٢

وقوله تعالـى: يَوْمَ تَرَوْنَها

يقول جلّ ثناؤه: يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة تذهل من عظمها كل مرضعة مولود عما أرضعت. و يعني ب قوله: تَذْهَلُ تنسى وتترك من شدّة كربها، يقال: ذَهَلْت عن كذا أذْهَلَ عنه ذُهُولاً وَذَهِلْت أيضا، وهي قلـيـلة، والفصيح: الفتـح فـي الهاء، فأما فـي الـمستقبل فـالهاء مفتوحة فـي اللغتـين، لـم يسمع غير ذلك ومنه قول الشاعر.

صَحَا قَلْبُهُ يا عَزّ أوْ كادَ يَذْهَلُ

فأما إذا أريد أن الهول أنساه وسلاه، قلت: أذهله هذا الأمر عن كذا يُذهله إذهالاً.

وفـي إثبـات الهاء فـي قوله:

كُلّ مُرْضعَة اختلاف بـين أهل العربـية وكان بعض نـحويّـي الكوفـيـين يقول: إذا أثبتت الهاء فـي الـمرضعة فإنـما يراد أمّ الصبـيّ الـمرضع، وإذا أسقطت فإنه يراد الـمرأة التـي معها صبـيّ ترضعه لأنه أريد الفعل بها. قالوا: ولو أريد بها الصفة فـيـما يرى لقال مُرْضع. قال: وكذلك كل مُفْعِل أو فـاعل يكون للأنثى ولا يكون للذكر، فهو بغير هاء، نـحو: نُقْرب، ومُوقِر، ومُشْدن، وحامل، وحائض.

قال أبو جعفر: وهذا القول عندي أولـى بـالصواب فـي ذلك لأن العرب من شأنها إسقاط هاء التأنـيث من كل فـاعل ومفعل إذا وصفوا الـمؤنث به ولو لـم يكن للـمذكر فـيه حظّ، فإذا أرادوا الـخبر عنها أنها ستفعله ولـم تفعله، أثبتوا هاء التأنـيث لـيفرقوا بـين الصفة والفعل. منه قول الأعشى فـيـما هو واقع ولـم يكن وقع قبل:

فَمثْلِكَ حُبْلَـى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍفألْهَيْتُها عَنْ ذِي ثَمائِمَ مُـحْوِلِ

وربـما أثبتوا الهاء فـي الـحالتـين وربـما أسقطوهما فـيهما غير أن الفصيح من كلامهم ما وصفت.

فتأويـل الكلام إذن: يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة، تنسى وتترك كلّ والدة مولود ترضع ولدها عما أرضعت. كما:

١٨٨٤١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ قال: تترك ولدها للكرب الذي نزل بها.

١٨٨٤٢ـ حدثنا القسام، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي بكر، عن الـحسن: تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ قال: ذهلت عن أولادها بغير فطام. وتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَها قال: ألقت الـحوامل ما فـي بطونها لغير تـمام. وتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا: يقول: وتسقط كل حامل من شدّة كرب ذلك حملها.

و قوله: وَتَرَى النّاسَ سُكارَى قرأت قرّاء الأمصار وَتَرَى النّاسَ سُكارَى علـى وجه الـخطاب للواحد، كأنه قال: وترى يا مـحمد الناس سُكارى وما هم بسُكارى. وقد رُوي عن أبـي زُرْعة بن عمرو بن جرير: (وَتُرَى النّاسَ) بضم التاء ونصب (الناس) ، من قول القائل: أُرِيْت تُرى، التـي تطلب الاسم والفعل، كظنّ وأخواتها.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا ما علـيه قرّاء الأمصار، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه.

واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: سُكارَى فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: سُكارَى وَما هُمْ بِسُكارَى. وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة: (وَتَرَى النّاسَ سَكْرَى وَما هُمْ بِسَكْرَى) .

والصواب من القول فـي ذلك عندنا، أنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قَراءةَ الأمصار، متقاربتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب. ومعنى الكلام: وترى الناس يا مـحمد من عظيـم ما نزل بهم من الكرب وشدّته سُكارى من الفزع وما هم بسُكارى من شرب الـخمر.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٨٤٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي بكر، عن الـحسن: وَتَرَى النّاسَ سُكارَى من الـخوف، وَما هُمْ بِسُكارى من الشراب.

١٨٨٤٤ـ قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: وَما هُمْ بِسُكارَى قال: ما هُم بسكارى من الشراب وَلَكِنّ عَذَابَ اللّه شَدِيدٌ.

١٨٨٤٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَتَرَى النّاسَ سُكارَى وَما هُمْ بِسُكارَى قال: ما شربوا خمرا وَلَكِنّ عَذَابَ اللّه شَدِيدٌ

يقول تعالـى ذكره: ولكنهم صاروا سكارى من خوف عذاب اللّه عند معاينتهم ما عاينوا من كرب ذلك وعظيـم هوله، مع علـمهم بشدّة عذاب اللّه .

﴿ ٢