معناه: يساقط علـيك رطب النـخـلة، ثم حوّل الفعل إلـى النـخـلة.

وقد اختلفت القراء فـي قراءة قوله: وقَرّي فأما أهل الـمدينة فقرأوه: وَقَرّي بفتـح القاف علـى لغة من قال: قَرِرت بـالـمكان أَقَرّ به، وقَرِرت عينا، أَقَرّ به قُرورا، وهي لغة قريش فـيـما ذكر لـي وعلـيها القراءة. وأما أهل نـجد فإنها تقول قررت به عينا أقربه قرارا وقررت بـالـمكان أقر به، فـالقراءة علـى لغتهم: (وَقرِي عَيْنا) بكسر القاف، والقراءة عندنا علـى لغة قريش بفتـح القاف.

و قوله: فإمّا تَرِيَنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا يقول: فإن رأيت من بنـي آدم أحدا يكلـمك أو يسائلك عن شيء من أمرك وأمر ولدك وسبب ولادتكه فَقُولـي إنّـي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما يقول: فقولـي: إنـي أوجبت علـى نفسي للّه صمتا ألاّ أكلـم أحدا من بنـي آدم الـيوم فَلَنْ أُكَلّـمَ الـيَوْمَ إنْسِيّا.

وبنـحو الذي قلنا فـي معنى الصوم، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٣٧ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، قال: سمعت أنس بن مالك يقول فـي هذه الاَية إنّـي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما صمتا.

حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة، قال: حدثنا حجاج، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنـي الـمغيرة بن عثمان، قال: سمعت أنس بن مالك يقول إنّـي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال: صمتا.

١٧٨٣٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله إنّـي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال: يعني بـالصوم: الصمت.

١٧٨٣٩ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن سلـيـمان التـيـميّ، قال: سمعت أنسا قرأ: (إنّـي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما وَصَمْتا) .

١٧٨٤٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة إنّـي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما أما قوله: صَوْما فإنها صامت من الطعام والشراب والكلام.

١٧٨٤١ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال: كان من بنـي إسرائيـل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام، إلا مِن ذكر اللّه ، فقال لها ذلك، فقالت: إنـي أصوم من الكلام كما أصوم من الطعام، إلا من ذكر اللّه فلـما كلـموها أشارت إلـيه، فقالوا: كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا فأجابهم فقال: إنّـي عَبْدُ اللّه آتانِـيَ الكِتابَ حتـى بلغ ذلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمْ قَوْلَ الـحَقّ الّذِي فِـيهِ يَـمترُونَ.

واختلفوا فـي السبب الذي من أجله أمرها بـالصوم عن كلام البشر، فقال بعضهم: أمرها بذلك لأنه لـم يكن لها حجة عند الناس ظاهرة، وذلك أنها جاءت وهي أيّـم بولد بـالكفّ عن الكلام لـيكفـيها فأمرت الكلام ولدها.. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٤٢ـ حدثنا هارون بن إسحاق الهمدانـي، قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام، قال: حدثنا إسرائيـل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، قال: كنت عند ابن مسعود، فجاء رجلان فسلـم أحدهما ولـم يسلـم الاَخر، فقال: ما شأنك؟ فقال أصحابه: حلف أن لا يكلـم الناس الـيوم، فقال عبد اللّه : كلـم الناس وسلم علـيهم، فإن تلك امرأة علـمت أن أحدا لا يصدّقها أنها حملت من غير زوج، يعني بذلك مريـم علـيها السلام.

١٧٨٤٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد لـما قال عيسى لـمريـم لا تَـحْزَنِـي قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي، لا ذات زوج ولا مـملوكة، أيّ شيء عذري عند الناس يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا فقال لها عيسى: أنا أكفـيك الكلام فإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا فقُولـي إنّـي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلّـمَ الـيَوْمَ إنْسِيّا قال: هذا كله كلام عيسى لأمه.

١٧٨٤٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه فإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا فَقُولـي إنّـي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلّـمَ الـيَوْمَ إنْسِيّا فإنـي سأكفـيك الكلام.

وقال آخرون: إنـما كان ذلك آية لـمريـم وابنها. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٤٥ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: إنّـي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال فـي بعض الـحروف: صمتا، وذلك أنك لا تلقـي امرأة جاهلة تقول: نذرت كما نذرت مريـم، ألا تكلـم يوما إلـى اللـيـل، وإنـما جعل اللّه تلك آية لـمريـم ولابنها، ولا يحلّ لأحد أن ينذر صمت يوم إلـى اللـيـل.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، فقرأ: إنّـي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما وكانت تقرأ فـي الـحرف الأوّل: صمتا، وإنـما كانت آية بعثها اللّه لـمريـم وابنها.

وقال آخرون: بل كانت صائمة فـي ذلك الـيوم، والصائم فـي ذلك الزمان كان يصوم عن الطعام والشراب وكلام الناس، فأذن لـمريـم فـي قدر هذا الكلام ذلك الـيوم وهي صائمة. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٤٦ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا يكلـمك فَقُولـي إنّـي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلـمَ الـيَوْمَ إنْسِيّا فكان من صام فـي ذلك الزمان لـم يتكلـم حتـى يـمسي، فقـيـل لها: لا تزيدي علـى هذا.

٢٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يَمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فلـما قال ذلك عيسى لأمه اطمأنت نفسها، وسلم ت لأمر اللّه ، وحملته حتـى أتت به قومها. كما:

١٧٨٤٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: أنساها يعني مريـم كرب البلاء وخوف الناس ما كانت تسمع من الـملائكة من البشارة بعيسى، حتـى إذا كلّـمها، يعني عيسى، وجاءها مصداق ما كان اللّه وعدها احتـملته ثم أقبلت به إلـى قومها.

وقال السديّ فـي ذلك ما:

١٧٨٤٨ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما ولدته ذهب الشيطان، فأخبر بنـي إسرائيـل أن مريـم قد ولدت، فأقبلوا يشتدّون، فدعوها فأتَتْ بِهِ قَوْمَها تَـحْمِلُهُ.

و قوله: قالُوا يا مَرْيَـمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيّا

يقول تعالـى ذكره: فلـما رأوا مريـم، ورأوا معها الولد الذي ولدته، قالوا لها: يا مريـم لقد جئت بأمر عجيب، وأحدثت حدثا عظيـما. وكلّ عامل عملاً أجاده وأحسنه فقد فراه، كما قال الراجز:

قَدْ أطْعَمَتِنـي دَقَلاً حُجْرِيّاقَدْ كُنْتِ تَفْرِينَ بِهِ الفَرِيّا

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٤٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه تعالـى: فَرِيّا قال: عظيـما.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٨٥٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيّا قال: عظيـما.

١٧٨٥١ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيّا قال: عظيـما.

١٧٨٥٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: لـما رأوها ورأوه معها، قالوا: يا مريـم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيّا: أي الفـاحشة غير الـمقاربة.

٢٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمّكِ بَغِيّاً }.

اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله قـيـل لها: يا أخت هارون، ومن كان هارون هذا الذي ذكره اللّه ، وأخبر أنهم نسبوا مريـم إلـى أنها أخته، فقال بعضهم: قـيـل لها يا أُخْتَ هارُونَ نسبة منهم لها إلـى الصلاح، لأن أهل الصلاح فـيهم كانوا يسمون هارون، ولـيس بهارون أخي موسى. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٥٣ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: يا أُخْتَ هارُونَ قال: كان رجلاً صالـحا فـي بنـي إسرائيـل يسمى هارون، فشبّهوها به، فقالوا: يا شبـيهة هارون فـي الصلاح.

١٧٨٥٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أبُوكِ امْرأَ سَوْءٍ وَما كانَتِ أُمّكِ بَغِيّا قال: كانت من أهل بـيت يُعرفون بـالصلاح، ولا يُعرفون بـالفساد ومن الناس من يُعرفون بـالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يُعرفون بـالفساد ويتوالدون به، وكان هارون مصلـحا مـحببـا فـي عشيرته، ولـيس بهارون أخي موسى، ولكنه هارون آخر. قال: وذُكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفـا، كلهم يسمون هارون من بنـي إسرائيـل.

١٧٨٥٥ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن سعيد بن أبـي صدقة، عن مـحمد بن سيرين، قال: نبئت أن كعبـا قال: إن قوله: يا أُخْتَ هارُونَ لـيس بهارون أخي موسى، قال: فقالت له عائشة: كذبت، قال: يا أمّ الـمؤمنـين، إن كان النبي صلى اللّه عليه وسلم قاله فهو أعلـم وأخبر، وإلا فإنـي أجد بـينهما ستّ مئة سنة، قال: فسكتت.

١٧٨٥٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: يا أُخْتَ هارُونَ قال: اسم واطأ اسما، كم بـين هارون وبـينهما من الأمـم أمـم كثـيرة.

١٧٨٥٧ـ حدثنا أبو كريب وابن الـمثنى وسفـيان وابن وكيع وأبو السائب، قالوا: حدثنا عبد اللّه بن إدريس الأودي، قال: سمعت أبـي يذكر عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن الـمغيرة بن شعبة، قال: بعثنـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى أهل نـجران، فقالوا لـي: ألستـم تقرأون يا أُخْتَ هارُونَ؟ قلت: بلـى وقد علـمتـم ما كان بـين عيسى وموسى، فرجعت إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبرته، فقال: (ألا أخْبَرْتَهُمْ أنّهُمْ كانُوا يُسَمّونَ بأنْبِـيائهِمْ وَالصّالِـحِينَ قَبْلَهُمْ) .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن الـمغيرة بن شعبة، قال: أرسلنـي النبي صلى اللّه عليه وسلم فـي بعض حوائجه إلـى أهل نـجران، فقالوا: ألـيس نبـيك يزعم أن هارون أخو مريـم هو أخو موسى؟ فلـم أدر ما أردّ علـيهم حتـى رجعت إلـى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فذكرت له ذلك، فقال: (إنّهُمْ كانُوا يُسَمّونَ بأسْماءِ مَنْ كانَ قَبْلَهُمْ) .

وقال بعضهم: عنى به هارون أخو موسى، ونُسبت مريـم إلـى أنها أخته لأنها من ولده، يقال للتـميـميّ: يا أخا تـميـم، وللـمُضَرِيّ: يا أخا مُضَر. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٥٨ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّيا أُخْتَ هارُونَ قال: كانت من بنـي هارون أخي موسى، وهو كما تقول: يا أخا بنـي فلان.

وقال آخرون: بل كان ذلك رجلاً منهم فـاسقا معلن الفسق، فنسبوها إلـيه.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك ما جاء به الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي ذكرناه، وأنها نسبت إلـى رجل من قومها.

و قوله: ما كانَ أبُوكِ امْرأَ سَوْءٍ يقول: ما كان أبوك رجل سوء يأتـي الفواحش وَما كانَتْ أُمُكِ بَغِيّا يقول: وما كانت أمك زانـية، كما:

١٧٨٥٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ وَما كانَتْ أُمّكِ بَغِيّا قال: زانـية. وقال: وَما كانَتْ أُمّكِ بَغِيّا ولـم يقل: بغيّة، لأن ذلك مـما يوصف به النساء دون الرجال، فجري مـجرى امرأة حائض وطالق، وقد كان بعضهم يشبه ذلك بقوله م: ملـحفة جديدة وامرأة قتـيـل.

٢٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فلـما قال قومها ذلك لها قالت لهم ما أمرها عيسى بقـيـله لهم، ثم أشارت لهم إلـى عيسى أن كلّـموه، كما:

١٧٨٦٠ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما قالوا لها: ما كانَ أبُوكِ امْرأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمّكِ بَغِيّا قالت لهم ما أمرها اللّه به، فلـما أرادوها بعد ذلك علـى الكلام أشارت إلـيه، إلـى عيسى.

١٧٨٦١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فأشارَتْ إلَـيهِ قال: أمرتهم بكلامه.

١٧٨٦٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه فأشارَتْ إلَـيهِ يقول: أشارت إلـيه أن كلّـموه.

١٧٨٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله فأشارَتْ إلَـيهِ أن كَلّـموه.

و قوله: قالُوا كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا

يقول تعالـى ذكره: قال قومها لها: كيف نكلـم من وُجد فـي الـمهد؟ وكان فـي قوله مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا معناها التـمام، لا التـي تقتضي الـخبر، وذلك شبـيه الـمعنى بكان التـي فـي قوله هَلْ كُنْتُ إلاّ بَشَرا رَسُولاً وإنـما معنى ذلك: هل أنا إلا بشر رسول؟ وهل وجدت أو بعثت وكما قال زهير بن أبـي سُلْـمَى:

زَجَرْتُ علَـيْهِ حُرّةً أرْحَبِـيّةًوَقَدْ كانَ لَوْنُ اللّـيْـلِ مِثْلَ الأرَنْدَجِ

بـمعنى: وقد صار أو وُجد. و

قـيـل: إنه عنـي بـالـمهد فـي هذا الـموضع: حجر أمه. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٦٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا والـمهد: الـحجر.

قال أبو جعفر: وقد بـيّنا معنى الـمهد فـيـما مضى بشواهده، فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فلـما قال قوم مريـم لها كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا وظنوا أن ذلك منها استهزاء بهم، قال عيسى لها متكلـما عن أمه: إنّـي عَبْدُ اللّه آتانِـيَ الكِتاب. وكانوا حين أشارت لهم إلـى عيسى فـيـما ذُكر عنهم غضبوا، كما:

١٧٨٦٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما أشارت لهم إلـى عيسى غضبوا، وقالوا: لسخريتها بنا حين تأمرنا أن نكلـم هذا الصبـيّ أشدّ علـينا من زناها قالُوا كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا.

١٧٨٦٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه قالُوا كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا فأجابهم عيسى عنها فقال لهم إنّـي عَبْدُ اللّه آتانِـيَ الكِتابَ وَجَعَلَنِـي نَبِـيّا... الاَية.

١٧٨٦٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: قالُوا كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا قال لهم: إنّـي عَبْدُ اللّه آتانِـيَ الكِتابَ وَجَعَلَنِـي نَبِـيّا فقرأ حتـى بلغ ولَـمْ يَجْعَلْنِـي جَبّـارا شَقِـيّا فقالوا: إن هذا لأمر عظيـم.

١٧٨٦٨ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول: كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا قال إنّـي عَبْدُ اللّه لـم يتكلـم عيسى إلا عند ذلك حين قالُوا كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا.

و قوله: آتانِـيَ الكِتابَ يقول القائل: أو آتاه الكتاب والوحي قبل أن يخـلق فـي بطن أمه فإن معنى ذلك بخلاف ما يظنّ، وإنـما معناه: وقضى يوم قضى أمور خـلقه إلـيّ أن يؤتـينـي الكتاب، كما:

١٧٨٦٩ـ حدثنـي بشر بن آدم، قال: حدثنا الضحاك ، يعني ابن مخـلد، عن سفـيان، عن سماك، عن عكرمة قالَ آتانِـيَ الكِتابَ قال: قضى أن يؤتـينـي الكتاب فـيـما مضى.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا سفـيان، عن سماك، عن عكرمة، فـي قوله إنّـي عَبْدُ اللّه آتانِـيَ الكِتابَ قال: القضاء.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، عن إسرائيـل، عن سماك، عن عكرمة، فـي قول اللّه إنّـي عَبْدُ اللّه آتانِـيَ الكِتابَ قال: قضى أن يؤتـينـي الكتاب.

و قوله: وَجَعَلَنِـي نَبِـيّا وقد بـيّنت معنى النبي واختلاف الـمختلفـين فـيه، والصحيح من القول فـيه عندنا بشواهده فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. وكان مـجاهد يقول فـي معنى النبي وحده ما:

١٧٨٧٠ـ حدثنا به مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قال: النبي وحده الذي يكلـم وينزل علـيه الوحي ولا يرسل.

وقوله وَجَعَلَنِـي مُبـارَكا اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: وجعلنـي نفـاعا. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٧١ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلـحي، قال: حدثنا العلاء، عن عائشة امرأة لـيث، عن لـيث، عن مـجاهد وَجَعَلَنِـي مُبـارَكا قال: نفـاعا.

وقال آخرون: كانت بركته الأمر بـالـمعروف والنهي عن الـمنكر. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٧٢ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: حدثنا مـحمد بن يزيد بن خنـيس الـمخزومي، قال: سمعت وُهيب بن ابن الورد مولـى بنـي مخزوم، قال: لقـي عالـم عالـما لـما هو فوقه فـي العلـم، فقال له: يرحمك اللّه ، ما الذي أعلن من علـمي، قال: الأمر بـالـمعروف والنهي عن الـمنكر، فإنه دين اللّه الذي بعث به أنبـياءه إلـى عبـاده، وقد اجتـمع الفقهاء علـى قول اللّه وَجَعَلَنِـي مُبـارَكا أيْنَـما كُنْتُ و

قـيـل: ما بركته؟ قال: الأمر بـالـمعروف والنهي عن الـمنكر أينـما كان.

وقال آخرون: معنى ذلك: جعلنـي معلّـم الـخير. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٧٣ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا سفـيان فـي قوله وَجَعَلَنِـي مُبـارَكا أيْنَـما كُنْتُ قال: معلـما للـخير.

١٧٨٧٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن لـيث، عن مـجاهد ، قوله: وَجَعَلَنِـي مُبـارَكا أيْنَـما كُنْتُ قال: معلـما للـخير حيثما كنت.

و قوله: وأوْصَانِـي بـالصّلاةِ وَالزّكاةِ يقول: وقضى أن يوصينـي بـالصلاة والزكاة، يعني الـمـحافظة علـى حدود الصلاة وإقامتها علـى ما فرضها علـيّ. وفـي الزكاة معنـيان: أحدهما: زكاة الأموال أن يؤدّيها. والاَخر: تطهير الـجسد من دنس الذنوب فـيكون معناه: وأوصانـي بترك الذنوب واجتناب الـمعاصي.

و قوله: ما دُمْتُ حَيّا يقول: ما كنت حيا فـي الدنـيا موجودا، وهذا يبـين عن أن معنى الزكاة فـي هذا الـموضع: تطهير البدن من الذنوب، لأن الذي يوصف به عيسى صلوات اللّه وسلامه علـيه أنه كان لا يدّخر شيئا لغد، فتـجب علـيه زكاة الـمال، إلا أن تكون الزكاة التـي كانت فرضت علـيه الصدقة بكلّ ما فضل عن قوته، فـيكون ذلك وجها صحيحا.

٣٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فلـما قال قومها ذلك لها قالت لهم ما أمرها عيسى بقـيـله لهم، ثم أشارت لهم إلـى عيسى أن كلّـموه، كما:

١٧٨٦٠ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما قالوا لها: ما كانَ أبُوكِ امْرأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمّكِ بَغِيّا قالت لهم ما أمرها اللّه به، فلـما أرادوها بعد ذلك علـى الكلام أشارت إلـيه، إلـى عيسى.

١٧٨٦١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فأشارَتْ إلَـيهِ قال: أمرتهم بكلامه.

١٧٨٦٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه فأشارَتْ إلَـيهِ يقول: أشارت إلـيه أن كلّـموه.

١٧٨٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله فأشارَتْ إلَـيهِ أن كَلّـموه.

و قوله: قالُوا كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا

يقول تعالـى ذكره: قال قومها لها: كيف نكلـم من وُجد فـي الـمهد؟ وكان فـي قوله مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا معناها التـمام، لا التـي تقتضي الـخبر، وذلك شبـيه الـمعنى بكان التـي فـي قوله هَلْ كُنْتُ إلاّ بَشَرا رَسُولاً وإنـما معنى ذلك: هل أنا إلا بشر رسول؟ وهل وجدت أو بعثت وكما قال زهير بن أبـي سُلْـمَى:

زَجَرْتُ علَـيْهِ حُرّةً أرْحَبِـيّةًوَقَدْ كانَ لَوْنُ اللّـيْـلِ مِثْلَ الأرَنْدَجِ

بـمعنى: وقد صار أو وُجد. و

قـيـل: إنه عنـي بـالـمهد فـي هذا الـموضع: حجر أمه. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٦٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا والـمهد: الـحجر.

قال أبو جعفر: وقد بـيّنا معنى الـمهد فـيـما مضى بشواهده، فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فلـما قال قوم مريـم لها كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا وظنوا أن ذلك منها استهزاء بهم، قال عيسى لها متكلـما عن أمه: إنّـي عَبْدُ اللّه آتانِـيَ الكِتاب. وكانوا حين أشارت لهم إلـى عيسى فـيـما ذُكر عنهم غضبوا، كما:

١٧٨٦٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما أشارت لهم إلـى عيسى غضبوا، وقالوا: لسخريتها بنا حين تأمرنا أن نكلـم هذا الصبـيّ أشدّ علـينا من زناها قالُوا كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا.

١٧٨٦٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه قالُوا كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا فأجابهم عيسى عنها فقال لهم إنّـي عَبْدُ اللّه آتانِـيَ الكِتابَ وَجَعَلَنِـي نَبِـيّا... الاَية.

١٧٨٦٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: قالُوا كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا قال لهم: إنّـي عَبْدُ اللّه آتانِـيَ الكِتابَ وَجَعَلَنِـي نَبِـيّا فقرأ حتـى بلغ ولَـمْ يَجْعَلْنِـي جَبّـارا شَقِـيّا فقالوا: إن هذا لأمر عظيـم.

١٧٨٦٨ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول: كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا قال إنّـي عَبْدُ اللّه لـم يتكلـم عيسى إلا عند ذلك حين قالُوا كَيْفَ نُكَلّـمُ مَنْ كانَ فِـي الـمَهْدِ صَبِـيّا.

و قوله: آتانِـيَ الكِتابَ يقول القائل: أو آتاه الكتاب والوحي قبل أن يخـلق فـي بطن أمه فإن معنى ذلك بخلاف ما يظنّ، وإنـما معناه: وقضى يوم قضى أمور خـلقه إلـيّ أن يؤتـينـي الكتاب، كما:

١٧٨٦٩ـ حدثنـي بشر بن آدم، قال: حدثنا الضحاك ، يعني ابن مخـلد، عن سفـيان، عن سماك، عن عكرمة قالَ آتانِـيَ الكِتابَ قال: قضى أن يؤتـينـي الكتاب فـيـما مضى.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا سفـيان، عن سماك، عن عكرمة، فـي قوله إنّـي عَبْدُ اللّه آتانِـيَ الكِتابَ قال: القضاء.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، عن إسرائيـل، عن سماك، عن عكرمة، فـي قول اللّه إنّـي عَبْدُ اللّه آتانِـيَ الكِتابَ قال: قضى أن يؤتـينـي الكتاب.

و قوله: وَجَعَلَنِـي نَبِـيّا وقد بـيّنت معنى النبي واختلاف الـمختلفـين فـيه، والصحيح من القول فـيه عندنا بشواهده فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. وكان مـجاهد يقول فـي معنى النبي وحده ما:

١٧٨٧٠ـ حدثنا به مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قال: النبي وحده الذي يكلـم وينزل علـيه الوحي ولا يرسل.

٣١

وقوله وَجَعَلَنِـي مُبـارَكا اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: وجعلنـي نفـاعا. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٧١ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلـحي، قال: حدثنا العلاء، عن عائشة امرأة لـيث، عن لـيث، عن مـجاهد وَجَعَلَنِـي مُبـارَكا قال: نفـاعا.

وقال آخرون: كانت بركته الأمر بـالـمعروف والنهي عن الـمنكر. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٧٢ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: حدثنا مـحمد بن يزيد بن خنـيس الـمخزومي، قال: سمعت وُهيب بن ابن الورد مولـى بنـي مخزوم، قال: لقـي عالـم عالـما لـما هو فوقه فـي العلـم، فقال له: يرحمك اللّه ، ما الذي أعلن من علـمي، قال: الأمر بـالـمعروف والنهي عن الـمنكر، فإنه دين اللّه الذي بعث به أنبـياءه إلـى عبـاده، وقد اجتـمع الفقهاء علـى قول اللّه وَجَعَلَنِـي مُبـارَكا أيْنَـما كُنْتُ و

قـيـل: ما بركته؟ قال: الأمر بـالـمعروف والنهي عن الـمنكر أينـما كان.

وقال آخرون: معنى ذلك: جعلنـي معلّـم الـخير. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٧٣ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا سفـيان فـي قوله وَجَعَلَنِـي مُبـارَكا أيْنَـما كُنْتُ قال: معلـما للـخير.

١٧٨٧٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن لـيث، عن مـجاهد ، قوله: وَجَعَلَنِـي مُبـارَكا أيْنَـما كُنْتُ قال: معلـما للـخير حيثما كنت.

و قوله: وأوْصَانِـي بـالصّلاةِ وَالزّكاةِ يقول: وقضى أن يوصينـي بـالصلاة والزكاة، يعني الـمـحافظة علـى حدود الصلاة وإقامتها علـى ما فرضها علـيّ. وفـي الزكاة معنـيان: أحدهما: زكاة الأموال أن يؤدّيها. والاَخر: تطهير الـجسد من دنس الذنوب فـيكون معناه: وأوصانـي بترك الذنوب واجتناب الـمعاصي.

و قوله: ما دُمْتُ حَيّا يقول: ما كنت حيا فـي الدنـيا موجودا، وهذا يبـين عن أن معنى الزكاة فـي هذا الـموضع: تطهير البدن من الذنوب، لأن الذي يوصف به عيسى صلوات اللّه وسلامه علـيه أنه كان لا يدّخر شيئا لغد، فتـجب علـيه زكاة الـمال، إلا أن تكون الزكاة التـي كانت فرضت علـيه الصدقة بكلّ ما فضل عن قوته، فـيكون ذلك وجها صحيحا.

٣٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: مخبرا عن قـيـل عيسى للقوم: وجعلنـي مبـاركا وبرّا: أي جعلنـي برّا بوالدتـي. والبرّ هو البـارّ، يقال: هو برّ بوالده، وبـارّ به، وبفتـح البـاء قرأتْ هذا الـحرف قرّاء الأمصار. وروي عن أبـي نهيك ما:

١٧٨٧٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبد الـمؤمن، عن أبـي نهيك أنه قرأ: وبَرّا بِوَالِدَتـي من قول عيسى علـيه السلام، قال أبو نهيك: أوصانـي بـالصلاة والزكاة والبرّ بـالوالدين، كما أوصانـي بذلك.

فكأنّ أبـا نهيك وجه تأويـل الكلام إلـى قوله وَبَرّا بِوَالِدَتـي هو من خبر عيسى، عن وصية اللّه إياه به، كما أن قوله: وأوْصَانِـي بـالصّلاةِ والزّكاةِ من خبره عن وصية اللّه إياه بذلك. فعلـى هذا القول يجب أن يكون نصب البرّ بـمعنى عمل الوصية فـيه، لأن الصلاة والزكاة وإن كانتا مخفوضتـين فـي اللفظ، فإنهما بـمعنى النصب من أجل أنه مفعول بهما.

و قوله: ولَـمْ يَجْعَلْنِـي جَبّـارا شَقِـيّا يقول: ولـم يجعلنـي مستكبرا علـى اللّه فـيـما أمرنـي به، ونهانـي عنه. شقـيا، ولكن ذللنـي لطاعته، وجعلنـي متواضعا، كما:

١٧٨٧٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: ذكر لنا أنه يعني عيسى، كان يقول: سلونـي، فإن قلبـي لـيّن، وإنـي صغير فـي نفسي مـما أعطاه اللّه من التواضع.

١٧٨٧٧ـ وحدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَبَرّا بِوَالِدَتـي ولَـمْ يَجْعَلْنِـي جَبّـارا شَقِـيّا ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مَريـم يحيـي الـموتـى، ويُبرىء الأكمه والأبرص، فـي آيات سلطه اللّه علـيهنّ، وأذن له فـيهنّ، فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أُرضعت به، فقال نبـيّ اللّه ابن مريـم يجيبها: طوبى لـمن تلا كتاب اللّه ، واتبع ما فـيه ولَـمْ يَكُنْ جَبّـارا شَقِـيّا.

١٧٨٧٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا مـحمد بن كثـير، عن عبد اللّه بن واقد أبـي رجاء، عن بعض أهل العلـم، قال: لا تـجد عاقّا إلا وجدته جبـارا شقـيا. ثم قرأ وَبَرّا بِوَالِدَتـي ولَـمْ يَجْعَلْنِـي جَبّـارا شَقِـيّا قال: ولا تـجد سيىء الـمِلْكة إلا وجدته مختالاً فخورا، ثم قرأ ومَا مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُورا.

٣٣

و قوله: والسّلامُ عَلـيّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أمُوتُ ويَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا يقول: والأمنة من اللّه علـيّ من الشيطان وجنده يوم ولدت أن ينالوا منـي ما ينالون مـمن يولد عند الولادة، من الطعن فـيه، ويوم أموت، من هول الـمطلع، ويوم أبعث حيا يوم القـيامة أن ينالنـي الفزع الذي ينال الناس بـمعاينتهم أهوال ذلك الـيوم، كما:

١٧٨٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لايتهم، عن وهب بن منبه وَالسّلامُ عَلـيّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوَمْ أمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا قال: يخبرهم فـي قصة خبره عن نفسه، أنه لا أب له وأنه سيـموت ثم يُبعث حيا، يقول اللّه تبـارك وتعالـى: ذلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ قَوْلَ الـحَقّ الّذِي فِـيهِ يَـمْتَرُونَ.

٣٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: هذا الذي بـيّنت لكم صفته، وأخبرتكم خبره، من أمر الغلام الذي حملته مريـم، هو عيسى ابن مريـم، وهذه الصفة صفته، وهذا الـخبر خبره، وهو قَوْلَ الـحَقّ يعني أن هذا الـخبر الذي قصصته علـيكم قول الـحقّ، والكلام الذي تلوته علـيكم قول اللّه وخبره، لا خبر غيره، الذي يقع فـيه الوهم والشكّ، والزيادة والنقصان، علـى ما كان يقول اللّه تعالـى ذكره: فقولوا فـي عيسى أيها الناس، هذا القول الذي أخبركم اللّه به عنه، لا ما قالته الـيهود، الذين زعموا أنه لغير رِشْدَة، وأنه كان ساحرا كذّابـا، ولا ما قالته النصارى، من أنه كان للّه ولدا، وإن اللّه لـم يتـخذ ولدا، ولا ينبغي ذلك له.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٨٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، قوله ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ قَوْلَ الـحَقّ قال: اللّه الـحقّ.

١٧٨٨١ـ حدثنـي يحيى بن إبراهيـم الـمسعوديّ، قال: ثنى أبـي، عن أبـيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن إبراهيـم، قال: كانوا يقولون فـي هذا الـحرف فـي قراءة عبد اللّه ، قال: الّذِي فِـيهِ يَـمْتَرُونَ، قال: كلـمة اللّه . ولو وُجّه تأويـل ذلك إلـى: ذلك عيسى بن مريـم القول الـحقّ، بـمعنى ذلك القول الـحقّ، ثم حذفت الألف واللام من القول، وأضيف إلـى الـحقّ، كما

قـيـل: إنّ هَذَا لَهُوَ حَقّ الـيَقِـينِ. وكما

قـيـل: وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ، كان تأويلاً صحيحا.

وقد اختفلت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الـحجاز والعراق: (قَوْلُ الـحَقّ) برفع القول، علـى ما وصفت من الـمعنى، وجعلوه فـي إعرابه تابعا لعيسى، كالنعت له، ولـيس الأمر فـي إعرابه عندي علـى ما قاله الذين زعموا أنه رفع علـى النعت لعيسى، إلا أن يكون معنى القول الكلـمة، علـى ما ذكرنا عن إبراهيـم، من تأويـله ذلك كذلك، فـيصحّ حينئذٍ أن يكون نعتا لعيسى، وإلا فرفعه عندي بـمضمر، وهو هذا قول الـحقّ علـى الابتداء، وذلك أن الـخبر قد تناهى عن قصة عيسى وأمه عند قوله ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ ثم ابتدأ الـخبر بأن الـحقّ فـيـما فـيه تـمتري الأمـم من أمر عيسى، هو هذا القول، الذي أخبر اللّه به عنه عبـاده، دون غيره. وقد قرأ ذلك عاصم بن أبـي النّـجُود وعبد اللّه بن عامر بـالنصب، وكأنهما أرادا بذلك الـمصدر: ذلك عيسى ابن مريـم قولاً حقا، ثم أدخـلت فـيه الألف واللام. وأما ما ذُكر عن ابن مسعود من قراءته: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـم قالُ الـحقّ) ، فإنه بـمعنى قول الـحقّ، مثل العاب والعيب، والذام والذيـم.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: الرفع، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه.

وأما قوله تعالـى ذكره: الّذِي فِـيهِ يَـمْتَرُونَ فإنه يعني : الذي فـيه يختصمون ويختلفون، من قولهم: ماريت فلانا: إذا جادلته وخاصمته: وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٨٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله ذلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ قَوْلَ الـحَقّ الّذِي فـيهِ يَـمْتَرُونَ امَتَرت فـيه الـيهود والنصارى فأما الـيهود فزعموا أنه ساحر كذّاب وأما النصارى فزعموا أنه ابن اللّه ، وثالث ثلاثة، وإله، وكذبوا كلهم، ولكنه عبد اللّه ورسوله، وكلـمته وروحه.

١٧٨٨٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: الّذِي فـيهِ يَـمْتَرُونَ قال: اختلفوا، فقالت فرقة: هو عبد اللّه ونبـيه، فآمنوا به. وقالت فرقة: بل هو اللّه . وقالت فرقة: هو ابن اللّه . تبـارك وتعالـى عما يقولون علوّا كبـيرا. قال: فذلك قوله: فـاخْتَلَفَ اْلأحْزَابُ مِنْ بَـيْنِهِمْ والتـي فـي الزخرف. قال دِقْـيوس ونسطور ومار يعقوب، قال أحدهم حين رفع اللّه عيسى: هو اللّه ، وقال الاَخر: ابن اللّه ، وقال الاَخر: كلـمة اللّه وعبده، فقال الـمفتريان: إن قولـي هو أشبه بقولك، وقولك بقولـي من قول هذا، فهلـمّ فلنقاتلهم، فقاتلوهم وأوطؤوهم إسرائيـل، فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كلّ قوم عالـمهم، فـامتروا فـي عيسى حين رُفع، فقال أحدهم: هو اللّه هبط إلـى الأرض وأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلـى السماء، وهم الـيعقوبـية، فقال الثلاثة: كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث، قل أنت فـيه، قال: هو ابن اللّه ، وهم النسطورية، فقال الاثنان: كذبت، ثم قال أحد الاثنـين للاَخر: قل فـيه، قال: هو ثالث ثلاثة: اللّه إله، وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيـلـية ملوك النصارى قال الرابع: كذبت، هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلـمته، وهم الـمسلـمون، فكان لكل رجل منهم أتبـاع علـى ما قال، فـاقتتلوا، فظهر علـى الـمسلـمين، وذلك قول اللّه : وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يأْمُرُونَ بـالقِسْطِ مِنَ النّاسِ قال قتادة : هم الذين قال اللّه : فـاخْتَلَفَ الأحْزَابُ اختلفوا فـيه فصاروا أحزابـا.

٣٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى.

{مَا كَانَ للّه أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }.

يقول تعالـى ذكره: لقد كفرت الذين قالوا: إن عيسى ابن اللّه ، وأعظموا الفِرْية علـيه، فما ينبغي للّه أن يتـخذ ولدا، ولا يصلـح ذلك له ولا يكون، بل كلّ شيء دونه فخـلقه، وذلك نظير قول عمرو بن أحمر:

فـي رأسِ خَـلْقاءَ مِنْ عَنْقاءَ مُشْرِفَةٍلا يُبْتَغَى دُوَنها سَهْلٌ وَلا جَبَلُ

وأن من قوله أنْ يَتّـخِذَ فـي موضع رفع بكان.

و قوله: سُبْحانَهُ يقول: تنزيها للّه وتبرئة له أن يكون له ما أضاف إلـيه الكافرون القائلون: عيسى ابن اللّه .

و قوله: إذَا قَضَى أمْرا فإنّـمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ يقول جل ثناؤه: إنـما ابتدأ اللّه خـلق عيسى ابتداء، وأنشأه إنشاء، من غير فحل افتـحل أمه، ولكنه قال له: كُنْ فَـيَكُونُ لأنه كذلك يبتدع الأشياء ويخترعها، إنـما يقول، إذا قضى خـلق شيء أو إنشاءه: كن فـيكون موجودا حادثا، لا يعظم علـيه خـلقه، لأنه لا يخـلقه بـمعاناة وكلفة، ولا ينشئه بـمعالـجة وشدّة.

٣٦

و قوله: وَإنّ اللّه رَبّـي وَرَبّكُمْ فـاعْبُدُوهُ اختلف القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: (وأنّ اللّه رَبّـي وَرَبكُمْ) واختلف أهل العربـية فـي وجه فتـح (أن) إذا فتـحت، فقال بعض نـحوّيـي الكوفة: فُتـحت ردّا علـى عيسى وعطفـا علـيه، بـمعنى: ذلك عيسى ابن مريـم، وذلك أن اللّه ربـي وربكم. وإذا كان ذلك كذلك كانت أن رفعا، وتكون بتأويـل خفض، كما قال: ذَلِكَ أنْ لَـمْ يَكُنْ رَبّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْـمٍ قال: ولو فتـحت علـى قوله: وأوْصَانِـي بأن اللّه ، كان وجها. وكان بعض البصريـين يقول: وذُكر ذلك أيضا عن أبـي عمرو بن العلاء، وكان مـمن يقرؤه بـالفتـح إنـما فتـحت أن بتأويـل وَقَضَى أن اللّه ربـي وربّكم. وكانت عامة قرّاء الكوفـيـين يقرؤونه: وَإنّ اللّه بكسر إن بـمعنى النسق علـى قوله: فإنّـما يَقُولُ لَهُ. وذُكر عن أبـيّ بن كعب أنه كان يقرؤه: (فإنّـما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ إنّ اللّه رَبّـي وَرَبّكُمْ) بغير واو.

قال أبو جعفر: والقراءة التـي نـختار فـي ذلك: الكسر علـى الابتداء. وإذا قرىء كذلك لـم يكن لها موضع، وقد يجوز أنّ يكون عطفـا علـى (إنّ) التـي مع قوله قالَ إنّـي عَبْدُ اللّه آتانِـيَ الكِتابَ وَإنّ اللّه رَبّـي وَرَبّكُمْ ولو قال قائل، مـمن قرأ ذلك نصبـا: نصب علـى العطف علـى الكتاب، بـمعنى: آتانـي الكتاب، وآتانـي أن اللّه ربـي وربّكم، كان وجها حسنا. ومعنى الكلام: وإنـي وأنتـم أيها القوم جميعا اللّه عبـيد، فإياه فـاعبدوا دون غيره. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٨٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لايتهم، عن وهب بن منبه، قال: عهد إلـيهم حين أخبرهم عن نفسه ومولده وموته وبعثه إنّ اللّه رَبّـي وَرَبّكُمْ فـاعْبُدُوهُ هذَا صِراطٌ مُسْتَقِـيـمٌ أي إنـي وإياكم عبـيد اللّه ، فـاعبدوه ولا تعبدوا غيره.

و قوله: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِـيـمٌ يقول: هذا الذي أوصيتكم به، وأخبرتكم أن اللّه أمرنـي به هو الطريق الـمستقـيـم، الذي من سلكه نـجا، ومن ركبه اهتدى، لأنه دين اللّه الذي أمر به أنبـياءه.

٣٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِن مّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.

يقول تعالـى ذكره: فـاختلف الـمختلفون فـي عيسى، فصاروا أحزابـا متفرّقـين من بـين قومه، كما:

١٧٨٨٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنـي الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: فـاخْتَلَفَ اْلأحْزَابُ مِنْ بَـيْنِهِمْ قال: أهل الكتاب.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٨٨٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فـاخْتَلَفَ اْلأحْزَابُ مِنْ بَـيْنِهِمْ ذُكر لنا أن لـما رُفع ابن مريـم، انتـخبت بنو إسرائيـل أربعة من فقهائهم، فقالوا للأوّل: ما تقول فـي عيسى؟ قال: هو اللّه هبط إلـى الأرض، فخـلق ما خـلق، وأحيا ما أحيا، ثم صَعِد إلـى السماء، فتابعه علـى ذلك ناس من الناس، فكانت الـيعقوبـية من النصارى وقال الثلاثة الاَخرون: نشهد أنك كاذب، فقالوا للثانـي: ما تقول فـي عيسى؟ قال: هو ابن اللّه ، فتابعه علـى ذلك ناس من الناس، فكانت النّسطورية من النصارى وقال الاثنان الاَخران: نشهد أنك كاذب، فقالوا للثالث: ما تقول فـي عيسى؟ قال: هو إله، وأمه إله، واللّه إله، فتابعه علـى ذلك ناس من الناس، فكانت الإسرائيـلـية من النصارى، فقال الرابع: أشهد أنك كاذب، ولكنه عبد اللّه ورسوله، هو كلـمة اللّه وروحه فـاختصم القوم، فقال الـمرء الـمسلـم: أنشُدكم اللّه ما تعلـمون أن عيسى كان يَطعم الطعام، وأن اللّه تبـارك وتعالـى: لا يطعم الطعام قالوا: اللّه مّ نعم، قال: هل تعلـمون أن عيسى كان ينام؟ قالوا: اللّه مّ نعم، قال فخصمهم الـمسلـم قال: فـاقتتل القوم. قال: فذُكر لنا أن الـيعقوبـية ظهرت يومئذٍ وأصيب الـمسلـمون، فأنزل اللّه فـي ذلك القرآن: إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النبي ـينَ بغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأمْرُوُنَ بِـالقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِـيـمٍ.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـاخْتَلَفَ اْلأحْزَابُ مِنْ بَـيْنِهِمْ اختلفوا فـيه فصاروا أحزابـا..

و قوله: فَوَيْـلٌ للّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيـمٍ يقول: فوادي جهنـم الذي يدعي ويلاً للذين كفروا بـاللّه ، من الزاعمين أن عيسى للّه ولد، وغيرهم من أهل الكفر به من شهودهم يوما عظيـما شأنه، وذلك يوم القـيامة. وكان قتادة يقول فـي تأويـل ذلك ما:

 

١٧٨٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال اللّه : فَوَيْـلٌ للّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيـمٍ شهدوا هولاً إذا عظيـما.

٣٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـَكِنِ الظّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ }.

يقول تعالـى ذكره مخبرا عن حال الكافرين به، الـجاعلـين له أندادا، والزاعمين أن له ولدا يوم ورودهم علـيه فـي الاَخرة: لئن كانوا فـي الدنـيا عميا عن إبصار الـحقّ، والنظر إلـى حجج اللّه التـي تدلّ علـى وحدانـيته، صما عن سماع آي كتابه، وما دعتهم إلـيه رسل اللّه فـيها من الإقرار بتوحيده، وما بعث به أنبـياءه، فما أسمعهم يوم قدومهم علـى ربهم فـي الاَخرة، وأبصرهم يومئذٍ حين لا ينفعهم الإبصار والسماع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٨٨ـ حدثنا بشر: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ ذاك واللّه يوم القـيامة، سمعوا حين لا ينفعهم السمع، وأبصروا حين لا ينفعهم البصر.

١٧٨٨٩ـ حدثنا الـحسن، قال أخبرنا عبد الرّزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله أسمِعْ بِهِمْ وأبْصرْ قال: أسمعُ قومٍ وأبصرُهُم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة ، قال أسمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ يَوْمَ يأْتُوننا يوم القـيامة.

١٧٨٩٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسن، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي جعفر، عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية، قال: أسمِعْ بحديثهم الـيوم وأبْصِرْ كيف يصنع بهم يَوْمَ يأْتُونَنا

١٧٨٩١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: أسمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ يَوْمَ يأْتُونَنا قال: هذا يوم القـيامة، فأما الدنـيا فلا، كانت علـى أبصارهم غشاوة، وفـي آذانهم وقر فـي الدنـيا فلـما كان يوم القـيامة أبصروا وسمعوا فلـم ينتفعوا، وقرأ: رَبّنا أبْصَرْنا وسَمِعْنا فـارْجِعْنا نَعْمَلَ صَالِـحا إنا مُوقِنُونَ.

و قوله: لَكِنِ الظّالِـمُونَ الـيَوْمَ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ

يقول تعالـى ذكره: لكن الكافرون الذين أضافوا إلـيه ما لـيس من صفته، وافتروا علـيه الكذب الـيوم فـي الدنـيا، فـي ضلال مبـين يقول: فـي ذهاب عن سبـيـل الـحقّ، وأخذ علـى غير استقامة، مبـين أنه جائر عن طريق الرشد والهدى، لـمن تأمله وفكّر فـيه، فهُدِي لرشده.

٣٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : وأنذر يا مـحمد هؤلاء الـمشركين بـاللّه يوم حسرتهم وندمهم، علـى ما فرّطوا فـي جنب اللّه ، وأورثت مساكنهم من الـجنة أهل الإيـمان بـاللّه والطاعة له، وأدخـلوهم مساكن أهل الإيـمان بـاللّه من النار، وأيقن الفريقان بـالـخـلود الدائم، والـحياة التـي لا موت بعدها، فـيا لها حسرةً وندامة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٩٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ، قال: حدثنا سفـيان، عن سَلَـمة بن كُهَيـل، قال: حدثنا أبو الزعراء، عن عبد اللّه فـي قصة ذكرها، قال: ما من نفس إلا وهي تنظر إلـى بـيت فـي الـجنة، وبـيت فـي النار، وهو يوم الـحسرة، فـيرى أهل النار البـيت الذي كان قد أعدّه اللّه لهم لو آمنوا، فـيقال لهم: لو آمنتـم وعملتـم صالـحا كان لكم هذا الذي ترونه فـي الـجنة، فتأخذهم الـحسرة، ويرى أهل الـجنة البـيت الذي فـي النار، فـيقال: لولا أن مَنّ اللّه علـيكم.

١٧٨٩٣ـ حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا معاوية، عن الأعمش، عن أبـي صالـح، عن أبـي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يُجاءُ بـالـمَوْتِ يَوْمَ القِـيامَةِ فَـيُوقَـفُ بـينَ الـجَنّةِ والنّارِ كأنّه كَبْشٌ أمْلَـحُ) قال: (فَـيُقالُ: يا أهْلَ الـجَنّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَـيَشْرِئِبّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَـيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الـمَوْتُ، فَـيُقالُ: يا أهْلَ النّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَـيَشْرَئبّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَـيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الـمَوْتُ، ثُمّ يُؤْمَرُ بِهِ فَـيُذْبَحُ) قال: (فَـيَقُولُ: يا أهْلَ الـجَنّةِ خُـلُودٌ فَلا مَوْت، وَيا أهْلَ النّارِ خُـلُودٌ فَلا مَوْت) قال: ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : وأنْذِرْهِمْ يَوْمَ الـحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِـي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وأشار بـيده فـي الدنـيا.

١٧٨٩٤ـ حدثنـي عبـيد بن أسبـاط بن مـحمد، قال: حدثنا أبـي، عن الأعمش، عن أبـي صالـح، عن أبـي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فـي هذه الاَية وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الـحَسْرَةِ قال: (يُنادَى: يا أهْلَ الـجَنّةِ، فَـيَشْرَئِبّونَ، فَـيَنْظُرونَ، ثُمّ يُنادَى: يا أهْلَ النّارِ فَـيَشْرَئِبّونَ فَـيَنْظُرونَ، فَـيُقالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ الـمَوْتَ؟ قال: فَـيَقُولُونَ: لا، قال: فَـيُجاءُ بـالـمَوْتِ فـي صُورَةِ كَبْشٍ أمْلَـحَ، فـيُقال: هَذَا الـمَوْتُ، ثُمّ يُؤْخَذُ فَـيُذْبَحُ، قالَ: ثُمّ يُنادِي يا أهْلَ النّار خُـلُودٌ فَلا مَوْتَ، وَيا أهْلَ الـجَنّةِ خُـلُودٌ فَلا مَوْت) ، قال: ثم قرأ وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الـحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ.

١٧٨٩٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس ، فـي قوله: وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الـحَسْرَةِ قال: يصوّر اللّه الـموت فـي صورة كبش أملـح، فـيذبح، قال: فـيـيأس أهل النار من الـموت، فلا يرجونه، فتأخذهم الـحسرة من أجل الـخـلود فـي النار، وفـيها أيضا الفزع الأكبر، ويأمن أهل الـجنة الـموت، فلا يخشونه، وأمنوا الـموت، وهو الفزع الأكبر، لأنهم يخـلدون فـي الـجنة، قال ابن جريج: يحشر أهل النار حين يذبح الـموت والفريقان ينظرون، فذلك قوله: إذْ قُضِيَ الأمْرُ قال: ذبح الـموت وَهُمْ فِـي غَفْلَةٍ.

١٧٨٩٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن أبـيه أنه أخبره أنه سمع عبـيد بن عمير فـي قصصه يقول: يؤتَـى بـالـموت كأنه دابة، فـيذبح والناس ينظرون.

١٧٨٩٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الـحَسْرَةِ قال: يوم القـيامة، وقرأ أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا عَلـى ما فَرّطْتُ فِـي جَنْبِ اللّه .

١٧٨٩٨ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الـحَسْرَةِ من أسماء يوم القـيامة، عظّمه اللّه ، وحذّره عبـادَه.

و قوله: إذْ قُضِيَ الأمْرُ يقول: إذ فُرِغ من الـحكم لأهل النار بـالـخـلود فـيها، ولأهل الـجنة بـمقام الأبد فـيها، بذبح الـموت.

و قوله: وَهُمْ فِـي غَفْلَةٍ يقول: وهؤلاء الـمشركون فـي غفلة عما اللّه فـاعل بهم يوم يأتونه خارجين إلـيه من قبورهم، من تـخـلـيده إياهم فـي جهنـم، وتوريثه مساكنهم من الـجنة غيرهم وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ

يقول تعالـى ذكره: وهم لا يصدّقون بـالقـيامة والبعث، ومـجازاة اللّه إياهم علـى سيىء أعمالهم، بـما أخبر أنه مـجازيهم به.

٤٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : لا يحزنك تكذيب هؤلاء الـمشركين يا مـحمد فـيـما أتـيتهم به من الـحقّ، فإن إلـينا مرجعهم ومصيرهم ومصير جميع الـخـلق غيرهم، ونـحن وارثو الأرض ومن علـيها من الناس، بفنائهم منها، وبقائها لا مالك لها غيرنا، ثم علـينا جزاء كلّ عامل منهم بعمله، عند مرجعه إلـينا، الـمـحسن منهم بإحسانه، والـمسيء بإساءته.

٤١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نّبِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه: وَاذْكُرْ يا مـحمد فـي كتاب اللّه إِبْرَاهِيـمَ خـلـيـل الرحمن، فـاقصص علـى هؤلاء الـمشركين قصصه وقصص أبـيه، إِنّه كَانَ صِدّيقا يقول: كان من أهل الصدق فـي حديثه وأخبـاره ومواعيده لا يكذب، والصدّيق هو الفعيـل من الصدق. وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. نَبِـيّا يقول: كان اللّه قد نبأه وأوحى إلـيه.

٤٢

و قوله: إذْ قالَ لأبِـيهِ يقول: اذكره حين قال لأبـيه يا أبَتِ لِـمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ يقول: ما تصنع بعبـادة الوَثَن الذي لا يسمع وَلا يُبْصرُ شيئا وَلا يُغْنِـي عَنْكَ شَيْئا يقول: ولا يدفع عنك ضرّ شيء، إنـما هو صورة مصوّرة لا تضرّ ولا تنفع. يقول ما تصنع بعبـادة ما هذه صفته؟ اعبد الذي إذا دعوته سمع دعاءك، وإذا أحيط بك أبصرك فنصرك، وإذا نزل بك ضرّ دفع عنك.

واختلف أهل العربـية فـي وجه دخول الهاء فـي قوله يا أبَتِ فكان بعض نـحوّيـي أهل البصرة يقول: إذا وقـفت علـيها قلت: يا أبه، وهي هاء زيدت نـحو قولك: يا أمه، ثم يقال: يا أم إذا وصل، ولكنه لـما كان الأب علـى حرفـين، كان كأنه قد أُخـلّ به، فصارت الهاء لازمة، وصارت الـياء كأنها بعدها، فلذلك قالوا: يا أبة أقبل، وجعل التاء للتأنـيث، ويجوز الترخيـم من يا أب أقبل، لأنه يجوز أن تدعو ما تضيفه إلـى نفسك فـي الـمعنى مضموما، نـحو قول العرب: يا ربّ اغفر لـي، وتقـف فـي القرآن: يا أبه فـي الكتاب. وقد يقـف بعض العرب علـى الهاء بـالتاء. وقال بعض نـحوّيـي الكوفة: الهاء مع أبة وأمة هاء وقـف، كثرت فـي كلامهم حتـى صارت كهاء التأنـيث، وأدخـلوا علـيها الإضافة، فمن طلب الإضافة، فهي بـالتاء لا غير، لأنك تطلب بعدها الـياء، ولا تكون الهاء حينئذٍ إلا تاء، كقولك: يا أبت لا غير، ومن قال: يا أبه، فهو الذي يقـف بـالهاء، لأنه لا يطلب بعدها ياء ومن قال: يا أبتا، فإنه يقـف علـيها بـالتاء، ويجوز بـالهاء فأما بـالتاء، فلطلب ألف الندبة، فصارت الهاء تاء لذلك، والوقـف بـالهاء بعيد، إلا فـيـمن قال: (يا أميـمةَ ناصِبِ) فجعل هذه الفتـحة من فتـحة الترخيـم، وكأن هذا طرف الاسم، قال: وهذا يعيد.

٤٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَبَتِ إِنّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتّبِعْنِيَ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: قال إبراهيـم لأبـيه: يا أبت إنـي قد آتانـي اللّه من العلـم ما لـم يؤتك فـاتبعنـي: يقول: فـاقبل منـي نصيحتـي أهْدِكَ صِرَاطا سَوِيّا يقول: أبصرك هدى الطريق الـمستوى الذي لا تضلّ فـيه إن لزمته، وهو دين اللّه الذي لا اعوجاج فـيه.

٤٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلرّحْمَـَنِ عَصِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للّه عاصيا. والعصيّ هو ذو العصيان، كما العلـيـم ذو العلـم. وقد قال قوم من أهل العربـية: العصيّ: هو العاصي، والعلـيـم هو العالـم، والعريف هو العارف، واستشهدوا لقولهم ذلك، بقول طريف بن تـميـم العنبريّ.

أوَ كُلّـما وَرَدَتْ عُكاظَ قَبِـيـلَةٌبَعَثُوا إلـيّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسّمُ

وقالوا: قال عريفهم وهو يريد: عارفهم، واللّه أعلـم.

٤٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَبَتِ إِنّيَ أَخَافُ أَن يَمَسّكَ عَذَابٌ مّنَ الرّحْمَـَنِ فَتَكُونَ لِلشّيْطَانِ وَلِيّاً }.

يقول: يا أبت إنـي أعلـم أنك إن متّ علـى عبـادة الشيطان أنه يـمسك عذاب من عذاب اللّه فَتَكُونَ لِلشيّطْانِ وَلِـيّا يقول: تكون له ولـيا دون اللّه ويتبرأ اللّه منك، فتهلك، والـخوف فـي هذا الـموضع بـمعنى العلـم، كما الـخشية بـمعنى العلـم، فـي قوله: فَخَشِينا أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانا وَكُفْرا.

٤٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ لَئِن لّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: قال أبو إبراهيـم لإبراهيـم، حين دعاه إبراهيـم إلـى عبـادة اللّه وترك عبـادة الشيطان، والبراءة من الأوثان والأصنام: أرَاغِبٌ أنْتَ يا إبراهيـم عن عبـادة آلهتـي؟ لَئِن أنت لَـمْ تَنْتَهِ عن ذكرها بسوء لأَرْجُمَنّكَ يقول: لأرجمنك بـالكلام، وذلك السبّ، والقول القبـيح. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٨٩٩ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ قال أرَاغِبٌ أنْتَ عَنْ آلِهَتِـي يا إبْرَاهِيـمُ لَئِنْ لَـمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ بـالشتـيـمة والقول.

١٧٩٠٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، فـي قوله: لَئِنَ لَـمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ قال: بـالقول لأشتـمنك.

١٧٩٠١ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: لأَرْجُمَنّكَ يعني : رجْم القول.

وأما قوله: وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله، فقال بعضهم: معنى ذلك: واهجرنـي حينا طويلاً ودهرا. ووجّهوا معنى الـملـيّ إلـى الـمُلاوة من الزمان، وهو الطويـل منه. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٠٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي الوضاح، عن عبد الكريـم، عن مـجاهد ، فـي قوله: وَاهجُرْنِـي مَلِـيّا قال: دهرا.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله مَلِـيّا قال حينا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٧٩٠٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن الـحسن وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا قال: طويلاً.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا قال: زمانا طويلاً.

١٧٩٠٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سَلَـمة، عن ابن إسحاق وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا يقزل: دهرا، والدهر: الـملـيّ.

١٧٩٠٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا قال دهرا.

١٧٩٠٦ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، حدثنا أسبـاط، عن السديّ وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا قال: أبدا. وقال آخرون: بل معنى ذلك: واهجرنـي سَويّا سالـما من عقوبتـي إياك، ووجّهوا معنى الـملـيّ إلـى قول الناس: فلان ملـيّ بهذا الأمر: إذا كان مضطلعا به غنـيا فـيه. وكأن معنى الكلام كان عندهم: واهجرنـي وعرضُك وافر من عقوبتـي، وجسمك معافـى من أذاي. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٠٧ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عباس وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا يقول: اجتنبنـي سَوِيّا.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا قال: اجتنبنـي سالـما قبل أن يصيبك منـي عقوبة.

١٧٩٠٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَاهْجُرْنِـي مَلـيّا قال: سالـما.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، مثله.

١٧٩٠٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن كثـير بن درهم أبو غسان، قال: حدثنا قرة بن خالد، عن عطية الـجدلـي وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا قال: سالـما.

١٧٩١٠ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله وَاهْجُرْنِـي مَلـيّا: اجتنبنـي سالـما لا يصيبك منـي معرّة.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين بتأويـل الاَية عندي قول من قال: معنى ذلك: واهجرنـي سويا، سِلـما من عقوبتـي، لأنه عقـيب قوله: لَئِنْ لَـمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ وذلك وعيد منه له إن لـم ينته عن ذكر آلهته بـالسوء أن يرجمه بـالقول السيىء، والذي هو أولـى بأن يتبع ذلك التقدّم إلـيه بـالانتهاء عنه قبل أن تناله العقوبة، فأما الأمر بطول هجره فلا وجه له.

٤٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّيَ إِنّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: قال إبراهيـم لأبـيه حين توعّده علـى نصيحته إياه ودعائه إلـى اللّه بـالقول السيىء والعقوبة: سلام علـيك يا أبت، يقول: أمنة منـي لك أن أعاودك فـيـما كرهت، ولدعائك إلـيّ ما توعدتنـي علـيه بـالعقوبة، ولكنـي سأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّـي يقول: ولكنـي سأسأل ربـي أن يستر علـيك ذنوبك بعفوه إياك عن عقوبتك علـيها إنّهُ كانَ بِـي حَفِـيّا يقول: إن ربـي عهدته بـي لطيفـا يجيب دعائي إذا دعوته يقال منه: تـحفـى بـي فلان. وقد بـيّنت ذلك بشواهده فـيـما مضى، بـما أغنى عن إعادته هاهنا. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٩١١ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: إنّهُ كانَ بِـي حَفـيّا يقول: لطيفـا.

١٧٩١٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: إنّهُ كانَ بِـي حَفِـيّا قال: إنه كان بـي لطيفـا، فإن الـحفـيّ: اللطيف.

٤٨

و قوله: وأعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه يقول: وأجتنبكم وما تدعون من دون اللّه من الأوثان والأصنام وأدْعُو رَبّـي يقول: وأدعو ربـي، بإخلاص العبـادة له، وإفراده بـالربوبـية عَسَى أنْ لا أكُونَ بِدُعاءِ رَبّـي شَقِـيّا يقول: عسى أن لا أشقـى بدعاء ربـي، ولكن يجيب دعائي، ويعطينـي ما أسأله.

٤٩

القول فـي تأويـل قوله تعاله: {فَلَمّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاّ جَعَلْنَا نَبِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فلـما اعتزل إبراهيـم قومه وعبـادة ما كانوا يعبدون من دون اللّه من الأوثان آنسنا وحشته من فراقهم، وأبدلناه منهم بـمن هو خير منهم وأكرم علـى اللّه منهم، فوهبنا له ابنه إسحاق، وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكُلاّ جَعَلْنا نَبِـيّا يقول: وجعلناهم كلهم، يعني بـالكلّ إبراهيـم وإسحاق ويعقوب أنبـياء وقال تعالـى ذكره: وكُلاّ جَعَلْنا نَبِـيّا فوحد، ولـم يقل أنبـياء، لتوحيد لفظ كلّ

٥٠

وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحَمتِنا

يقول جلّ ثناؤه: ورزقنا جميعهم، يعني إبراهيـم وإسحاق ويعقوب من رحمتنا، وكان الذي وهب لهم من رحمته، ما بسط لهم فـي عاجل الدنـيا من سعة رزقه، وأغناهم بفضله.

وقوله وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِـيّا

يقول تعالـى ذكره: ورزقناهم الثناء الـحسن، والذكر الـجميـل من الناس، كما:

١٧٩١٣ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقِ عَلِـيّا يقول: الثناء الـحسن.

وإنـما وصف جل ثناؤه اللسان الذي جعل لهم بـالعلوّ، لأن جميع أهل الـملل تـحسن الثناء علـيهم، والعرب تقول: قد جاءنـي لسان فلان، تعنـي ثناءه أو ذمه ومنه قول عامر بن الـحارث:

إنّـي أتَتْنِـي لِسانٌ لا أُسَرّ بِهَا مِنْ عَلْوَ لا عَجَبٌ مِنْها وَلا سَخَرُ

ويُروى: لا كذب فـيها ولا سَخَر.

جاءَتْ مُرجَمّةً قد كُنْتُ أحْذَرُها لَوْ كانَ يَنْفَعُنِـي الإشْفـاقُ والـحَذَرُ

مرجمّة: يظنّ بها.

٥١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىَ إِنّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم : واذكر يا مـحمد فـي كتابنا الذي أنزلناه إلـيك موسى بن عمران، واقصص علـى قومك أنه كان مخـلصا.

واختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: (إنّهُ كانَ مُخْـلِصا) بكسر اللام من الـمُخْـلِص، بـمعنى: إنه كان يخـلص للّه العبـادة، ويفرده بـالألوهة، من غير أن يجعل له فـيها شريكا. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة خلا عاصم: إنّهُ كانَ مُخْـلَصا بفتـح اللام من مُخْـلَص، بـمعنى: إن موسى كان اللّه قد أخـلصه واصطفـاه لرسالته، وجعله نبـيا مرسلاً.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندي: أنه كان صلى اللّه عليه وسلم مُخْـلِصا عبـادة اللّه ، مُخْـلَصا للرسالة والنبوّة، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب.

وكانَ رَسُولاً يقول: وكان للّه رسولاً إلـى قومه بنـي إسرائيـل، ومن أرسله إلـيه نبـيا.

٥٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى. {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطّورِ الأيْمَنِ وَقَرّبْنَاهُ نَجِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: ونادينا موسى من ناحية الـجبل، و يعني بـالأيـمن: يـمين موسى، لأن الـجبل لا يـمين له ولا شمال، وإنـما ذلك كما يقال: قام عن يـمين القبلة وعن شمالها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٩١٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: مِنْ جانِبِ الطّورِ الأيـمَنِ قال: جانب الـجبل الأيـمن.

وقد بـيّنا معنى الطور واختلاف الـمختلفـين فـيه، ودللنا علـى الصواب من القول فـيـما مضى، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

و قوله: وَقَرّبْناهُ نَـجِيّا

يقول تعالـى ذكره: وأدنـيناه مناجيا، كما يقال: فلان نديـم فلان ومنادمه، وجلـيس فلان ومـجالسه. وذُكر أن اللّه جل ثناؤه أدناه، حتـى سمع صريف القلـم. ذكر من قال ذلك:

١٧٩١٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفـيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس وَقَرّبْناهُ نـجِيّا قال: أُدْنـيَ حتـى سمع صريف القلـم.

١٧٩١٦ـ حدثنا مـحمد بن منصور الطّوسِيّ، قال: حدثنا يحيى بن أبـي بكر، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، قال: أراه عن مـجاهد ، فـي قوله: وَقَرّبْناهُ نَـجِيّا قال: بـين السماء الرابعة، أو قال: السابعة، وبـين العرش سبعون ألف حجاب: حجاب نور، وحجاب ظلـمة، وحجاب نور، وحجاب ظلـمة فما زال يقرب موسى حتـى كان بـينه وبـينه حجاب، وسمع صَريف القلـم قالَ رَبّ أرِنِـي أنْظُرْ إلَـيْكَ.

١٧٩١٧ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال: قرّبه منه حتـى سمع صريف القلـم.

١٧٩١٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة وَقَرّبْناهُ نَـجِيّا قال: أُدْنِـيَ حتـى سمع صريف القلـم فـي اللوح، وقال شعبة: أردفه جبرائيـل علـيه السلام.

وقال قتادة فـي ذلك، ما:

١٧٩١٩ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: وَقَرّبْناهُ نَـجِيّا قال: نـجا بصدقه.

٥٣

و قوله: وَوَهَبْنا لَهُ منْ رَحْمَتنا أخاهُ هارُونَ يقول: ووهبنا لـموسى رحمة منا أخاه هارون نَبِـيّا يقول: أيّدناه بنبوّته، وأعنّاه بها، كما:

١٧٩٢٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَـية، عن داود، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس : قوله: وَوَهَبْنا لَهُ منْ رَحْمَتِنا أخاهُ هارُونَ نَبِـيّا قال: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد وهب له نبوّته.

٥٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : واذكر يا مـحمد فـي الكتاب إسماعيـل بن إبراهيـم، فـاقصص خبره إنه كان لا يكذب وعده، ولا يخـلف، ولكنه كان إذا وعد ربه، أو عبدا من عبـاده وعدا وفـى به، كما:

١٧٩٢١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: إنّهُ كانَ صَادِقَ الوَعْدِ قال: لـم يَعِدْ ربه عِدة إلا أنـجزها.

١٧٩٢٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث أن سهل بن عقـيـل، حدّثه أن إسماعيـل علـيه السلام وعد رجلاً مكانا أن يأتـيه، فجاء ونسي الرجل، فظلّ به إسماعيـل، وبـات حتـى جاء الرجل من الغد، فقال: ما برحت من هاهنا؟ قال: لا، قال: إنـي نسيت، قال: لـم أكن لأبرح حتـى تأتـي، فبذلك كان صادقا.

٥٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصّـلاَةِ وَالزّكَـاةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: وكانَ يأْمُرُ أهْلَهُ بِإقامة الصّلاةِ و إيتاء الزّكاةِ وكانَ عِنْدَ رَبّهِ مَرْضِيّا عمله، مـحمودا فـيـما كلفه ربه، غير مقصر فـي طاعته.

٥٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نّبِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: واذكر يا مـحمد فـي كتابنا هذا إدريس إنّهُ كانَ صِدّيقا لا يقول الكذب، نَبِـيّانوحي إلـيه من أمرنا ما نشاء

٥٧

وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا ذكر أن اللّه رفعه وهو حيّ إلـى السماء الرابعة، فذلك معنى قوله: وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا يعني به إلـى مكان ذي علوّ وارتفـاع. وقال بعضهم: رُفع إلـى السماء السادسة. وقال آخرون: الرابعة. ذكر الرواية بذلك:

١٧٩٢٣ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي جرير بن حازم، عن سلـيـمان الأعمش، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف، قال: سأل ابن عباس كعبـا وأنا حاضر، فقال له: ما قول اللّه تعالـى لإدريس وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا قال كعب: أما إدريس، فإن اللّه أوحى إلـيه: إنـي رافع لك كلّ يوم مثل عمل جميع بنـي آدم، فأحبّ أن تزداد عملاً، فأتاه خـلـيـل له من الـملائكة، فقال: إن اللّه أوحى إلـيّ كذا وكذا، فكلـمْ لـي ملك الـموت، فلـيؤخرنـي حتـى أزداد عملاً، فحمله بـين جناحيه، ثم صعد به إلـى السماء فلـما كان فـي السماء الرابعة، تلقاهم ملك الـموت منـحدرا، فكلـم ملك الـموت فـي الذي كلـمه فـيه إدريس، فقال: وأين إدريس؟ فقال: هوذا علـى ظهري، قال ملك الـموت: فـالعجب بعثت أقبض روح إدريس فـي السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه فـي السماء الرابعة وهو فـي الأرض؟ فقبض روحه هناك، فذلك قول اللّه تبـارك وتعالـى: وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا.

١٧٩٢٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا قال: إدريس رُفع فلـم يـمت، كما رُفع عيسى.

حدثنا القاسم، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله، إلا أنه قال: ولـم يـمت.

١٧٩٢٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِـيّا قال: رفع إلـى السماء السادسة، فمات فـيها.

١٧٩٢٦ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَرَفَعْناهُ مكانا علـيا إدريس أدركه الـموت فـي السماء السادسة.

١٧٩٢٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد ورفعناه مكانا علـيا قال: السماء الرابعة.

١٧٩٢٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن أبـي هارون العبدي، عن أبـي سعيد الـخدري ورفعناه مكانا علـيا قال: فـي السماء الرابعة.

١٧٩٢٩ـ حدثنا علـيّ بن سهيـل، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية الرياحي، عن أبـي هريرة أو غيره (شكّ أبو جعفر الرازي) قال: لـما أسري بـالنبي صلى اللّه عليه وسلم صعد به جبريـل إلـى السماء الرابعة، فـاستفتـح ف

قـيـل: من هذا؟ قال: جبرائيـل، قالوا: ومن معه؟ قال: مـحمد، قالوا: أوقد أرسل إلـيه؟ قال: نعم، قالوا: حياه اللّه من أخ ومن خـلـيفة، فنعم الأخ ونعم الـخـلـيفة، ونعم الـمـجيء جاء، قال: فدخـل فإذا هو برجل، قال: هذا إدريس رفعه اللّه مكانا علـيا.

١٧٩٣٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، فـي قوله ورفعناه مكانا علـيا قال: حدثنا أنس بن مالك أن نبـيّ اللّه حدث أنه لـما عرج به إلـى السماء قال: أتـيت علـى إدريس فـي السماء الرابعة.

٥٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُولَـَئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِم مّنَ النبي يْنَ مِن ذُرّيّةِ ءادَمَ ...}.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم : هؤلاء الذين اقتصصتُ علـيك أنبـاءهم فـي هذه السورة يا مـحمد، الذين أنعم اللّه علـيهم بتوفـيقه، فهداهم لطريق الرشد من الأنبـياء من ذريه آدم، ومن ذرية من حملنا مع نوح فـي الفُلك، ومن ذرية إبراهيـم خـلـيـل الرحمن، ومن ذرية إسرائيـل، ومـمن هدينا للإيـمان بـاللّه والعمل بطاعته واجتبـينا: يقول: ومـمن اصطفـينا واخترنا لرسالتنا ووحينا، فـالذي عنى به من ذرية آدم إدريس، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيـم، والذي عنى به من ذرية إبراهيـم إسحاق ويعقوب وإسماعيـل، والذي عنى به من ذرية إسرائيـل: موسى وهارون وزكريا وعيسى وأمه مريـم، ولذلك فرق تعالـى ذكره أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم لأن فـيهم من لـيس من ولد من كان مع نوح فـي السفـينة، وهو إدريس، وإدريس جدّ نوح.

وقوله تعالـى ذكره: إذَا تُتلـى عَلَـيهِمْ آياتُ الرّحمنِ يقول: إذا تتلـى علـى هؤلاء الذين أنعم اللّه علـيهم من النبي ـين أدلة اللّه وحججه التـي أنزلها علـيهم فـي كتبه، خرّوا للّه سجدا، استكانة له وتذللاً وخضوعا لأمره وانقـيادا، وَبُكِيّا يقول: خرّوا سجدا وهم بـاكون، والبُكِيّ: جمع بـاك، كما العُتِـيّ جمع عات والـجُثِـيّ: جمع جاث، فجمع وهو فـاعل علـى فعول، كما يجمع القاعد قعودا، والـجالس جلوسا، وكان القـياس أن يكون: وبُكوّا وعتوّا، ولكن كرهت الواو بعد الضمة فقلبت ياء، كما قـيـل فـي جمع دلو أدل. وفـي جمع البهو أبه، وأصل ذلك أفعل أدلو وأبهو، فقلبت الواو ياء لـمـجيئها بعد الضمة استثقالاً، وفـي ذلك لغتان مستفـيضتان، قد قرأ بكلّ واحدة علـماء من القرّاء بـالقرآن بكيا وعتوّا بـالضمّ، وبكيا وعتـيا بـالكسر. وقد يجوز أن يكون البكيّ هو البكاء بعينه. وقد:

١٧٩٣١ـ حدثنا ابن بشاء، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن إبراهيـم، قال: قرأ عمر بن الـخطاب سورة مريـم فسجد وقال: هذا السجود، فأين البكيّ؟ يريد: فأين البكاء.

٥٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فحدث من بعد هؤلاء الذين ذكرت من الأنبـياء الذين أنعمت علـيهم، ووصفت صفتهم فـي هذه السورة، خـلْف سوء خـلفوهم فـي الأرض أضاعو الصلاة.

ثم اختلْف أهل التأويـل فـي صفة إضاعتهم الصلاة، فقال بعضهم: كانت إضاعتهموها تأخيرهم إياها عن مواقـيتها، وتضيـيعهم أوقاتها. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٣٢ـ حدثنـي علـيّ بن سعد الكندي، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن موسى بن سلـيـمان، عن القاسم بن مخيـمرة، فـي قوله: فخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ قال: إنـما أضاعوا الـمواقـيت، ولو كان تركا كان كفرا.

حدثنا إسحاق بن زيد الـخطابـي، قال: حدثنا الفريابـي، عن الأوزاعي، عن القاسم بن مخيـمرة، نـحوه.

حدثنا عبد الكريـم بن أبـي عمير، قال: ثنـي الولـيد بن مسلـم، عن أبـي عمرو، عن القاسم بن مخيـمرة، قال: أضاعوا الـمواقـيت، ولو تركوها لصاروا بتركها كفـارا.

حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، عن الأوزاعي، عن القاسم، نـحوه.

١٧٩٣٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا عيسى، عن الأوزاعي، عن إبراهيـم بن يزيد، أن عمر بن عبد العزيز بعث رجلاً إلـى مصر لأمر أعجله للـمسلـمين، فخرج إلـى حرسه، وقد كان تقدم إلـيهم أن لا يقوموا إذا رأوه، قال: فأوسعوا له، فجلس بـينهم فقال: أيكم يعرف الرجل الذي بعثناه إلـى مصر؟ فقالوا: كلنا نعرفه، قال: فلـيقم أحدثكم سنا، فلـيدعه، فأتاه الرسول فقال: لا تعجلنـي أشدّ علـيّ ثـيابـي، فأتاه فقال: إن الـيوم الـجمعة، فلا تبرحن حتـى تصلـي، وإنا بعثناك فـي أمر أعجله للـمسلـمين، فلا يعجلنك ما بعثناك له أن تؤخر الصلاة عن ميقاتها، فإنك مصلـيها لا مـحالة، ثم قرأ: فخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا ثم قال: لـم يكن إضاعتهم تركها، ولكن أضاعوا الوقت.

١٧٩٣٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن الـمسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، والـحسن بن مسعود، عن ابن مسعود، أنه

قـيـل له: إن اللّه يكثر ذكر الصلاة فـي القرآن الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهمْ سَاهُونَ و عَلـى صَلاَتِهمْ دَائِمُونَ و عَلـى صَلاَتِهمْ يُحَافِظُونَ فقال ابن مسعود رضي اللّه عنه: علـى مواقـيتها، قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا علـى الترك، قال: ذاك الكفر.

١٧٩٣٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا عمر أبو حفص الأبـار، عن منصور بن الـمعتـمر، قال: قال مسروق: لا يحافظ أحد علـى الصلوات الـخمس، فـيكتب من الغافلـين، وفـي إفراطهنّ الهلكة، وإفراطهنّ: إضاعتهنّ عن وقتهنّ.

وقال آخرون: بل كانت إضاعتهموها: تركها. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٣٦ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا أبو صخر، عن القرظي، أنه قال فـي هذه الاَية فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ يقول: تركوا الصلاة.

قال أبو جعفر: وأولـى التأويـلـين فـي ذلك عندي بتأويـل الاَية، قول من قال: أضعتـموها تركهم إياها لدلالة قول اللّه تعالـى ذكره بعده علـى أن ذلك كذلك، وذلك قوله جلّ ثناؤه: إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِـحا فلو كان الذين وصفهم بأنهم ضيعوها مؤمنـين لـم يستثن منهم من آمن، وهم مؤمنون ولكنهم كانوا كفـارا لا يصلون للّه، ولا يؤدّون له فريضة فسقة قد آثروا شهوات أنفسهم علـى طاعة اللّه ، وقد

قـيـل: إن الذين وصفهم اللّه بهذه الصفة قوم من هذه الأمة يكونون فـي آخر الزمان.

١٧٩٣٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن. قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: فخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاة واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: عند قـيام الساعة، وذهاب صالـحي أمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ينزو بعضهم علـى بعض فـي الأزقة. قال مـحمد بن عمرو: زنا. وقال الـحارث: زناة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد مثله، وقال: زنا، كما قال ابن عمرو.

١٧٩٣٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو تـميـلة، عن أبـي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومـجاهد وعطاء بن أبـي ربـاح فخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ... الاَية، قال: هم أمة مـحمد.

١٧٩٣٩ـ وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الأشيب، قال: حدثنا شريك، عن أبـي تـميـم بن مهاجر فـي قول اللّه : فخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاة قال: هم فـي هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والـحمر فـي الطرق، لا يخافون اللّه فـي السماء، ولا يستـحيون الناس فـي الأرض.

وأما قوله: فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا فإنه يعني أن هؤلاء الـخـلْف الذين خـلفوا بعد أولئك الذين أنعم اللّه علـيهم من النبي ـين سيدخـلون غيا، وهو اسم واد من أودية جهنـم، أو اسم بئر من آبـارها، كما:

١٧٩٤٠ـ حدثنـي عباس بن أبـي طالب، قال: حدثنا مـحمد بن زياد بن رزان، قال: حدثنا شرقـي بن قطامي، عن لقمان بن عامر الـخزاعي، قال: جئت أبـا أمامة صديّ بن عجلان البـاهلـي، فقلت: حدّثنا حديثا سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال: فدعا بطعام، ثم قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لَوْ أنّ صخْرَةً زِنَةَ عَشْرِ أوَاقٍ قُذِفَ بِها منْ شَفـيرٍ جَهَنّـمَ ما بَلَغَتْ قَعْرَها خَمْسينَ خَرِيفـا، ثُمّ تَنْتَهي إلـى غَيَ وأثامٍ) ، قال: قُلْتُ وَما غيّ وَما أثامٌ؟ قالَ: (بْئرَانِ فـي أسْفَلٍ جَهَنّـمَ يَسِيـلُ فِـيهِما صَدِيدُ أهْلِ النّارِ، وَهُما اللّتانِ ذَكَرَ اللّه فِـي كِتابِهِ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتٍ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا، وقوله فـي الفُرقان: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَـلْقَ أثاما) .

١٧٩٤١ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عمرو بن عاصم، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، عن قتادة ، عن أبـي أيوب، عن عبد اللّه بن عمرو فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: واديا فـي جهنـم.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن أبـي عبـيدة، عن عبد اللّه فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: واديا فـي النار.

١٧٩٤٢ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي إسحاق، عن أبـي عبـيدة، عن عبد اللّه أنه قال فـي هذه الاَية فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: نهر فـي جهنـم خبـيث الطعم بعيد القعر.

حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبـي إسحاق، عن أبـي عبـيدة، عن أبـيه، فـي قوله: فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: الغيّ: نهر جهنـم فـي النار، يعذّب فـيه الذين اتبعوا الشهوات.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبـي إسحاق، عن أبـي عبـيدة، عن أبـيه، فـي قوله فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: الغيّ: نهر جهنـم فـي النار، يعذّب فـيه الذين اتبعوا الشهوات.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبـي إسحاق، عن أبـي عبـيدة، عن عبد اللّه أضَاعُوا الصّلاةَ واتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: نهر فـي النار يقذف فـيه الذين اتبعوا الشهوات.

وقال آخرون: بل عنى بـالغيٌ فـي هذا الـموضع: الـخسران. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٤٣ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا يقول: خسرانا.

وقال آخرون: بل عنى به الشرّ. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٤٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا قال: الغيّ: الشرّ ومنه قول الشاعر:

فمَنْ يَـلْقَ خَيْرا يحْمَدِ الناسُ أمْرَهُوَمَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ علـى الغَيّ لائما

قال أبو جعفر: وكلّ هذه الأقوال متقاربـات الـمعانـي، وذلك أن من ورد البئرين اللتـين ذكرهما النبي صلى اللّه عليه وسلم ، والوادي الذي ذكره ابن مسعود فـي جهنـم، فدخـل ذلك، فقد لاقـى خسرانا وشرّا، حسبه به شرّا.

٦٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً }.

يقول تعالـى ذكره: فسوف يـلقـي هؤلاء الـخـلف السوء الذين وصف صفتهم غيا، إلا الذين تابوا فراجعوا أمرا اللّه ، والإيـمان به وبرسوله وعَمِلَ صَالـحا يقول: وأطاع اللّه فـيـما أمره ونهاه عنه، وأدّى فرائضه، واجتنب مـحارمه فأُولَئِكَ يَدْخُـلُونَ الـجَنّةَ يقول: فإن أولئك منهم خاصة يدخـلون الـجنة دون من هلك منهم علـى كفره، وإضاعته الصلاة واتبـاعه الشهوات.

و قوله: وَلا يُظْلَـمُونَ شَيْئا يقول: ولا يُبخسون من جزاء أعمالهم شيئا، ولا يجمع بـينهم وبـين الذين هلكوا من الـخـلف السوء منهم قبل توبتهم من ضلالهم، وقبل إنابتهم إلـى طاعة ربهم فـي جهنـم، ولكنهم يدخـلون مدخـل أهل الإيـمان.

٦١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدَ الرّحْمَـَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: فأولئك يدخـلون الـجنة جَنّاتِ عَدْنٍ. ولوله: جَنّاتِ عَدْنٍ نصب ترجمة عن الـجنة. و يعني ب قوله: جَنّاتِ عَدْنٍ: بساتـين إقامة. وقد بـيّنت ذلك فـيـما مضى قبل بشواهده الـمغنـية عن إعادته.

و قوله: التـي وَعَدَ الرّحْمَنُ عِبـادَهُ بـالغَيْبِ يقول: هذه الـجنات التـي وعد الرحمن عبـاده الـمؤمنـين أن يدخـلوها بـالغيب، لأنهم لـم يروها ولـم يعاينوها، فهي غيب لهم.

و قوله: إنّهُ كانَ وَعْدهُ مأتِـيّا

يقول تعالـى ذكره: إن اللّه كان وعده، ووعده فـي هذا الـموضع موعوده، وهو الـجنة مأتـيا يأتـيه أولـياؤه وأهل طاعته الذين يدخـلهموها اللّه . وقال بعض نـحويـي الكوفة: خرج الـخبر علـى أن الوعد هو الـمأتـيّ، ومعناه: أنه هو الذي يأتـي، ولـم يقل: وكان وعده آتـيا، لأن كلّ ما أتاك فأنت تأتـيه، وقال: ألا ترى أنك تقول: أتـيت علـى خمسين سنة، وأتت علـىّ خمسون سنة، وكلّ ذلك صواب، وقد بـيّنت القول فـيه، والهاء فـي قوله إنّهُ من ذكر الرحمن.

٦٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: لا يسمع هؤلاء الذين يدخـلون الـجنة فـيها لغوا، وهو الهَدْي والبـاطل من القول والكلام إلاّ سَلاَما وهذا من الاستثناء الـمنقطع، ومعناه: ولكن يسمعون سلاما، وهو تـحية الـملائكة إياهم.

و قوله: ولَهُمْ رِزْقُهُمْ فِـيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّا يقول: ولهم طعامهم وما يشتهون من الـمطاعم والـمشارب فـي قدر وقت البُكرة ووقت العشيّ من نهار أيام الدنـيا، وإنـما يعني أن الذي بـين غدائهم وعشائهم فـي الـجنة قدر ما بـين غداء أحدنا فـي الدنـيا وعشائه، وكذلك ما بـين العشاء والغداء وذلك لأنه لا لـيـل فـي الـجنة ولا نهار، وذلك ك قوله: خَـلَقَ الأرْضَ فـي يومَيْنِ و خَـلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ فِـي سِتّةِ أيّام يعني به: من أيام الدنـيا، كما:

١٧٩٤٥ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، قال: سألت زهير بن مـحمد، عن قول اللّه : ولَهُمْ رِزْقهُمْ فِـيها بُكْرَةٍ وَعَشِيّا قال: لـيس فـي الـجنة لـيـل، هم فـي نور أبدا، ولهم مقدار اللـيـل والنهار، يعرفون مقدار اللـيـل بـارخاء الـحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الـحجب، وفتـح الأبواب.

١٧٩٤٦ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا الولـيد، عن خـلـيد، عن الـحسن، وذكر أبواب الـجنة، فقال: أبواب يُرى ظاهرها من بـاطنها، فَتكلـم وَتكلـم، فتهمهم انفتـحي انغلقـي، فتفعل.

١٧٩٤٧ـ حدثنـي ابن حرب، قال: حدثنا موسى بن إسماعيـل، قال: حدثنا عامر بن يساف، عن يحيى، قال: كانت العرب فـي زمانهم من وجد منهم عشاء وغداء، فذاك الناعم فـي أنفسهم، فأنزل اللّه ولَهُمْ رِزْقُهُم فِـيها بُكْرَةٍ وَعَشِيّا: قدر ما بـين غدائكم فـي الدنـيا إلـى عشائكم.

١٧٩٤٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: ولَهُمْ رِزْقُهُمْ فِـيها بُكْرَةً وَعَشِيّا قال: كانت العرب إذا أصاب أحدُهم الغداء والعشاء عجب له، فأخبرهم اللّه أن لهم فـي الـجنة بكرة وعشيا، قدر ذلك الغداء والعشاء.

١٧٩٤٩ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قال: لـيس بكرة ولا عشيّ، ولكن يؤتون به علـى ما كانوا يشتهون فـي الدنـيا.

١٧٩٥٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله ولَهُمْ رِزْقُهُمْ فِـيها بُكْرَةٍ وعَشِيّا فـيها ساعتان بكرة وعشيّ، فإن ذلك لهم لـيس ثم لـيـل، إنـما هو ضوء ونور.

٦٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تِلْكَ الْجَنّةُ الّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: هذه الـجنة التـي وصفت لكم أيها الناس صفتها، هي الـجنة التـي نورثها، يقول: نورث مساكن أهل النار فـيها مِنْ عِبـادِنا مَنْ كانَ تَقِـيّا يقول: من كان ذا اتقاء عذاب اللّه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.

٦٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيّاً }.

ذُكر أن هذه الاَية نزلت من أجل استبطاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جبرائيـل بـالوحي، وقد ذكرت بعض الرواية، ونذكر إن شاء اللّه بـاقـي ما حضَرنا ذكره مـما لـم نذكر قبل. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٥١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـان العجلـي، وقبـيصة ووكيع وحدثنا سفـيان بن وكيع قال: حدثنا أبـي، جميعا عن عمر بن ذرّ، قال: سمعت أبـي يذكر عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، أن مـحمدا قال لـجبرائيـل: (ما يَـمْنَعُكَ أنْ تَزُورَنا أكْثَرَ مِـمّا تَزُورُنا) فنزلت هذه الاَية: ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأَمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بـينَ أيْدِينا ومَا خَـلْفَنا ومَا بـينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا قال: هذا الـجواب لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم .

حدثنـي مـحمد بن معمر، قال: حدثنا عبد الـملك بن عمرو، قال: حدثنا عمر بن ذرّ، قال: ثنـي أبـي، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لـجبرائيـل: (ما يَـمْنَعُكَ أن تَزَوُرَنا أكْثَرَ مِـمّا تَزُورُنا؟ فنزلت ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ) حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله وومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ... إلـى ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا قال: احتبس جبرائيـل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فوجِد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ذلك وحزن، فأتاه جبرائيـل فقال: يا مـحمد ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بـينَ أيْدِينا ومَا خَـلْفَنا ومَا بـينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا.

١٧٩٥٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، قال: لبث جبرائيـل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فكأن النبي استبطأه، فلـما أتاه قال له جبرائيـل: ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ... الاَية.

١٧٩٥٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بـينَ أيْدِينا ومَا خَـلْفَنا قال: هذا قول جبرائيـل، احتبس جبرائيـل فـي بعض الوحي، فقال نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ما جِئْتَ حتـى اشْتَقْتُ إلَـيْكَ) فقال له جبرائيـل: (ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بـينَ أيْدِينا ومَا خَـلْفَنا) .

١٧٩٥٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه تبـارك وتعالـى ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ قال: قول الـملائكة حين استراثهم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ، كالتـي فـي الضحى.

١٧٩٥٥ـ حدثنا القاسم، قال حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، قال: لبث جبرائيـل عن مـحمد اثنتـي عشرة لـيـلة، ويقولون: قُلـي، فلـما جاءه قال: (أيْ جَبْرائِيـلُ لَقَدْ رِثْتَ عَلـيّ حتـى لَقَدْ ظَنّ الـمُشْرِكُونَ كُلّ ظَنّ) فنزلت: ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ لَهُ ما بـينَ أيْدِينا ومَا خَـلْفَنا ومَا بـينَ ذلكَ ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا.

١٧٩٥٦ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ احتبس عن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتـى تكلـم الـمشركون فـي ذلك، واشتدّ ذلك علـى نبـيّ اللّه ، فأتاه جبرائيـل، فقال: اشتدّ علـيك احتبـاسنا عنك، وتكلـم فـي ذلك الـمشركون، وإنـما أنا عبد اللّه ورسوله، إذا أمرنـي بأمر أطعته ومَا نَتَنّزلُ إلاّ بأمْرِ رَبّكَ يقول: بقول ربك. ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: لَهُ ما بـينَ أيْدِينا ومَا خَـلْفَنا ومَا بـينَ ذلكَ فقال بعضهم: يعني بقوله ما بـينَ أيْدِينا من الدنـيا، وب قوله: ومَا خَـلْفَنا الاَخرة ومَا بـينَ ذلكَ النفختـين. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن أبـي جعفر، عن الربـيع لَهُ ما بـينَ أيْدِينا يعني الدنـيا ومَا خَـلْفَنا الاَخرة ومَا بـينَ ذلكَ النفختـين.

١٧٩٥٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال ما بـينَ أيْدِينا من الدنـيا ومَا خَـلْفَنا من أمر الاَخرة ومَا بـينَ ذلكَ ما بـين النفختـين.

وقال آخرون: ما بـينَ أيْدِينا الاَخرة ومَا خَـلْفَنا الدنـيا ومَا بـينَ ذلكَ ما بـين الدنـيا والاَخرة. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٥٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس بـينَ أيْدِينا الاَخرة ومَا خَـلْفَنا من الدنـيا.

١٧٩٦٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لَهُ ما بـينَ أيْدِينا من أمر الاَخرة ومَا خَـلْفَنا من أمر الدنـيا ومَا بـينَ ذلكَ ما بـين الدنـيا والاَخرة ومَا كانَ رَبّكَ نَسِيّا.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة لَهُ ما بـينَ أيْدِينا من الاَخرة وَما خَـلْفَنا من الدنـيا وَما بـينَ ذلكَ ما بـين النفختـين.

١٧٩٦١ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: ما بـينَ أيْدِينا من الاَخرة وَما خَـلْفَنا من الدنـيا.

وقال آخرون فـي ذلك بـما:

١٧٩٦٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج ما بـينَ أيْدِينا قال: ما مضى أمامنا من الدنـيا وَما خَـلْفَنا ما يكون بعدنا من الدنـيا والاَخرة وَما بـينَ ذلكَ قال: ما بـين ما مضى أمامهم، وبـين ما يكون بعدهم.

وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يتأوّل ذلك له ما بـينَ أيْدِينا قبل أن نـخـلق وَما خَـلْفَنا بعد الفناء وَما بـينَ ذلكَ حين كنا.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: معناه: له ما بـين أيدينا من أمر الاَخرة، لأن ذلك لـم يجيء وهو جاء، فهو بـين أيديهم، فإن الأغلب فـي استعمال الناس إذا قالوا: هذا الأمر بـين يديك، أنهم يعنون به ما لـم يجيء، وأنه جاء، فلذلك قلنا: ذلك أولـى بـالصواب. وما خـلفنا من أمر الدنـيا، وذلك ما قد خـلفوه فمضى، فصار خـلفهم بتـخـلـيفهم إياه، وكذلك تقول العرب لـما قد جاوزه الـمرء وخـلفه هو خـلفه، ووراءه وما بـين ذلك: ما بـين ما لـم يـمض من أمر الدنـيا إلـى الاَخرة، لأن ذلك هو الذي بـين ذينك الوقتـين.

وإنـما قلنا: ذلك أولـى التأويلات به، لأن ذلك هو الظاهر الأغلب، وإنـما يحمل تأويـل القرآن علـى الأغلب من معانـيه، ما لـم يـمنع من ذلك ما يجب التسلـيـم له. فتأمل الكلام إذن: فلا تستبطئنا يا مـحمد فـي تـخـلفنا عنك، فإنا لا نتنزّل من السماء إلـى الأرض إلا بأمر ربك لنا بـالنزول إلـيها، للّه ما هو حادث من أمور الاَخرة التـي لـم تأت وهي آتـية، وما قد مضى فخـلفناه من أمر الدنـيا، وما بـين وقتنا هذا إلـى قـيام الساعة. بـيده ذلك كله، وهو مالكه ومصرّفه، لا يـملك ذلك غيره، فلـيس لنا أن نـحدث فـي سلطانه أمرا إلا بأمره إيانا به وَما كانَ رَبّكَ نَسِيّا يقول: ولـم يكن ربك ذا نسيان، فـيتأخر نزولـي إلـيك بنسيانه إياك بل هو الذي لا يعزُب عنه شيء فـي السماء ولا فـي الأرض فتبـارك وتعالـى ولكنه أعلـم بـما يدبر ويقضي فـي خـلقه. جل ثناؤه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد وَما كانَ رَبّكَ نَسِيّا قال: ما نسيك ربك.

٦٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: لـم يكن ربك يا مـحمد ربّ السموات والأرض وما بـينهما نسيا، لأنه لو كان نسيا لـم يستقم ذلك، ولهلك لولا حفظه إياه، فـالربّ مرفوع ردّا علـى قوله رَبّكَ.

و قوله: فـاعْبُدْه يقول: فـالزم طاعته، وذلّ لأمره ونهيه وَاصْطَبِرْ لِعِبـادَتِهِ يقول: واصبر نفسك علـى النفوذ لأمره ونهيه، والعمل بطاعته، تفز برضاه عنك، فإنه الإله الذي لا مثل له ولا عدل ولا شبـيه فـي جوده وكرمه وفضله هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيّا يقول: هل تعلـم يا مـحمد لربك هذا الذي أمرناك بعبـادته، والصبر علـى طاعته مثلاً فـي كرمه وجوده، فتعبده رجاء فضله وطوله دونه؟ كلا، ما ذلك بـموجود. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٦٤ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيّا يقول: هل تعلـم للربّ مثلاً أو شبـيها.

حدثنـي سعيد بن عثمان التنوخي، قال: حدثنا إبراهيـم بن مهدي، عن عبـاد بن عوّام، عن شعبة، عن الـحسن بن عمارة، عن رجل، عن ابن عباس ، فـي قوله هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيّا قال: شبـيها.

١٧٩٦٥ـ حدثنـي يحيى بن إبراهيـم الـمسعودي، قال: حدثنا أبـي، عن أبـيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن مـجاهد فـي هذه الاَية هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيّا قال: هل تعلـم له شبـيها، هل تعلـم له مثلاً تبـارك وتعالـى.

١٧٩٦٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيّا لا سميّ للّه ولا عِدل له، كلّ خـلقه يقرّ له، ويعترف أنه خالقه، ويعرف ذلك، ثم يقرأ هذه الاَية: وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَـلَقَهُمْ لَـيَقُولُنّ اللّه .

١٧٩٦٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، فـي قوله: هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيّا قال: يقول: لا شريك له ولا مثل.

٦٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: ويقولُ الإنسانُ الكافر الذي لا يصدق بـالبعث بعد الـموت: أخرج حيا، فأُبعث بعد الـمـمات وبعد البلاء والفناء إنكارا منه ذلك. يقول اللّه تعالـى ذكره:

٦٧

أَوَ لاَ يذكرُ الإنسانُ الـمتعجب من ذلك الـمنكر قدرة اللّه علـى إحيائه بعد فنائه، وإيجاده بعد عدمه فـي خـلق نفسه، أن اللّه خـلقه من قبل مـماته، فأنشأه بشرا سويا من غير شيء ولـمْ يكُ من قبل إنشائه إياه شَيئا فـيعتبر بذلك ويعلـم أن من أنشأه من غير شيء لا يعجز عن إحيائه بعد مـماته، وإيجاده بعد فنائه.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله أوَلا يَذْكُرُ الإنْسانُ فقرأه بعض قرّاء الـمدينة والكوفة: أوَلا يَذْكُرُ بتـخفـيف الذال، وقد قرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة والـحجاز: (أوَلا يَذّكّرُ) بتشديد الذال والكاف، بـمعنى: أو لا يتذكر، والتشديد أعجب إلـيّ، وإن كانت الأخرى جائزة، لأن معنى ذلك: أو لا يتفكر فـيعتبر.

٦٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنّهُمْ وَالشّيَاطِينَ ثُمّ لَنُحْضِرَنّهُمْ حَوْلَ جَهَنّمَ جِثِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : فوربك يا مـحمد لنـحشرنّ هؤلاء القائلـين: أئذا متنا لسوف نـخرج أحياء يوم القـيامة من قبورهم، مقرنـين بأولـيائهم من الشياطين ثُمّ لَنُـحْضِرَنّهُمْ حَوْلَ جَهَنّـمَ جِثِـيّا والـجثـي: جمع الـجاثـي. كما:

١٧٩٦٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس قوله: ثُمّ لَنُـحْضِرَنّهُمْ حَوْلَ جَهَنّـمَ جِثـيّا يعني : القعود، وهو مثل قوله: وَتَرَى كُلّ أُمةٍ جاثِـيَةً.

٦٩

لقول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ لَنَنزِعَنّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيّهُمْ أَشَدّ عَلَى الرّحْمَـَنِ عِتِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره، ثم لنأخذنَ من كلّ جماعة منهم أشدّهم علـى اللّه عتوّا، وتـمرّدا فلنبدأنّ بهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٦٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن علـيّ بن الأقمر، عن أبـي الأحوص ثُمّ لَنَنْزِعَنّ مِنْ كُلّ شِيعَةٍ أيّهُمْ أشَدّ عَلـى الرّحْمَنِ عِتِـيّا قال: نبدأ بـالأكابر فـالأكابر جرما.

١٧٩٧٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: ثُمّ لَنَنْزِعَنّ مِنْ كُلّ شِيعَةٍ أيّهُمْ أشَدّ عَلـى الرّحْمَنِ عِتِـيّا يقول: أيهم أشدّ للرحمن معصية، وهي معصيته فـي الشرك.

حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: أيّهُمْ أشَدّ عَلـى الرّحْمَنِ عِتِـيّا يقول: عصيا.

١٧٩٧١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: مِنْ كُلّ شِيعَةٍ قال: أمة. وقوله عِتِـيّا قال: كفرا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله، وزاد فـيه ابن جريج: فلنبدأنّ بهم.

قال أبو جعفر: والشيعة هم الـجماعة الـمتعاونون علـى الأمر من الأمور، يقال من ذلك: تشايع القوم: إذا تعاونوا ومنه قولهم للرجل الشجاع: إنه لـمشيع: أي معان، فمعنى الكلام: ثم لننزعنّ من كلّ جماعة تشايعت علـى الكفر بـاللّه ، أشدّهم علـى اللّه عتوّا، فلنبدأنّ بإصلائه جهنـم. والتشايع فـي غير هذا الـموضع: التفرّق ومنه قول اللّه عزّ ذكره: وكانُوا شيَعا يعني : فرقا ومنه قول ابن مسعود أو سعد. إنـي أكره أن آتـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فـيقول: شيّعت بـين أمتـي، بـمعنى: فرّقت.

٧٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالّذِينَ هُمْ أَوْلَىَ بِهَا صِلِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: ثم لنـحن أعلـم من هؤلاء الذين ننزعهم من كلّ شيعة أولاهم بشدّة العذاب، وأحقهم بعظيـم العقوبة. وذكر عن ابن جريج أنه كان يقول فـي ذلك ما:

١٧٩٧٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج ثُمّ لَنَـحْنُ أعْلَـمُ بـالّذِينَ هُمْ أوْلَـى بِها صِلـيّا قال: أولـى بـالـخـلود فـي جهنـم.

قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله ابن جريج، قول لا معنى له، لأن اللّه تعالـى ذكره أخبر أن الذين ينزعهم من كلّ شيعة من الكفرة أشدّهم كفرا، ولا شكّ أنه لا كافر بـاللّه إلا مخـلّد فـي النار، فلا وجه، وجميعهم مخـلدون فـي جهنـم، لأن يقال: ثم لنـحن أعلـم بـالذين هم أحقّ بـالـخـلود من هؤلاء الـمخـلدين، ولكن الـمعنى فـي ذلك ما ذكرنا. وقد يحتـمل أن يكون معناه: ثم لنـحن أعلـم بـالذين هم أولـى ببعض طبقات جهنـم صلـيا. والصلـيّ: مصدر صلـيت تصلـي صلـيا، والصلـي: فعول، ولكن واوها انقلبت ياء فأدغمت فـي الـياء التـي بعدها التـي هي لام الفعل، فصارت ياء مشدّدة.

٧١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِن مّنكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىَ رَبّكَ حَتْماً مّقْضِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: وإن منكم أيها الناس إلا وارد جهنـم، كان علـى ربك يا مـحمد إيرادهموها قضاء مقضيا، قد قضى ذلك وأوجبه فـي أمّ الكتاب.

واختلف أهل العلـم فـي معنى الورود الذي ذكره اللّه فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: الدخول. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٧٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة عن عمرو، قال: أخبرنـي من سمع ابن عباس يخاصم نافع بن الأزرق، فقال ابن عباس : الورود: الدخول، وقال نافع: لا، فقرأ ابن عباس : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنّـمَ أنْتُـمْ لَهَا وَارِدُونَ أورود هو أم لا؟ وقال: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ فأوْرَدَهُمُ النّارَ وَبِئْسَ الوِرْدُ الـمَوْرُودُ أورود هو أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخـلها، فـانظر هل نـخرج منها أم لا؟ وما أرى اللّه مخرجك منها بتكذيبك، قال: فضحك نافع.

١٧٩٧٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبـي ربـاح، قال: قال أبو راشد الـحَروريّ: ذكروا هذا فقال الـحروريّ: لا يسمعون حَسيسها، قال ابن عباس : ويـلك أمـجنون أنت؟ أين قوله تعالـى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ فأوْرَدَهُمُ النّارَ وَبِئْسَ الوِرْدِ الـمَوْرُودُ. وَنَسُوقُ الـمُـجْرِمِينَ إلـى جَهَنّـمَ وِرْدا،

و قوله: وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها واللّه إن كان دعاء من مضى: اللّه مّ أخرجنـي من النار سالـما، وأدخـلنـي الـجنة غانـما.

قال ابن جريج: يقول: الورود الذي ذكره اللّه فـي القرآن: الدخول، لـيردنها كل برّ وفـاجر فـي القرآن أربعة أوراد فأوْرَدَهُمُ النّارَ وَحَصَبُ جَهَنّـمَ أنْتَـمْ لَهَا وَارِدُونَ وَنَسُوقُ الـمُـجْرِمِينَ إلـى جَهَنّـمَ وِرْدا،

و قوله: وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها كانَ عَلـى رَبّكَ حَتْـما مَقْضِيّا يعرف البرّ والفـاجر، ألـم تسمع إلـى قول اللّه تعالـى لفرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ فأوْرَدَهُمُ النّارَ وَبِئْسَ الوِرْدِ الـمَوْرُودُ، وقال وَنَسوق الـمُـجْرِمِينَ إلـى جَهَنّـمَ وِرْدا فسمى الورود فـي النار دخولاً، ولـيس بصادر.

١٧٩٧٥ـ حدثنا الـحسن بن عرفة، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن بكار بن أبـي مروان، عن خالد بن معدان، قال: قال أهل الـجنة بعد ما دخـلوا الـجنة: ألـم يعدنا ربنا الورود علـى النار؟ قال: قد مررتـم علـيها وهي خامدة.

قال ابن عرفة، قال مروان بن معاوية، قال بكار بن أبـي مروان، أو قال: جامدة.

١٧٩٧٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مرحوم بن عبد العزيز، قال: ثنـي أبو عمران الـجَوْنـيّ، عن أبـي خالد قال: تكون الأرض يوما نارا، فماذا أعددتـم لها؟ قال: فذلك قول اللّه : وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها كانَ عَلـى رَبّكَ حَتْـما مَقْضِيّا ثُمّ نُنَـجّي الّذِينَ اتّقَوْا وَنَذَرُ الظّالِـمِينَ فِـيها جِثِـيّا.

١٧٩٧٧ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن الـجريريّ، عن أبـي السلـيـل، عن غنـيـم بن قـيس، قال: ذكروا ورود النار، فقال كعب: تُـمْسَكُ النارُ للناس كأنها متن إهالة، حتـى يستويَ علـيها أقدام الـخلائق بَرّهم وفـاجرهم، ثم يناديها مناد: أن أمسكي أصحابك، ودعي أصحابـي، قال: فـيُخْسَف بكلّ ولـيّ لها، ولهي أعلـم بهم من الرجل بولده، ويخرج الـمؤمنون ندية أبدانهم. قال: وقال كعب: ما بـين منكبـي الـخازن من خزنتها مسيرة سنة، مع كلّ واحد منهم عمود له شعبتان، يدفع به الدّفْعة، فـيصرع به فـي النار سبع مئة ألف.

١٧٩٧٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن مالك بن مغول، عن أبـي إسحاق، قال: كان أبو ميسرة إذا أوى إلـى فراشه، قال: يا لـيت أمي لـم تلدنـي، ثم يبكي، ف

قـيـل: وما يبكيك يا أبـا ميسرة؟ قال: أَخبرنا أنا واردوها، ولـم يُخبرنا أنا صادرون عنها.

١٧٩٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن إسماعيـل، عن قـيس، قال: بكى عبد اللّه بن رواحة فـي مرضه، فبكت امرأته، فقال: ما يبكيكِ، قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال ابن رواحة: إنـي قد علـمت إنـي وارد النار فما أدري أناج منها أنا أم لا؟.

١٧٩٨٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو عمرو داود بن الزبرقان، قال: سمعت السديّ يذكر عن مرّة الهمدانـي، عن ابن مسعود وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها قال: داخـلها.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، عن ابن عباس ، فـي قوله وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها قال: يدخـلها.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيـينة، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن قـيس بن أبـي حازم، قال: كان عبد اللّه بن رواحة واضع رأسه فـي حجر امرأته، فبكى، فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إنـي ذكرت قول اللّه وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها فلا أدري أنـجو منها، أم لا؟.

وقال آخرون: بل هو الـمَرّ علـيها. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٨١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها يعني جهنـم مرّ الناس علـيها.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها قال: هو الـمرّ علـيها.

١٧٩٨٢ـ حدثنا خلاد بن أسلـم، قال: أخبرنا النضر، قال: أخبرنا إسرائيـل، قال: أخبرنا أبو إسحاق، عن أبـي الأحوص، عن عبد اللّه فـي قوله: وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها قال: الصراط علـى جهنـم مثل حدّ السيف، فتـمرّ الطبقة الأولـى كالبرق، والثانـية كالريح، والثالثة كأجود الـخيـل، والرابعة كأجود البهائم. ثم يـمرّون والـملائكة يقولون: اللّه مّ سلـم سلـم.

وقال آخرون: بل الورود: هو الدخول، ولكنه عنى الكفـار دون الـمؤمنـين. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٨٣ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن السائب، عن رجل سمع ابن عباس يقرؤها وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها يعني الكفـار، قال: لا يردها مؤمن.

١٧٩٨٤ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عمرو بن الولـيد الشّنّـي، قال: سمعت عكرمة يقول وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها يعني الكفـار.

وقال آخرون: بل الورود عام لكلّ مؤمن وكافر، غير أن ورود الـمؤمن الـمرور، وورود الكافر الدخول. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٨٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها ورود الـمسلـمين الـمرور علـى الـجسر بـين ظهريها وورود الـمشركين أن يدخـلوها، قال: وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (الزّالّونَ والزّالاّتُ يَؤْمَئِذٍ كَثِـيرٌ، وَقَدْ أحاطَ الـجِسْرَ سِماطانِ مِنَ الـمَلائكَةِ، دَعْوَاهُمْ يَؤْمَئِذٍ يا اللّه سَلّـمْ سَلّـمْ) .

وقال آخرون: ورود الـمؤمن ما يصيبه فـي الدنـيا من حمّى ومرض. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٨٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن عثمان بن الأسود، عن مـجاهد قال: الـحمى حظّ كلّ مؤمن من النار، ثم قرأ: وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها.

١٧٩٨٧ـ حدثنـي عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا أبو الـمغيرة، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تـميـم، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبـيد اللّه ، عن أبـي صالـح، عن أبـي هريرة قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعود رجلاً من أصحابه وبه وعك وأنا معه، ثم قال: (إن اللّه يقول: هي ناري أسلطها علـى عبدي الـمؤمن، لتكون حظه من النار فـي الاَخرة) .

وقال آخرون: يردُها الـجميع، ثم يصدر عنها الـمؤمنون بأعمالهم. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٨٨ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: ثنـي السدي، عن مرّة، عن عبد اللّه وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها قال: يردُونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، عن السديّ، عن مرّة، عن عبد اللّه ، بنـحوه.

١٧٩٨٩ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: حدثنا أسبـاط، عن عبد الـملك، عن عبـيد اللّه ، عن مـجاهد ، قال: كنت عند ابن عباس ، فأتاه رجل يقال له أبو راشد، وهو نافع بن الأزرق، فقال له: يا ابن عباس أرأيت قول اللّه وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها كانَ عَلـى رَبّكَ حَتْـما مَقْضِيّا قال: أما أنا وأنت يا أبـا راشد فسنردها، فـانظر هل نصدر عنها أم لا؟.

١٧٩٩٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرنـي أبو الزبـير أنه سمع جابر بن عبد اللّه يُسأل عن الورود، فقال: (نـحن يوم القـيامة علـى كوى أو كرى، فوق الناس، فتدعي الأمـم بأوثانها، وما كانت تعبد الأوّل فـالأوّل، فـينطلق بهم ويتبعونه، قال: ويعطي كلّ إنسان منافق ومؤمن نورا، ويغشى ظلـمة ثم يتبعونه، وعلـى جسر جهنـم كلالـيب تأخذ من شاء اللّه ، فَـيُطْفأ نور الـمنافق، وينـجو الـمؤمنون، فتنـجو أوّل زمرة كالقمر لـيـلة البدر، وسبعون ألفـا لا حساب علـيهم، ثم الذين يـلونهم كأضوأ نـجم فـي السماء، ثم كذلك، ثم تـحلّ الشفـاعة فـيشفعون، ويخرج من النار من قال لا إله إلا اللّه مـمن فـي قلبه وزن شعيرة من خير، ثم يـلقون تلقاء الـجنة، ويهريق علـيهم أهل الـجنة الـماء، فـينبتون نبـات الشيء فـي السيـل، ثم يسألون فـيجعل لهم الدنـيا وعشرة أمثالها) .

١٧٩٩١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن الـمبـارك، عن الـحسن، قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك بأنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا، قال: ففـيـم الضحك؟ قال: فما رؤي ضاحكا حتـى لـحق بـاللّه .

١٧٩٩٢ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الـحارث أن بكيرا حدّثه أنه قال لبسر بن سعيد: إن فلانا يقول: إن ورود النار القـيام علـيها. قال بسر: أما أبو هريرة فسمعته يقول: (إذا كان يوم القـيامة، يجتـمع الناس نادى مناد: لـيـلـحق كل أناس بـما كانوا يعبدون، فـيقوم هذا إلـى الـحجر، وهذا إلـى الفرس، وهذا إلـى الـخشبة حتـى يبقـى الذين يعبدون اللّه ، فـيأتـيهم اللّه ، فإذا رأوه قاموا إلـيه، فـيذهب بهم فـيسلك بهم علـى الصراط، وفـيه علـيق، فعند ذلك يؤذن بـالشفـاعة، فـيـمرّ الناس، والنبي ون يقولون: اللّه مّ سلـم سلـم) . قال بكير: فكان ابن عميرة يقول: فناج مسلـم ومنكوس فـي جهنـم ومخدوش، ثم ناج.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: يردها الـجميع ثم يصدر عنها الـمؤمنون، فـينـجيهم اللّه ، ويهوي فـيها الكفـار وورودهموها هو ما تظاهرت به الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مرورهم علـى الصراط الـمنصوب علـى متن جهنـم، فناج مسلـم ومكدس فـيها.

ذكر الأخبـار الـمروية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك:

١٧٩٩٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبـي سفـيان، عن جابر، عن أمّ مبشر امرأة زيد بن حارثة، قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو فـي بـيت حفصة: (لا يَدْخُـلُ النّارَ أحَدٌ شَهِدَ بَدْرا والـحُدَيْبِـيَةَ) . قالت: فقالت حفصة: يا رسول اللّه ، ألـيس اللّه يقول: وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (فمَهْ ثُمّ يَنَـجّي اللّه الّذِين اتّقُوا) .

حدثنا الـحسن بن مدرك، قال: حدثنا يحيى بن حماد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبـي سفـيان، عن جابر، عن أمّ مبشر، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بـمثله.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبـي سفـيان، عن جابر، عن أمّ مبشر، عن حفصة، قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنّـي لاَءَرْجُو أنْ لا يَدْخُـلَ النّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرا والـحُدَيْبِـيَةَ) ، قالت: فقلت يا رسول اللّه ، ألـيس اللّه يقول وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها؟ قال: (فَلَـمْ تَسْمَعِيهِ يَقُولُ: ثُمّ نُنَـجّي الّذِينَ اتّقَوْا وَنَذَرُ الظّالِـمِينَ فِـيها جِثِـيّا) ؟

١٧٩٩٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن عُلَـية، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي عبـيد اللّه بن الـمغيرة بن معيقب، عن سلـيـمان بن عمرو بن عبد العِتْواريّ، أحد بنـي لـيث، وكان فـي حجر أبـي سعيد، قال: سمعت أبـا سعيد الـخُدريّ يقول: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (يُوضَعُ الصّرَاطُ بـينَ ظَهْرَيْ جَهَنّـمَ، عَلَـيْهِ حَسكٌ كحَسكِ السّعْدانِ، ثُمّ يَسْتَـجِيزُ النّاسُ، فنَاجٍ مُسْلِـمٌ ومَـجْرُوحٌ بِهِ، ثمّ ناجٍ ومُـحْتَبِسٌ ومُكَدّسٌ فِـيها، حتـى إذَا فَرَغَ اللّه مِنَ القَضَاءِ بـينَ العِبـادِ تَفَقّدَ الـمُؤْمِنُونَ رِجالاً كانُوا مَعَهُمْ فِـي الدّنْـيا يُصَلّونَ صَلاَتَهُمْ، وَيُزَكّونَ زَكاتَهُمْ وَيَصُومُون صِيامَهُمْ، ويَحُجّونَ حَجّهُمْ، ويَغْزُونَ غَزْوَهُمْ، فَـيَقُولُونَ: أيّ رَبّنا عِبـادٌ مِنْ عِبـادِكَ كانُوا مَعَنا فِـي الدنْـيا، يُصَلّونَ صَلاتَنا، وَيُزَكّونَ زَكاتَنا، وَيَصُومُونَ صِيامَنا، ويَحُجّونَ حَجّنا، ويَغْزُونَ غَزْونا، لا نَرَاهُمْ، فَـيَقُولُ: اذْهَبُوا إلـى النّارِ، فَمَنْ وَجَدْتُـمْ فِـيها مِنْهُمْ فأخْرِجُوهُ، فَـيَجِدُونَهُمْ قَدْ أخَذَتْهُمُ النّارُ عَلـى قَدْرِ أعمالِهمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ النّارُ إلـى قَدَمَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ إلـى نِصْفِ ساقَـيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ إلـى رُكْبَتَـيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ إلـى ثَدِيَـيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ إلـى عُنُقِهِ ولَـمْ تَغْشَ الوُجُوهَ، فَـيَسْتَـخْرِجُونَهُمْ مِنْها، فَـيَطْرَحُونَهُمْ فِـي ماءِ الـحَياةِ)

قِـيـلَ: وَما ماءُ الـحَياةِ يا رَسول اللّه ؟ قال: (غُسْلُ أهْلِ الـجَنّةِ، فَـيَنْبُتُونَ كمَا تَنْبُتُ الزّرْعَةُ فِـي غُثاءِ السّيْـلِ، ثُمّ تَشْفَعُ الأنْبِـياءُ فِـي كُلّ مَنْ كانَ يَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللّه مُخْـلِصا، فَـيَسْتَـخْرِجُونَهُمْ مِنْها، ثُمّ يَتَـحَننُ اللّه برحْمَتِهِ عَلـى مَنْ فِـيها، فَمَا يَتْرُكُ فِـيها عَبْدا فِـي قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرّةٍ مِنَ الإِيـمَانِ إلاّ أخْرَجَهُ مِنْها) .

١٧٩٩٥ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا أبـي وشعيب بن اللـيث، عن اللـيث بن خالد، عن يزيد بن أبـي هلال، عن زيد بن أسلـم، عن عطاء بن يسار، عن أبـي سعيد الـخُدريّ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (يُؤْتَـى بـالـجِسْرِ يعني يوم القـيامة فَـيُجْعَلُ بـينَ ظَهْرَيْ جَهَنـمَ) قلنا: يا رسول اللّه وما الـجسر؟ قال: (مَدحَضَةٌ مزَلّةٌ، عَلَـيْهِ خَطاطِيفُ وكَلالِـيبُ وحَسْكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لها شَوْكة عُقَـيْفـاءُ تَكُونُ بِنَـجْدٍ، يُقالُ لَهَا السّعْدانُ، يَـمُرّ الـمُؤْمِنُونَ عَلَـيْها كالطّرْفِ والبَرْقِ وكالرّيحِ، وكأجاوِدِ الـخَيْـلِ والرّكابِ، فَناجٍ مُسْلِـم، ومَخْدُوشٌ مُسْلِـمٌ، ومَكْدُوسٌ فِـي جَهَنّـمَ، ثُمّ يَـمُرّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبـا، فَمَا أنْتُـمْ بأشَدّ مُناشَدَةٍ لـي فِـي الـحَقّ قَد تبَـيّنَ لَكُمْ، مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ يَوْمَئِذٍ للـجَبّـارِ تَبـارَك وَتَعالـى، إذَا رأوْهُمْ قَدْ نَـجَوا وَبَقِـيَ إخْوانُهُمْ) .

١٧٩٩٦ـ حدثنـي أحمد بن عيسى، قال: حدثنا سعيد بن كثـير بن عُفَـير، قال: حدثنا ابن لَهيعة، عن أبـي الزبـير، قال: سألت جابر بن عبد اللّه عن الورود، فقال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (هُوَ الدّخولُ، يَردُونَ النّارَ حتـى يَخْرُجُوا مِنْها، فآخِرُ مَنْ يَبْقَـى رَجُلٌ عَلـى الصّراطِ يَزْحَفُ، فَـيرْفَعُ اللّه لَهُ شَجَرَةً، قالَ: فَـيَقُولُ: أيْ رَبّ أدْنَنِـي مِنْها، قالَ: فَـيُدْنِـيهِ اللّه تَبـارَكَ وتَعَالـى مِنْها، قالَ: ثُمّ يَقُولُ: أيْ رَبّ أدْخِـلْنِـي الـجَنّةَ، قالَ: فَـيَقُولُ: سَلْ، قالَ: فَـيَسألُ، قال: فَـيَقُولُ: ذلكَ لَكَ وَعَشْرَةُ أضْعافِهِ أوْ نَـحْوُها قالَ: فَـيَقُولُ: يا رَبّ تَسْتَهْزِىءُ بِـي؟ قالَ: فَـيَضْحَكُ حتـى تَبْدُو لَهْوَاتُهُ وأضْرَاسُهُ) .

١٧٩٩٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يحيى بن أيوب (ح) وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مـحمد بن زيد، عن رشدين، جميعا عن زياد بن فـائد، عن سهل بن معاذ، عن أبـيه، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (مَنْ حَرَسَ وَرَاءَ الـمُسْلِـمِينَ فِـي سَبِـيـلِ اللّه مُتَطَوّعا، لا يأْخُذُهُ سُلْطانٌ بحرَسٍ، لَـمْ يَرَ النّارَ بعَيْنِهِ إلاّ تَـحِلّةَ القَسَمِ، فإنّ اللّه تَعالـى يَقُولُ وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها) .

١٧٩٩٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزاق، قال: أخبرنا معمر، أخبرنـي الزهريّ، عن ابن الـمسيب عن أبـي هريرة، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (مَنْ ماتَ لَهُ ثَلاثَةٌ لَـمْ تَـمَسّهُ النّارُ إلاّ تَـحِلّةَ القَسَمِ) يعني : الورود.

وأما قوله: كانَ عَلَـى رَبّكَ حَتْـما مَقْضِيّا فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله، فقال بعضهم معناه: كان علـى ربك قضاء مقضيا. ذكر من قال ذلك:

١٧٩٩٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: حَتْـما قال: قضاء.

١٨٠٠٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج حَتْـما مَقْضِيّا قال: قضاء.

وقال آخرون: بل معناه: كان علـى ربك قسما واجبـا. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٠١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو عمرو داود بن الزّبْرِقان، قال: سمعت السديّ يذكر عن مرّة الهمدانـيّ، عن ابن مسعود كانَ عَلـى رَبّكَ حَتْـما مَقْضِيّا قال: قسما واجبـا.

١٨٠٠٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة كانَ عَلـى رَبّكَ حَتْـما مَقْضِيّا يقول: قسما واجبـا.

قال أبو جعفر: وقد بـيّنت القول فـي ذلك.

٧٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{ثُمّ نُنَجّي الّذِينَ اتّقَواْ وّنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: ثم ننـجي من النار بعد ورود جميعهم إياها، الذين اتقوا فخافوه، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه وَنَذَرُ الظّالِـمِينَ فِـيها جِثِـيّا

يقول جلّ ثناؤه: وندع الذين ظلـموا أنفسهم، فعبدوا غير اللّه ، وعصَوا ربهم، وخالفوا أمره ونهيه من النار، جثـيا، يقول: بروكا علـى ركبهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٠٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَنَذَرُ الظّالِـمِينَ فِـيها جثِـيا علـى ركبهم.

حدثنا الـحسن ابن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة وَنَذَرُ الظّالِـمينَ فِـيها جِثِـيّا علـى ركبهم.

١٨٠٠٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَنَذَرُ الظّالِـمِينَ فِـيها جِثِـيّا قال: الـجُثِـيّ: شرّ الـجلوس، لا يجلس الرجل جاثـيا إلاّ عند كرب ينزل به.

١٨٠٠٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله ثُمّ نُنَـجّي الّذِينَ اتّقَوْا وَنَذَرُ الظّالِـمِينَ فِـيها جِثِـيّا إن الناس وردوا جهنـم وهي سوداء مظلـمة، فأما الـمؤمنون فأضاءت لهم حسناتهم، فأنـجوا منها. وأما الكفـار فأوبقتهم أعمالهم، واحْتُبِسوا بذنوبهم.

٧٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَيّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً }.

يقول تعالـى ذكره: وإذا تتلـى علـى الناس آياتنا التـي أنزلناها علـى رسولنا مـحمد بـينات، يعني واضحات لـمن تأمّلها وفكّر فـيها أنها أدلة علـى ما جعلها اللّه أدلة علـيه لعبـاده، قال الذين كفروا بـاللّه وبكتابه وآياته، وهم قريش، للذين آمنوا فصدّقوا به، وهم أصحاب مـحمد أيّ الفَرِيقَـيْنِ خَيْرٌ مَقاما يعني بـالـمَقام: موضع إقامتهم، وهي مساكنهم ومنازلهم وأحْسَنُ نَدِيّا وهو الـمـجلس، يقال منه: ندوت القوم أندوهم نَدْوا: إذا جمعتهم فـي مـجلس، ويقال: هو فـي نديّ قومه وفـي ناديهم: بـمعنى واحد. ومن النديّ قول حاتـم:

ودُعِيتُ فِـي أُولـى النّدِيّ ولَـمْيُنْظَرْ إلـيّ بأعْيُنٍ خُزْرِ

وتأويـل الكلام: وإذا تُتلـى علـيهم آياتنا بـيّنات، قال الذين كفروا للذين آمنوا: أيّ الفريقـين منا ومنكم أوسع عيشا، وأنعم بـالاً، وأفضل مسكنا، وأحسن مـجلسا، وأجمع عددا وغاشية فـي الـمـجلس، نـحن أم أنتـم؟ وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٠٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن أبـي ظبـيان، عن ابن عباس ، قوله: خَيْرٌ مَقاما وأحْسَنُ نَدِيّا قال: الـمقام: الـمنزل، والنديّ: الـمـجلس.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن سلـيـمان، عن أبـي ظَبْـيان، عن ابن عباس بـمثله.

١٨٠٠٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس وَإذَا تُتْلَـى عَلَـيْهِمْ آياتُنا بَـيّناتٍ قالَ الّذِينَ كَفَرُوا للّذِينَ آمَنُوا أيّ الفَرِيقَـيْنِ خَيْرٌ مَقاما وَأَحْسَنُ نَدِيّا؟ قال: الـمقام: الـمسكن، والنديّ: الـمـجلس والنّعمة والبهجة التـي كانوا فـيها، وهو كما قال اللّه لقوم فرعون، حين أهلكهم وقصّ شأنهم فـي القرآن فقال: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتِ وَعُيُونٍ وكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيـمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِـيها فـاكِهِينَ فـالـمقام: الـمسكن والنعيـم، والنديّ: الـمـجلس والـمـجمع الذي كانوا يجتـمعون فـيه، وقال اللّه فـيـما قصّ علـى رسوله فـي أمر لوط إذ قال وَتأتُونَ فِـي نادِيكُمُ الـمُنْكُرَ، والعرب تسمي الـمـجلس: النادي.

حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله وأحْسَن نَدِيّا يقول: مـجلسا.

١٨٠٠٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه : أيّ الفَرِيقَـيْنِ قال: قريش تقولها لأصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأحْسَنُ نَدِيّا قال: مـجالسهم، يقولونه أيضا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، نـحوه.

١٨٠٠٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَإذَا تُتْلَـى عَلَـيْهمْ آياتُنا بَـيّناتٍ قالَ الّذِينَ كَفَرُوا للّذِينَ آمَنُوا أيّ الفَرِيقَـينِ خَيْرٌ مَقاما وأحْسَنُ نَدِيّا رأوا أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي عيشهم خشونة، وفـيهم قَشافة، فَعَرّض أهل الشرك بـما تسمعون قوله وأحْسَنُ نَدِيّا يقول: مـجلسا.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: أيّ الفَرِيقَـيْنِ خَيْرٌ مَقاما وأحْسَنُ نَدِيّا قال: النديّ: الـمـجلس، وقرأ قول اللّه تعالـى: فَلْـيَدْعُ نادِيَهْ قال: مـجلسه.

٧٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً }.

يقول تعالـى ذكره: وكم أهلكنا يا مـحمد قبل هؤلاء القائلـين من أهل الكفر للـمؤمنـين، إذا تُتلـى علـيهم آيات الرحمن، أيّ الفريقـين خير مقاما، وأحسن نديا، مـجالس من قرن هم أكثر متاع منازل من هؤلاء، وأحسن منهم منظرا وأجمل صورا، فأهلكنا أموالهم، وغيرنا صورهم ومن ذلك قول علقمة بن عبدة:

كُمَيْتٌ كَلَوْنِ الأُرْجُوَانِ نَشَرْتهُلبَـيْعِ الرّئيِ فِـي الصّوَانِ الـمُكَعّبِ

 يعني بـالصوان: التـخت الذي تصان فـيه الثـياب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠١٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن أبـي ظبـيان، عن ابن عباس أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا قال: الرئي: الـمنظر، والأثاث: الـمتاع.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ عن شعبة عن سلـيـمان عن أبـي ظبـيان عن ابن عباس قال: الرئي الـمنظر.

حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا يقول: منظرا.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: حدثنا عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا الأثاث: الـمال، والرّئي: الـمنظر.

١٨٠١١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا هوذة، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن، فـي قوله أثاثا وَرِئْيا قال: الأثاث: أحسن الـمتاع، والرّئي: قال: الـمال.

١٨٠١٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، يقول اللّه تبـارك وتعالـى: وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ منْ قَرْنٍ هُمْ أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا: أي أكثر متاعا وأحسن منزلة ومستقرّا، فأهلك اللّه أموالهم، وأفسد صورهم علـيهم تبـارك وتعالـى.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، قوله أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا قال: أحسن صورا، وأكثر أموالاً.

١٨٠١٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أثاثا قال: الـمتاع وَرِئْيا قال: فـيـما يرى الناس.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، بنـحوه.

حدثنا ابن حميد وبشر بن معاذ، قالا: حدثنا جرير بن قابوس، عن أبـيه، عن ابن عباس : الأثاث: الـمال، والرّئي: الـمنظر الـحسن.

حدثنا القاسم، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عباس وَرِئْيا: منظرا فـي اللون والـحسن.

حدثنا القاسم، قال: ثنـي حجاح، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عباس وَرِئيا منظرا فـي اللون والـحسن.

١٨٠١٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا قال: الرئي: الـمنظر، والأثاث: الـمتاع، أحسن متاعا، وأحسن منظرا.

١٨٠١٥ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول فـي قوله: أحْسَنُ أثاثا يعني الـمال وَرِئْيا يعني : الـمنظر الـحسن.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة: (وَرِيّا) غير مهموز، وذلك إذا قرىء كذلك يتوجه لوجهين: أحدهما: أن يكون قارئه أراد الهمزة، فأبدل منها ياء، فـاجتـمعت الـياء الـمُبدلة من الهمز والـياء التـي هي لام الفعل، فأدغمتا، فجعلتا ياء واحدة مشددة لـيُـلْـحِقُوا ذلك، إذ كان رأس آية، بنظائره من سائر رؤوس الاَيات قبله وبعده والاَخر أن يكون من رويت أروي روية وريّا، وإذا أريد به ذلك كان معنى الكلام: وكم أهلكنا قبلهم من قرن، هم أحسن متاعا، وأحسن نظرا لـماله، ومعرفة لتدبـيره وذلك أن العرب تقول: ما أحسن رؤية فلان فـي هذا الأمر إذا كان حسن النظر فـيه والـمعرفة به. وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق والكوفة والبصرة وَرِئْيا بهمزها، بـمعنى: رؤية العين، كأنه أراد: أحسن متاعا ومَرآة. وحُكي عن بعضهم أنه قرأ: (أحسن أثاثا وزيا) ، بـالزاي، كأنه أراد أحسن متاعا وهيئة ومنظرا، وذلك أن الزيّ هو الهيئة والـمنظر من قولهم: زيّـيت الـجارية، بـمعنى: زينتها وهيأتها.

قال أبو جعفر: وأولـى القراءات فـي ذلك بـالصواب، قراءة من قرأ أثاثا وَرِئْيا بـالراء والهمز، لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى أن معناه: الـمنظر، وذلك هو من رؤية العين، لا من الروية، فلذلك كان الـمهموز أولـى به، فإن قرأ قارىء ذلك بترك الهمز، وهو يريد هذا الـمعنى، فغير مخطىء فـي قراءته. وأما قراءته بـالزاي فقراءة خارجة، عن قراءة القرّاء، فلا أستـجيز القراءة بها لـخلافها قراءتهم، وإن كان لهم فـي التأويـل وجه صحيح.

واختلف أهل العربـية فـي الأثاث أجمع هو أم واحد، فكان الأحمر فـيـما ذُكر لـي عنه يقول: هو جمع، واحدتها أثاثه، كما الـحمام جمع واحدتها حمامة، والسحاب جمع واحدتها سحابة. وأما الفراء فإنه كان يقول: لا واحد له، كما أن الـمتاع لا واحد له. قال: والعرب تـجمع الـمتاع: أمتعة، وأماتـيع، ومتع. قال: ولو جمعت الأثاث لقلت: ثلاثة آثّةٍ وأثث. وأما الرئي فإن جمعه: آراء.

٧٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{قُلْ مَن كَانَ فِي الضّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرّحْمَـَنُ مَدّاً حَتّىَ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ ...}.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين بربهم، القائلـين: إذا تتلـى علـيهم آياتنا، أيّ الفريقـين منا ومنكم خير مقاما وأحسن نديا، من كان منا ومنكم فـي الضلالة جائرا عن طريق الـحقّ. سالكا غير سبـيـل الهدى، فلـيـمدد له الرحمن مدّا يقول: فلـيطوّل له اللّه فـي ضلالته، ولـيـمله فـيها إملاء. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠١٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: فِـي الضّلالَةِ فَلْـيَـمْدُدْ لَهُ الرّحْمَنُ مَدّا فلـيَدعْه اللّه فـي طغيانه.

وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

و قوله: حتـى إذَا رَأوْا ما يُوعَدُونَ إمّا العَذَابَ وإمّا السّاعَةَ

يقول تعالـى ذكره: قل لهم: من كان منا ومنكم فـي الضلالة، فلـيـمدد له الرحمن فـي ضلالته إلـى أن يأتـيهم أمر اللّه ، إما عذاب عاجل، أو يـلقوا ربهم عند قـيام الساعة التـي وعد اللّه خـلقه أن يجمعهم لها، فإنهم إذا أتاهم وعد اللّه بأحد هذين الأمرين فَسَيَعْلَـمُونَ مَنْ هُوَ شَرّ مَكانا ومسكنا منكم ومنهم وأضْعَفُ جُنْدا أهم أم أنتـم؟ ويتبـينون حينئذٍ أيّ الفريقـين خير مقاما، وأحسن نديا.

٧٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{وَيَزِيدُ اللّه الّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مّرَدّاً }.

يقول تعالـى ذكره: ويزيد اللّه من سلك قصد الـمـحجة، واهتدى لسبـيـل الرشد، فآمن بربه، وصدّق بآياته، فعمل بـما أمره به، وانتهى عما نهاه عنه هدى بـما يتـجدّد له من الإيـمان بـالفرائض التـي يفرضها علـيه. ويقرّ بلزوم فرضها إياه، ويعمل بها، فذلك زيادة من اللّه فـي اهتدائه بآياته هدى علـى هداه، وذلك نظير قوله: وإذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيـمانا فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيـمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وقد كان بعضهم يتأوّل ذلك: ويزيد اللّه الذين اهتدوا هُدىً بناسخ القرآن ومنسوخه، فـيؤمن بـالناسخ، كما آمن من قبل بـالـمنسوخ، فذلك زيادة هدىً من اللّه له علـى هُداه من قبل وَالبـاقِـياتُ الصّالـحات خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابـا

يقول تعالـى ذكره: والأعمال التـي أمر اللّه بها عبـاده ورضيها منهم. البـاقـيات لهم غير الفـانـيات الصالـحات، خير عند ربك جزاء لأهلها وَخَيْرٌ مَرَدّا علـيهم من مقامات هؤلاء الـمشركين بـاللّه ، وأنديتهم التـي يفتـخرون بها علـى أهل الإيـمان فـي الدنـيا.

وقد بـيّنا معنى البـاقـيات الصالـحات، وذكرنا اختلاف الـمختلفـين فـي ذلك، ودللنا علـى الصواب من القول فـيه فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

١٨٠١٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن راشد، عن يحيى بن أبـي كثـير عن أبـي سلـمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: جلس النبي صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم، فأخذ عودا يابسا، فحطّ ورقه ثم قال: (إنّ قَوْلَ لا إلهَ إلاّ اللّه ، وَاللّه أكْبَرُ، والـحَمْدُ للّه وَسُبْحانَ اللّه ، تَـحطّ الـخَطايا، كمَا تَـحُطّ وَرَقَ هَذِهِ الشّجَرَةِ الرّيحُ، خُذْهُنّ يا أبـا الدّرْدَاءِ قَبْلَ أنْ يُحالَ بَـيْنَكَ وَبَـيْنَهُنّ، هُنّ البـاقِـياتُ الصّالِـحاتُ، وَهُنّ مِنْ كُنُوزِ الـجَنّةِ) ، قال أبو سلـمة: فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الـحديث قال: لأهللنّ اللّه ، ولأكبرنّ اللّه ، ولأسبحنّ اللّه ، حتـى إذا رآنـي الـجاهل حسب أنـي مـجنون.

٧٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{أَفَرَأَيْتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاُوتَيَنّ مَالاً وَوَلَداً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : أفَرأيْتَ يا مـحمد الّذِي كَفَرَ بآياتِنا حججنا فلـم يصدّق بها، وأنكر وعيدنا من أهل الكفر وَقالَ وهو بـاللّه كافر وبرسوله لاَوتَـينّ فـي الاَخرة مالاً وَوَلَدا. وذُكر أن هذه الاَيات أنزلت فـي العاص بن وائل السهمي أبـي عمرو بن العاص. ذكر الرواية بذلك:

١٨٠١٨ـ حدثنا أبو السائب وسعيد بن يحيى، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلـم، عن مسروق، عن خبـاب، قال: كنت رجلاً قَـيْنا، وكان لـي علـى العاص بن وائل دين، فأتـيته أتقاضاه، فقال: واللّه لا أقضيك حتـى تكفر بـمـحمد، فقلت: واللّه لا أكفر بـمـحمد حتـى تـموت ثم تبعث، قال: فقال: فإذا أنا متّ ثم بُعثت كما تقول، جئتنـي ولـي مال وولد، قال: فأنزل اللّه تعالـى: أفَرأيْتَ الّذِي كَفَرَ بآياتِنا وَقالَ لاَوتَـينّ مالاً وَوَلَدا أطّلَعَ الغَيْبَ أمِ اتّـخَذَ عِنْدَ الرّحْمنِ عَهْدا... إلـى قوله: ويَأْتـينا فَرْدا.

حدثنـي به أبو السائب، وقرأ فـي الـحديث: وولدا.

١٨٠١٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، أن رجالاً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانوا يطلبون العاصَ بن وائل السّهْمِيّ بدين، فأتوه يتقاضونه، فقال: ألستـم تزعمون أن فـي الـجنة فضة وذهبـا وحريرا، ومن كلّ الثمرات؟ قالوا: بلـى، قال: فإن موعدكم الاَخرة، فواللّه لأوتـينّ مالاً وولدا، ولأوتـينّ مثل كتابكم الذي جئتـم به، فضرب اللّه مثله فـي القرآن، فقال: أفَرأيْتَ الّذِي كَفَرَ بآياتِنا وَقالَ لاَوتَـينّ مالاً... إلـى قوله ويَأْتِـينا فَرْدا.

١٨٠٢٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه : لاَوتَـينّ مالاً وَوَلَدا قال: العاصُ بن وائل يقوله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٨٠٢١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: أفَرأيْتَ الّذِي كَفَرَ بآياتِنا وَقالَ لاَوتَـينّ مالاً وَوَلَدا فذُكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أتوا رجلاً من الـمشركين يتقاضونه دينا، فقال: ألـيس يزعم صاحبكم أن فـي الـجنة حريرا وذهبـا؟ قالوا: بلـى، قال فميعادكم الـجنة، فواللّه لا أومن بكتابكم الذي جئتـم به، استهزاء بكتاب اللّه ، ولأُوتـينّ مالاً وولدا. يقول اللّه : أطّلَعَ الغَيْبَ أمِ اتّـخَذَ عِنْدَ الرّحْمَنِ عَهْدا؟

١٨٠٢٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن الأعمش، عن أبـي الضحى، عن مسروق، قال: قال خَبّـاب بن الأَرَتّ: كنت قَـيْنا بـمكة، فكنت أعمل للعاص بن وائل، فـاجتـمعت لـي علـيه دراهم، فجئت لأتقاضاه، فقال لـي: لا أقضيك حتـى تكفر بـمـحمد، قال: قلت: لا أكفر بـمـحمد حتـى تـموت ثم تبعث، قال: فإذا بُعثت كان لـي مال وولد، قال: فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى: أفَرأيْتَ الّذِي كَفَرَ بآياتِنا وَقالَ لاَوتَـينّ مالاً وَوَلَدا... إلـى وَيأْتِـيَنا فَرْدا.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله وَوَلدا فقرأته عامّة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: وَوَلَدا بفتـح الواو من الولد فـي كلّ القرآن، غير أن أبـا عمرو بن العلاء خَصّ التـي فـي سورة نوح بـالضمّ، فقرأها: مالُهُ وَوُلْدُهُ. وأما عامّة قرّاء الكوفة غير عاصم، فإنهم قرأوا من هذه السورة من قوله مالاً وَوَلَدا إلـى آخر السورة، واللتـين فـي الزخرف، والتـي فـي نوح، بـالضمّ وسكون اللام.

وقد اختلف أهل العربـية فـي معنى ذلك إذا ضمت واوه، فقال بعضهم: ضمها وفتـحها واحد، وإنـما هما لغتان، مثل قولهم العُدْم والعَدَم، والـحُزْن والـحَزَن. واستشهدوا لقـيـلهم ذلك بقول الشاعر:

فَلَـيْتَ فُلانا كانَ فـي بَطْنِ أُمّهِوَلَـيْتَ فُلانا كانَ وُلْدَ حِمارِ

ويقول الـحارث بن حِلّزة:

وَلَقَدْ رأيْتُ مَعاشِراقَدْ ثَمّرُوا مالاً وَوُلْدَا

وقول رُؤْبة:

الْـحَمْد للّه العَزِيزِ فَرْدَالَـمْ يَتّـخِذْ مِنْ وُلْدِ شَيْءٍ وُلْدَا

وتقول العرب فـي مثلها: وُلْدُكِ مِن دَمّى عَقِبَـيْكِ، قال: وهذا كله واحد، بـمعنى الولد. وقد ذُكر لـي أن قـيسا تـجعل الوُلْد جمعا، والوَلد واحدا. ولعلّ الذين قرأوا ذلك بـالضمّ فـيـما اختاروا فـيه الضمّ، إنـما قرأوه كذلك لـيفرقوا بـين الـجمع والواحد.

قال أبو جعفر: والذي هو أولـى بـالصواب من القول فـي ذلك عندي أن الفتـح فـي الواو من الوَلد والضمّ فـيها بـمعنى واحد، وهما لغتان، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب، غير أن الفتـح أشهر اللغتـين فـيها. فـالقراءة به أعجبُ إلـيّ لذلك.

٧٨

و قوله: أطّلَعَ الغَيْبَ يقول عزّ ذكره:

اعلـم هذا القائل هذا القول علـم الغيب، فعلـم أن له فـي الاَخرة مالاً وولدا بـاطلاعه علـى علـم ما غاب عنه أمِ اتّـخَذَ عِنْدَ الرّحْمَنِ عَهْدا يقول: أم آمن بـاللّه وعمل بـما أمر به، وانتهى عما نهاه عنه، فكان له بذلك عند اللّه عهدا أن يؤتـيه ما يقول من الـمال والولد، كما:

١٨٠٢٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أطّلَعَ الغَيْبَ أمِ اتَـخَذَ عِنْدَ الرّحْمَنِ عَهْدا بعمل صالـح قدّمه.

٧٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{كَلاّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً }.

 يعني تعالـى ذكره بقوله كلا: لـيس الأمر كذلك، ما اطلع الغيب، فعلـم صدق ما يقول، وحقـيقة ما يذكر، ولا اتـخذ عند الرحمن عهدا بـالإيـمان بـاللّه ورسوله، والعمل بطاعته، بل كذب وكفر. ثم قال تعالـى ذكره: سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ: أي سنكتب ما يقول هذا الكافر بربه، القائل لاَوتـيَنّ فـي الاَخرة مالاً وَوَلَدا ونَـمُدّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَدّا يقول: ونزيده من العذاب فـي جهنـم بقـيـله الكذب والبـاطل فـي الدنـيا، زيادة علـى عذابه بكفره بـاللّه .

٨٠

و قوله: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ يقول عزّ ذكره: ونسلب هذا القائل: لأوتـينّ فـي الاَخرة مالاً وولدا، ماله وولده، ويصير لنا ماله وولده دونه، ويأتـينا هو يوم القـيامة فردا، وحدَه لا مال معه ولا ولد. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٢٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ: ماله وولده، وذلك الذي قال العاصي بن وائل.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٨٠٢٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ويَأْتِـينا فَرْدا: لا مال له ولا ولد.

١٨٠٢٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: وَنَرثُهُ ما يَقُولُ قال: ما عنده، وهو قوله لاَوتَـينّ مالاً وَوَلَدا وفـي حرف ابن مسعود: ونرثه ما عنده.

١٨٠٢٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ قال: ما جمع من الدنـيا وما عمل فـيها. قال ويَأْتِـينا فَرْدا قال: فردا من ذلك، لا يتبعه قلـيـل ولا كثـير.

١٨٠٢٨ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ: نرثه.

٨١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّه آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً }.

يقول تعالـى ذكره: واتـخذ يا مـحمد هؤلاء الـمشركون من قومك آلهة يعبدونها من دون اللّه ، لتكون هؤلاء الاَلهة لهم عزّا، يـمنعونهم من عذاب اللّه ، ويتـخذون عبـادتهموها عند اللّه زُلْفَـى.

٨٢

و قوله: كَلاّ يقول عزّ ذكره: لـيس الأمر كما ظنوا وأمّلُوا من هذه الاَلهة التـي يعبدونها من دون اللّه ، فـي أنها تنقذهم من عذاب اللّه ، وتنـجيهم منه، ومن سوء إن أراده بهم ربّهم.

و قوله: سَيَكْفُرُونَ بِعِبـادَتِهِمْ يقول عزّ ذكره: ولكن سيكفر الاَلهة فـي الاَخرة بعبـادة هؤلاء الـمشركين يوم القـيامة إياها، وكفرهم بها قـيـلهم لربهم: تبرأنا إلـيك ما كانوا إيانا يعبدون، فجحدوا أن يكونوا عبدوهم أو أمروهم بذلك، وتبرّأوا منهم، وذلك كفرهم بعبـادتهم. وأما قوله: وَيَكُونُونَ عَلَـيْهِمْ ضِدّا فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله، فقال بعضهم: معنى ذلك: وتكون آلهتهم علـيهم عونا، وقالوا: الضدّ: العون. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٢٩ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله وَيَكُونُونَ عَلَـيْهِمْ ضِدّا يقول: أعوانا.

١٨٠٣٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى (ح) وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَيَكُونُونَ عَلَـيْهِمْ ضِدّا قال: عونا علـيهم تـخاصمهم وتكذّبهم.

١٨٠٣١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد وَيَكُونُونَ عَلَـيْهِمْ ضِدّا قال: أوثانهم يوم القـيامة فـي النار.

وقال آخرون: بل عنى بـالضدّ فـي هذا الـموضع: القُرَناء. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٣٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله وَيَكُونُونَ عَلَـيْهِمْ ضِدّا يقول: يكونون علـيهم قرناء.

١٨٠٣٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَيَكُونُونَ عَلَـيْهِمْ ضِدّا قرناء فـي النار، يـلعن بعضهم بعضا، ويتبرأ بعضهم من بعض.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله ضِدّا قال: قرناء فـي النار.

وقال آخرون: معنى الضدّ ههنا: العدوّ. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٣٤ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا مُعاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله وَيَكُونُونَ عَلَـيْهِمْ ضِدّا قال: أعداء.

وقال آخرون: معنى الضدّ فـي هذا الـموضع: البلاء. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٣٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَيَكُونُونَ عَلَـيْهِمْ ضِدّا قال: يكونون علـيهم بلاء.

الضدّ: البلاء، والضدّ فـي كلام العرب: هو الـخلاف، يقال: فلان يضادّ فلانا فـي كذا، إذا كان يخالفه فـي صنـيعه، فـيفسد ما أصلـحه، ويصلـح ما أفسده، وإذ كان ذلك معناه، وكانت آلهة هؤلاء الـمشركين الذين ذكرهم اللّه فـي هذا الـموضع يتبرّؤون منهم، وينتفعون يومئذٍ، صاروا لهم أضدادا، فوصفوا بذلك.

وقد اختلف أهل العربـية فـي وجه توحيد الضدّ، وهو صفة لـجماعة. فكان بعض نـحويّـي البصرة يقول: وحد لأنه يكون جماعة، وواحدا مثل الرصد والأرصاد. قال: ويكون الرّصَد أيضا لـجماعة. وقال بعض نـحويـي الكوفة وحّد، لأن معناه عونا، وذكر أن أبـا نهيك كان يقرأ ذلك، كما:

١٨٠٣٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبد الـمؤمن، قال: سمعت أبـا نهيك الأزدي يقرأ: كَلاّ سَيَكْفُرُون يعني الاَلهة كلها أنهم سيكفرون بعبـادتهم.

٨٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى{أَلَمْ تَرَ أَنّآ أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزّهُمْ أَزّاً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : ألـم تر يا مـحمد أنا أرسلنا الشياطين علـى أهل الكفر بـاللّه تَوزّهُمْ يقول: تـحرّكهم بـالإغواء والإضلال، فتزعجهم إلـى معاصي اللّه ، وتغريهم بها حتـى يواقعوها أزّا إزعاجا وإغواء. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٣٧ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: أزّا يقول: تغريهم إغراء.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس : تؤز الكافرين إغراء فـي الشرك: امضِ امضِ فـي هذا الأمر، حتـى توقعهم فـي النار، امضوا فـي الغيّ امضوا.

١٨٠٣٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو إدريس، عن جويبر، عن الضحاك ، فـي قوله تَوزّهُمْ أزّا قال: تغريهم إغراء.

١٨٠٣٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: تَوزّهُمْ أزّا قال: تزعجهم إزعاجا فـي معصية اللّه .

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن عثمة، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة فـي قول اللّه تَوزّهُمْ أزّا قال: تزعجهم إلـى معاصي اللّه إزعاجا.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله تَوزّهُمْ أزّا قال تزعجهم إزعاجا فـي معاصي اللّه .

١٨٠٤٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: ألَـمْ تَرَ أنّا أرْسَلْنا الشّياطِينَ علـى الكافرِينَ تَوزّهُمْ أزّا فقرأ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ نُقَـيّضْ لَهُ شَيْطانا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ قال: توزّهم أزّا، قال: تشلـيهم إشلاءً علـى معاصي اللّه تبـارك وتعالـى، وتغريهم علـيها، كما يغري الإنسان الاَخر علـى الشيء.

يقال منه: أزَزْت فلانا بكذا، إذا أغريته به أؤزّه أزّا وأزيزا، وسمعت أزيز القدر: وهو صوت غلـيانها علـى النار ومنه حديث مطرف عن أبـيه، أنه انتهى إلـى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يصلـي، ولـجوفه أزيز كأزيز الـمرجل.

٨٤

و قوله: فَلا تَعْجَلْ عَلَـيْهِمْ إنّـمَا نَعُدّ لَهُمْ عَدّا يقول عزّ ذكره: فلا تعجل علـى هؤلاء الكافرين بطلب العذاب لهم والهلاك، يا مـحمد إنـما تعدّ لهم عدّا يقول: فإنـما نؤخر إهلاكهم لـيزدادوا إثما، ونـحن نعدّ أعمالهم كلها ونـحصيها حتـى أنفـاسهم لنـجازيهم علـى جميعها، ولـم نترك تعجيـل هلاكهم لـخير أردناه بهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٤١ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: إنّـما تَعُدّ لَهُمْ عَدّا يقول: أنفـاسهم التـي يتنفسون فـي الدنـيا، فهي معدودة كسنهم وآجالهم.

٨٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَـَنِ وَفْداً }.

يقول تعالـى ذكره: يوم نـجمع الذين اتقوا فـي الدنـيا فخافوا عقابه، فـاجتنبوا لذلك معاصيه، وأدّوا فرائضه إلـى ربهم وَفْدا يعني بـالوفد: الركبـان. يقال: وفدت علـى فلان: إذا قدمت علـيه، وأوفد القوم وفدا علـى أميرهم، إذا بعثوا من قبلهم بعثا. والوفد فـي هذا الـموضع بـمعنى الـجمع، ولكنه واحد، لأنه مصدر واحدهم وافد، وقد يجمع الوفد: الوفود، كما قال بعض بنـي حنـيفة:

إنّـي لَـمُـمْتَدِحٌ فَمَا هُوَ صَانِعٌرأسُ الُوفُودِ مُزاحمُ بنَ جِساسِ

وقد يكون الوفود فـي هذا الـموضع جمع وافد، كما الـجلوس جمع جالس. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٤٢ـ حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علـيّ، فـي قوله: يَوْمَ نَـحْشُرُ الـمُتّقِـينَ إلـى الرّحْمَنِ وَفْدا قال: أما واللّه ما يحشر الوفد علـى أرجلهم، ولا يساقون سوقا، ولكنهم يؤتون بنوق لـم ير الـخلائق مثلها، علـيها رِحال الذهب، وأزمتها الزبرجد، فـيركبون علـيها حتـى يضربوا أبواب الـجنة.

١٨٠٤٣ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن إسماعيـل، عن رجل، عن أبـي هريرةيَوْمَ نَـحْشُرُ الـمُتّقِـينَ إلـى الرّحْمَنِ وَفْدا قال: علـى الإبل.

١٨٠٤٤ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: يَوْمَ نَـحْشُرُ الـمُتّقِـينَ إلـى الرّحْمَنِ وَفْدا يقول: ركبـانا.

١٨٠٤٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قـيس الـملائي، قال: إن الـمؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن صورة، وأطيبها ريحا، فـيقول: هل تعرفنـي؟ فـيقول: لا إلا أن طيب ريحك وحسّن صورتك، فـيقول: كذلك كنت فـي الدنـيا أنا عملك الصالـح طالـما ركبتك فـي الدنـيا، فـاركبنـي أنت الـيوم، وتلا: يَوْمَ نَـحْشُرُ الـمُتّقِـينَ إلـى الرّحْمَنِ وَفْدا.

١٨٠٤٦ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة إلـى الرّحْمَنِ وَفْدا قال: وفدا إلـى الـجنة.

١٨٠٤٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، فـي قوله: يَوْمَ نَـحْشُرُ الـمُتّقِـينَ إلـى الرّحْمَنِ وَفْدا قال: علـى النـجائب.

١٨٠٤٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: سمعت سفـيان الثوري يقول: يَوْمَ نَـحْشُرُ الـمُتّقِـينَ إلـى الرّحْمَنِ وَفْدا قال: علـى الإبل النوق.

٨٦

و قوله: وَنَسُوقُ الـمُـجْرِمينَ إلـى جَهَنّـمَ وِرْدا

يقول تعالـى ذكره: ونسوق الكافرين بـاللّه الذين أجرموا إلـى جهنـم عطاشا. والوِرد: مصدر من قول القائل: وردت كذا أرِده وِردا، ولذلك لـم يجمع، وقد وصف به الـجمع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٤٩ـ حدثنـي علـيّ، قال: ثنـي عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَنَسُوقُ الـمُـجْرِمينَ إلـى جَهَنّـمَ وِرْدا يقول: عطاشا.

١٨٠٥٠ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن إسماعيـل، عن رجل، عن أبـي هريرةوَنَسُوقُ الـمُـجْرِمينَ إلـى جَهَنّـمَ وِرْدا قال: عطاشا.

١٨٠٥١ـ حدثنـي يعقوب والفضل بن صبـاح، قالا: حدثنا إسماعيـل بن عُلَـيّة، عن أبـي رجاء، قال: سمعت الـحسن يقول فـي قوله: وَنَسُوقُ الـمُـجْرِمينَ إلـى جَهَنّـمَ وِرْدا قال: عطاشا.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن يونس، عن الـحسن، مثله.

١٨٠٥٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: إلـى جَهَنّـمَ وِرْدا قال: ظماء إلـى النار.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَنَسُوقُ الـمُـجْرِمينَ إلـى جَهَنّـمَ وِرْدا سوقوا إلـيها وهم ظمء عطاش.

١٨٠٥٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: سمعت سفـيان يقول فـي قوله: وَنَسُوقُ الـمُـجْرِمينَ إلـى جَهَنّـمَ وِرْدا قال: عطاشا.

٨٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَـَنِ عَهْداً }.

يقول تعالـى ذكره: لا يـملك هؤلاء الكافرون بربهم يا مـحمد، يوم يحشر اللّه الـمتقـين إلـيه وفدا الشفـاعة، حين يشفع أهل الإيـمان بعضهم لبعض عند اللّه ، فـيشفع بعضهم لبعض إلاّ مَنِ اتّـخَذَ منهم عِنْدَ الرّحْمَنِ فـي الدنـيا عَهْدا بـالإيـمان به، وتصديق رسوله، والإقرار بـما جاء به، والعمل بـما أمر به. كما:

١٨٠٥٤ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: إلاّ مَنِ اتّـخَذَ عِنْدَ الرّحْمَنِ عَهْدا قال: العهد: شهادة أن لا إله إلا اللّه ، ويتبرأ إلـى اللّه من الـحول والقوّة ولا يرجو إلا اللّه .

١٨٠٥٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: لا يَـمْلِكُونَ الشّفـاعةَ إلاّ مَنِ اتّـخَذَ عِنْدَ الرّحْمَنِ عَهْدا قال: الـمؤمنون يومئذ بعضهم لبعض شفعاء إلاّ مَنِ اتّـخَذَ عِنْدَ الرّحْمَنِ عَهْدا قال: عملاً صالـحا.

١٨٠٥٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: لا يَـمْلِكُونَ الشّفـاعَةَ إلاّ مَنِ اتّـخَذَ عِنْدَ الرّحْمَنِ عَهْدا: أي بطاعته، وقال فـي آية أخرى: لا تَنْفَعُ الشّفـاعَةُ إلاّ مَنْ أذِنَ لَهُ الرّحْمَنُ وَرَضي لَهُ قَوْلاً لـيعلـموا أن اللّه يوم القـيامة يشفع الـمؤمنـين بعضهم فـي بعض، ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (إنّ فِـي أُمّتِـي رَجُلاً لَـيُدْخِـلَنّ اللّه بِشَفـاعَتِهِ الـجَنّةَ أكْثَرَ مِنْ بنـي تـمِيـمِ) ، وكنّا نـحدّث أن (الشهيد يشفع فـي سبعين من أهل بـيته) .

١٨٠٥٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن أبـي الـملـيح، عن عوف بن مالك، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنّ شفَـاعَتِـي لِـمَنْ ماتَ مِنْ أُمّتِـي لا يُشْرِكُ بـاللّه شَيْئا) .

و (مَن) فـي قوله: إلاّ مَنْ فـي موضع نصب علـى الاستثناء، ولا يكون خفضا بضمير اللام، ولكن قد يكون نصبـا فـي الكلام فـي غير هذا الـموضع، وذلك كقول القائل: أردت الـمرور الـيوم إلا العدوّ، فإنـي لا أمر به، فـيستثنى العدوُ من الـمعنى، ولـيس ذلك كذلك فـي قوله: لا يَـمْلِكُونَ الشّفـاعَةَ إلاّ مَنِ اتّـخَذَ عِنْدَ الرّحْمَنِ عَهْدا لأن معنى الكلام: لا يـملك هؤلاء الكفـار إلا من آمن بـاللّه ، فـالـمؤمنون لـيسوا من أعداد الكافرين، ومن نصبه علـى أن معناه إلا لـمن اتـخذ عند الرحمن عهدا، فإنه ينبغي أن يجعل قوله لا يـملكون الشفـاعة للـمتقـين، فـيكون معنى الكلام حينئذ يوم نـحشر الـمتقـين إلـى الرحمن وفدا، لا يـملكون الشفـاعة، إلا من اتـخذ عند الرحمن عهدا. فـيكون معناه عند ذلك: إلا لـمن اتـخذ عند الرحمن عهدا. فأما إذا جعل لا يـملكون الشفـاعة خبرا عن الـمـجرمين، فإن (من) تكون حينئذ نصبـا علـى أنه استثناء منقطع، فـيكون معنى الكلام: لا يـملكون الشفـاعة، لكن من اتـخذ عند الرحمن عهدا يـملكه.

٨٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَـَنُ وَلَداً }.

يقول تعالـى ذكره: وقال هؤلاء الكافرون بـاللّه اتّـخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدا لَقَدْ جِئْتُـمْ شَيْئا إدّا

يقول تعالـى ذكره للقائلـين ذلك من خـلقه: لقد جئتـم أيها الناس شيئا عظيـما من القول منكرا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٨٩

١٨٠٥٨ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: شَيْئا إدّا يقول: قولاً عظيـما.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس قوله: لَقَدْ جِئْتُـمْ شَيْئا إدّا يقول: لقد جئتـم شيئا عظيـما وهو الـمنكر من القول.

١٨٠٥٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله شَيْئا إدّا قال: عظيـما.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٨٠٦٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله شَيْئا إدّا قال: عظيـما.

١٨٠٦١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: لَقَدْ جِئْتُـمْ شَيْئا إدّا قال: جئتـم شيئا كبـيرا من الأمر حين دعوا للرحمن ولدا.

وفـي الإدّ لغات ثلاث، يقال: لقد جئت شيئا إدّا، بكسر الألف، وأدّا بفتـح الألف، ومدّها، علـى مثال مادّ فـاعل. وقرأ قرّاء الأمصار، وبها نقرأ، وقد ذكر عن أبـي عبد الرحمن السلـمي أنه قرأ ذلك بفتـح الألف، ولا أرى قراءته كذلك لـخلافها قراءة قرّاء الأمصار، والعرب تقول لكلّ أمر عظيـم: إدّ، وإمر، ونكر ومنه قوله الراجز:

قَدْ لَقِـيَ الأعْدَاءُ مِنّـي نُكْرَادَاهِيَةٌ دَهْياءَ إدّا إمْرا

ومنه قول الاَخر:

فِـي لَهَثٍ مِنْهُ وَحَثْلِ إدا

٩٠

و قوله: تَكَادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ

يقول تعالـى ذكره: تكاد السموات يتشّقْقن قطعا من قـيـلهم: اتّـخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدا، ومنه

قـيـل: فَطَر نابُه: إذا انشقّ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٦٢ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: تَكَادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقّ الأرْضُ وتَـخِرّ الـجِبـالُ هَدّا أنْ دَعُوْا للرّحْمَنِ وَلَدا قال: إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والـجبـال، وجميع الـخلائق إلا الثقلـين، وكادت أن تزول منه لعظمة اللّه ، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان الـمشرك، كذلك نرجو أن يغفر اللّه ذنوب الـموحّدين. وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لَقّنُوا مَوْتاكُمْ شَهادَةَ أنْ لا إلهَ إلاّ اللّه ، فَمَنْ قَالَها عِنْدَ مَوْتِهِ وَجَبَتْ لَهُ الـجَنّةُ) قالُوا: يا رسول اللّه ، فمن قالها فـي صحته؟ قال: (تلكَ أوْجَبُ وأوْجَبُ) . ثم قال: (وَالّذِي نَفْسِي بـيَدِهِ لَوْ جِيءَ بـالسّمَوَاتِ والأرَضِينَ وَما فـيهِنّ وَما بَـيْنَهُنّ وَما تَـحْتَهُنّ، فَوُضِعْنَ فـي كِفّةِ الـمِيزَانِ، وَوُضِعَتْ شَهادَةُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللّه فِـي الكِفّةِ الأُخْرَى، لَرَجَحَتْ بِهِنّ) .

١٨٠٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد تَكَادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقّ الأرْضُ وتَـخِرّ الـجِبـالُ هَدّا ذُكر لنا أن كعبـا كان يقول: غضبت الـملائكة، واستعرت جهنـم، حين قالوا ما قالوا.

و قوله: وَتَنْشَقّ الأرْضُ يقول: وتكاد الأرض تنشقّ، فتنصدع من ذلك وتَـخِرّ الـجبـالُ هَدّا يقول: وتكاد الـجبـال يسقط بعضها علـى بعض سقوطا. والهدّ: السقوط، وهو مصدر هددت، فأنا أهدّ هدّا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٦٤ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وتَـخِرّ الـجِبـالُ هَدّا يقول: هدما.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس : وتَـخِرّ الـجِبـالُ هَدّا قال: الهدّ: الانقضاض.

١٨٠٦٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وتَـخِرّ الـجِبـالُ هَدّا قال: غضبـا للّه. قال: ولقد دعا هؤلاء الذين جعلوا للّه هذا الذي غضبت السموات والأرض والـجبـال من قولهم، لقد استتابهم ودعاهم إلـى التوبة، فقال: لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّه ثالِثُ ثَلاثَةٍ قالوا: هو وصاحبته وابنه، جعلوها إلهين معه وَما مِنْ إله إلاّ إلهٌ وَاحِدٌ... إلـى قوله: وَيَسْتَغْفِرُنَهُ وَاللّه غَفُورٌ رَحيـمٌ.

٩١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَن دَعَوْا لِلرّحْمَـَنِ وَلَداً }.

يقول تعالـى ذكره: وتكاد الـجبـال أن تـخرّ انقضاضا، لأنْ دَعَوا للرحمن ولدا. ف (أن) فـي موضع نصب فـي قول بعض أهل العربـية، لاتصالها بـالفعل، وفـي قول غيره فـي موضع خفض بضمير الـخافض وقد بـيّنا الصواب من القول فـي ذلك فـي غير موضع من كتابنا هذا بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

وقال: أنْ دَعَوْا للرّحْمَنِ وَلَدا يعني ب قوله: أنْ دَعَوْا: أن جعلوا له ولدا، كما قال الشاعر:

ألا رُبّ مَنْ تَدْعُو نَصِيحا وَإنْ تَغِبْتَـجِدْهُ بغَيْبٍ غيرَ مُنْتَصِحِ الصّدْرِ

وقال ابن أحمر:

أهْوَى لَهَا مِشْقَصا حَشْرا فَشَبْرَقَهاوكنتُ أدْعُو قَذَاها الإثمِدَ القَرِدَا

٩٢

و قوله: وَما يَنْبَغِي للرّحْمَنِ أنْ يَتّـخِذَ وَلَدا يقول: وما يصلـح للّه أن يتـخذ ولدا، لأنه لـيس كالـخـلق الذين تغلبهم الشهوات، وتضطرهم اللذّات إلـى جماع الإناث، ولا ولد يحدث إلا من أنثى، واللّه يتعالـى عن أن يكون كخـلقه، وذلك كقول ابن أحمر:

فِـي رأسِ خَـلْقاءَ مِنْ عَنْقاءَ مُشْرِفَةٍما ينبغي دُونَها سَهْلٌ وَلا جَبَلُ

 يعني : لا يصلـح ولا يكون.

٩٣

إنْ كُلّ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ إلاّ آتـى الرّحْمَنِ عَبْدا يقول: ما جميع من فـي السموات من الـملائكة، وفـي الأرض من البشر والإنس والـجنّ إلاّ آتـى الرّحْمَنِ عَبْدا يقول: إلا يأتـي ربه يوم القـيامة عبدا له، ذلـيلاً خاضعا، مقرّا له بـالعبودية، لا نسب بـينه وبـينه.

و قوله: آتـى الرّحْمَنِ إنـما هو فـاعل من أتـيته، فأنا آتـيه.

٩٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدّهُمْ عَدّاً }.

يقول تعالـى ذكره: لقد أحصى الرحمن خـلقه كلهم، وعدّهم عدا، فلا يخفـى علـيه مبلغ جميعهم، وعرف عددهم، فلا يعزب عنه منهم أحد

٩٥

وكُلّهُمْ آتِـيهِ يَوْمَ القِـيامَةِ فَرْدا يقول: وجميع خـلقه سوف يرد علـيه يوم تقوم الساعة وحيدا لا ناصر له من اللّه ، ولا دافع عنه، فـيقضي اللّه فـيه ما هو قاض، ويصنع به ما هو صانع.

٩٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَـَنُ وُدّاً }.

يقول تعالـى ذكره: إن الذين آمنوا بـاللّه ورسوله، وصدّقوا بـما جاءهم من عند ربهم، فعملوا به، فأحلوا حلاله، وحرّموا حرامه سيجعلُ لهمُ الرحمنُ ودا فـي الدنـيا، فـي صدور عبـاده الـمؤمنـين. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٦٦ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة، قال: حدثنا شريك، عن مسلـم الـملائي، عن مـجاهد ، عن ابن عباس ، فـي قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّا قال: مـحبة الناس فـي الدنـيا.

حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، فـي قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّا قال: حبـا.

١٨٠٦٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّا قال: الودّ من الـمسلـمين فـي الدنـيا، والرزق الـحسن. واللسان الصادق.

١٨٠٦٨ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة، قال: حدثنا شريك، عن عبـيد الـمُكْتِبِ، عن مـجاهد ، فـي قوله سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّا قال: مـحبة فـي الـمسلـمين فـي الدنـيا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن القاسم بن أبـي بزّة، عن مـجاهد ، فـي قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّا قال: يحبهم ويحببهم إلـى خـلقه.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّا قال: يحبهم ويحببهم إلـى الـمؤمنـين.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا علـيّ بن هاشم، عن أبـي لـيـلـى، عن الـحكم، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، قال: يحبهم ويحببهم.

١٨٠٦٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو، عن قتادة ، فـي قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّا قال: ما أقبل عبد اللّه إلا أقبل اللّه بقلوب العبـاد إلـيه، وزاده من عنده.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّا: إي واللّه فـي قلوب أهل الإيـمان. ذُكر لنا أن هَرِم بن حيان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلـى اللّه ، إلا أقبل اللّه بقلوب الـمؤمنـين إلـيه، حتـى يرزقه مودّتهم ورحمتهم.

١٨٠٧٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، أن عثمان بن عفـان كان يقول: ما من الناس عبد يعمل خيرا ولا يعمل شرّا، إلا كساه اللّه رداء عمله.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوريّ، عن مسلـم، عن مـجاهد ، عن ابن عباس ، فـي قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّا قال: مـحبة.

وذُكر أن هذه الاَية نزلت فـي عبد الرحمن بن عوف.

١٨٠٧١ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن سعيد الواسطيّ، قال: أخبرنا يعقوب بن مـحمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن عبد اللّه بن عثمان بن أبـي سلـيـمان بن جُبـير بن مطعم، عن أبـيه، عن أمه أمّ إبراهيـم ابنة أبـي عبـيدة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبـيها، عن عبد الرحمن بن عوف، أنه لـما هاجر إلـى الـمدينة، وجَد فـي نفسه علـى فراق أصحابه بـمكة، منهم شيبة بن ربـيعة، وعتبة بن ربـيعة، وأميّة بن خـلف، فأنزل اللّه تعالـى: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّا.

٩٧

و قوله: فإنّـما يَسّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشّر بِهِ الـمُتّقِـينَ

يقول تعالـى ذكره: فإنّـما يسّرنا يا مـحمد هذا القرآن بلسانك تقرؤه، لتبشر به الـمتقـين الذين اتقوا عقاب اللّه ، بأداء فرائضه، واجتناب معاصبه، بـالـجنة. وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا يقول: ولتنذر بهذا القرآن عذاب اللّه قومكَ من قريش، فإنهم أهل لَددَ وجدل بـالبـاطل، لا يقبلون الـحقّ. واللّدّ: شدّة الـخصومة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: لُدّا قال: لا يستقـيـمون.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد ، مثله.

١٨٠٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا يقول: لتنذر به قوما ظَلَـمة.

١٨٠٧٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا: أي جدالاً بـالبـاطل، ذوي لَددَ وخصومة.

١٨٠٧٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل، عن لـيث، عن مـجاهد ، فـي قوله: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا قال: فُجّارا.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله قَوْما لُدّا قال: جدالاً بـالبـاطل.

١٨٠٧٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا قال: الألدّ: الظلوم، وقرأ قول اللّه : وَهُوَ ألَدّ الـخِصَامِ.

١٨٠٧٧ـ حدثنا أبو صالـح الضراريّ، قال: حدثنا العلاء بن عبد الـجبـار، قال: حدثنا مهدي بن ميـمون، عن الـحسن في قول اللّه عز وجل: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْما لُدّا قال: صْما عن الـحقّ،

حدثنـي ابن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن هارون، عن الـحسن، مثله.

وقد بـيّنا معنى الألدّ فـيـما مضى بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.

٩٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً }.

يقول تعالـى ذكره: وكثـيرا أهلكنا يا مـحمد قبل قومك من مشركي قريش، من قرن، يعني من جماعة من الناس، إذا سلكوا فـي خلافـي وركوب معاصيّ مسلكهم، هل تـحس منهم من أحد: يقول: فهل تـحسّ أنت منهم أحدا يا مـحمد، فتراه وتعاينه أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا يقول: أو تسمع لهم صوتا، بل بـادوا وهلكوا، وخَـلَت منهم دورهم، وأوحشت منهم منازلهم، وصاروا إلـى دار لا ينفعهم فـيها إلا صالـح من عمل قدّموه، فكذلك قومك هؤلاء، صائرون إلـى ما صار إلـيه أولئك، إن لـم يُعاجلوا التوبة قبل الهلاك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٠٧٨ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: حدثنا معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا قال: صوتا.

١٨٠٧٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، قوله: هَلْ تُـحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا؟ قال: هل ترى عينا، أو تسمع صوتا.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: هَلْ تُـحِسّ مِنْهُمْ أحَدٍ أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا؟ يقول: هل تسمع من صوت، أو ترى من عين؟.

١٨٠٨٠ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله: أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا يعني : صوتا.

حدثنا أبو كيب، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس ، قال: رِكْز الناس: أصواتهم. قال أبو كريب: قال سفـيان: هَلْ تُـحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا؟.

١٨٠٨١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: هَلْ تُـحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا قال: أو تسمَع لهم حِسّا. قال: والركز: الـحس.

قال أبو جعفر: والركز فـي كلام العرب: الصوت الـخفـيّ، كما قال الشاعر:

فَتَوَجّسَتْ ذِكْرَ الأنِـيسِ فَراعَها عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ والأنِـيسُ سقَامُها

﴿ ٠