٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ...}.

وهذا احتـجاج من اللّه علـى الذي أخبر عنه من الناس أنه يجادل فـي اللّه بغير علـم، اتبـاعا منه للشيطان الـمريد وتنبـيه له علـى موضع خطأ قـيـله وإنكاره ما أنكر من قدرة ربه. قال: يا أيها الناس إن كنتـم فـي شكّ من قدرتنا علـى بعثكم من قبوركم بعد مـماتكم وبلاكُم استعظاما منكم لذلك، فإن فـي ابتدائنا خـلق أبـيكم آدم صلى اللّه عليه وسلم من تراب ثم إنشائناكم من نطفة آدم ثم تصريفناكم أحوالاً حالاً بعد حال، من نطفة إلـى علقة، ثم من علقة إلـى مُضغة، لكم معتبرا ومتعظا تعتبرون به، فتعلـمون أن من قدر علـى ذلك فغير متعذّر علـيه إعادتكم بعد فنائكم كما كنتـم أحياء قبل الفناء.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: مخـلّقةٍ وغَيْرِ مُخَـلّقَةٍ فقال بعضهم: هي من صفة النطفة. قال: ومعنى ذلك: فإنا خـلقناكم من تراب، ثم من نطفة مخـلقة وغير مخـلقة قالوا: فأما الـمخـلقة فما كان خـلقا سَوِيّا وأما غير مخـلقة فما دفعته الأرحام من النّطَف وألقته قبل أن يكون خـلقا. ذكر من قال ذلك:

١٨٨٤٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن داود بن أبـي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد اللّه ، قال: إذا وقعت النطفة فـي الرحم، بعث اللّه ملَكا فقال: يا ربّ مخـلقة أو غير مخـلقة؟ فإن قال: غير مخـلّقة، مـجّتها الأرحام دما، وإن قال: مخـلقة، قال: يا ربّ فما صفة هذه النطفة أذكر أم أنثى؟ ما رزقها ما أجلها؟ أشقـيّ أو سعيد؟ قال: فـيقال له: انطلق إلـى أمّ الكتاب فـاستنسخ منه صفة هذه النطفة قال: فـينطلق الـملك فـينسخها فلا تزال معه حتـى يأتـي علـى آخر صفتها.

وقال آخرون: معنى قلك: تامة وغير تامة. ذكر من قال ذلك:

١٨٨٥٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلـيـمان، قال: حدثنا أبو هلال، عن قتادة فـي قول اللّه : مُخَـلّقَةٍ وغَيرَ مُخَـلّقَةٍ قال: تامة وغير تامة.

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن قتادة : مُخُـلّقَةٍ وغيرِ مُخَـلّقَةٍ فذكر مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك الـمضغة إنسانا وغير مصوّرة، فإذا صوّرت فهي مخَـلقة وإذا لـم تصوّر فهي غير مخَـلقة. ذكر من قال ذلك:

١٨٨٥١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بَزّة، عن مـجاهد فـي قوله: مُخَـلّقَةٍ قال: السّقط، مخـلّقة وغَير مُخَـلّقَة.

حدثنـي مـحمد بن عمر، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : مُخَـلّقَةٍ وَغيرٍ مُخَـلّقَةٍ قال: السقط، مخـلوق وغير مَخـلوق.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، بنـحوه.

١٨٨٥٢ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عامر أنه قال فـي النطفة والـمضغة إذا نكست فـي الـخـلق الرابع كانت نَسَمة مخـلقة، وإذا قذفتها قبل ذلك فهي غير مخـلقة.

١٨٨٥٣ـ قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن أبـي سلـمة، عن داود بن أبـي هند، عن أبـي العالـية: مُخَـلّقَةٍ وغَيرِ مُخَـلّقَةٍ قال: السقط.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: الـمخـلقة الـمصورة خـلقا تامّا، وغير مخـلقة: السّقط قبل تـمام خـلقه لأن الـمخـلقة وغير الـمخـلقة من نعت الـمضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة، لـم يبق لها حتـى تصير خـلقا سويّا إلا التصوير وذلك هو الـمراد ب قوله: مُخَـلّقَةٍ وغَيرِ مُخَـلّقَةٍ خـلقا سويّا، وغير مخـلقة بأن تلقـيه الأم مضغة ولا تصوّر ولا ينفخ فـيها الروح.

و قوله: لِنُبَـيّنَ لَكُمْ

يقول تعالـى ذكره: جعلنا الـمضغة منها الـمخـلقة التامة ومنها السقط غير التامّ، لنبـين لكم قدرتنا علـى ما نشاء ونعرّفكم ابتداءنا خـلقكم.

و قوله: وَنُقِرّ فـي الأرْحامِ ما نَشاءُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى

يقول تعالـى ذكره: من كنا كتبنا له بقاء وحياة إلـى أمد وغاية، فـانا نقرّه فـي رحم أمه إلـى وقته الذي جعلنا له أن يـمكث فـي رحمها فلا تسقطه ولا يخرج منها حتـى يبلغ أجله، فإذا بلغ وقت خروجه من رحمها أذنا له بـالـخروج منها، فـيخرج.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٨٥٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَنُقِرّ فِـي الأرْحامِ ما نَشاءُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: التـمام.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، مثله.

١٨٨٥٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَنُقِرّ فِـي الأرْحامِ ما نَشاءُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: الأجل الـمسمى: أقامته فـي الرحم حتـى يخرج.

و قوله: ثُمّ نُـخْرِجُكُمْ طِفْلاً

يقول تعالـى ذكره: ثم نـخرجكم من أرحام أمهاتكم إذا بلغتـم الأجل الذي قدرته لـخروجكم منها طفلاً صغارا ووحّد (الطفل) ، وهو صفة للـجميع، لأنه مصدر مثل عدل وزور.

و قوله: ثُمّ لِتَبْلُغُوا أشُدّكُمْ يقول: ثم لتبلغوا كمال عقولكم ونهاية قواكم بعمركم.

وقد ذكرت اختلاف الـمختلفـين فـي الأشدّ، والصواب من القول فـيه عندنا بشواهده فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

يقول تعالـى ذكره: ومنكم أيها الناس من يُتَوفـى قبل أن يبلغ أشدّه فـيـموت، ومنكم من يُنْسَأ فـي أجله فـيعمر حتـى يهرم فـيردّ من بعد انتهاء شبـابه وبلوغه غاية أشدّه إلـى أرذل عمره، وذلك الهرم، حتـى يعود كهيئته فـي حال صبـاه لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا. ومعنى الكلام: ومنكم من يردّ إلـى أرذل العمر بعد بلوغه أشدّه لِكَيْلا يَعْلَـمَ مِنْ بَعْدِ عِلْـمٍ كان يعلـمه شَيْئا.

و قوله: وَتَرَى الأرْضَ هامِدَةً

يقول تعالـى ذكره: وترى الأرض يا مـحمد يابسة دارسة الاَثار من النبـات والزرع. وأصل الهمود: الدروس والدثور، ويقال منه: همدت الأرض تهمد هُمودا ومنه قول الأعشى ميـمون بن قـيس:

قالَتْ قُتَـيْـلَةُ ما لِـجِسْمِكَ شاحِبـاوأرَى ثِـيابَكَ بـالِـياتٍ هُمّدَا

والهُمّد: جمع هامد، كما الرّكّع جمع راكع.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٨٥٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، فـي قوله: وَتَرَى الأرْضَ هامدَةً قال: لا نبـات فـيها.

و قوله: فإذَا أنْزَلْنا عَلَـيْها الـمَاء اهْتَزّتْ

يقول تعالـى ذكره: فإذا نـحن أنزلنا علـى هذه الأرض الهامدة التـي لا نبـات فـيها والـمطرَ من السماء اهْتَزّتْ يقول: تـحركت بـالنبـات، وَرَبَتْ يقول: وأضعفت النبـات بـمـجيء الغيث.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٨٥٧ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : اهْتَزّتْ وَرَبَتْ قال: عُرِف الغيث فـي ربوها.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة : اهْتَزّتْ وَرَبَتْ قال: حسنت، وعرف الغيث فـي ربوها.

وكان بعضهم يقول: معنى ذلك: فإذا أنزلنا علـيها الـماء اهتزت. ويوجه الـمعنى إلـى الزرع، وإن كان الكلام مخرجه علـى الـخبر عن الأرض. وقرأت قراء الأمصار: وَرَبَتْ بـمعنى: الربو، الذي هو النـماء والزيادة. وكان أبو جعفر القارىء يقرأ ذلك: (وَرَبأَتْ) بـالهمز.

١٨٨٥٨ـ حُدثت عن الفراء، عن أبـي عبد اللّه التـميـمي عنه.

وذلك غلط، لأنه لا وجه للرب ههنا، وإنـما يقال ربأ بـالهمز بـمعنى: حرس من الربـيئة، ولا معنى للـحراسة فـي هذا الـموضع. والصحيح من القراءة ما علـيه قراء الأمصار.

و قوله: وأنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ

يقول جلّ ثناؤه: وأنبتت هذه الأرض الهامدة بذلك الغيث مِنْ كُلّ نوع بهيج. يعني بـالبهيج: البهج، وهو الـحسن.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٨٨٥٩ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : وأنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوْجٍ بَهيجٍ قال: حسن.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، مثله.

﴿ ٥