تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة الفرقان

مكية وآياتها سبع وسبعون

بسم اللّه الرحمَن الرحيـم

١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىَ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }.

قال أبو جعفر: تبـارك: تَفـاعَلَ من البركة، كما:

١٩٩٢٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عباس ، قال: تبـارك: تَفَـاعَلَ من البركة.

وهو كقول القائل: تقدّس ربنا، ف قوله: تَبـارَكَ الّذِي نَزّلَ الفُرْقانَ يقول: تبـارك الذي نزّل الفصل بـين الـحقّ والبـاطل، فصلاً بعد فصل وسورة بعد سُورة، علـى عبده مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ، لـيكون مـحمد لـجميع الـجنّ والإنس الذين بعثه اللّه إلـيهم داعيا إلـيه، نذيرا: يعني منذِرا يُنذرهم عِقابه ويخوّفهم عذابه، إن لـم يوحدوه ولـم يخـلصوا له العبـادة ويخـلعوا كلّ ما دونه من الاَلهة والأوثان.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٢١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: تَبـارَكَ الّذِي نَزّلَ الفُرْقانَ عَلـى عَبْدِهِ لـيَكُونَ للْعالَـمِينَ نَذِيرا قال: النبي النذير. وقرأ: وَإنْ مِنْ أُمّةٍ إلاّ خَلا فِـيها نَذِيرٌ وقرأ: وَما أهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إلاّ لَهَا مُنْذِرُونَ قال: رسل. قال: الـمنذرون: الرسل. قال: وكان نذيرا واحدا بلّغ ما بـين الـمشرق والـمغرب، ذو القرنـين، ثم بلغ السدّين، وكان نذيرا، ولـم أسمع أحدا يُحِقّ أنه كان نبـيّا. وأُوحِيَ إلـيّ هذَا القُرآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ قال: من بلغه القرآن من الـخـلق، فرسول اللّه نذيره. وقرأ: يا أيّها النّاسُ إنّـي رَسُولُ اللّه إلَـيْكُمْ جَمِيعا وقال: لـم يرسل اللّه رسولاً إلـى الناس عامة إلاّ نوحا، بدأ به الـخـلق، فكان رسولَ أهل الأرض كلهم، ومـحمد صلى اللّه عليه وسلم خَتَـم به.

٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتّخِذْ وَلَداً ...}.

يقول تعالـى ذكره: تَبَـارَكَ الّذِي نَزّلَ الفُرْقانَ... الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ ف (الذي) من نعت (الذي) الأولـى، وهما جميعا فـي موضع رفع، الأولـى بقوله (تبـارك) ، والثانـية نعت لها. و يعني ب قوله: الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ الذي له سلطان السموات والأرض يُنْفِذ فـي جميعها أمره وقضاءه، ويُـمْضِي فـي كلها أحكامه. يقول: فحقّ علـى من كان كذلك أن يطيعه أهل مـملكته ومَنْ فـي سلطانه ولا يعصُوه، يقول: فلا تعصُوا نذيري إلـيكم أيها الناس، واتبعوه، واعملوا بـما جاءكم به من الـحقّ. ولَـمْ يَتّـخِذْ وَلَدا يقول تكذيبـا لـمن أضاف إلـيه الولد وقال الـملائكة بنات اللّه : ما اتـخذ الذي نزّل الفرقان علـى عبده ولدا. فمن أضاف إلـيه ولدا فقد كذب وافترى علـى ربه. ولَـمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فـي الـمُلْكِ يقول تكذيبـا لـمن كان يضيف الأُلوهة إلـى الأصنام ويعبدها من دون اللّه من مشركي العرب ويقول فـي تلبـيته (لَبّـيك لا شريك لك، إلاّ شريكا هو لك، تـملكه وما ملك) : كذب قائلوا هذا القول، ما كان للّه شريك فـي مُلكه وسلطانه فـيصلـح أن يُعْبد من دونه

يقول تعالـى ذكره: فأفرِدوا أيها الناس لربكم الذي نزّل الفرقان علـى عبده مـحمد نبـيه صلى اللّه عليه وسلم الألُوهة، وأخـلِصوا له العبـادة، دون كلّ ما تعبدونه من دونه من الاَلهة والأصنام والـملائكة والـجنّ والإنس، فإن كلّ ذلك خـلقه وفـي ملكه، فلا تصلـح العبـادة إلا للّه الذي هو مالك جمعي ذلك.

و قوله: وَخَـلَقَ كُلّ شَيْءٍ

يقول تعالـى ذكره: وخـلق الذي نزل علـى مـحمد الفرقان كل شيء، فـالأشياء كلها خـلقه ومِلْكه، وعلـى الـمـمالـيك طاعة مالكهم وخدمة سيدهم دون غيره. يقول: وأنا خالقكم ومالككم، فأخـلصوا لـي العبـادة دون غيري.

و قوله: فَقَدّرَهُ تَقْدِيرا يقول: فسوّى كلّ ما خـلق وهيأه لـما يصلـح له، فلا خَـلَل فـيه ولا تفـاوت.

٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ...}.

يقول تعالـى ذكره: مُقَرّعا مشركي العرب بعبـادتهما ما دونه من الاَلهة، ومعجّبـا أولـي النّهَى منهم، ومُنَبّههُم علـى موضع خطأ فِعْلهم وذهابهم عن منهج الـحقّ وركوبهم من سُبُل الضلالة ما لا يركبه إلاّ كل مدخول الرأي مسلوب العقل: واتـخذ هؤلاء الـمشركون بـاللّه من دون الذي له مُلك السموات والأرض وحده، من غير شريك، الذي خـلق كلّ شيء فقدّره، آلهةً يعني أصناما بأيديهم يعبدونها، لا تـخـلق شيئا وهي تُـخْـلق، ولا تـملك لأنفسها نفعا تـجرّه إلـيها ولا ضرّا تدفعه عنها مـمن أرادها بضرّ، ولا تـملك إماتة حيّ ولا إحياء ميت ولا نشره من بعد مـماته، وتركوا عبـادة خالق كلّ شيء وخالق آلهتهم ومالك الضرّ والنفع والذي بـيده الـموت والـحياة والنشور. والنشور: مصدر نُشِر الـميت نشورا، وهو أن يُبعث ويحيا بعد الـموت.

٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ هَـَذَا إِلاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً }.

يقول تعالـى ذكره: وقال هؤلاء الكافرون بـاللّه الذين اتـخذوا من دونه آلهة: ما هذا القرآن الذي جاءنا به مـحمد إلاّ إفْكٌ يعني : إلاّ كذب وبُهتان، افْتَرَاهُ اختلقه وتـخرّصه بقوله ، وأعانَهُ عَلَـيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ذكر أنهم كانوا يقولون: إنـما يُعَلّـم مـحمدا هذا الذي يجيئنا به الـيهود، فذلك قوله: وأعانَهُ عَلَـيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ يقول: وأعان مـحمدا علـى هذا الإفك الذي افتراه يهود. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٢٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه : وأعانَهُ عَلَـيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ قال: يهود.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، مثله.

و قوله: فَقَدْ جاءُوا ظُلْـما وَزُورا

يقول تعالـى ذكره: فقد أتـى قائلو هذه الـمقالة، يعني الذين قالوا: إنْ هَذَا إلاّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانَهُ عَلَـيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ظلـما، يعني بـالظلـم نسبتهم كلام اللّه وتنزيـله إلـى أنه إفك افتراه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم . وقد بـيّنا فـيـما مضى أن معنى الظلـم: وضع الشيء فـي غير موضعه فكأنّ ظلـم قائلـي هذه الـمقالة القرآن بقـيـلهم هذا وصفُهم إياه بغير صفته. والزور: أصله تـحسين البـاطل. فتأويـل الكلام: فقد أتـى هؤلاء القوم فـي قـيـلهم إنْ هَذَا إلاّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانَهُ عَلَـيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ كذبـا مَـحْضا.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٢٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وحدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد : فَقَدْ جاءُوا ظُلْـما وَزُورا قال: كذبـا.

٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُوَاْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىَ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }.

ذكر أن هذه الاَية نزلت فـي النّضْر بن الـحارث، وأنه الـمعنـيّ ب قوله: وَقالُوا أساطيرُ الأوّلِـينَ. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٢٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنا شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرِمة، عن ابن عباس ، قال: كان النّضْر بن الـحارث بن كَلَدَة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصيّ من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قَدِم الـحِيرة، تعلّـم بها أحاديث ملوك فـارس وأحاديث رُسْتَـم وأسفنديار، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا جلس مـجلسا فذكّر بـاللّه وحدّث قومه ما أصاب من قبلهم من الأمـم من نقمة اللّه ، خـلَفه فـي مـجلسه إذا قام، ثم يقول: أنا واللّه يا معشر قُريش أحسن حديثا منه، فهلـموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ثم يحدّثهم عن ملوك فـارس ورسْتَـم وأسفنديار، ثم يقول: ما مـحمد أحسن حديثا منـي قال: فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى فـي النضر ثمانـيَ آيات من القرآن، قوله: وَإذَا تُتْلَـى عَلَـيْهِ آياتُنا قالَ أساطيرُ الأوّلـينَ وكلّ ما ذُكِر فـيه الأساطير فـي القرآن.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس نـحوه، إلاّ أنه جعل قوله: (فأنزل اللّه فـي النضْر ثمانـي آيات) ، عن ابن إسحاق، عن الكلْبـيّ، عن أبـي صالـح، عن ابن عباس .

١٩٩٢٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج: أساطِيرُ الأوّلـينَ أشعارهم وكَهانتهم وقالها النضر بن الـحارث.

فتأويـل الكلام: وقال هؤلاء الـمشركون بـاللّه الذين قالوا لهذا القرآن إن هذا إلاّ إفك افتراه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : هذا الذي جاءنا به مـحمد أساطير الأوّلـين، يَعنُون أحاديثهم التـي كانوا يُسَطّرونها فـي كتبهم، اكتتبها مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من يهود. فَهِيَ تُـمْلَـى عَلَـيْهِ يعنون ب قوله: فَهِي تُـمْلَـى عَلَـيْهِ فهذه الأساطير تُقرأ علـيه، من قولهم: أملـيت علـيك الكتاب وأملَلْت. بُكْرَةً وأصِيلاً يقول: وتـملَـى علـيه غُدْوة وعشيّا.

٦

و قوله: قُلْ أنْزَلَهُ الّذِي يَعْلَـمُ السّرّ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ

يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمكذّبـين بآيات اللّه من مشركي قومك: ما الأمر كما تقولون من أن هذا القرآن أساطير الأوّلـين وأن مـحمد صلى اللّه عليه وسلم افتراه وأعانه علـيه قوم آخرون، بل هو الـحقّ، أنزله الربّ الذي يعلـم سرّ من فـي السموات ومن فـي الأرض، ولا يخفـى علـيه شيء، ومُـحْصِي ذلك علـى خـلقه، ومُـجازيهم بـما عزمت علـيه قلوبهم وأضمروه فـي نفوسهم. إنّهُ كانَ غَفُورا رَحِيـما يقول: إنه لـم يزل يصفح عن خـلقه ويرحمهم، فـيتفضلُ علـيهم بعفوه، يقول: فلأَن ذلك من عادته فـي خـلقه، يُـمْهلكم أيها القائلون ما قلتـم من الإفك والفـاعلون ما فعلتـم من الكفر.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٢٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج: قُلْ أنْزَلَهُ الّذِي يَعْلَـمُ السّرّ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: ما يسر أهل الأرض وأهل الـمساء.

٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُواْ مَا لِهَـَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعَامَ ...}.

ذُكر أن هاتـين الاَيتـين نزلتا علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيـما كان مشركو قومه قالوا له لـيـلة اجتـماع أشرافهم بظهر الكعبة، وعرضوا علـيه أشياء، وسألوه الاَيات.

فكان فـيـما كلّـموه به حينئذٍ، فـيـما:

١٩٩٢٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، مولـى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جُبـير، أو عكرِمة مولـى ابن عباس ، عن ابن عباس : أن قالوا له: فإن لـم تفعل لنا هذا يعني ما سألوه من تسيـير جبـالهم عنهم، وإحياء آبـائهم، والـمـجيء بـاللّه والـملائكة قبـيلاً، وما ذكره اللّه فـي سورة بنـي إسرائيـل فخذ لنفسك، سلْ ربك يبعثْ معك ملَكا يصدّقك بـما تقول ويراجعنا عنك، وسَلْه فـيجعل لك قصورا وجنانا وكنوزا من ذهب وفضة، تغنـيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بـالأسواق وتلتـمس الـمعاش كما نلتـمسه، حتـى نعلـم فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ما أنا بِفـاعِلٍ) فأنزل اللّه فـي قولهم: أنْ خُذْ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لها: أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا، أو يبعث معه ملَكا يصدّقه بـما يقول ويردّ عنه من خاصمه. وقالُوا ما لِهَذَا الرّسُولِ يأْكُلُ الطّعامَ ويَـمْشِي فِـي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مَلَكٌ فَـيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا

٨

أوْ يُـلْقَـى إلَـيْهِ كَنْزٌ أوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظّالِـمُونَ إنْ تَتّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُورا.

فتأويـل الكلام: وقال الـمشركون ما لِهَذا الرّسُولِ: يَعْنون مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم ، الذي يزعم أن اللّه بعثه إلـينا، يَأكُلُ الطعَامَ كما نأكل، ويَـمْشِي فـي أسواقنا كما نـمشي.لَوْلاَ أنْزِلَ إلَـيهِ يقول: هلا أنزل إلـيه ملَك إن كان صادقا من السماء، فَـيَكُونَ مَعَه منذرا للناس، مصدّقا له علـى ما يقول، أو يـلقـى إلـيه كنز من فضة أو ذهب فلا يحتاج معه إلـى التصرّف فـي طلب الـمعاش، أوْ تكون له جنة يقول: أو يكون له بستان يَأكُلُ مِنْها.

واختلف القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: يَأْكُلُ بـالـياء، بـمعنى: يأكل منها الرسول. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين: (نَأْكُلُ مِنْها) بـالنون، بـمعنى: نأكل من الـجنة.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأه بـالـياء وذلك للـخبر الذي ذكرنا قبل بأن مسألة من سأل من الـمشركين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يسأل ربه هذه الـخلال لنفسه لا لهم فإذ كانت مسألتهم إياه ذلك كذلك، فغير جائز أن يقولوا له: سلْ لنفسك ذلك لنأكل نـحن.

وبعدُ، فإن فـي قوله تعالـى ذكره: تَبَـارَكَ الّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذَلِكَ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهَارُ، دلـيلاً بـيّنا علـى أنهم إنـما قالوا له: اطلب ذلك لنفسك، لتأكل أنت منه، لا نـحن.

و قوله: وَقال الظّالِـمُونَ يقول: وقال الـمشركون للـمؤمنـين بـاللّه ورسوله: إنْ تَتّبِعُونَ أيّها القوم، بـاتبـاعكم مـحمدا إِلاّ رَجُلاً به مَسْحُورًا سحر.

٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : انظر يا مـحمد إلـى هؤلاء الـمشركين الذين شبهوا لك الأشبـاه بقوله م لك: هو مسحور، فضلّوا بذلك عن قصد السبـيـل وأخطئوا طريق الهُدَى والرشاد فلا يَسْتَطِيعُونَ يقول: فلا يجدون سَبِـيلاً إلـى الـحقّ، إلاّ فـيـما بعثتك به، ومن الوجه الذي ضلوا عنه.

وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جُبـير، أو عكرمة، عن ابن عباس : انْظُرْ كَيْف ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلّوا فَلا يَسْتَطيعُونَ سَبِـيلاً أي التـمسوا الهدى فـي غير ما بعثتك به إلـيهم فضلوا، فلن يستطيعوا أن يصيبوا الهُدَى فـي غيره. وقال آخرون فـي ذلك ما:

١٩٩٢٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد : فلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِـيلاً قال: مَخْرجا يخرجهم من الأمثال التـي ضربوا لك.

١٠

و قوله: تَبـارَكَ الّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتَها الأنهَارُ

يقول تعالـى ذكره: تقدس الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك.

واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنىّ ب(ذلك) التـي فـي قوله: جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذَلكَ فقال بعضهم: معنى ذلك: خيرا مـما قال هؤلاء الـمشركون لك يا مـحمد، هلا أوتـيته وأنت للّه رسول ثم بـين تعالـى ذكره عن الذي لو شاء جعل له من خير مـما قالوا، فقال: جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٣٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: تَبـارَكَ الّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ خيرا مـما قالوا.

١٩٩٣١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، قوله: تَبـارَكَ الّذِي إن شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ قال: مـما قالوا وتـمنّوا لك، فـيجعل لك مكان ذلك جنات تـجري من تـحتها الأنهار.

وقال آخرون: عُنِـي بذلك الـمشي فـي الأسواق والتـماس الـمعاش. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٣٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، فـيـما يرى الطبريّ، عن سعيد بن جُبر، أو عكرِمة، عن ابن عباس ، قال: ثم قال: تَبَـارَك الّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذَلِكَ من أن تـمشيَ فـي الأسواق وتلتـمس الـمعاش كما يـلتـمسه الناس، جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيجْعَلْ لَكَ قُصُورا.

قال أبو جعفر: والقول الذي ذكرناه عن مـجاهد فـي ذلك أشبه بتأويـل الاَية، لأن الـمشركين إنـما استعظموا أن لا تكون له جنة يأكل منها وأن لا يُـلْقـى إلـيه كنز، واستنكروا أن يـمشي فـي الأسواق وهو للّه رسول. فـالذي هو أولـى بوعد اللّه إياه أن يكون وعدا بـما هو خير ما كان عند الـمشركين عظيـما، لا مـما كان منكرا عندهم. وعُنِـي ب قوله: جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ بساتـين تـجري فـي أصول أشجارها الأنهار. كما:

١٩٩٣٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد : جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ قال: حوائط.

و قوله: وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورا يعني بـالقصور: البـيوت الـمبنـية.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٣٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: قال: أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد : وَيجْعَلْ لَكَ قُصُورا قال: بـيوتا مبنـية مشيدة، كان ذلك فـي الدنـيا. قال: كانت قريش ترى البـيت من الـحجارة قصرا كائنا ما كان.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد : ويَجْعَلْ لَكَ قُصُورا مشيدة فـي الدنـيا، كل هذا قالته قريش. وكانت قريش ترى البـيت من حجارة ما كان صغيرا قَصْرا.

١٩٩٣٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن حبـيب قال: قـيـل للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك من خزائن الأرض ومفـاتـيحها ما لـم يُعْطَ نبـيّ قبلك ولا يعطى من بعدك ولا ينقص ذلك مـما لك عند اللّه تعالـى؟ فقال: (اجْمَعُوها لـي فـي الاَخِرَةِ) فأنزل اللّه فـي ذلك: تَبـارَكَ الّذي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورا.

١١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {بَلْ كَذّبُواْ بِالسّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيراً }.

يقول تعالـى ذكره: ما كذّب هؤلاء الـمشركون بـاللّه وأنكروا ما جئتهم به يا مـحمد من الـحقّ، من أجل أنك تأكل الطعام وتـمشي فـي الأسواق، ولكن من أجل أنهم لا يوقنون بـالـمعاد ولا يصدّقون بـالثواب والعقاب، تكذيبـا منهم بـالقـيامة وبعث اللّه الأموات أحياء لـحشر القـيامة. وأَعْتَدْنا يقول: وأعددنا لـمن كذّب ببعث اللّه الأموات أحياء بعد فنائهم لقـيام الساعة، نارا تسّعر علـيهم وتتقد.

١٢

إذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ يقول: إذا رأت هذه النار التـي أعتدناها لهؤلاء الـمكذّبـين أشخاصَهم من مكان بعيد، تغيظت علـيهم وذلك أن تغلـى وتفور. يقال: فلان تغيظ علـى فلان، وذلك إذ غضب علـيه فَغَلَـى صدره من الغضب علـيه وتبـين فـي كلامه. وزفـيرا، وهو صوتها.

فإن قال قائل: وكيف

قـيـل: سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظا والتغيظ: لا يسمع؟

قـيـل: معنى ذلك: سمعوا لها صوت التغيظ، من التلهب والتوقد.

١٩٩٣٦ـ حدثنـي مـحمود بن خداش، قال: حدثنا مـحمد بن يزيد الواسطيّ، قال: حدثنا أصبع بن زيد الورّاق، عن خالد بن كثـير، عن فُدَيك، عن رجل من أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (مَنْ يَقُولُ عَلـيّ ما لَـمْ أقُلْ فَلْـيَتَبَوّأْ بـينَ عَيْنَـيْ جَهَنّـمَ مَقْعَدا) قالوا: يا رسول اللّه ، وهل لها من عين؟ قال: (أَلـمْ تَسْمَعُوا إلـى قَوْلِ اللّه : إذَا رأتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ؟) ... الاَية.

١٩٩٣٧ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر فـي قوله: سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظا وَزَفِـيرا قال: أخبرنـي الـمنصور بن الـمعتـمر، عن مـجاهد ، عن عبـيد بن عمير، قال: إن جهنـم لتزفر زفرة لا يبقـى ملك ولا نبـيّ إلا خرّ ترعد فرائصه حتـى إن إبراهيـم لـيجثو علـى ركبتـيه، فـيقول: يا ربّ لا أسألك الـيوم إلا نفسي.

١٩٩٣٨ـ حدثنا أحمد بن إبراهيـم الدّورقـي، قال: حدثنا عُبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى، عن مـجاهد ، عن ابن عباس ، قال: (إن الرجل لـيُجَرّ إلـى النار، فتنزوي وينقبض بعضها إلـى بعض، فـيقول لها الرحمن ما لك؟ فتقول: إنه لـيستـجير منـي فـيقول: أرسلُوا عبدي وإن الرجل لـيُجَرّ إلـى النار، فـيقول: يا ربّ ما كان هذا الظنّ بك فـيقول: فما كان ظنك؟ فـيقول: أن تسعَنـي رحمتك قال: فـيقول أرسلوا عبدي وإن الرجل لـيجَرّ إلـى النار فتشهق إلـيه النار شُهوق البغلة إلـى الشعير وتَزِفْر زفرة لا يبقـى أحد إلا خاف) .

١٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مّقَرّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً }.

يقول تعالـى ذكره: وإذا أُلقـي هؤلاء الـمكذّبون بـالساعة من النار مكانا ضيقا، قد قرنت أيديهم إلـى أعناقهم فـي الأغلال دَعَوْا هُنالكَ ثُبُورا.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى الثّبور، فقال بعضهم: هو الوَيْـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٣٩ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، فـي قوله: وَادْعُوا ثُبُورا كَثِـيرا يقول: وَيْلاً.

١٩٩٤٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس : لا تَدْعُوا الـيَوْمَ ثُبُورا وَاحِدَا يقول: لا تدعوا الـيوم ويلاً واحدا، وادعوا ويلاً كثـيرا.

وقال آخرون: الثبور الهلاك. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٤١ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي

١٤

 قوله: لا تَدْعُوا الـيَوْمَ ثُبُورا واحِدا الثبور: الهلاك.

قال أبو جعفر: والثبور فـي كلام العرب أصله انصراف الرجل عن الشيء، يقال منه: ما ثَبَرك عن هذا الأمر؟ أي ما صرفك عنه. وهو فـي هذا الـموضع دعاء هؤلاء القوم بـالندم علـى انصرافهم عن طاعة اللّه فـي الدنـيا والإيـمان بـما جاءهم به نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتـى استوجبوا العقوبة منه، كما يقول القائل: واندامتاه، واحسرتاه علـى ما فرّطت فـي جنب اللّه . وكان بعض أهل الـمعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول فـي قوله: دَعَوْا هُنالكَ ثُبُورا أي هَلَكة، ويقول: هو مصدر من ثُبِرَ الرجل: أي أهلك، ويستشهد لقـيـله فـي ذلك ببـيت ابن الزّبَعْرَي:

إذْ أُجارِي الشّيْطانَ فِـي سَنَنِ الْغَيّ وَمَنْ مالَ مَيْـلَهُ مَثْبُورُ

و قوله: لا تَدْعُوا الـيَوْمَ أيها الـمشركون ندما واحدا: أي مرّة واحدة، ولكن ادعوا ذلك كثـيرا. وإنـما

قـيـل: لا تَدْعُوا الـيَوْمَ ثُبُورا وَاحِدا لأن الثبور مصدر، والـمصادر لا تـجمع، وإنـما توصف بـامتداد وقتها وكثرتها، كما يقال: قعد قعودا طويلاً، وأكل أكلاً كثـيرا.

١٩٩٤٢ـ حدثنا مـحمد بن مرزوق، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا علـيّ بن زيد، عن أنس بن مالك، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أوّلُ مَنْ يُكْسَى حُلّةً مِنَ النّارِ إبْلِـيسُ، فَـيَضَعُها عَلـى حاجِبَـيْهِ، وَيَسْحَبُها مِنْ خَـلْفِهِ، وَذُرّيّتُهُ مِنْ خَـلْفِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يا ثُبُورَاه وَهُمْ يُنادُونَ: يا ثُبُورَهُمْ حتـى يَقِـفُوا عَلـى النّارِ، وَهُوَ يَقُولُ: يا ثُبُورَاهُ وَهُمْ يُنادُونَ: يا ثُبُورَهُمْ فَـيُقالُ: لا تَدْعُوا الـيَوْمَ ثُبُورا وَاحدا وَادْعُوا ثُبُورا كَثِـيرا) .

١٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنّةُ الْخُلْدِ الّتِي وَعِدَ الْمُتّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً }.

يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمكذّبـين بـالساعة: أهذه النار التـي وصف لكم ربّكم صفتها وصفة أهلها خير، أم بستان الـخـلد الذي يدوم نعيـمه ولا يبـيد، الذي وَعَد من اتقاه فـي الدنـيا بطاعته فـيـما أمره ونهاه؟

و قوله: كانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرا يقول: كانت جنة الـخـلد للـمتقـين جزاء أعمالهم للّه فـي الدنـيا بطاعته وثواب تقواهم إياه ومصيرا لهم، يقول: ومصيرا للـمتقـين يصيرون إلـيها فـي الاَخرة.

١٦

و قوله: لَهُمْ فِـيها ما يَشاءُونَ يقول: لهؤلاء الـمتقـين فـي جنة الـخـلد التـي وَعَدَهموها اللّه ، ما يشاءون مـما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين.

خالدِينَ فـيها، يقول: لابثـين فـيها ماكثـين أبدا، لا يزولون عنها ولا يزول عنهم نعيـمها.

و قوله: كانَ عَلـى رَبّكَ وَعْدا مَسْئُولاً وذلك أن الـمؤمنـين سألوا ربهم ذلك فـي الدنـيا حين قالوا: آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلـى رُسُلِكَ يقول اللّه تبـارك وتعالـى: كان إعطاء اللّه الـمؤمنـين جنة الـخـلد التـي وصف صفتها فـي الاَخرة، وعْدا وعدهُمُ اللّه علـى طاعتهم إياه فـي الدنـيا ومسئلتهم إياه ذلك.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٤٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الـخراسانـيّ، عن ابن عباس : كانَ عَلـى رَبّكَ وَعْدا مَسْئُولاً قال: فسألوا الذي وعدَهُم وتنـجزوه.

١٩٩٤٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: كانَ عَلـى رَبّكَ وَعْدا مَسْئُولاً قال: سألوه إياه فـي الدنـيا، طلبوا ذلك فأعطاهم وعدهم، إذ سألوه أن يعطيهم فأعطاهم، فكان ذلك وعدا مسئولاً، كما وقّت أرزاق العبـاد فـي الأرض قبل أن يخـلقهم فجعلها أقواتا للسائلـين، وقّت ذلك علـى مسئلتهم. وقرأ: وَقَدّرَ فِـيها أقْوَاتَها فِـي أرْبَعَةِ أيّامٍ سَوَاءً للسّائِلِـينَ.

وقد كان بعض أهل العربـية يوجه معنى قوله: وَعْدا مَسْئُولاً إلـى أنه معنـيّ به وعدا واجبـا، وذلك أن الـمسئول واجب، وإن لـم يُسْأل كالدين، ويقول: ذلك نظير قول العرب: لأعطينك ألفـا وعدا مسئولاً، بـمعنى واجب لك فتسأله.

١٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلّوا السّبِيلَ }.

يقول تعالـى ذكره: ويوم نـحشر هؤلاء الـمكذّبـين بـالساعة العابدين الأوثان وما يعبدون من دون اللّه من الـملائكة والإنس والـجنّ. كما:

١٩٩٤٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه فـيقول: أأنْتُـمْ أضْلَلْتُـمْ عِبـادي هَؤُلاءِ قال: عيسى وعُزيرٌ والـملائكة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، نـحوه.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأه أبو جعفر القارىء وعبد اللّه بن كثـير: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَـيَقُولُ بـالـياء جميعا، بـمعنى: ويوم يحشرهم ربك، ويحشر ما يعبدون من دون فـيقول. وقرأته عامة قرّاء الكوفـيـين: (نَـحْشُرُهُمْ) بـالنون، (فنقول) . وكذلك قرأه نافع.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.

و قوله: فَـيَقُولُ أأنْتُـمْ أضْلَلْتُـمْ عبـادِي هَؤُلاءِ يقول: فـيقول اللّه للذين كان هؤلاء الـمشركون يعبدونهم من دون اللّه : أأنتـم أضللتـم عبـادي هؤلاء؟ يقول: أنتـم أَزَلتْـموهم عن طريق الهدى ودعوتـموهم إلـى الغيّ والضلالة حتـى تاهوا وهلكوا، أم هم ضلوا السبـيـل؟ يقول: أم عبـادي هم الذين ضلوا سبـيـل الرشد والـحقّ وسلكوا العَطَب.

١٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نّتّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ ...}.

يقول تعالـى ذكره: قالت الـملائكة الذين كان هؤلاء الـمشركون يعبدونهم من دون اللّه وعيسى: تنزيها لك يا ربنا وتبرئه مـما أضاف إلـيك هؤلاء الـمشركون، ما كان ينبغي لنا أن نتـخذ من دونك من أولـياء نوالـيهم، أنت ولـينا من دونهم، ولكن متعتهم بـالـمال يا ربنا فـي الدنـيا والصحة حتـى نَسُوا الذكر وكانوا قوما هَلْكي قد غلب علـيهم الشقاء والـخِذْلان.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٤٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَلَكِنّ مَتّعْتَهُمْ وآبـاءَهُمْ حتـى نَسُوا الذّكْرَ وكانُوا قَوْما بُورا يقول: قوم قد ذهبت أعمالهم وهم فـي الدنـيا، ولـم تكن لهم أعمال صالـحة.

١٩٩٤٧ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وكانُوا قَوْما بُورا يقول: هلكى.

١٩٩٤٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وكانُوا قَوْما بُورا يقول: هَلْكَى.

١٩٩٤٩ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الـحسن: وكانُوا قَوْما بُورا قال: هم الذين لا خير فـيهم.

١٩٩٥٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وكانُوا قَوْما بُورا قال: يقول: لـيس من الـخير فـي شيء. البور: الذي لـيس فـيه من الـخير شيء.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتّـخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِـياءٍ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: نَتّـخِذَ بفتـح النون سوى الـحسن ويزيد بن القَعقاع، فإنهما قرآه: (أنْ نُتّـخَذَ) بضمّ النون. فذهب الذين فتـحوها إلـى الـمعنى الذي بـيّنّاه فـي تأويـله، من أن الـملائكة وعيسى ومن عُبد من دون اللّه من الـمؤمنـين هم الذين تبرّءوا أن يكون كان لهم ولـيّ غير اللّه تعالـى ذكره. وأما الذين قرءوا ذلك بضمّ النون، فإنهم وجهوا معنى الكلام إلـى أن الـمعبودين فـي الدنـيا إنـما تبرّءوا إلـى اللّه أن يكون كان لهم أن يُعْبدوا من دون اللّه جلّ ثناؤه، كما أخبر اللّه عن عيسى أنه قال إذا قـيـل أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّـخِذُونِـي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لـي أنْ أقُولَ ما لَـيْسَ لـي بِحَقَ ما قُلْتُ لَهُمْ إلاّ ما أمَرْتَنِـي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللّه رَبّـي وَرَبّكُمْ.

قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأه بفتـح النون، لعلل ثلاث: إحداهنّ إجماع من القرّاء علـيها. والثانـية: أن اللّه جل ثناؤه ذكر نظير هذه القصة فـي سورة سَبَأ، فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا ثم يقولُ للـملائكة أهؤلاءِ إياكُم كانُوا يَعْبُدون قالوا سُبْحَانك أنتَ وَلِـيّنا من دُونِهِمْ، فأخبر عن الـملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبـادة من عبدهم تبرّءُوا إلـى اللّه من ولايتهم، فقالوا لربهم: أنت ولـيّنا من دونهم، فذلك يوضّح عن صحة قراءة من قرأ ذلك: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتّـخِذ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِـياء بـمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نتـخذهم من دونك أولـياء. والثالثة: أن العرب لا تدخـل (مِنْ) هذه التـي تدخـل فـي الـجحد إلاّ فـي الأسماء، ولا تدخـلها فـي الأخبـار، لا يقولون: ما رأيت أخاك من رجل، وإنـما يقولون: ما رأيت من أحد، وما عندي من رجل وقد دخـلت هاهنا فـي الأولـياء وهي فـي موضع الـخبر، ولو لـم تكن فـيها (مِنْ) ، كان وجها حسنا. وأما البُور: فمصدر واحد، وجمع للبـائر، يقال: أصبحت منازلهم بُورا: أي خالـية لا شيء فـيها، ومنه قولهم: بـارت السّوق وبـار الطعام: إذا خلا من الطّلاب والـمشتري فلـم يكن له طالب، فصار كالشيء الهالك ومنه قول ابن الزّبَعْرَى:

يا رَسُولَ الـمَلِـيك إنّ لسانِـيرَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ

وقد

قـيـل: إن بور: مصدر، كالعدل والزور والقطع، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. وإنـما أريد بـالبور فـي هذا الـموضع أن أعمال هؤلاء الكفـار كانت بـاطلة لأنها لـم تكن للّه، كما ذكرنا عن ابن عباس .

١٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً }.

يقول تعالـى ذكره مخبرا عما هو قائل للـمشركين عند تبرّي من كانوا يعبدونه فـي الدنـيا من دون اللّه منهم: قد كذّبوكم أيها الكافرون من زعمتـم أنهم أضلوكم ودعوكم إلـى عبـادتهم بـما تَقُولُونَ يعني بقولكم، يقول: كذّبوكم بكذبكم.

وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٩٩٥١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد : فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ يقول اللّه للذين كانوا يعبدون عيسى وعُزيزا والـملائكة، يكذّبون الـمشركين.

١٩٩٥٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد : فَقَدْ كَذّبوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ قال: عيسى وعُزير والـملائكة، يكذّبون الـمشركين بقوله م.

وكان ابن زيد يقول فـي تأويـل ذلك، ما:

١٩٩٥٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعونَ صَرْفـا وَلا نَصْرا قال: كذّبوكم بـما تقولون بـما جاء من عند اللّه جاءت به الأنبـياء والـمؤمنون آمنوا به وكذب هؤلاء.

فوجه ابن زيد تأويـل قوله: فَقَدْ كَذّبُوكُمْ إلـى: فقد كذّبوكم أيها الـمؤمنون الـمكذّبون بـما جاءهم به مـحمد من عند اللّه بـما تقولون من الـحقّ، وهو أن يكون خبرا عن الذين كذّبوا الكافرين فـي زعمهم أنهم دعَوْهم إلـى الضلالة وأمروهم بها، علـى ما قاله مـجاهد من القول الذي ذكرنا عنه، أشبه وأولـى لأنه فـي سياق الـخبر عنهم. والقراءة فـي ذلك عندنا: فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ بـالتّاء، علـى التأويـل الذي ذكرناه، لإجماع الـحجة من قرّاء الأمصار علـيه. وقد حُكي عن بعضهم أنه قرأه: (فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِـمَا يَقُولُونَ) بـالـياء، بـمعنى: فقد كذّبوكم بقوله م.

وقوله جلّ ثناؤه: فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفـا وَلا نَصْرا يقول: فما يستطيع هؤلاء الكفـار صرف عذاب اللّه حين نزل بهم عن أنفسهم، ولا نَصْرَها من اللّه حين عذّبها وعاقبها.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٥٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد : فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفـا وَلا نَصْرا قال: الـمشركون لا يستطيعونه.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد : فَمَا تَسْتَطيعُونَ صَرفـا وَلا نَصْرا قال: الـمشركون.

قال ابن جُرَيج: لا يستطيعون صرف العذاب عنهم، ولا نصر أنفسهم.

١٩٩٥٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفـا وَلا نَصْرا قال: لا يستطيعون يصرفون عنهم العذاب الذي نزل بهم حين كُذّبوا، ولا أن ينتصروا. قال: وينادي منادٍ يوم القـيامة حين يجتـمع الـخلائق: ما لكم لا تناصرون؟ قال: من عبد من دون اللّه لا ينصر الـيوم من عبده، وقال العابدون من دون اللّه لا ينصره الـيوم إلهه الذي يعبد من دون اللّه ، فقال اللّه تبـارك وتعالـى: بَلْ هُمُ الـيَوْمَ مُسْتَسْلِـمُونَ. وقرأ قول اللّه جلّ ثناؤه: فإنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ.

ورُوي عن ابن مسعود فـي ذلك ما:

١٩٩٥٦ـ حدثنا به أحمد بن يونس، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، قال: هي فـي حرف عبد اللّه بن مسعود: (فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَكَ صَرْفـا) .

فإن تكن هذه الرواية عنه صحيحة، صحّ التأويـل الذي تأوّله ابن زيد فـي قوله: فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ، ويصير قوله: فَقَدْ كَذّبُوكُمْ خبرا عن الـمشركين أنهم كذّبوا الـمؤمنـين، ويكون تأويـل قوله حينئذٍ: فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفـا وَلا نَصْرا فما يستطيع يا مـحمد هؤلاء الكفـار لك صرفـا عن الـحقّ الذي هداك اللّه له، ولا نصر أنفسهم، مـما بهم من البلاء الذي همّ فـيه، بتكذيبهم إياك.

يقول تعالـى ذكره للـمؤمنـين به: وَمَنْ يَظْلِـمْ منْكُمْ أيها الـمؤمنون يعني ب قوله: وَمَنْ يَظْلِـمْ ومن يشرك بـاللّه فـيظلـم نفسه فذلك نذقه عذابـا كبـيرا، كالذي ذكرنا أن نذيقه الذين كذّبوا بـالساعة.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٥٧ـ حدثنا القاسم، قال: ثنـي الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، فـي قوله: وَمَنْ يَظْلِـمْ مِنْكُمْ قال: يُشْرك نُذِقْهُ عَذَابـا كَبِـيرا.

١٩٩٥٨ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله: وَمَنْ يَظْلِـمْ مِنْكُمْ قال: هو الشرك.

٢٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ ...}.

وهذا احتـجاج من اللّه تعالـى ذكره لنبـيه علـى مشركي قومه الذين قالوا: ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَـمْشِي فِـي الأسْوَاقِ وجواب لهم عنه، يقول لهم جلّ ثناؤه: وما أنكر يا مـحمد هؤلاء القائلون ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويـمشي فـي الأسواق، من أكلك الطعام ومشيك فـي الأسواق، وأنت للّه رسول فقد علـموا أنا ما أرسلنا قبلك من الـمرسلـين إلاّ إنهم لـيأكلون الطعام ويـمشون فـي الأسواق كالذي تأكل أنت وتـمشي، فلـيس لهم علـيك بـما قالوا من ذلك حجة.

فإن قال قائل: فإن (مَنْ) لـيست فـي التلاوة، فكيف قلت معنى الكلام: إلاّ مَنْ إِنهم لـيأكلون الطعام؟

قـيـل: قلنا فـي ذلك معناه: أن الهاء والـميـم فـي قوله: (إنهم) ، كناية أسماء لـم تُذكر، ولا بدّ لها من أن تعود علـى من كُنِـي عنه بها، وإنـما ترك ذكر (مَنْ) وإظهاره فـي الكلام اكتفـاء بدلالة قوله: مِنَ الـمُرْسَلِـينَ علـيه، كما اكتفـي فـي قوله: وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ من إظهار (مَنْ) ، ولا شكّ أن معنى ذلك: وما منا إلاّ من له مقام معلوم، كما

قـيـل: وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها ومعناه: وإن منكم إلاّ من هو واردها ف قوله: إنّهُمْ لَـيَأْكُلُونَ الطّعامَ صلة ل (مَنِ) الـمتروك، كما يقال فـي الكلام: ما أرسلت إلـيك من الناس إلاّ مَنْ إنه لـيبلغك الرسالة، فإنه (لـيبلغك الرسالة) صلة لـ (مَنْ) .

و قوله: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً

يقول تعالـى ذكره: وامتـحنا أيها الناس بعضكم ببعض، جعلنا هذا نبـيّا وخصصناه بـالرسالة، وهذا ملِكا وخصصناه بـالدنـيا، وهذا فقـيرا وحرمناه الدنـيا، لنـختبر الفقـير بصبره علـى ما حُرِم مـما أعطيه الغنـيّ، والـملك بصبره علـى ما أعطيه الرسول من الكرامة، وكيف رضي كل إنسان منهم بـما أعطى وقُسِم له، وطاعته ربه مع ما حرِم مـما أعطى غيره. يقول: فمن أجل ذلك لـم أعط مـحمدا الدنـيا، وجعلته يطلب الـمعاش فـي الأسواق، ولأبتلـيكم أيها الناس، وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلـى ما دعاكم إلـيه، بغير عَرَض من الدنـيا ترجونه من مـحمد أن يعطيكم علـى اتبـاعكم إياه لأنـي لو أعطيته الدنـيا، لسارع كثـير منكم إلـى اتبـاعه طمعا فـي دنـياه أن ينال منها.

وبنـحو الذي قلنا تأويـل فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٥٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، قال: ثنـي عبد القدوس، عن الـحسن، فـي قوله: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً... الاَية، يقول هذا الأعمى: لو شاء اللّه لـجعلنـي بصيرا مثل فلان، ويقول هذا الفقـير: لو شاء اللّه لـجعلنـي غنـيّا مثل فلان، ويقول هذا السقـيـم: لو شاء اللّه لـجعلنـي صحيحا مثل فلان.

١٩٩٦٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، فـي قوله: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبرُونَ قال: يُـمْسك عن هذا ويُوَسّع علـى هذا، فـيقول: لـم يعطنـي مثل ما أعطى فلانا، ويُبْتَلَـى بـالوجع كذلك، فـيقول: لـم يجعلنـي ربـي صحيحا مثل فلان فـي أشبـاه ذلك من البلاء، لـيعلـم من يصبر مـمن يجزع.

١٩٩٦١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، فـيـما يروي الطبري، عن عكرِمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس ، قال: وأنزل علـيه فـي ذلك من قولهم: ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَـمْشِي فِـي الأسْوَاقِ... الاَية: وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الـمُرْسَلِـينَ إلاّ إِنّهُمْ لَـيَأْكُلُونَ الطّعامَ ويَـمْشُونَ فِـي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ أي جعلت بعضكم لبعض بلاء، لتصبروا علـى ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم علـيه الدنـيا ولو شئت أن أجعل الدنـيا مع رسلـي فلا يخالفون لفعلت، ولكنـي قد أردت أن أبتلـي العبـاد بكم وأبتلـيكم بهم.

و قوله: وكانَ رَبّكَ بَصِيرا يقول: وربك يا مـحمد بصير بـمن يجزع ومن يصبر علـى ما امتُـحِن به من الـمـحن. كما:

١٩٩٦٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج: وكانَ رَبّكَ بَصِيرا إن ربك لبصير بـمن يجزع ومن يصبر.

تابع تفسير سورة الفرقان

٢١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىَ رَبّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً }.

يقول تعالـى ذكره: وقال الـمشركون الذين لا يخافون لقاءنا، ولا يَخْشَوْن عقابنا، هلا أنزل اللّه علـينا ملائكة، فتـخبرَنا أن مـحمدا مـحقّ فـيـما يقول، وأن ما جاءنا به صدق، أو نرى ربنا فـيخبرنا بذلك، كما قال جل ثناؤه مخبرا عنهم: وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتـى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعا ثم قال بعد: أوْ تَأْتِـيَ بـاللّه وَالـمَلائِكَةِ قَبِـيلاً يقول اللّه : لقد استكبر قائلو هذه الـمقالة فـي أنفسهم، وتعظموا، وَعَتَوْا عُتُوّا كَبِـيرا يقول: وتـجاوزوا فـي الاستكبـار بقـيـلهم ذلك حدّه وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال كفـار قريش: لَوّلاَ أُنْزِلَ عَلَـيْنَا الـمَلاَئِكَةُ فـيخبرونا أن مـحمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فـي أنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّا لأن (عتا) من ذوات الواو، فأخرج مصدره علـى الأصل بـالواو. وقـيـل فـي سورة مريـم: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عتِـيّاوإنـما قـيـل ذلك كذلك لـموافقة الـمصادر فـي هذا الوجه جمع الأسماء كقولهم: قعد قعودا، وهم قوم قعود، فلـما كان ذلك كذلك، وكان العاتـي يجمع عتـيا بناء علـى الواحد، جعل مصدره أحيانا موافقا لـجمعه، وأحيانا مردودا إلـى أصله.

٢٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىَ يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مّحْجُوراً }.

يقول تعالـى ذكره: يوم يرى هؤلاء الذين قالوا: لَولاَ أُنْزِلَ عَلَـيْنَا الـمَلاَئِكَةُ أوْ نَرَى رَبّنَا بتصديق مـحمد الـملائكة، فلا بشرى لهم يومئذٍ بخير. يقولُونَ حِجْرا مَـحْجُورا يعني أن الـملائكة يقولون للـمـجرمين حجرا مـحجورا، حراما علـيكم الـيوم البشرى أن تكون لكم من اللّه ومن الـحِجر قول الـمتلـمّس:

حَنّتْ إلـى نَـخْـلَةَ القُصْوَى فَقُلْتُ لَهَاحِجْرٌ حَرَامٌ ألا تِلْكَ الدّهارِيسُ

ومنه قولهم: حَجَر القاضي علـى فلان، وحَجَر فلان علـى أهله ومنه حِجر الكعبة، لأنه لا يدخـل إلـيه فـي الطواف، وإنـما يطاف من ورائه ومنه قول الاَخر.

فَهَمَـمْتُ أنْ أَلْقَـى إلَـيْها مَـحْجَرافَلَـمِثْلُها يُـلْقَـى إلَـيْهِ الـمَـحْجَرُ

أي مثلها يُركب منه الـمَـحْرَمُ.

واختلف أهل التأويـل فـي الـمخبر عنهم بقوله وَيَقُولُونَ حِجْرا مـحْجُورا ومن قائلوه؟ فقال بعضهم قائلو ذلك الـملائكة للـمـجرمين نـحو الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٦٤ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الأجلـح، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، وسأله رجل عن قول اللّه : وَيَقُولُونَ حِجْرا مَـحْجُورا قال: تقول الـملائكة: حراما مـحرما أن تكون لكم البُشرى.

١٩٩٦٥ـ حدثنـي عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثنـي أبـي، عن جدي، عن الـحسن، عن قتادة : وَيَقُولُونَ حِجْرا مَـحْجُورا قال: هي كلـمة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا نزل به شدّة قال: حجرا، يقول: حراما مـحرّما.

١٩٩٦٦ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ للْـمُـجْرِمينَ وَيَقُولُون حِجْرا مَـحْجُورا لـما جاءت زلازل الساعة، فكان من زلازلها أن السماء انشقّت فَهِيَ يَؤْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ، وَالـملَكُ عَلـى أرْجَائِهَا علـى شفة كل شيء تشقّق من السماء، فذلك قول: يَوْمَ يَرَوْنَ الـمَلائِكَهَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ للْـمُـجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ: يعني الـملائكة تقول للـمـجرمين: حراما مـحرّما أيها الـمـجرمون أن تكون لكم البشرى الـيوم حين رأيتـمونا.

١٩٩٦٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد يَوْمَ يَرَوْنَ الـمَلائِكَةَ قال: يوم القـيامة وَيَقُولُونَ حِجْرا مَـحْجُورا قال: عوذا معاذا.

حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، مثله، وزاد فـيه: الـملائكة تقوله.

وقال آخرون: ذلك خبر من اللّه عن قـيـل الـمشركين إذا عاينوا الـملائكة. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٦٨ـ حدثنا القاسم، قال: ثنـي الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج يَوْمَ يَرَوْنَ الـمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ للْـمُـجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرا مَـحْجُورا قال ابن جُرَيج: كانت العرب إذا كرهوا شيئا قالوا: حجرا، فقالوا حين عاينوا الـملائكة. قال ابن جُرَيج: قال مـجاهد : حِجْرا: عوذا، يستعيذون من الـملائكة.

قال أبو جعفر: وإنـما اخترنا القول الذي اخترنا فـي تأويـل ذلك من أجل أن الـحِجْر هو الـحرام، فمعلوم أن الـملائكة هي التـي تـخبر أهل الكفر أن البُشرى علـيهم حرام. وأما الاستعاذة فإنها الاستـجارة، ولـيست بتـحريـم. ومعلوم أن الكفـار لا يقولون للـملائكة حرام علـيكم، فـيوجه الكلام إلـى أن ذلك خبر عن قـيـل الـمـجرمين للـملائكة.

٢٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَدِمْنَآ إِلَىَ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُوراً }.

يقول تعالـى ذكره: وَقَدِمْنَا وعمدنا إلـى ما عمل هؤلاء الـمـجرمون مِنْ عَمَلٍ ومنه قول الراجز:

وَقَدِمَ الـخَوَارِجُ الضلاّلُإلـى عِبـادِ رَبّهمْ وَقالُواإنّ دِماءَكُمْ لَنا حَلالُ

 يعني ب قوله: قدم: عمد. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٦٩ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَقَدِمْنَا قال: عَمَدنا.

١٩٩٧٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، مثله

و قوله: فَجَعَلْناهُ هَبـاءً مَنْثُورا يقول: فجعلناه بـاطلاً، لأنهم لـم يعملوه للّه وإنـما عملوه للشيطان. والهبـاء: هو الذي يرى كهيئة الغبـار إذا دخـل ضوء الشمس من كوّة يحسبه الناظر غبـارا لـيس بشيء تقبض علـيه الأيدي ولا تـمسه، ولا يرى ذلك فـي الظلّ.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم نـحو الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٧١ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد، قال: حدثنا شعبة، عن سماك، عن عكرِمة أنه قال فـي هذه الاَية هَبـاءً مَنْثُورا قال: الغبـار الذي يكون فـي الشمس.

١٩٩٧٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، عن الـحسن، فـي قوله: وَقَدِمْنا إلـى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَبـاءً مَنْثُورا قال: الشعاع فـي كوّة أحدهم إن ذهب يقبض علـيه لـم يستطع.

١٩٩٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: هَبـاءً مَنْثُورا قال: شعاع الشمس من الكوّة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، مثله.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله هَبـاءً مَنْثورا قال: ما رأيت شيئا يدخـل البـيت من الشمس تدخـله من الكوّة، فهو الهبـاء.

وقال آخرون: بل هو ما تسفـيه الرياح من التراب، وتذروه من حطام الأشجار، ونـحو ذلك. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٧٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عباس ، قوله: هَبـاءً مَنْثُورا قال: ما تسفـي الريح وتَبُثّهُ.

١٩٩٧٥ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عن قتادة هَبـاءً مَنْثُورا قال: هو ما تذرو الريح من حطام هذا الشجر.

١٩٩٧٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن يزيد، فـي قوله: هَبـاءً مَنْثُورا قال: الهبـاء: الغبـار.

وقال آخرون: هو الـماء الـمُهراق. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٧٥حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: هَبـاءً مَنْثُورا يقال: الـماء الـمهراق.

٢٤

وقوله جلّ ثناؤه: أصحَابُ الـجَنّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّا وأَحْسَنُ مَقِـيلاً

يقول تعالـى ذكره: أهل الـجنة يوم القـيامة خير مستقرّا، وهو الـموضع الذي يستقرّون فـيه من منازلهم فـي الـجنة من مستقرّ هؤلاء الـمشركين الذين يفتـخرون بأموالهم، وما أوتوا من عرض هذه الدنـيا فـي الدنـيا، وأحسن منهم فـيها مقـيلاً.

فإن قال قائل: وهل فـي الـجنة قائلة، فـيقال وأحْسَنُ مَقِـيلاً فـيها؟

قـيـل: معنى ذلك: وأحسن فـيها قرارا فـي أوقات قائلتهم فـي الدنـيا، وذلك أنه ذكر أن أهل الـجنة لا يـمرّ فـيهم فـي الاَخرة إلا قدر ميقات النهار من أوّله إلـى وقت القائلة، حتـى يسكنوا مساكنهم فـي الـجنة، فذلك معنى قوله: وأحْسَنُ مَقِـيلاً ذكر الرواية عمن قال ذلك:

١٩٩٧٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: أصحَابُ الـجَنّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّا وأحْسَنُ مَقِـيلاً يقول: قالوا فـي الغرف فـي الـجنة، وكان حسابهم أن عرضوا علـى ربهم عرضة واحدة، وذلك الـحساب الـيسير، وهو مثل قوله: فَأمّا مَنْ أُوتِـيَ كِتابَهُ بِـيَـمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابـا يَسِيرا، وَيَنْقَلِبُ إلـى أهْلِهِ مَسْرُورا.

١٩٩٧٨ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيـم، فـي قوله: أصحَابُ الـجَنّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّا وأحْسَنُ مَقِـيلاً قال: كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القـيامة فـي نصف النهار، فـيقـيـل هؤلاء فـي الـجنة وهؤلاء فـي النار.

١٩٩٧٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج أصحَابُ الـجَنّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّا وَأَحْسَنُ مَقِـيلاً قال: لـم ينتصف النهار حتـى يقضي اللّه بـينهم، فـيقـيـل أهل الـجنة فـي الـجنة وأهل النار فـي النار. قال: وفـي قراءة ابن مسعود: ثُمّ إنّ مَقِـيـلَهُمْ لإلَـى الـجَحِيـم.

١٩٩٨٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: أصحَابُ الـجَنّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّا وأحْسَنُ مَقِـيلاً قال: قال ابن عباس : كان الـحساب من ذلك فـي أوّله، وقال القوم حين قالوا فـي منازلهم من الـجنة، وقرأ أصحَابُ الـجَنّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّا وأحْسَنُ مَقِـيلاً.

١٩٩٨١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الـحارث أن سعيدا الصوّاف حدثه أنه بلغه أن يوم القـيامة يقضي علـى الـمؤمنـين حتـى يكون كما بـين العصر إلـى غروب الشمس، وأنهم يقـيـلون فـي رياض الـجنة حتـى يفرغ من الناس، فذلك قول اللّه : أصحَابُ الـجنّةَ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّا وأحْسَنُ مَقِـيلاً.

قال أبو جعفر: وإنـما قلنا: معنى ذلك: خير مستقرا فـي الـجنة منهم فـي الدنـيا، لأن اللّه تعالـى ذكره عَمّ ب قوله: أصحَابُ الـجنّةِ يَوْمَئِذٍ وأحسَنُ مَقِـيلاً، جميع أحوال الـجنة فـي الاَخرة أنها خير فـي الاستقرار فـيها، والقائلة من جميع أحوال أهل النار، ولـم يخصّ بذلك أنه خير من أحوالهم فـي النار دون الدنـيا، ولا فـي الدنـيا دون الاَخرة، فـالواجب أن يعمّ كما عمّ ربنا جلّ ثناؤه، فـيقال: أصحاب الـجنة يوم القـيامة خير مستقرّا فـي الـجنة من أهل النار فـي الدنـيا والاَخرة، وأحسن منهم مقـيلاً. وإذا كان ذلك معناه، صحّ فساد قول من توهّم أن تفضيـل أهل الـجنة بقول اللّه : خَيْرٌ مُسْتَقَرّا علـى غير الوجه الـمعروف من كلام الناس بـينهم فـي قولهم: هذا خير من هذا، وهذا أحسن من هذا.

٢٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَوْمَ تَشَقّقُ السّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً }.

اختلف القرّاء فـي قراءة قوله تَشَقّقُ فقرأته عامّة قرّاء الـحجاز: (وَيَوْمَ تَشّقّقُ) بتشديد الشين بـمعنى: تَتَشقق، فأدغموا إحدى التاءين فـي الشين فشدّدوها، كما قال: لا يسّمّعُونَ إلـى الـمَلإِ الأعْلَـى.

وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: وَيَوْمَ تَشَقّقُ بتـخفـيف الشين والاجتزاء بإحدى التاءين من الأخرى.

والقول فـي ذلك عندي: أنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار بـمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب وتأويـل الكلام: ويوم تُشقق السماء عن الغمام. و

قـيـل: إن ذلك غمام أبـيض مثل الغمام الذي ظلل علـى بنـي إسرائيـل، وجعلت البـاء، فـي قوله: بـالغَمامِ مكان (عن) كما تقول: رميت عن القوس وبـالقوس، وعلـى القوس، بـمعنى واحد. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٨٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، قوله: وَيَوْمَ تشَقّقُ السّماءُ بـالغَمامِ قال: هو الذي قال: فِـي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ الذي يأتـي اللّه فـيه يوم القـيامة، ولـم يكن فـي تلك قطّ إلا لبنـي إسرائيـل. قال ابن جُرَيج: الغمام الذي يأتـي اللّه فـيه غمام زعموا فـي الـجنة.

١٩٩٨٣ـ قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان، عن عبد الـجلـيـل، عن أبـي حازم، عن عبد اللّه بن عمرو قال: يهبط حين يهبط، وبـينه وبـين خـلقه سبعون حجابـا، منها النور والظلـمة والـماء، فـيصوّت الـماء صوتا تنـخـلع له القلوب.

١٩٩٨٤ـ قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عكرمة فـي قوله: يَأْتِـيَهُمُ اللّه فـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالـمَلائِكَةُ يقول: والـملائكة حوله.

١٩٩٨٥ـ قال: ثنـي حجاج، عن مبـارك بن فضالة، عن علـيّ بن زيد بن جُدعان، عن يوسف بن مهران، أنه سمع ابن عباس يقول: إن هذه السماء إذا انشقت نزل منها من الـملائكة أكثر من الـجنّ والإنس، وهو يوم التلاق، يوم يـلتقـي أهل السماء وأهل الأرض، فـيقول أهل الأرض: جاء ربنا، فـيقولون: لـم يجىء وهو آت، ثم تَتَشقق السماء الثانـية، ثم سماء سماء علـى قدر ذلك من التضعيف إلـى السماء السابعة، فـينزل منها من الـملائكة أكثر من جميع من نزل من السموات ومن الـجنّ والإنس. قال: فتنزل الـملائكة الكَرُوبـيّون، ثم يأتـي ربنا تبـارك وتعالـى فـي حملة العرش الثمانـية بـين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة، وبـين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة، قال: وكل ملك منهم لـم يتأمل وجه صاحبه، وكلّ ملك منهم واضع رأسه بـين ثديـيه يقول: سبحان الـملك القدوس، وعلـى رؤوسهم شيء مبسوط كأنه القبـاء، والعرش فوق ذلك، ثم وقـف.

١٩٩٨٦ـ قال: ثنا الـحسن، قال: حدثنا جعفر بن سلـيـمان، عن هارون بن وثاب، عن شهر بن حوشب، قال: حملة العرش ثمانـية، فأربعة منهم يقولون: سبحانك اللّه مّ وبحمدك، لك الـحمد علـى حلـمك بعد علـمك. وأربعة يقولون: سبحانك اللّه مّ وبحمدك، لك الـحمد علـى عفوك بعد قدرتك.

١٩٩٨٧ـ قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي بكر بن عبد اللّه ، قال: إذا نظر أهل الأرض إلـى العرش يهبط علـيهم، فوقهم شخصت إلـيه أبصارهم، ورجفت كُلاهم فـي أجوافهم. قال: وطارت قلوبهم من مقرّها فـي صدورهم إلـى حناجرهم.

١٩٩٨٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَيَوْمَ تَشّقّقُ السّماءُ بـالغَمامِ ونُزّلَ الـمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً يعني يوم القـيامة حين تشقق السماء بـالغمام، وتنزل الـملائكة تنزيلاً.

و قوله: وَنُزّلَ الـمَلائكَةُ تنزِيلاً يقول: ونزّل الـملائكة إلـى الأرض تنزيلاً

٢٦

الـمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الـحَقّ للرّحْمَنِ يقول: الـملك الـحقّ يومئذ خالص للرحمن دون كلّ من سواه، وبطلت الـمـمالك يومئذ سوى ملكه. وقد كان فـي الدينا ملوك، فبطل الـملك يومئذ سوى ملك الـجبـار

وكانَ يَوْما عَلـى الكافِرِينَ عَسِيرا يقول: وكان يومُ تشقّق السماء بـالغمام يوما علـى أهل الكفر بـاللّه عسيرا، يعني صعبـا شديدا.

٢٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِمُ عَلَىَ يَدَيْهِ يَقُولُ يَلَيْتَنِي اتّخَذْتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلاً }.

يقول تعالـى ذكره: ويوم يعضّ الظالـم نفسه الـمشرك بربه علـى يديه ندما وأسفـا علـى ما فرط فـي جنب اللّه وأوبق نفسه بـالكفر به فـي طاعة خـلـيـله الذي صدّه عن سبـيـل ربه، يقول: يا لـيتنـي اتـخذت فـي الدنـيا مع الرسول سبـيلاً، يعني طريقا إلـى النـجاة من عذاب اللّه .

٢٨

وقوله يا وَيْـلَتا لَـيْتَنِـي لَـمْ أتّـخِذْ فُلانا خَـلِـيلاً اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ ب قوله: فُلاَنا، فقال بعضهم: عنـي بـالظالـم: عقبة بن أبـي مُعَيط، لأنه ارتدّ بعد إسلامه، طلبـا لرضا أُبـيّ بن خـلف، وقالوا: فلان هو أُبـيّ. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٨٩ـ حدثنا القاسم، قال: ثنـي الـحسين، قال: ثنـي حجاج عن ابن جُرَيج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عباس قال: كان أبـيّ بن خـلف يحضر النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فزجره عقبة بن أبـي معيط، فنزل: وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِـمُ عَلـى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَـيْتَنِـي اتّـخَذْتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِـيلاً... إلـى قوله خَذُولاً قال: الظالـم: عقبة، وفلانا خـلـيلاً: أُبـيّ بن خـلف.

١٩٩٩٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الشعبـيّ فـي قوله: لَـيْتَنِـي لَـمْ أتّـخِذْ فُلانا خَـلِـيلاً قال: كان عقبة بن أبـي معيط خـلـيلاً لأمية بن خـلف، فأسلـم عقبة، فقال أمية: وجهي من وجهك حرام إن تابعتَ مـحمدا، فكفر وهو الذي قال: لَـيْتَنِـي لَـمْ أتّـخِذْ فُلانا خَـلِـيلاً.

١٩٩٩١ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة وعثمان الـجزري، عن مقسم فـي قوله: وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِـمُ عَلـى يَدَيْهِ يَقُول يا لَـيْتَنِـي اتّـخَذْتُ مَعَ الرّسُول سَبِـيلاً قال: اجتـمع عقبة بن أبـي معيط وأبـيّ بن خـلف، وكانا خـلـيـلـين، فقال أحدهما لصاحبه: بلغنـي أنك أتـيت مـحمدا فـاستـمعت منه، واللّه لا أرضى عنك حتـى تتفل فـي وجهه وتكذّبه، فلـم يسلطه اللّه علـى ذلك، فقتل عقبة يوم بدر صبرا. وأما أُبـيّ بن خـلف فقتله النبي صلى اللّه عليه وسلم بـيده يوم أُحد فـي القتال، وهما اللذان أنزل اللّه فـيهما: وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِـمُ عَلـى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَـيْتَنِـي اتّـخَذْتُ مَعَ الرّسُولِ سَبـيلاً.

١٩٩٩٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِـمُ عَلـى يَدَيْهِ... إلـى قوله: فُلانا خَـلِـيلاً قال: هو أُبـيّ بن خـلف، كان يحضر النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فزجره عقبة بن أبـي معيط.

١٩٩٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِـمُ عَلـى يَدَيْهِ قال: عقبة بن أبـي معيط دعا مـجلسا فـيهم النبي صلى اللّه عليه وسلم لطعام، فأبى النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يأكل، وقال: (لا آكُل حتـى تَشْهَدَ أنْ لا إلهَ إلا اللّه ، وأنّ مُـحَمّدا رَسُولُ اللّه ) ، فقال: ما أنت بآكل حتـى أشهد؟ قال: (نعم) ، قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن مـحمدا رسول اللّه . فلقـيه أُمية بن خـلف فقال: صبوت: فقال: إن أخاك علـى ما تعلـم، ولكنـي صنعت طعاما فأبى أن يأكل حتـى أقول ذلك، فقلته، ولـيس من نفسي.

وقال آخرون: عنـي بفلان: الشيطان. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٩٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد : فُلانا خَـلِـيلاً قال: الشيطان.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، مثله.

٢٩

وقوله لَقَدْ أضَلّنِـي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إذْ جاءَنِـي يقول جل ثناؤه مخبرا عن هذا النادم علـى ما سلف منه فـي الدنـيا، من معصية ربه فـي طاعة خـلـيـله: لقد أضلنـي عن الإيـمان بـالقرآن، وهو الذكر، بعد إذ جاءنـي من عند اللّه ، فصدّنـي عنه. يقول اللّه : وكانَ الشّيْطانُ للإنْسانِ خَذُولاً يقول: مسلّـما لـما يَنزل به من البلاء غير منقذه ولا منـجيه.

٣٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الرّسُولُ يَرَبّ إِنّ قَوْمِي اتّخَذُواْ هَـَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }.

يقول تعالـى ذكره: وقال الرسول يوم يعضّ الظالـم علـى يديه: يا ربّ إن قومي الذين بعثتنـي إلـيهم لأدعوهم إلـى توحيدك اتـخذوا هذا القرآن مهجورا.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى اتـخاذهم القرآن مهجورا، فقال بعضهم: كان اتـخاذهم ذلك هُجرا، قولهم فـيه السيىء من القول، وزعمهم أنه سحر، وأنه شعر. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٩٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قوله: اتّـخَذُوا هَذَا القُرآنَ مَهْجُورا قال: يهجُرون فـيه بـالقول، يقولون: هو سحر.

١٩٩٩٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، قوله: وَقالَ الرّسُولُ... الاَية: يهجرون فـيه بـالقول. قال مـجاهد :

و قوله: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرا تَهْجُرُونَ قال: مستكبرين بـالبلد سامرا مـجالس تهجرون، قال: بـالقول السيىء فـي القرآن غير الـحقّ.

١٩٩٩٧ـ حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال، حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم، فـي وقول اللّه : إنّ قَوْمي اتّـخَذُوا هَذَا القُرآنَ مَهْجُورا قال: قالوا فـيه غير الـحقّ ألـم تر إلـى الـمريض إذا هذى قال غير الـحقّ.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: الـخبر عن الـمشركين أنهم هجروا القرآن وأعرضوا عنه ولـم يسمعوا له. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٩٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قول اللّه : وَقالَ الرّسُولُ يا رَبّ إنّ قَوْمي اتّـخَذُوا هَذَا القُرآنَ مَهْجُورا لا يريدون أن يسمعوه، وإن دعوا إلـى اللّه قالوا لا. وقرأ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنأَوْنَ عَنْهُ قال: ينهون عنه، ويبعدون عنه.

قال أبو جعفر: وهذا القول أولـى بتأويـل ذلك، وذلك أن اللّه أخبر عنهم قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فـيه، وذلك هجرهم إياه.

٣١

و قوله: وكَذلكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِـيّ عَدُوّا مِنَ الـمُـجْرِمِينَ

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : وكما جعلنا لك يا مـحمد أعداء من مشركي قومك، كذلك جعلنا لكلّ من نبأناه من قبلك عدوّا من مشركي قومه، فلـم تـخصص بذلك من بـينهم. يقول: فـاصبر لِـما نالك منهم كما صبر مِن قبلك أولو العزم من رسلنا.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٩٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن عباس وكَذلكَ جَعَلْنا لكُلّ نَبِـيّ عَدُوّا مِنَ الـمُـجْرِمِينَ قال: يوطن مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أنه جاعل له عدوّا من الـمـجرمين كما جعل لـمن قبله.

و قوله: وكَفَـى برَبّكَ هادِيا وَنَصِيرا

يقول تعالـى ذكره لنبـيه: وكفـاك يا مـحمد بربك هاديا يهديك إلـى الـحقّ، ويبصرك الرشد، ونصيرا: يقول: ناصرا لك علـى أعدائك، يقول: فلا يهولنك أعداؤك من الـمشركين، فإنـي ناصرك علـيهم، فـاصبر لأمري، وامض لتبلـيغ رسالتـي إلـيهم.

٣٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }.

يقول تعالـى ذكره: وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا بـاللّه لَوْلا نَزّلَ عَلَـيْهِ القُرآنُ يقول: هلا نزّل علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كما أنزلت التوراة علـى موسى جملة واحدة؟، قال اللّه : كَذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ تنزيـله علـيك الاَية بعد الاَية، والشيء بعد الشيء، لنثبت به فؤادك نزلناه. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٠٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزّلَ عَلَـيْهِ القُرآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْناه تَرْتِـيلاً قال: كان اللّه ينزل علـيه الاَية، فإذا علـمها نبـيّ اللّه نزلت آية أخرى، لـيعلـمه الكتاب عن ظهر قلب، ويثبت به فؤاده.

٢٠٠٠١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزّلَ عَلَـيْهِ القُرآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كما أنزلت التوراة علـى موسى، قال: كذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ قال: كان القرآن ينزّل علـيه جوابـا لقولهم: لـيعلـم مـحمد أن اللّه يجيب القوم بـما يقولون بـالـحقّ، و يعني ب قوله: لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ لنصحح به عزيـمة قلبك ويقـين نفسك، ونشجعك به.

وقوله وَرَتّلْناهُ تَرْتِـيلاً يقول: وشيئا بعد شيء علـمناكَهُ حتـى تـحفظنه. والترتـيـل فـي القراءة: الترسل والتثبت.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٠٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم، فـي قوله: وَرَتّلْناهُ تَرتِـيلاً قال: نزل متفرّقا.

٢٠٠٠٣ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله: وَرَتّلْناهُ تَرْتِـيلاً قال: كان ينزّل آية وآيتـين وآيات جوابـا لهم إذا سألوا عن شيء أنزله اللّه جوابـا لهم، وردّا عن النبي فـيـما يتكلـمون به. وكان بـين أوّله وآخره نـحو من عشرين سنة:

٢٠٠٠٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: وَرَتّلْناهُ تَرْتـيلاً قال: كان بـين ما أنزل القرآن إلـى آخره أنزل علـيه لأربعين، ومات النبي صلى اللّه عليه وسلم لثنتـين أو لثلاث وستـين.

وقال آخرون: معنى الترتـيـل: التبـيـين والتفسير. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٠٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَرَتّلْناهُ تَرْتـيلاً قال: فسرناه تفسيرا، وقرأ: وَرَتّلِ القُرآنَ تَرْتِـيلاً.

٣٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }.

يقول تعالـى ذكره: ولا يأتـيك يا مـحمد هؤلاء الـمشركون بـمثل يضربونه إلا جئناك من الـحقّ، بـما نبطل به ما جاءوا به وأحسن منه تفسيرا. كما:

٢٠٠٠٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج وَلا يأْتُونَكَ بِـمَثَلٍ إلاّ جِئْناكَ بـالـحَقّ قال: الكتاب بـما تردّ به ما جاءوا به من الأمثال التـي جاءوا بها وأحسن تفسيرا.

وعنى بقوله وأحْسَنَ تَفْسِيرا: وأحسن مـما جاءوا به من الـمثل بـيانا وتفصيلاً. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٠٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس قوله: وأحْسَنَ تَفْسيرا يقول: أحسن تفصيلاً.

٢٠٠٠٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد وأحْسَنَ تَفْسِيرا قال: بـيانا.

٢٠٠٠٩ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله وأحْسَنَ تَفْسِيرا يقول: تفصيلاً.

٣٤

و قوله: الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلـى وُجُوهِهِمَ أُوَلَئِكَ شَرّ مَكانا

يقول تعالـى ذكره: لنبـيه: هؤلاء الـمشركون يا مـحمد، القائلون لك: لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنُ جُمْلَةً واحِدة ومن كان علـى مثل الذي هم علـيه من الكفر بـاللّه ، الذين يحشرون يوم القـيامة علـى وجوههم إلـى جهنـم، فـيساقون إلـى جهنـم شرّ مستقرّا فـي الدنـيا والاَخرة من أهل الـجنة فـي الـجنة، وأضلّ منهم فـي الدنـيا طريقا.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠١٠ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلـى وُجُوهِهِمْ إلـى جَهَنّـمَ قال: الذي أمشاهم علـى أرجلهم قادر علـى أن يـمشيهم علـى وجوههم أُولَئِكَ شَرّ مَكانا من أهل الـجنة وأضَلّ سَبِـيلاً قال: طريقا.

٢٠٠١١ـ حدثنـي مـحمد بن يحيى الأزدي، قال: حدثنا الـحسين بن مـحمد، قال: حدثنا شيبـان، عن قتادة ، قوله الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلـى وُجُوهِهِمْ إلـى جَهَنّـمَ قال: حدثنا أنس بن مالك أن رجلاً قال: يا رسول اللّه كيف يحشر الكافر علـى وجهه؟ قال: (الّذِي أمْشاهُ عَلـى رِجْلَـيْهِ قادِرٌ أنْ يُـمْشِيَهُ عَلـى وَجْهه) .

حدثنا أبو سفـيان الغنوي يزيد بن عمرو، قال: حدثنا خلاد بن يحيى الكوفـي، قال: حدثنا سفـيان الثوري، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، قال: أخبرنـي من سمع أنس بن مالك يقول: جاء رجل إلـى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: كيف يحشرهم علـى وجوههم؟ قال: (الّذِي يَحْشُرُهُمْ عَلـى أرّجُلِهِمْ قادِرٌ بأنْ يَحْشُرَهُمْ عَلـى وُجُوههِمْ) .

حدثنا عبـيد بن مـحمد الورّاق، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي داود، عن أنس بن مالك، قال: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كيف يُحشر أهل النار علـى وجوههم؟ فقال: (إنّ الّذِي أمْشاهُمْ عَلـى أقْدامِهِمْ قادِرٌ عَلـى أنْ يُـمْشِيَهُمْ عَلـى وُجُوهِهِمْ) .

٢٠٠١٢ـ حدثنـي أحمد بن الـمقدام قال: حدثنا حزم، قال: سمعت الـحسن يقول: قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الاَية: الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلـى وُجُوهِهِمْ إلـى جَهَنّـمَ فقالوا: يا نبـي كيف يـمشون علـى وجوههم؟ قال: (أرأيْتَ الّذِي أمْشاهُمْ عَلـى أقْدامِهِمْ ألَـيْسَ قادِرا أنْ يُـمْشِيَهُمْ عَلـى وُجوهِهم) .

٢٠٠١٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا منصور بن زاذان، عن علـي بن زيد بن جدعان، عن أبـي خالد، عن أبـي هريرة، قال: (يحشر الناس يوم القـيامة علـى ثلاثة أصناف: صنف علـى الدوابّ، وصنف علـى أقدامهم، وصنف علـى وجوههم) ، ف

قـيـل: كيف يـمشون علـى وجوههم؟ قال: (إن الذي أمشاهم علـى أقدامهم، قادر أن يـمشيهم علـى وجوههم) .

٣٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم يتوعد مشركي قومه علـى كفرهم بـاللّه ، وتكذيبهم رسوله ويخوّفهم من حلول نقمته بهم، نظير الذي يحلّ بـمن كان قبلهم من الأمـم الـمكذّبة رسلها: وَلَقَدْ آتَـيْنا يا مـحمد مُوسَى الكِتابَ يعني التوراة، كالذي آتـيناك من الفرقان وَجَعَلْنا مَعَهُ أخَاهُ هارُونَ وَزِيرا يعني : معينا وظهيرا

٣٦

فقُلْنا اذْهَبـا إلـى القَوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا يقول: فقلنا لهما: اذهبـا إلـى فرعون وقومه الذي كذّبوا بإعلامنا وأدلتنا، فدمرناهم تدميرا. وفـي الكلام متروك استغنـي بدلالة ما ذكر من ذكره وهو: فذهبـا فكذبوهما، فدمرناهم حينئذٍ.

٣٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لّمّا كَذّبُواْ الرّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً }.

يقول تعالـى ذكره: وقوم نوح لـما كذّبوا رسلنا، وردّوا علـيهم ما جاءوهم به من الـحقّ، أغرقناهم بـالطوفـان وَجَعَلْناهُمْ للنّاسِ آيَةً يقول: وجعلنا تغريقنا إياهم وإهلاكنا عظة وعبرة للناس يعتبرون بها وأعْتَدْنا للظّالِـمِينَ عَذَابـا ألِـيـما يقول: وأعددنا لهم من الكافرين بـاللّه فـي الاَخرة عذابـا ألـيـما، سوى الذي حلّ بهم من عاجل العذاب فـي الدنـيا.

٣٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرّسّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً }.

يقول تعالـى ذكره: ودمرنا أيضا عادا وثمود وأصحاب الرسّ.

واختلف أهل التأويـل فـي أصحاب الرسّ، فقال بعضهم: أصحاب الرسّ من ثمود. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠١٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس وأصحَابَ الرّسّ قال: قرية من ثمود.

وقال آخرون: بل هي قرية من الـيـمامة يقال لها الفلْـج ذكر من قال ذلك:

٢٠٠١٥ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثنا جرير بن حازم، قال: قال قتادة : الرسّ: قرية من الـيـمامة يقال لها الفلْـج.

٢٠٠١٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قال عكرِمة: أصحاب الرسّ بفلـج هم أصحاب يس.

وقال آخرون: هم قوم رسّوا نبـيهم فـي بئر. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠١٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي بكر، عن عكرِمة، قال: كان الرسّ بئرا رسّوا فـيها نبـيهم.

وقال آخرون: هي بئر كانت تسمى الرسّ. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠١٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، وأصحَابَ الرّسّ قال: هي بئر كانت تسمى الرّسّ.

٢٠٠١٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى عن مـجاهد فـي قوله: (وأصحَابَ الرّسّ) قال: الرّسّ بئر كان علـيها قوم.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك، قول من قال: هم قوم كانوا علـى بئر، وذلك أن الرّسّ فـي كلام العرب كلّ مـحفور مثل البئر والقبر ونـحو ذلك ومنه قول الشاعر:

سَبَقْتَ إلـى فَرَطٍ بـاهِلٍتَنابِلَةً يَحْفُرُونَ الرّساسا

يريد أنهم يحفرون الـمعادن، ولا أعلـم قوما كانت لهم قصة بسبب حفرة، ذكرهم اللّه فـي كتابه إلا أصحاب الأخدود، فإن يكونوا هم الـمعنـيـين بقوله وأصحَابَ الرّسّ فإنا سنذكر خبرهم إن شاء اللّه إذا انتهينا إلـى سورة البروج، وإن يكونوا غيرهم فلا نعرف لهم خبرا، إلا ما جاء من جملة الـخبر عنهم أنهم قوم رَسّوا نبـيهم فـي حفرة. إلا ما:

٢٠٠٢٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن كعب القرظي، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنّ أوّلَ النّاسِ يَدخـلُ الـجَنّةَ يَوْمَ القِـيامَةِ العَبْدُ الأَسْوَدُ) . وذلك أن اللّه تبـارك وتعالـى بعث نبـيا إلـى أهل قرية فلـم يؤمن مِنْ أهلها أحد إلا ذلك الأسود، ثم إن أهل القرية عدوا علـى النبي علـيه السلام، فحفورا له بئرا فألقوه فـيها، ثم أطبقوا علـيه بحجرٍ ضخم، قال: وكان ذلك العبد يذهب فـيحتطب علـى ظهره، ثم يأتـي بحطبه فـيبـيعه، فـيشتري به طعاما وشرابـا، ثم يأتـي به إلـى ذلك البئر، فـيرفع تلك الصخرة، فـيعينه اللّه علـيها، فـيدلـي إلـيه طعامه وشرابه، ثم يعيدها كما كانت، قال: فكان كذلك ما شاء اللّه أن يكون. ثم إنه ذهب يوما يحتطب، كما كان يصنع، فجمع حطبه، وحزم حزمته وفرغ منها فلـما أراد أن يحتـملها وجد سِنَة، فـاضطجع فنام، فضرب اللّه علـى أذنه سبع سنـين نائما. ثم إنه هبّ فتـمطى، فتـحوّل لشقة الاَخر، فـاضطجع، فضرب اللّه علـى أذنه سبع سنـين أخرى. ثم إنه هبّ فـاحتـمل حزمته، ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار، فجاء إلـى القرية فبـاع حزمته، ثم اشترى طعاما وشرابـا كما كان يصنع، ثم ذهب إلـى الـحفرة فـي موضعها التـي كانت فـيه فـالتـمسه فلـم يجده، وقد كان بدا لقومه فـيه بداء، فـاستـخرجوه وآمنوا به وصدّقوه، قال: فكان النبي علـيه السلام يسألهم عن ذلك الأسود: ما فعل٠فـيقولون: ما ندري، حتـى قبض اللّه النبي ، فأهبّ اللّه الأسود من نومته بعد ذلك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنّ ذلكَ الأسْوَدَ لأَوّلُ مَنْ يَدْخُـلُ الـجَنّةَ) غير أن هؤلاء فـي هذا الـخبر يذكر مـحمد بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنهم آمنوا بنبـيهم واستـخرجوه من حفرته، فلا ينبغي أن يكونوا الـمعنـيـين ب قوله: وأصحَابَ الرّسّ لأن اللّه أخبر عن أصحاب الرّسّ أنه دمرهم تدميرا، إلا أن يكونوا دمروا بأحداث أحدثوها بعد نبـيهم الذي استـخرجوه من الـحفرة وآمنوا به، فـيكون ذلك وجها. وَقُرُونا بـينَ ذلكَ كَثِـيرا يقول: ودمرنا بـين أضعاف هذه الأمـم التـي سمّيناها لكم أمـما كثـيرة. كما:

٢٠٠٢١ـ حدثنا الـحسن بن شبـيب، قال: حدثنا خـلف بن خـلـيفة، عن جعفر بن علـيّ بن أبـي رافع مولـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: خـلفت بـالـمدينة عمي مـمن يفتـي علـى أن القرن سبعون سنة، وكان عمه عبـيد اللّه بن أبـي رافع كاتب علـيّ رضي اللّه عنه.

٢٠٠٢٢ـ حدثنا عمرو بن عبد الـحميد، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن الـحجاج، عن الـحكم، عن إبراهيـم قال: القرن أربعون سنة.

٣٩

وقوله وكُلاً ضَرَبْنا لَهُ الأَمْثالَ

يقول تعالـى ذكره: وكل هذه الأمـم التـي أهلكناها التـي سميناها لكم أو لـم نسمها ضربنا له الأمثال، يقول: مثلنا له الأمثال ونبهناها علـى حججنا علـيها، وأعذرنا إلـيها بـالعبر والـمواعظ، فلـم نهلك أمة إلا بعد الإبلاغ إلـيهم فـي الـمعذرة.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٢٣ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة ، فـي قوله: وكُلاً ضَرَبْنا لَهُ الأَمْثالَ قال: كلّ قد أعذر اللّه إلـيه، ثم انتقم منه.

و قوله: وكُلاّ تَبّرْنَا تَتْبِـيرا

يقول تعالـى ذكره: وكل هؤلاء الذين ذكرنا لكم أمرهم استأصلناهم، فدمرناهم بـالعذاب إبـادة، وأهلكناهم جميعا.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٢٤ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله: وكُلاّ تَبّرْنا تَتْبِـيرا قال: تبر اللّه كلاً بعذاب تتبـيرا.

٢٠٠٢٥ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يـمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جُبـير وكُلاّ تَبّرْنا تَتْبِـيرا قال: تتبـير بـالنبطية.

٢٠٠٢٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قوله: وكُلاّ تَبّرْنا تَتْبِـيرا قال: بـالعذاب.

٤٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الّتِيَ أُمْطِرَتْ مَطَرَ السّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً }.

يقول تعالـى ذكره: ولقد أتـى هؤلاء الذين اتـخذوا القرآن مهجورا علـى القرية التـي أمطرها اللّه مطر السوء وهي سدوم، قرية قوم لوط. ومطر السوء: هو الـحجارة التـي أمطرها اللّه علـيهم فأهلكهم بها. كما:

٢٠٠٢٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج وَلَقَدْ أتَوْا عَلـى القَرْيَةِ التـي أمْطِرَتْ مَطَر السّوءِ قال: حجارة، وهي قرية قوم لوط، واسمها سدوم. قال ابن عباس : خمس قريّات، فأهلك اللّه أربعة، وبقـيت الـخامسة، واسمها صعوة. لـم تهلك صعوة. كان أهلها لا يعملون ذلك العمل، وكانت سدوم أعظمها، وهي التـي نزل بها لوط، ومنها بعث. وكان إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم ينادي نصيحة لهم: يا سدوم، يوم لكم من اللّه ، أنهاكم أن تعرّضوا لعقوبة اللّه ، زعموا أن لوطا ابن أخي إبراهيـم صلوات اللّه علـيهما.

و قوله: أفَلَـمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها

يقول جلّ ثناؤه: أو لـم يكن هؤلاء الـمشركون الذين قد أتوا علـى القرية التـي أمطرت مطر السوء يرون تلك القرية، وما نزل بها من عذاب اللّه بتكذيب أهلها رسلهم، فـيعتبروا ويتذكروا، فـيراجعوا التوبة من كفرهم وتكذيبهم مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بَلْ كَانُوا لا يَرَجُونَ نُشُورا

يقول تعالـى ذكره: ما كذّبوا مـحمدا فـيـما جاءهم به من عند اللّه ، لأنهم لـم يكونوا رأوا ما حلّ بـالقرية التـي وصفت، ولكنهم كذّبوه من أجل أنهم قوم لا يخافون نشورا بعد الـمـمات، يعني أنهم لا يوقنون بـالعقاب والثواب، ولا يؤمنون بقـيام الساعة، فـيردعهم ذلك عما يأتون من معاصي اللّه . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٢٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج أفَلَـمْ يكُونُوا يَرَوْنَها، بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورا: بعثا.

٤١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهَـَذَا الّذِي بَعَثَ اللّه رَسُولاً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : وإذا رآك هؤلاء الـمشركون الذين قصصت علـيك قصصهم إنْ يَتّـخِذُونَكَ إلاّ هُزُوا يقول: ما يتـخذونك إلا سخرية يسخرون منك، يقولون: أهذا الّذِي بَعثَ اللّه إلـينا رَسُولاً من بـين خـلقه.

٤٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِن كَادَ لَيُضِلّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلّ سَبِيلاً }.

يقول تعالـى ذكره مخبرا عن هؤلاء الـمشركين الذين كانوا يهزءون برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنهم يقولون إذا رأوه: قد كاد هذا يضلنا عن آلهتنا التـي نعبدها، فـيصدّنا عن عبـادتها لولا صبرنا علـيها، وثبوتنا علـى عبـادتها. وَسَوْفَ يَعْلَـمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذَابَ

يقول جلّ ثناؤه: سيبـين لهم حين يعاينون عذاب اللّه قد حلّ بهم علـى عبـادتهم الاَلهة مَنْ أضَلّ سَبِـيلاً يقول: من الراكب غير طريق الهدى، والسالك سبـيـل الردى أنت أوهم. وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل قوله لَوْلا أن صَبرْنا عَلَـيْها قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٢٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيج إنْ كادَ لَـيُضِلّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أنْ صَبرْنا عَلَـيْها قال: ثبتنا علـيها.

٤٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلَـَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً }.

 يعني تعالـى ذكره: أرَأيْتَ يا مـحمد مَنِ اتّـخَذَ إلَههُ شهوتَه التـي يهواها وذلك أن الرجل من الـمشركين كان يعبد الـحجر، فإذا رأى أحسن منه رمى به، وأخذ الاَخر يعبده، فكان معبوده وإلهه ما يتـخيره لنفسه فلذلك قال جل ثناؤه أرأيْتَ مَنَ اتّـخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ، أفأنْتَ تَكُونُ عَلَـيْهِ وَكِيلاً

يقول تعالـى ذكره: أفأنت تكون يا مـحمد علـى هذا حفـيظا فـي أفعاله مع عظيـم جهله؟

٤٤

أم تَـحْسبُ يا مـحمد أن أكثر هؤلاء الـمشركين يَسْمعُونَ ما يُتلـى علـيهم، فـيعون أوْ يَعْقِلُونَ ما يعاينون من حجج اللّه ، فـيفهمون؟ إنْ هُمْ إلاّ كالأَنْعامِ يقول: ما هم إلا كالبهائم التـي لا تعقل ما يقال لها، ولا تفقه، بل هم من البهائم أضلّ سبـيلاً لأن البهائم تهتدي لـمراعيها، وتنقاد لأربـابها، وهؤلاء الكفرة لا يطيعون ربهم، ولا يشكرون نعمة من أنعم علـيهم، بل يكفرونها، ويعصون من خـلقهم وبرأهم.

٤٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَلَمْ تَرَ إِلَىَ رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمّ جَعَلْنَا الشّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً }.

يقول تعالـى ذكره: ألَـمْ تَرَ يا مـحمد كَيْفَ مَدّ ربك الظّلّ، وهو ما بـين طلوع الفجر إلـى طلوع الشمس. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٣٠ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: ألَـمْ تَرَ إلـى رَبّك كَيْفَ مَدّ الظّلّ يقول: ما بـين طلوع الفجر إلـى طلوع الشمس.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله ألَـمْ تَرَ إلـى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ قال: مدّه ما بـين صلاة الصبح إلـى طلوع الشمس.

٢٠٠٣١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبـير، فـي قوله ألـمْ تَرَ إلـى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ وَلَوْ شاءَ لـجَعَلَهُ ساكِنا قال: الظلّ: ما بـين طلوع الفجر إلـى طلوع الشمس.

٢٠٠٣٢ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا أبو مـحصن، عن حصين، عن أبـي مالك، قال ألَـمْ تَرَ إلـى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ قال: ما بـين طلوع الفجر إلـى طلوع الشمس.

٢٠٠٣٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله كَيْفَ مَدّ الظّلّ قال: ظلّ الغداة قبل أن تطلع الشمس.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، قال: الظلّ: ظلّ الغداة.

٢٠٠٣٤ـ قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عكرِمة، قوله: ألَـمْ تَرَ إلـى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ قال: مدّه من طلوع الفجر إلـى طلوع الشمس.

٢٠٠٣٥ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: ألَـمْ تَرَ إلـى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ يعني من صلاة الغداة إلـى طلوع الشمس.

 قوله: وَلَوْ شاءَ لـجَعَلَهُ ساكِنا يقول: ولو شاء لـجعله دائما لا يزول، مـمدودا لا تذهبه الشمس، ولا تنقصه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٣٦ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَلَوْ شاءَ لـجَعَلَهُ ساكِنا يقول: دائما.

٢٠٠٣٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَلَوْ شاءَ لـجَعَلَهُ ساكِنا قال: لا تصيبه الشمس ولا يزول.

حدثنا القاسم: قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد وَلَوْ شَاءَ لـجَعَلَهُ ساكِنا قال: لا يزول.

٢٠٠٣٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: ولَوْ شَاءَ لـجَعَلَهُ ساكِنا قال: دائما لا يزول.

وقوله ثُمّ جَعَلْنا الشّمْسَ عَلَـيْهِ دَلِـيلاً

يقول جلّ ثناؤه: ثم دللناكم أيها الناس بنسخ الشمس إياه عند طلوعها علـيه، أنه خـلْق من خـلق ربكم، يوجده إذا شاء، ويفنـيه إذا أراد والهاء فـي قوله (علـيه) من ذكر الظلّ. ومعناه: ثم جعلنا الشمس علـى الظلّ دلـيلاً.

قـيـل: معنى دلالتها علـيه أنه لو لـم تكن الشمس التـي تنسخه لـم يعلـم أنه شيء، إذا كانت الأشياء إنـما تعرف بأضدادها، نظير الـحلو الذي إنـما يعرف بـالـحامض والبـارد بـالـحارّ، وما أشبه ذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٣٩ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله ثُمّ جَعَلْنا الشّمْسَ عَلَـيْهِ دَلِـيلاً يقول: طلوع الشمس.

٢٠٠٤٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ثُمّ جَعَلْنَا الشّمْسَ عَلَـيْهِ دَلِـيلاً قال: تـحويه.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، مثله.

٢٠٠٤١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قول اللّه : ثُمّ جَعَلْنا الشّمْسَ عَلـيْهِ دَلِـيلاً قال: أخرجت ذلك الظلّ فذهبت به.

٤٦

و قوله: ثُمّ قَبَضْناهُ إلَـيْنا قَبْضا يَسِيرا

يقول تعالـى ذكره: ثم قبضنا ذلك الدلـيـل من الشمس علـى الظلّ إلـينا قبضا خفـيا سريعا بـالفـيء الذي نأتـي به بـالعشيّ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٤٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: ثُمّ قَبضْناهُ إلَـيْنَا قَبْضا يَسِيرا قال: حوى الشمس الظلّ. و

قـيـل: إن الهاء التـي فـي قوله ثُمّ قَبَضْناهُ إلَـيْنا عائدة علـى الظلّ، وإن معنى الكلام: ثم قبضنا الظلّ إلـينا بعد غروب الشمس وذلك أن الشمس إذا غربت غاب الظلّ الـمـمدود، قالوا: وذلك وقت قبضه.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله يَسِيرا فقال بعضهم: معناه: سريعا. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٤٣ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: ثُمّ قَبَضْناهُ إلَـيْنا قَبْضا يَسِيرا يقول: سريعا.

وقال آخرون: بل معناه: قبضا خفـيا. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٤٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد العزيز بن رفـيع، عن مـجاهد ثُمّ قَبَضْناهُ إلَـيْنا قَبْضا يَسِيرا قال: خفـيا.

٢٠٠٤٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جُرَيج قَبْضا يَسِيرا قال: خفـيا، قال: إن ما بـين الشمس والظلّ مثل الـخيط، والـيسير الفعيـل من الـيسر، وهو السهل الهيّن فـي كلام العرب. فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك، يتوجه لـما روي عن ابن عباس ومـجاهد ، لأن سهولة قبض ذلك قد تكون بسرعة وخفـاء. وقـيـل إنـما قـيـل ثُمّ قَبَضْناهُ إلَـيْنا قبْضا يَسِيرا لأن الظلّ بعد غروب الشمس لا يذهب كله دفعة، ولا يقبل الظلام كله جملة، وإنـما يقبض ذلك الظلّ قبضا خفـيا، شيئا بعد شيء ويعقب كل جزء منه يقبضه، جزء من الظلام.

٤٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَهُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ لِبَاساً وَالنّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النّهَارَ نُشُوراً }.

يقول تعالـى ذكره: الذي مدّ الظلّ ثم جعل الشمس علـيه دلـيلاً، هو الذي جعل لكم أيها الناس اللـيـل لبـاسا. وإنـما قال جلّ ثناؤه: جَعَلَ لَكُمُ اللّـيْـلَ لِبـاسا لأنه جعله لـخـلقه جنة يجتنون فـيها ويسكنون فصار لهم سترا يستترون به، كما يستترون بـالثـياب التـي يُكسونها. وقوله والنّوْمَ سُبـاتا يقول: وجعل لكم النوم راحة تستريح به أبدانكم، وتهدأ به جوارحكم. وقوله وَجَعَلَ النّهارَ نُشُورا

يقول تعالـى ذكره: وجعل النهار يقظة وحياة، من قولهم: نَشر الـميتُ، كما قال الأعشى:

حتـى يقُولَ النّاسُ مِـمّا رأَوْايا عَجَبـا للْـمَيّتِ النّاشِرِ

ومنه قول اللّه : لا يَـمْلِكُونَ مَوْتا وَلا حَياةً وَلا نُشُورا. وكان مـجاهد يقول فـي تأويـل ذلك ما:

٢٠٠٤٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَجَعَلَ النّهارَ نُشُورا قال: ينشر فـيه.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، مثله.

وإنـما اخترنا القول الذي اخترنا فـي تأويـل ذلك، لأنه عقـيب قوله والنّوْمَ سُبـاتا فـي اللـيـل. فإذ كان ذلك كذلك، فوصف النهار بأن فـيه الـيقظة والنشور من النوم أشبه إذ كان النوم أخا الـموت. والذي قاله مـجاهد غير بعيد من الصواب لأن اللّه أخبر أنه جعل النهار معاشا، وفـيه الانتشار للـمعاش، ولكن النشور مصدر من قول القائل: نشر، فهو بـالنشر من الـموت والنوم أشبه، كما صحّت الرواية عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يقول إذا أصبح وقام من نومه: (الـحَمْدُ للّه الّذِي أحْيانا بَعْدَما أماتَنا، وَإلَـيْهِ النّشُورُ) .

٤٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَهُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ الرّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً طَهُوراً }.

يقول تعالـى ذكره: واللّه الذي أرسل الرياح الـملقحة بُشْرا: حياة أو من الـحيا والغيث الذي هو منزله علـى عبـاده وأنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً طَهُورا يقول: وأنزلنا من السحاب الذي أنشأناه بـالرياح من فوقكم أيها الناس ماء طهورا

٤٩

لِنُـحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتا يعني أرضا قَحِطة عذية لا تُنبت. وقال بَلْدَةً مَيْتا ولـم يقل ميتة، لأنه أريد بذلك لنـحيـي به موضعا ومكانا ميتا

وَنُسْقِـيَهُ من خـلقنا أنْعَاما من البهائم وَأنَاسِيّ كَثِـيرا يعني الأناسيّ: جمع إنسان وجمع أناسي، فجعل الـياء عوضا من النون التـي فـي إنسان، وقد يجمع إنسان: إناسين، كما يجمع النَشْيان: نشايـين. فإن

قـيـل: أناسيّ جمع واحده إنسي، فهو مذهب أيضا مـحكي، وقد يجمع أناسي مخففة الـياء، وكأن من جمع ذلك كذلك أسقط الـياء التـي بـين عين الفعل ولامه، كما يجمع القرقور: قراقـير وقراقر. ومـما يصحح جمعهم إياه بـالتـخفـيف، قول العبرب: أناسية كثـيرة.

٥٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ صَرّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذّكّرُواْ فَأَبَىَ أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً }.

يقول تعالـى ذكره: ولقد قسمنا هذا الـماء الذي أنزلناه من السماء طهورا لنـحيـي به الـميت من الأرض بـين عبـادي، لـيتذكروا نعمي علـيهم، ويشكروا أياديّ عندهم وإحسانـي إلـيهم، فأبى أكْثَرُ النّاسِ إلاّ كُفُورا يقول: إلا حجودا لنعمي علـيهم، وأياديّ علـيهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٤٧ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، قال: سمعت الـحسن بن مسلـم يحدّث طاوسا، عن سعيد بن جُبـير، عن ابن عباس قال: ما عام بأكثر مطرا من عام، ولكنّ اللّه يصرّفه بـين خـلقه قال: ثم قرأ: وَلَقَدْ صَرّفْناهُ بَـيْنَهُمْ.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن سلـيـمان التـيـمي، قال: حدثنا الـحسين بن مسلـم، عن سعيد بن جُبـير، قال: قال ابن عباس : ما عام بأكثر مطرا من عام، ولكنه يصرفه فـي الأرضين، ثم تلا وَلَقَدْ صَرّفْناهُ بَـيْنَهمْ لِـيَذّكّروا.

٢٠٠٤٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، قوله وَلَقَدْ صَرّفْناهُ بَـيْنَهُمْ قال: الـمطر ينزله فـي الأرض، ولا ينزله فـي الأرض الأخرى، قال: فقال عكرِمة: صرفناه بـينهم لـيذّكروا.

٢٠٠٤٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَلَقَدْ صَرّفْناهُ بَـيْنَهُمْ لِـيَذّكّرُوا قال: الـمطر مرّة ههنا، ومرّة ههنا.

٢٠٠٥٠ـ حدثنا سعيد بن الربـيع الرازي، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن يزيد بن أبـي زياد، أنه سمع أبـاجحيفة يقول: سمعت عبد اللّه بن مسعود يقول: لـيس عام بأمطر من عامّ، ولكنه يصرفه، ثم قال عبد اللّه : ولقَدْ صَرّفْناهُ بَـيْنَهُمْ. وأما قوله: فأبى أكْثَرُ النّاسِ إلاّ كفُورا فإن القاسم.

٢٠٠٥١ـ حدثنا قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عكرِمة فأَبى أكْثَرُ النّاسِ إلاّ كُفَورا قال: قولهم فـي الأنواء.

٥١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نّذِيراً }.

يقول تعالـى ذكره: ولو شئنا يا مـحمد لأرسلنا فـي كلّ مصر ومدينة نذيرا ينذرهم بأْسَنا علـى كفرهم بنا، فـيخفّ عنك كثـير من أعبـاء ما حملناك منه، ويسقط عنك بذلك مؤنة عظيـمة، ولكنا حملناك ثقل نذارة جميع القرى، لتستوجب بصبرك علـيه إن صبرت ما أعمدّ اللّه لك من الكرامة عنده، والـمنازل الرفـيعة قِبَله،

٥٢

فلا تطع الكافرين فـيـما يدعونك إلـيه من أن تعبد آلهتهم، فنذيقك ضعف الـحياة وضعف الـمـمات، ولكن جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبـيرا، حتـى ينقادوا للإقرار بـما فـيه من فرائض اللّه ، ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعا وكرها. وبنـحو الذي قلنا

فـي قوله: وَجاهِدْهُمْ بِهِ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٥٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس : قوله فَلا تُطِعِ الكافِرِينَ وَجاهِدْهِمْ بِهِ قال: بـالقرآن. وقال آخرون فـي ذلك بـما.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد،

فـي قوله وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادا كَبِـيرا قال: الإسلام. وقرأ: وَاغْلُظْ عَلَـيْهِمْ وقرأ: وَلْـيَجِدُوا فِـيكُمْ غِلْظَةً وقال: هذا الـجهاد الكبـير.

٥٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَهُوَ الّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَـَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مّحْجُوراً }.

يقول تعالـى ذكره: واللّه الذي خـلط البحرين، فأمرج أحدهما فـي الاَخر، وأفـاضه فـيه. وأصل الـمرج الـخـلط، ثم يقال للتـخـلـية: مرج، لأن الرجل إذا خـلـى الشيء حتـى اختلط بغيره، فكأنه قد مرجه ومنه الـخبر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقوله لعبد اللّه بن عمرو: (كَيْفَ بِكَ يا عَبْدَ اللّه إذَا كُنْتَ فـي حُثالَةً مِنَ النّاسِ، قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وأماناتُهُمْ، وَصَارُوا هَكَذا وشَبّكَ بـين أصابعه) يعني ب قوله: قد مرجت: اختلطت، ومنه قول اللّه : فِـي أمْرٍ مَرِيجٍ: أي مختلط. وإنـما قـيـل للـمرج مرج من ذلك، لأنه يكون فـيه أخلاط من الدوابّ، ويقال: مَرَجْت دابتك: أي خـلـيتها تذهب حيث شاءت. ومنه قول الراجز:

رَعَى مَرَجَ رَبِـيعٍ مَـمْرَجا

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٥٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَهُوَ الّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ يعني أنه خـلع أحدهما علـى الاَخر.

٢٠٠٥٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: مَرَجَ البَحْرَيْنِ أفـاض أحدهما علـى الاَخر.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، مثله.

٢٠٠٥٥ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَهُوَ الّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ يقول: خـلع أحدهما علـى الاَخر.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو تـميـلة، عن أبـي حمزة، عن جابر، عن مـجاهد : مَرَجَ أفـاض أحدهما علـى الاَخر.

وقوله هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ الفرات: شديد العذوبة، يقال: هذا ماء فرات: أي شديد العذوبة. وقوله وَهَذَا مِلْـحٌ أُجاجٌ يقول: وهذا ملـح مرّ. يعني بـالعذب الفرات: مياه الأنهار والأمطار، وبـالـملـح الأجاج: مياه البحار.

وإنـما عنى بذلك أنه من نعمته علـى خـلقه، وعظيـم سلطانه، يخـلط ماء البحر العذب بـماء البحر الـملـح الأجاج، ثم يـمنع الـملـح من تغيـير العذب عن عذوبته، وإفساده إياه بقضائه وقدرته، لئلا يضرّ إفساده إياه يركبـان الـملـح منهما، فلا يجدوا ماء يشربونه عند حاجتهم إلـى الـماء، فقال جلّ ثناؤه: وَجَعَلَ بَـيْنَهُما بَرْزَخا يعني حاجزا يـمنع كل واحد منهما من إفساد الاَخر وَحِجْرا مـحْجُورا يقول: وجعل كلـج واحد منهما حراما مـحرّما علـى صاحبه أن يغيره أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٥٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ، وَهَذَا مِلْـحٌ أُجاجٌ يعني أنه خـلق أحدهما علـى الاَخر، فلـيس يفسد العذب الـمالـح، ولـيس يفسد الـمالـح العذب، وقوله وَجَعَلَ بَـيْنَهُما بَرْزَخا قال: البرزخ: الأرض بـينهما وَحِجْرا مـحْجُورا يعني : حجر أحدهما علـى الاَخر بأمره وقضائه، وهو مثل قوله وَجَعَلَ بَـينَ البْحَرَيْنِ حَاجِزا.

٢٠٠٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَجَعَلَ بَـيْنَهُما بَرْزَخا قال: مـحبسا. قوله: وَحِجْرا مـحْجُورا قال: لا يختلط البحر العذب.

٢٠٠٥٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد وَجَعَلَ بَـيْنَهُما بَرْزَخا قال: حاجزا لا يراه أحد، لا يختلط العذب فـي البحر. قال ابن جُرَيج: فلـم أجد بحرا عذبـا إلا الأنهار العذاب، فإن دجلة تقع فـي البحر، فأخبرنـي الـخبـير بها أنها تقع فـي البحر، فلا تـمور فـيه: بـينهما مثل الـخيط الأبـيض فإذا رجعت لـم ترجع فـي طريقها من البحر، والنـيـل يصبّ فـي البحر:

٢٠٠٥٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي أبو تـميـلة، عن أبـي حمزة، عن جابر، عن مـجاهد وَجَعَلَ بَـيْنَهُما بَرْزَخا قال: البرزخ أنهما يـلتقـيان فلا يختلطان، وقوله حِجْرا مَـحْجُورا: أي لا تـختلط ملوحة هذا بعذوبة هذا، لا يبغي أحدهما علـى الاَخر.

٢٠٠٦٠ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن رجاء، عن الـحسن، فـي قوله: وَجَعَلَ بَـيْنَهُما بَرْزَخا وَحِجْرا مَـحْجُورا قال: هذا الـيبس.

٢٠٠٦١ـ حدثنا الـحسن، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: وَجَعَلَ بَـيْنَهُما بَرْزَخا وَحِجْرا مَـحْجُورا قال: جعل هذا ملـحا أجاجا، قال: والأجاج: الـمرّ.

٢٠٠٦٢ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول: مَرَجَ البَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ، وَهَذَا مِلْـحٌ أُجاجٌ يقول: خـلع أحدهما علـى الاَخر، فلا يغير أحدهما طعم الاَخر وَجَعَلَ بَـيْنَهُما بَرْزَخا هو الأجل ما بـين الدنـيا والاَخرة وَحِجْرا مَـحْجُورا جعل اللّه بـين البحرين حجرا، يقول: حاجزا حجز أحدهما عن الاَخر بأمره وقضائه.

٢٠٠٦٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَجَعَلَ بَـيْنَهُما بَرْزَخا وحِجْرا مـحْجُورا وجعل بـينهما سترا لا يـلتقـيان. قال: والعرب إذا كلـم أحدهم الاَخر بـما يكره قال: حِجرا. قال: سترا دون الذي تقول.

قال أبو جعفر: وإنـما اخترنا القول الذي اخترناه فـي معنى قوله وجَعَلَ بَـيْنَهُما بَرْزخا وحِجْرا مـحْجُورا دون القول الذي قاله من قال معناه: إنه جعل بـينهما حاجزا من الأرض أو من الـيبس، لأن اللّه تعالـى ذكره أخبر فـي أوّل الاَية أنه مرج البحرين، والـمرج: هو الـخـلط فـي كلام العرب علـى ما بـيّنت قبل، فلو كان البرزخ الذي بـين العذب الفرات من البحرين، والـملـح الأجاج أرضا أو يبسا لـم يكن هناك مرج للبحرين، وقد أخبر جل ثناؤه أنه مرجهما، وإنـما عرفنا قدرته بحجزه هذا الـملـح الأجاج عن إفساد هذا العذب الفرات، مع اختلاط كلّ واحد منهما بصاحبه. فأما إذا كان كلّ واحد منهما فـي حيز عن حيز صاحبه، فلـيس هناك مرج، ولا هناك من الأعجوبة ما ينبه علـيه أهل الـجهل به من الناس، ويذكرون به، وإن كان كلّ ما ابتدعه ربنا عجيبـا، وفـيه أعظم العبر والـمواعظ والـحجج البوالغ.

٥٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَهُوَ الّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبّكَ قَدِيراً }.

يقول تعالـى ذكره: واللّه الذي خـلق من النطف بشرا إنسانا فجعله نسبـا، وذلك سبعة، وصهرا، وهو خمسة. كما:

٢٠٠٦٤ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله فجَعَلَهُ نَسَبـا وَصِهْرا: النسب: سبع، قوله: حُرّمَتْ عَلَـيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ... إلـى قوله وَبَناتُ الأُخْتِ. والصهر خمس، قوله: وأُمّهاتُكُمُ اللاّتِـي أرْضَعْنَكُمْ... إلـى قوله وَحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ.

و قوله: وكانَ رَبّكَ قَدِيرا يقول: وربك يا مـحمد ذو قدرة علـى خـلق ما يشاء من الـخـلق، وتصريفهم فـيـما شاء وأراد.

٥٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَىَ رَبّهِ ظَهِيراً }.

يقول تعالـى ذكره: ويعبد هؤلاء الـمشركون بـاللّه من دونه آلهة لا تنفعهم، فتـجلب إلـيهم نفعا إذا هم عبدوها، ولا تضرّهم إن تركوا عبـادتها، ويتركون عبـادة من أنعم علـيهم هذه النعم التـي لا كفـاء لأدناها، وهي ما عدّد علـينا جلّ جلاله فـي هذه الاَيات من قوله: ألَـمْ تَرَ إلـى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ إلـى قوله: قَدِيرا. ومن قدرته القدرة التـي لا يـمتنع علـيه معها شيء أراده، ولا يتعذّر علـيه فعل شيء أراد فعله، ومن إذا أراد عقاب بعض من عصاه من عبـاده أحلّ به ما أحلّ بـالذين وصف صفتهم من قوم فرعون وعاد وثمود وأصحاب الرّسّ، وقرونا بـين ذلك كثـيرا، فلـم يكن لـمن غضب علـيه منه ناصر، ولا له عنه دافع. وكانَ الكافِرُ عَلـى رَبّهِ ظَهِيرا

يقول تعالـى ذكره: وكان الكافر معينا للشيطان علـى ربه، مظاهرا له علـى معصيته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٦٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن لـيث، عن مـجاهد وكانَ الكافِرُ عَلـى رَبّهِ ظَهِيرا قال: يظاهر الشيطان علـى معصية اللّه بعينه.

٢٠٠٦٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله عَلـى رَبّهِ ظَهِيرا قال: معينا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، مثله. قال ابن جُرَيج: أبو جهل معينا ظاهر الشيطان علـى ربه.

٢٠٠٦٧ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله: وكانَ الكافِرُ عَلـى رَبّه ظَهيرا قال: عونا للشيطان علـى ربه علـى الـمعاصي.

٢٠٠٦٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله وكانَ الكافِرُ عَلـى رَبّهِ ظَهِيرا قال: علـى ربه عوينا. والظهير: العوين. وقرأ قول اللّه : فَلاَ تَكُونَنّ ظَهِيرا للكافِرينَ قال: لا تكونن لهم عوينا. وقرأ أيضا قول اللّه : وأنْزلَ الّذِين ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ صياصِيهِمْ قال: ظاهروهم: أعانوهم.

٢٠٠٦٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله وكانَ الكافِرُ عَلـى رَبّهِ ظَهِيرا يعني : أبـا الـحكم الذي سماه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أبـا جهل بن هشام.

وقد كان بعضهم يوجه معنى قوله وكانَ الكافِرُ عَلـى رَبّهِ ظَهِيرا أي وكان الكافر علـى ربه هينا من قول العرب: ظهرت به، فلـم ألتفت إلـيه، إذا جعله خـلف ظهره فلـم يـلتفت إلـيه، وكأنّ الظهير كان عنده فعيـل صرف من مفعول إلـيه من مظهور به، كأنه

قـيـل: وكان الكافر مظهورا به. والقول الذي قلناه هو وجه الكلام، والـمعنى الصحيح، لأن اللّه تعالـى ذكره أخبر عن عبـادة هؤلاء الكفـار من دونه، فأولـى الكلام أن يتبع ذلك ذمّه إياهم، وذمّ فعلهم دون الـخبر عن هوانهم علـى ربهم، ولِـما يجر لاستكبـارهم علـيه ذكر، فـيتبع بـالـخبر عن هوانهم علـيه.

٥٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ مُبَشّراً وَنَذِيراً }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : وَما أرْسَلْناكَ يا مـحمد إلـى من أرسلناك إلـيه إلاّ مُبَشّرا بـالثواب الـجزيـل، من آمن بك وصدّقك، وآمن بـالذي جئتهم به من عندي، وعملوا به ونَذِيرا من كذّبك وكذّب ما جئتهم به من عندي، فلـم يصدّقوا به، ولـم يعملوا.

٥٧

قُلْ ما أسألُكُمْ عَلَـيْهِ مِنْ أجْرٍ يقول له: قل لهؤلاء الذين أرسلتك إلـيهم، ما أسألكم يا قوم علـى ما جئتكم به من عند ربـي أجرا، فتقولون: إنـما يطلب مـحمد أموالنا بـما يدعونا إلـيه، فلا نتبعه فـيه، ولا نعطيه من أموالنا شيئا.

إلاّ مَنْ شاءَ أنْ يَتّـخِذَ إلـى رَبّهِ سَبِـيلاً يقول: لكن من شاء منكم اتـخذ إلـى ربه سبـيلاً، طريقا بإنفـاقه من ماله فـي سبـيـله، وفـيـما يقربه إلـيه من الصدقة والنفقة فـي جهاد عدوّه، وغير ذلك من سبل الـخير.

٥٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتَوَكّلْ عَلَى الْحَيّ الّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىَ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً }.

يقول تعالـى ذكره: وتوكل يا مـحمد علـى الذي له الـحياة الدائمة التـي لا موت معها. فثق به فـي أمر ربك، وفوّض إلـيه، واستسلـم له، واصبر علـى ما نابك فـيه. قوله: وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ يقول: واعبده شكرا منك له علـى ما أنعم به علـيك. قوله: وكَفَـى بِهِ بِذُنُوبِ عبـادِهِ خَبِـيرا يقول: وحسبك بـالـحي الذي لا يـموت خابرا بذنوب خـلقه، فإنه لا يخفـى علـيه شيء منها، وهو مـحصٍ جميعها علـيهم حتـى يجازيهم بها يوم القـيامة.

٥٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ الرّحْمَـَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً }.

يقول تعالـى ذكره: وَتَوَكّلَ عَلـى الـحَيّ الّذهي لا يَـمُوتُ الّذِي خَـلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَمَا بَـيْنَهُما فِـي سَتّةِ أيّامٍ فقال: وَما بَـيْنَهُما، وقد ذكر السموات والأرض، والسموات جماع، لأنه وجه ذلك إلـى الصنفـين والشيئين، كما قال القطامي:

ألَـمْ يَحْزُنْكَ أنّ حِبـالَ قَـيْسٍوَتَغْلِبَ قَدْ تَبـايَنَتا انْقِطاعا

يريد: وحبـال تغلب فثنى، والـحبـال جمع، لأنه أراد الشيئين والنوعين.

و قوله: فِـي سِتّةِ أيّامٍ

قـيـل: كان ابتداء ذلك يوم الأحد، والفراغ يوم الـجمعة ثُمّ اسْتَوَى عَلـى الْعَرْشِ الرّحمنُ يقول: ثم استوى علـى العرش الرحمن وعلا علـيه، وذلك يوم السبت فـيـما قـيـل.

و قوله: فـاسأَلْ بِهِ خَبِـيرا يقول: فـاسأل يا مـحمد خبـيرا بـالرحمن، خبـيرا بخـلقه، فإنه خالق كلّ شيء، ولا يخفـى علـيه ما خـلق. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٧٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله فـاسأَلْ بِهِ خَبِـيرا قال: يقول لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم : إذا أخبرتك شيئا، فـاعلـم أنه كما أخبرتك، أنا الـخبـير والـخبـير فـي قوله: فـاسأَلْ بِهِ خَبِـيرا منصوب علـى الـحال من الهاء التـي فـي قوله به.

٦٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرّحْمَـَنِ قَالُواْ وَمَا الرّحْمَـَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً }.

يقول تعالـى ذكره: وإذا قـيـل لهؤلاء الذين يعبدون من دون اللّه ما لا ينفعهم ولا يضرّهم: اسْجُدُوا لِلرّحْمَنِ: أي اجعلوا سجودكم للّه خالصا دون الاَلهة والأوثان، قالوا: أنَسْجُدُ لِـمَا تَأمُرُنَا.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: لـمَا تَأْمُرُنا بـمعنى: أنسجد نـحن يا مـحمد لـما تأمرنا أنت أن نسجد له؟ وقرأته عامة قرّاء الكوفة: (لـمَا يَأْمُرُنا) بـالـياء، بـمعنى: أنسجد لـما يأمر الرحمن؟. وذكر بعضهم أن مُسيـلـمة كان يُدعى الرحمن، فلـما قال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم : اسجدوا للرحمن، قالوا: أنسجد لـما يأمرنا رحمن الـيـمامة؟ يعنون مُسَيـلـمة بـالسجود له.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك، أنهما قراءتان مستفـيضتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحد منهما علـماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.

و قوله: وَزَادَهُمْ نُفُورا يقول: وزاد هؤلاء الـمشركين قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن من إخلاص السجود للّه، وإفراد اللّه بـالعبـادة بعدا مـما دعوا إلـيه من ذلك فرارا.

٦١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تَبَارَكَ الّذِي جَعَلَ فِي السّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مّنِيراً }.

يقول تعالـى ذكره: تقدّس الربّ الذي جعل فـي السماء بروجا و يعني بـالبروج: القصور، فـي قول بعضهم. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٧١ـ حدثنا مـحمد بن العلاء ومـحمد بن الـمثنى وسلم بن جنادة، قالوا: حدثنا عبد اللّه بن إدريس، قال: سمعت أبـي، عن عطية بن سعد، فـي قوله تَبـارَكَ الّذِي جَعَلَ فِـي السّماءِ بُرُوجا قال: قصورا فـي السماء، فـيها الـحرس.

٢٠٠٧٢ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنـي أبو معاوية، قال: ثنـي إسماعيـل، عن يحيى بن رافع، فـي قوله تَبـارَكَ الّذِي جَعَلَ فِـي السّماءِ بُرُوجا قال: قصورا فـي السماء.

٢٠٠٧٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيـم جَعَلَ فِـي السّماء بُرُوجا قال: قصورا فـي السماء.

٢٠٠٧٤ـ حدثنـي إسماعيـل بن سيف، قال: ثنـي علـيّ بن مسهرٍ، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح، فـي قوله تَبـارَكَ الّذِي جَعَلَ فِـي السّماء بُرُوجا قال: قصورا فـي السماء فـيها الـحرس.

وقال آخرون: هي النـجوم الكبـار. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٧٥ـ حدثنـي ابن الـمثنى، قال: حدثنا يعلـى بن عبـيد، قال: حدثنا إسماعيـل، عن أبـي صالـح تَبـارَكَ الّذي جَعَلَ فِـي السّماءِ بُرُوجا قال: النـجوم الكبـار.

٢٠٠٧٦ـ قال: ثنا الضحاك ، عن مخـلد، عن عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قال: الكواكب.

٢٠٠٧٧ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله بُرُوجا قال: البروج: النـجوم.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: هي قصور فـي السماء، لأن ذلك فـي كلام العرب وَلَوْ كُنْتُـمْ فِـي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ وقول الأخطل:

كأنّهَا بُرْجُ رُوميّ يُشَيّدُهُبـانٍ بِحِصّ وآجُرَ وأحْجارِ

 يعني بـالبرج: القصر.

 قوله: وَجَعَلَ فـيها سِرَاجا اختلف القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: وَجَعَلَ فِـيها سرَاجا علـى التوحيد، ووجهوا تأويـل ذلك إلـى أنه جعل فـيها الشمس، وهي السراج التـي عنـي عندهم ب قوله: وَجَعَلَ فِـيها سراجا. كما:

٢٠٠٧٨ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله وَجَعَلَ فِـيها سِرَاجا وَقَمَرا مُنِـيرا قال: السراج: الشمس.

وقرأته عامة قرّاء الكوفـيـين: (وَجَعَلَ فِـيها سُرُجا) علـى الـجماع، كأنهم وجهوا تأويـله: وجعل فـيها نـجوما وقَمَرا مُنِـيرا وجعلوا النـجوم سُرُجا إذ كان يُهتدى بها.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان فـي قَرَأَةِ الأمصار، لكل واحدة منهما وجه مفهوم، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.

و قوله: وَقَمَرا مُنِـيرا يعني بـالـمنـير: الـمضيء.

٦٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّيْلَ وَالنّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذّكّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: جَعَلَ اللّـيْـلَ والنّهارَ خِـلْفَةً فقال بعضهم: معناه: أن اللّه جعل كل واحد منهما خـلفـا من الاَخر، فـي أن ما فـات أحدهما من عمل يعمل فـيه للّه، أدرك قضاؤه فـي الاَخر. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقـيق قال: جاء رجل إلـى عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه، فقال: فـاتتنـي الصلاة اللـيـلة، فقال: أدرك ما فـاتك من لـيـلتك فـي نهارك، فإن اللّه جعل اللـيـل والنهار خـلفة لـمن أراد أن يذّكّر، أو أراد شُكورا.

٢٠٠٨٠ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّـيْـلَ والنّهارَ خِـلْفَةً يقول: من فـاته شيء من اللـيـل أن يعمله أدركه بـالنهار، أو من النهار أدركه بـاللـيـل.

٢٠٠٨١ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله جَعَلَ اللّـيْـلَ والنّهارَ خِـلْفَةً قال: جعل أحدهما خـلفـا للاَخر، إن فـات رجلاً من النهار شيء أدركه من اللـيـل، وإن فـاته من اللـيـل أدركه من النهار.

وقال آخرون: بل معناه أنه جعل كل واحد منهما مخالفـا صاحبه، فجعل هذا أسود وهذا أبـيض. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله اللّـيْـلَ والنّهارَ خِـلْفَةً قال: أسود وأبـيض.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، مثله.

حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا يحيى بن يـمان، قال: حدثنا سفـيان، عن عمر بن قـيس بن أبـي مسلـم الـماصر، عن مـجاهد وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّـيْـلَ والنّهارَ خِـلْفَةً قال: أسود وأبـيض.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن كل واحد منهما يخـلف صاحبه، إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٨٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا قـيس، عن عمر بن قـيس الـماصر، عن مـجاهد ، قوله جَعَلَ اللّـيْـلَ والنّهارَ خِـلْفَةً هذا يخـلف هذا، وهذا يخـلف هذا.

٢٠٠٨٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّـيْـلَ وَالنّهارَ خِـلْفَةً قال: لو لـم يجعلهما خـلفة لـم يدر كيف يعمل، لو كان الدهر لـيلاً كله كيف يدري أحد كيف يصوم، أو كان الدهر نهارا كله كيف يدري أحد كيف يصلـي. قال: والـخـلفة: مختلفـان، يذهب هذا ويأتـي هذا، جعلهما اللّه خـلفة للعبـاد، وقرأ لِـمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ أوْ أرَادَ شُكُورا والـخـلفة: مصدر، فلذلك وحدت، وهي خبر عن اللـيـل والنهار والعرب تقول: خـلف هذا من كذا خـلفة، وذلك إذا جاء شيء مكان شيء ذهب قبله، كما قال الشاعر:

وَلهَا بـالـمَاطِرُونَ إذَاأكَلَ النّـمْلُ الّذِي جَمَعَا

خِـلْفَةٌ حتـى إذَا ارْتَبَعَتْسَكَنَتْ مِنْ جِلّقٍ بِـيَعَا

وكما قال زهيَر:

بِهَا العَيْنُ والاَرَامُ يَـمْشِينَ خِـلْفَةًوأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلّ مَـجْثَمِ

 يعني ب قوله: يـمشين خـلفة: تذهب منها طائفة، وتـخـلف مكانها طائفة أخرى. وقد يحتـمل أن زُهَيرا أراد ب قوله: خـلفة: مختلفـات الألوان، وأنها ضروب فـي ألوانها وهيئاتها. ويحتـمل أن يكون أراد أنها تذهب فـي مشيها كذا، وتـجيء كذا.

وقوله لـمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ

يقول تعالـى ذكره: جعل اللـيـل والنهار، وخـلوف كل واحد منهما الاَخر حجة وآية لـمن أراد أن يذكّر أمر اللّه ، فـينـيب إلـى الـحق أوْ أرَادَ شُكُورا أو أراد شكر نعمة اللّه التـي أنعمها علـيه فـي اختلاف اللـيـل والنهار.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٨٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله أو أرَادَ شُكُورا قال: شكر نعمة ربه علـيه فـيهما.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، قوله لِـمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ ذاك آية له أوْ أرَادَ شُكُورا قال: شكر نعمة ربه علـيه فـيهما.

واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: يَذّكّرَ فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: يَذّكّرَ مشددة، بـمعنى يتذكر. وقرأه عامة قرّاء الكوفـيـين: (يَذْكُرَ) مخففة وقد يكون التشديد والتـخفـيف فـي مثل هذا بـمعنى واحد. يقال: ذكرت حاجة فلان وتذكرتها.

والقول فـي ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب فـيهما.

٦٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَعِبَادُ الرّحْمَـَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً }.

يقول تعالـى ذكره: وَعِبـادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا بـالـحلـم والسكينة والوقار غير مستكبرين، ولا متـجبّرين، ولا ساعين فـيها بـالفساد ومعاصي اللّه .

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل، غير أنهم اختلفوا، فقال بعضهم: عنى ب قوله: يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا أنهم يـمشون علـيها بـالسكينة والوقار. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٨٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد الّذِينَ يَـمْشُونَ عَلـى الأرْض هَوْنا قال: بـالوقار والسكينة.

٢٠٠٨٧ـ قال: ثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي الوضاح، عن عبد الكريـم، عن مـجاهد يَـمْشُونَ عَلـى الأرْض هَوْنا قال: بـالـحلـم والوقار.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نَـجِيح، عن مـجاهد ، قوله يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: بـالوقار والسكينة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، مثله.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا بـالوقار والسكينة.

٢٠٠٨٨ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد وَعبد الرحمنِ الّذِينَ يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قالا: بـالسكينة والوقار.

٢٠٠٨٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن شريك، عن جابر، عن عمار، عن عكرمة، فـي قوله يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: بـالوقار والسكينة.

قال: ثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد ، مثله.

٢٠٠٩٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن أيوب، عن عمرو الـملائي يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: بـالوقار والسكينة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يـمشون علـيها بـالطاعة والتواضع. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٩١ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله الّذِينَ يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا بـالطاعة والعفـاف والتواضع.

٢٠٠٩٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله وَعِبـادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَـمْشُونَ عَل الأرْضِ هَوْنا قال: يـمشون علـى الأرض بـالطاعة.

٢٠٠٩٣ـ حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنـي عمي، عبد اللّه بن وهب، قال: كتب إلـيّ إبراهيـم بن سويد، قال: سمعت زيد بن أسلـم يقول: التـمست تفسير هذه الاَية الّذِينَ يَـمْشُونَ علـى الأرْضِ هَوْنا فلـم أجدها عند أحد، فأتـيت فـي النوم، فقـيـل لـي: هم الذين لا يريدون يفسدون فـي الأرض.

٢٠٠٩٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن أسامة بن زيد بن أسلـم، عن أبـيه، قال: لا يفسدون فـي الأرض.

٢٠٠٩٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله وَعِبـادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: لا يتكبرون علـى الناس، ولا يتـجبرون، ولا يفسدون. وقرأ قول اللّه : تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَـجْعَلُها للّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فـي الأرْضِ وَلا فَسادا، وَالعاقِبَةُ للْـمُتّقِـينَ.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يـمشون علـيها بـالـحلـم لا يجهلون علـى من جهل علـيهم. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٩٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن أبـي الأشهب، عن الـحسن فـي: يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: حلـماء، وإن جُهِل علـيهم لـم يجهلوا.

٢٠٠٩٧ـ حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين، عن يزيد، عن عكرِمة يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: حلـماء.

٢٠٠٩٨ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله يَـمْشُونَ عَلـى الأرْضِ هَوْنا قال: علـماء حلـماء لا يجهلون.

و قوله: وَإذَا خاطَبَهُمُ الـجاهِلُونَ قالُوا سَلاما يقول: وإذا خاطبهم الـجاهلون بـاللّه بـما يكرهونه من القول، أجابوهم بـالـمعروف من القول، والسداد من الـخطاب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠٠٩٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو الأشهب، عن الـحسن وَإذَا خاطَبَهُمُ... الاَية، قال: حلـماء، وإن جُهل علـيهم لـم يجهلوا.

٢٠١٠٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن يحيى بن الـمختار، عن الـحسن، فـي قوله وَإذَا خاطَبَهُمُ الـجاهِلُونَ قالُوا سَلاما قال: إن الـمؤمنـين قوم ذُلُلٌ، ذلّت منهم واللّه الأسماع والأبصار والـجوارح، حتـى يحسبهم الـجاهل مرضى، وإنهم لأصحاء القلوب، ولكن دخـلهم من الـخوف ما لـم يدخـل غيرهم، ومنعهم من الدنـيا علـمهم بـالاَخرة، فقالوا: الـحمد للّه الذي أذهب عنا الـحزن، واللّه ما حزنهم حزن الدنـيا، ولا تعاظم فـي أنفسهم ما طلبوا به الـجنة، أبكاهم الـخوف من النار، وإنه من لـم يتعزّ بعزاء اللّه ، تَقطّع نفسه علـى الدنـيا حسرات، ومن لـم ير للّه علـيه نعمة إلا فـي مطعم ومشرب، فقد قل علـمه، وحضر عذابه.

٢٠١٠١ـ حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَإذَا خاطَبَهُمُ الـجاهِلُونَ قالُوا سَلاما قال: سدادا.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي الوضاح، عن عبد الكريـم، عن مـجاهد وَإذَا خاطَبَهُمُ الـجاهِلُونَ قالُوا سَلاما قال: سَدَادا من القول.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوريّ عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، مثله.

٢٠١٠٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد وَإذَا خاطَبَهُمُ الـجاهِلُونَ قَالُوا سَلاما حلـماء.

٢٠١٠٣ـ قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنا يحيى بن يـمان، عن أبـي الأشهب، عن الـحسن، قال: حلـماء لا يجهلون، وإن جُهِل علـيهم حلـموا ولـم يسفهوا. هذا نهارهم فكيف لـيـلهم؟ خير لـيـل صفوا أقدامهم، وأجْرَوا دموعهم علـى خدودهم يطلبون إلـى اللّه جل ثناؤه فـي فكاك رقابهم.

قال: ثنا الـحسن، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبـادة، عن الـحسن، قال: حلـماء لا يجهلون وإن جهل علـيهم حلـموا.

٦٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجّداً وَقِيَاماً }.

يقول تعالـى ذكره: والذين يبـيتون لربهم يصلون للّه، يراوحون بـين سجود فـي صلاتهم وقـيام.

و قوله: وَقِـياما جمع قائم، كما الصيام جمع صائم.

٦٥

وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا اصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنّـمَ

يقول تعالـى ذكره: والذين يدعون اللّه أن يصرف عنهم عقابه وعذابه حذرا منه ووجلاً.

و قوله: إنّ عَذَابها كانَ غَرَاما يقول: إن عذاب جهنـم كان غراما ملـحّا دائما لازما غير مفـارق من عذّب به من الكفـار، ومهلكا له. ومنه قولهم: رجل مُغْرم، من الغُرْم والدّين. ومنه قـيـل للغريـم غَريـم لطلبه حقه، وإلـحاحه علـى صاحبه فـيه. ومنه قـيـل للرجل الـمولع للنساء: إنه لـمغرَم بـالنساء، وفلان مغرَم بفلان: إذا لـم يصبر عنه ومنه قول الأعشى:

إنْ يُعاقِبْ يَكنْ غَرَاما وَإنْ يُعْطِ جَزِيلاً فإنّهُ لا يُبـالـي

يقول: إن يعاقب يكن عقابه عقابـا لازما، لا يفـارق صاحبه مهلكا له. وقول بشر بن أبـي خازم:

يَوْمَ النّسارِ وَيَوْمَ الـجِفـارِ كانَ عِقابـا وكانَ غَرَاما

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٠٤ـ حدثنـي علـيّ بن الـحسن اللانـي، قال: أخبرنا الـمعافـى بن عمران الـموصلـي، عن موسى بن عبـيدة، عن مـحمد بن كعب فـي قوله إنّ عَذَابها كانَ غَرَاما قال: إن اللّه سأل الكفـار عن نعمه، فلـم يردّوها إلـيه، فأغرمهم، فأدخـلهم النار.

٢٠١٠٥ـ قال: ثنا الـمعافـى، عن أبـي الأشهب، عن الـحسن، فـي قوله إن عَذَابَها بها كانَ غَرَاما قال: قد علـموا أن كلّ غريـم مفـارق غريـمه إلا غريـم جهنـم.

٢٠١٠٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله إنّ عَذَابَها كانَ غَرَاما قال: الغرام: الشرّ.

٢٠١٠٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، فـي قوله إنّ عَذَابها كانَ غَرَاما قال: لا يفـارقه.

٦٦

وقوله إنّها ساءَتْ مُسْتَقَرّا وَمُقاما يقول: إن جهنـم ساءت مستقرا ومقاما، يعني بـالـمستقرّ: القرار، وبـالـمقام: الإقامة كأن معنى الكلام: ساءت جهنـم منزلاً ومقاما. وإذا ضمت الـميـم من الـمقام فهو من الإقامة، وإذا فتـحت فهو من: قمتُ، ويقال: الـمقام إذا فتـحت الـميـم أيضا هو الـمـجلس. ومن الـمُقام بضمّ الـميـم بـمعنى الإقامة، قول سلامة بن جندل:

يَوْمانِ: يَوْمُ مُقاماتٍ وأنْدِيَةٍ وَيَوْمُ سَيْرٍ إلـى الأعْداءِ تأْوِيَبـا

ومن الـمَقام الذي بـمعنى الـمـجلس، قول عباس بن مرداس:

فَأتّـي ما وأيّكَ كانَ شَرّا فَقِـيدَ إلـى الـمَقامَة لا يَرَاها

 يعني : الـمـجلس.

٦٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }.

يقول تعالـى ذكره: والذين إذا أنفقوا أموالهم لـم يسرفوا فـي إنفـاقها.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي النفقة التـي عناها اللّه فـي هذا الـموضع، وما الإسراف فـيها والإقتار. فقال بعضهم: الإسرافُ ما كان من نفقة فـي معصية اللّه ، وإن قلّت. قال: وإياها عنـي اللّه ، وسماها إسرافـا قالوا: والإقتار الـمنع من حقّ اللّه . ذكر من قال ذلك:

٢٠١٠٨ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرفُوا وَلَـمْ يَقْتُرُوا، وكانَ بـينَ ذلك قَوَاما قال: هم الـمؤمنون لا يسرفون فـينفقون فـي معصية اللّه ، ولا يُقترون فـيـمنعون حقوق اللّه تعالـى.

٢٠١٠٩ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن عثمان بن الأسود، عن مـجاهد ، قال: لو أنفقت مثل أبـي قُبـيس ذهبـا فـي طاعة اللّه ما كان سرفـا، ولو أنفقت صاعا فـي معصية اللّه كان سرفـا.

٢٠١١٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرِفُوا وَلَـمْ يَقْتُروا قال: فـي النفقة فـيـما نهاهم وإن كان درهما واحدا، ولـم يقتروا ولـم يُقَصّرُوا عن النفقة فـي الـحقّ.

٢٠١١١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرفوا وَلَـمْ يَقْتُرُوا وكانَ بـينَ ذلكَ قَوَاما قال: لـم يسرفوا فـينفقوا فـي معاصي اللّه . كلّ ما أنفق فـي معصية اللّه ، وإن قلّ فهو إسراف، ولـم يقتروا فـيـمسكوا عن طاعة اللّه . قال: وما أُمْسِكَ عن طاعة اللّه وإن كثر فهو إقتار.

٢٠١١٢ـ قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي إبراهيـم بن نشيط، عن عمر مولـى غُفرة أنه سئل عن الإسراف ما هو؟ قال: كلّ شي أنفقته فـي غير طاعة اللّه فهو سرف.

وقال آخرون: السرف: الـمـجاوزة فـي النفقة الـحدّ والإقتار: التقصير عن الذي لا بدّ منه. ذكر من قال ذلك:

٢٠١١٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قوله وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرِفُوا وَلَـمْ يَقْتُرُوا قال: لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف.

٢٠١١٤ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: حدثنا مـحمد بن يزيد بن خنـيس أبو عبد اللّه الـمخزومي الـمكي، قال: سمعت وهيب بن الورد أبـي الورد مولـى بنـي مخزوم، قال: لقـي عالـم عالـما هو فوقه فـي العلـم، فقال: يرحمك اللّه أخبرنـي عن هذا البناء الذي لا إسراف فـيه ما هو؟ قال: هو ما سترك من الشمس، وأكنّك من الـمطر، قال: يرحمك اللّه ، فأخبرنـي عن هذا الطعام الذي نصيبه لا إسراف فـيه ما هو؟ قال: ما سدّ الـجوع ودونَ الشبع، قال: يرحمك اللّه ، فأخبرنـي عن هذا اللبـاس الذي لا إسراف فـيه ما هو؟ قال: ما ستر عورتك، وأدفأك من البرد.

٢٠١١٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي عبد الرحمن بن شريح، عن يزيد بن أبـي حبـيب فـي هذه الاَية وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا... الاَية، قال: كانوا لا يـلبسون ثوبـا للـجمال، ولا يأكلون طعاما للذّة، ولكن كانوا يريدون من اللبـاس ما يسترون به عورتهم، ويكتَنّون به من الـحرّ والقرّ، ويريدون من الطعام ما سدّ عنهم بـالـجوع، وقوّاهم علـى عبـادة ربهم.

٢٠١١٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريـم، عن يزيد بن مرّة الـجعفـي، قال: العلـم خير من العمل، والـحسنة بـين السيئتـين، يعني : إذا أنفقوا لـم يسرفوا ولـم يقتروا، وخير الأعمال أوساطها.

٢٠١١٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا كعب بن فروخ، قال: حدثنا قتادة ، عن مطرّف بن عبد اللّه ، قال: خير هذه الأمور أوساطها، والـحسنة بـين السيئتـين. فقلت لقتادة : ما الـحسنة بـين السيئتـين؟ فقال: الّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرِفُوا وَلَـمْ يَقْتُرُوا... الاَية.

وقال آخرون: الإسرافُ هو أن تأكل مال غيرك بغير حقّ. ذكر من قال ذلك:

٢٠١١٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا سالـم بن سعيد، عن أبـي مَعْدان، قال: كنت عند عون بن عبد اللّه بن عتبة، فقال: لـيس الـمسرف من يأكل ماله، إنـما الـمسرف من يأكل مال غيره.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك، قول من قال: الإسراف فـي النفقة الذي عناه اللّه فـي هذا الـموضع: ما جاوز الـحدّ الذي أبـاحه اللّه لعبـاده إلـى ما فوقه، والإقتار: ما قصر عما أمر اللّه به، والقوام: بـين ذلك.

وإنـما قلنا إن ذلك كذلك، لأن الـمسرف والـمقتر كذلك ولو كان الإسراف والإقتار فـي النفقة مرخصا فـيهما ما كانا مذمومين، ولا كان الـمسرف ولا الـمقتر مذموما، لأن ما أذن اللّه فـي فعله فغير مستـحقّ فـاعله الذمّ. فإن قال قائل: فهل لذلك من حدّ معروف تبـينه لنا؟

قـيـل: نعم، ذلك مفهوم فـي كلّ شيء من الـمطاعم والـمشارب والـملابس والصدقة وأعمال البرّ وغير ذلك، نكره تطويـل الكتاب بذكر كلّ نوع من ذلك مفصلاً، غير أن جملة ذلك هو ما بـيّنا، وذلك نـحو أكل آكل من الطعام فوق الشبع ما يضعف بدنه، وينهك قواه، ويشغله عن طاعة ربه، وأداء فرائضه، فذلك من السرف، وأن يترك الأكل وله إلـيه سبـيـل حتـى يضعف ذلك جسمه، ويَنْهَك قواه، ويضعفه عن أداء فرائض عن أداء فرائض ربه، فذلك من الإقتار، وبـين ذلك القَوام علـى هذا النـحو، كلّ ما جانس ما ذكرنا. فأما اتـخاذ الثوب للـجمال، يـلبسه عند اجتـماعه مع الناس، وحضوره الـمـحافل والـجمع والأعياد، دون ثوب مهنته، أو أكله من الطعام ما قوّاه علـى عبـادة ربه، مـما ارتفع عما قد يسدّ الـجوع، مـما هو دونه من الأغذية، غير أنه لا يعين البدن علـى القـيام للّه بـالواجب معونته، فذلك خارج عن معنى الإسراف، بل ذلك من القَوام، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد أمر ببعض ذلك، وحضّ علـى بعضه، ك قوله: (ما عَلـى أحَدِكُمْ لَوِ اتّـخَذَ ثَوْبَـيْنِ. ثَوْبـا لِـمِهْنَتِهِ، وَثَوْبـا لِـجُمْعَتِهِ وَعِيدِهِ) وك قوله: (إذَا أنْعَمَ اللّه عَلـى عَبْدٍ نِعْمَةً أحَبّ أنْ يَرَى أثَرَهُ عَلَـيْهِ) ، وما أشبه ذلك من الأخبـار التـي قد بـيّناها فـي مواضعها.)

وأما قوله: وكانَ بـينَ ذلكَ قَوَاما فإنه النفقة بـالعدل والـمعروف، علـى ما قد بـيّنا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠١١٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي سلـيـمان، عن وهب بن منبه، فـي قوله وكانَ بـينَ ذلكَ قَوَاما قال: الشطر من أموالهم.

٢٠١٢٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله وكانَ بـينَ ذلكَ قَوَاما: النفقة بـالـحقّ.

٢٠١٢١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله وكانَ بـينَ ذلكَ قَوَاما قال: القوام: أن ينفقوا فـي طاعة اللّه ، ويـمسكوا عن مـحارم اللّه .

٢٠١٢٢ـ قال: أخبرنـي إبراهيـم بن نشيط، عن عمر مولـى غُفْرة، قال: قلت له: ما القَوام؟ قال: القوام: أن لا تنفق فـي غير حقّ، ولا تـمسك عن حقّ هو علـيك. والقوام فـي كلام العرب، بفتـح القاف، وهو الشيء بـين الشيئين. تقول للـمرأة الـمعتدلة الـخـلق: إنها لـحسنة القوام فـي اعتدالها، كما قال الـحُطَيئة:

طافَتْ أُمامَةُ بـالرّكبْـانِ آوِنَةًيا حُسْنَهُ مِنْ قَوَامٍ مّا وَمُنْتَقَبـا

فأما إذا كسرت القاف فقلت: إنه قِوام أهله، فإنه يعني به: أن به يقوم أمرهم وشأنهم. وفـيه لغات آخُرَ، يقال منه: هو قـيام أهله وقـيّـمهم فـي معنى قوامهم. فمعنى الكلام: وكان إنفـاقهم بـين الإسراف والإقتار قواما معتدلاً، لا مـجاوزة عن حدّ اللّه ، ولا تقصيرا عما فرضه اللّه ، ولكن عدلاً بـين ذلك علـى ما أبـاحه جلّ ثناؤه، وأذن فـيه ورخص.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: ولـم يَقْتُرُوا فقرأته عامة قرّاء الـمدينة (ولـمْ يُقْتِرُوا) بضمّ الـياء وكسر التاء من: أقتر يقتر. وقرأته عامة قرّاء الكوفـيـين وَلـمْ يَقْتُرُوا بفتـح الـياء وضمّ التاء من: قَتَر يَقْتُر. وقرأته عامة قرّاء البصرة (وَلـمْ يَقْتِروا) بفتـح الـياء وكسر التاء من قتر يقتر.

والصواب من القول فـي ذلك، أن كلّ هذه القراءات علـى اختلاف ألفـاظها لغات مشهورات فـي العرب، وقراءات مستفـيضات وفـي قرّاء الأمصار بـمعنى واحد، فبأيتها قرأ القارىء فمصيب.

وقد بـيّنا معنى الإسراف والإقتار بشواهدهما فـيـما مضى فـي كتابنا فـي كلام العرب، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. وفـي نصب القَوام وجهان: أحدهما ما ذكرت، وهو أن يجعل فـي كان اسم الإنفـاق بـمعنى: وكان إنفـاقهم ما أنفقوا بـين ذلك قواما: أي عدلاً، والاَخر أن يجعل بـين هو الاسم، فتكون وإن كانت فـي اللفظة نصبـا فـي معنى رفع، كما يقال: كان دون هذا لك كافـيا، يعني به: أقلّ من هذا كان لك كافـيا، فكذلك يكون فـي قوله: وكانَ بـينَ ذلكَ قَوَاما لأن معناه: وكان الوسط من ذلك قواما.

٦٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّه إِلَـَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّه إِلاّ بِالْحَقّ ...}.

يقول تعالـى ذكره: والذين لا يعبدون مع اللّه إلها آخر، فـيشركون فـي عبـادتهم إياه، ولكنهم يخـلصون له العبـادة ويفردونه بـالطاعة وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِـي حَرّمَ اللّه قتلها إلاّ بِـالـحَقّ إما بكفر بـاللّه بعد إسلامها، أو زنا بعد إحصانها، أو قتل نفس، فتقتل بها وَلاَ يَزْنُونَ فـيأتون ما حرّم اللّه علـيهم إتـيانه من الفروج وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يقول: ومن يأت هذه الأفعال، فدعا مع اللّه إلها آخر، وقتل النفس التـي حرّم اللّه بغير الـحقّ، وزنى يَـلْقَ أثاما يقول: يـلق من عقاب اللّه عقوبة ونكالاً، كما وصفه ربنا جلّ ثناؤه، وهو أنه يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِـيامَةِ ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا. ومن الأثام قول بَلْعَاءَ بن قـيس الكنانـي:

جَزَى اللّه ابْنَ عُرْوَةَ حيْثُ أمْسَىعُقُوقا والعُقُوقُ لَهُ أَثامُ

 يعني بـالأثام: العقاب.

وقد ذُكر أن هذه الاَية نزلت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أجل قوم من الـمشركين أرادوا الدخول فـي الإسلام، مـمن كان منه فـي شركه هذه الذنوب، فخافوا أن لا ينفعهم مع ما سلف منهم من ذلك إسلام، فـاستفتَوْا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي ذلك، فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى هذه الاَية، يعلـمهم أن اللّه قابل توبة من تاب منهم. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٢٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: ثنـي يعلـى بن مسلـم عن سعيد بن جُبـير، عن ابن عباس ، أن ناسا من أهل الشرك قَتَلُوا فأكثروا، فأتوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا: إن الذي تدعونا إلـيه الـحسن، لو تـخبرنا أن لـما عملنا كفـارة، فنزلت: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلها آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ التـي حَرّمَ اللّه إلاّ بـالـحَقّ، وَلا يَزْنُونَ، ونزلت: قُلْ يا عِبـادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا عَلـى أنْفُسِهمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه ... إلـى قوله: مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِـيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وأنْتُـمْ لا تَشْعُرُونَ قال ابن جُرَيج: وقال مـجاهد مثل قول ابن عباس سواء.

٢٠١٢٤ـ حدثنا عبد اللّه بن مـحمد الفريابـي، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي معاوية، عن أبـي عمرو الشيبـانـي، عن عبد اللّه ، قال: سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم : ما الكبـائر؟ قال: (أنْ تَدْعُوَ للّه نِدّا وَهُوَ خَـلَقَك وأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أجْلِ أنْ يأكُلَ مَعَكَ، وأَنْ تَزْنِـيَ بِحَلِـيـلَةِ جارِكَ) ، وقرأ علـينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كتاب اللّه : وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلها آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِـي حَرّمَ اللّه إلاّ بـالـحَقّ، وَلا يَزْنُونَ.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفـيان عن الأعمش ومنصور، عن أبـي وائل عن عمرو بن شُرَحْبِـيـلِ، عن عبد اللّه ، قال: قلت: يا رسول اللّه ، أيّ الذنب أعظم؟ قال: (أنْ تَـجْعَلَ للّه ندّا وَهُوَ خَـلَقَكَ) ، قلت: ثم أيّ؟ قال: (أنْ تَقْتُل وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يأكُلَ مَعَكَ) ، قلت: ثم أيّ؟ قال: (ثُمّ أنْ تُزَانِـيَ حَلِـيـلَةَ جارِكَ) ، فأنزل تصديق قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : (وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلها آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ التـي حَرّمَ اللّه إلاّ بـالـحَقّ، وَلا يَزْنُونَ) ... الاَية.

حدثنا سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: حدثنا علـيّ بن قادم، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر الهمدانـي، عن منصور عن أبـي وائل، عن أبـي ميسرة، عن عبد اللّه بن مسعود، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، نـحوه.

حدثنـي عيسى بن عثمان بن عيسى الرملـيّ، قال: ثنـي عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن سفـيان، عن عبد اللّه قال: جاء رجل إلـى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه أيّ الذنب أكبر؟ ثم ذكر نـحوه.

حدثنـي أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا عامر بن مدرك، قال: حدثنا السريّ، يعني ابن إسماعيـل قال: حدثنا الشعبـيّ، عن مسروق، قال: قال عبد اللّه : خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم، فـاتبعته، فجلس علـى نَشَز من الأرض، وقعدت أسفل منه، ووجهي حيال ركبتـيه، فـاغتنـمت خـلوته، وقلت: بأبـي وأمي يا رسول اللّه ، أيّ الذنوب أكبر؟ قال: (أنْ تَدْعُوَ للّه نِدّا وَهُوَ خَـلَقَكَ) . قلت: ثم مَهْ؟ قال: (أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكِ كَرَاهِيَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ) . قلت: ثم مَهْ؟ قال: (أنْ تُزانِـيَ حَلِـيـلَةَ جارِكَ) ، ثم تلا هذه الاَية: (وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلها آخَرَ) ... إلـى آخر الاَية.

٢٠١٢٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا طَلْق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، قال: ثنـي سعيد بن جُبـير، أو حُدثت عن سعيد بن جُبـير، أن عبد الرحمن بن أبْزى أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتـين الاَيتـين التـي فـي النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمنا مُتَعَمّدا... إلـى آخر الاَية، والاَية التـي فـي الفرقان وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَـلْقَ أثاما... إلـى ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا قال ابن عباس : إذا دخـل الرجل فـي الإسلام، وعلـم شرائعه وأمره، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فلا توبة له. والتـي فـي الفرقان، لـما أنزلت قال الـمشركون من أهل مكة: فقد عدلنا بـاللّه ، وقتلنا النفس التـي حرّم اللّه بغير الـحقّ، فما ينفعنا الإسلام؟ قال: فنزلت إلاّ مَنْ تابَ قال: فمن تاب منهم قُبل منه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، قال: ثنـي سعيد بن جُبـير، أو قال: حدثنـي الـحكم عن سعيد بن جُبـير، قال: أمرنـي عبد الرحمن بن أبزى، فقال: سل ابن عباس ، عن هاتـين الاَيتـين، ما أمرهما عن الاَية التـي فـي الفرقان وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلَهَا آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِـي حَرّمَ اللّه ... الاَية، والتـي فـي النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّـمُ. فسألت ابن عباس عن ذلك، فقال: لـما أنزل اللّه التـي فـي الفرقان، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس التـي حرّم اللّه ، ودعونا مع اللّه إلها آخر، فقال: إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صالِـحا... الاَية. فهذه لأولئك. وأما التـي فـي النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّـمُ... الاَية، فإن الرجل إذا عرف الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فجزاؤه جهنـم، فلا توبة له. فذكرته لـمـجاهد ، فقال: إلا من ندم.

حدثنا مـحمد بن وعوف الطائي، قال: حدثنا أحمد بن خالد الذهنـيّ، قال: حدثنا شيبـان، عن منصور بن الـمعتـمر، قال: ثنـي سعيد بن جُبـير، قال لـي سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى: سل ابن عباس عن هاتـين الاَيتـين عن قول اللّه : وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلَها آخرَ... إلـى مَنْ تابَ، وعن قوله وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا... إلـى آخر الاَية. قال: فسألت عنها ابن عباس ، فقال: أنزلت هذه الاَية فـي الفرقان بـمكة إلـى قوله ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا فقال الـمشركون: فما يغنـي عنا الإسلام، وقد عدلنا بـاللّه ، وقتلنا النفس التـي حرّم اللّه ، وأتـينا الفواحش، قال: فأنزل اللّه إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صَالِـحا... إلـى آخر الاَية، قال: وأما من دخـل فـي الإسلام وعقَله، ثم قتل، فلا توبة له.

٢٠١٢٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جُبـير، عن ابن عباس ، قال فـي هذه الاَية وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلَها آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ التـي حَرّم اللّه إلاّ بـالـحَقّ... الاَية، قال: نزلت فـي أهل الشرك.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن سعيد بن جُبـير، قال: أمرنـي عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس عن هذه الاَية وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلَها آخَرَ، فذكر نـحوه.

٢٠١٢٧ـ حدثنـي عبد الكريـم بن عمير، قال: حدثنا إبراهيـم بن الـمنذر، قال: حدثنا عيسى بن شعيب بن ثَوْبـان، مولًـى لبنـي الديـل من أهل الـمدينة، عن فُلَـيح الشماس، عن عبـيد بن أبـي عبـيد، عن أبـي هريرة، قال: صلـيت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العَتَـمة، ثم انصرفت فإذا امرأة عند بـابـي، ثم سلـمت، ففتـحت ودخـلت، فبـينا أنا فـي مسجدي أصلـي، إذ نقرت البـاب، فأذنت لها، فدخـلت فقالت: إنـي جئتك أسألك عن عمل عملت، هل لـي من توبة؟ فقالت: إنـي زنـيت وولدتُ، فقتلته، فقلت: لا، ولا نعمت العين ولا كرامة. فقامت وهي تدعو بـالـحسرة تقول: يا حسرتاه، أخُـلِقَ هذا الـحسن للنار؟ قال: ثم صلـيت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصبح من تلك اللـيـلة، ثم جلسنا ننتظر الإذن علـيه، فأذن لنا، فدخـلنا، ثم خرج من كان معي، وتـخـلفت، فقال: (ما لَكَ يا أبـا هُرَيْرَةَ، ألَكَ حاجَةٌ؟) فقلت له: يا رسول اللّه صلـيت معك البـارحة، ثم انصرفت. وقصصت علـيه ما قالت الـمرأة، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (ما قُلْتَ لَهَا؟) قال: قلت لها: لا واللّه ولا نعمت العين ولا كرامة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (بئْسَ ما قُلْتَ أمَا كُنْتَ تَقْرأُ هَذِهِ الاَيَةَ) : (وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلَهَا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ التـي حَرّمَ اللّه إلاّ بـالـحَقّ... الاَية إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا) فقال أبو هريرة: فخرجت، فلـم أترك بـالـمدينة حصنا ولا دارا إلا وقـفت علـيه، فقلت: إن تكن فـيكم الـمرأة التـي جاءت أبـا هريرة اللـيـلة، فلتأتنـي ولتبشر فلـما صلـيت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم العشاء، فإذا هي عند بـابـي، فقلت: أبشري، فإنـي دخـلت علـى النبي ، فذكرت له ما قلتِ لـي، وما قلت لك، فقال: (بئس ما قلت لها، أما كنت تقرأ هذه الاَية؟) فقرأتها علـيها، فخرّت ساجدة، فقالت: الـحمد للّه الذي جعل مَخْرجا وتوبة مـما عملت، إن هذه الـجارية وابنها حرّان لوجه اللّه ، وإنـي قد تبت مـما عملت.

٢٠١٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا جعفر بن سلـيـمان، عن عمرو بن مالك، عن أبـي الـجوزاء، قال: اختلفت إلـى ابن عباس ثلاث عشرة سنة، فما شيء من القرآن إلا سألته عنه، ورسولـي يختلف إلـى عائشة، فما سمعته ولا سمعت أحدا من العلـماء يقول: إن اللّه يقول لذنب: لا أغفره.

وقال آخرون: هذه الاَية منسوخة بـالتـي فـي النساء. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٢٩ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي الـمغيرة بن عبد الرحمن الـحرّانـي، عن أبـي الزناد، عن خارجة بن زيد أنه دخـل علـى أبـيه وعنده رجلٍ من أهل العراق، وهو يسأله عن هذه الاَية التـي فـي تبـارك الفرقان، والتـي فـي النساء وَمَنْ يَقتُلْ مُؤمِنا مُتَعَمّدا فقال زيد بن ثابت: قد عرفت الناسخة من الـمنسوخة، نسختها التـي فـي النساء بعدها بستة أشهر.

٢٠١٣٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال الضحاك بن مزاحم: هذه السورة بـينها وبـين النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا ثمان حجج. وقال ابن جُرَيج: وأخبرنـي القاسم بن أبـي بزة أنه سأل سعيد بن جُبـير: هل لـمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ فقال: لا، فقرأ علـيه هذه الاَية كلها، فقال سعيد بن جُبـير: قرأتها علـى ابن عباس كما قرأتها علـيّ، فقال: هذه مكية، نسختها آية مدنـية، التـي فـي سورة النساء. وقد أتـينا علـى البـيان عن الصواب من القول فـي هذه الاَية التـي فـي سورة النساء بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وبنـحو الذي قلنا فـي الأثام من القول، قال أهل التأويـل، إلا أنهم قالوا: ذلك عقاب يعاقب اللّه به من أتـى هذه الكبـائر بواد فـي جهنـم يُدعى أثاما. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٣١ـ حدثنـي أحمد بن الـمقدام، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت أبـي يحدّث، عن قتادة ، عن أبـي أيوب الأزدي، عن عبد اللّه بن عمرو، قال: الأثام: وادٍ فـي جهنـم.

٢٠١٣٢ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله اللّه : يَـلْقَ أثاما قال: واديا فـي جهنـم.

٢٠١٣٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين، عن يزيد، عن عكرِمة، فـي قوله وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَـلْقَ أثاما قال: واديا فـي جهنـم فـيه الزناة.

٢٠١٣٤ـ حدثنـي العباس بن أبـي طالب، قال: حدثنا مـحمد بن زياد، قال: حدثنا شرقِـيّ بن قطاميّ، عن لقمان بن عامر الـخزاعيّ، قال: جئت أبـا أُمامة صديّ بن عجلان البـاهلـي، فقلت: حدثنـي حديثا سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال: فدعا لـي بطعام، ثم قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لَوْ أنّ صَخْرَةً زِنَةَ عَشْرِ عَشْرَاوَاتٍ قُذِفَ بِها مِنْ شَفِـيرِ جَهَنّـمَ ما بَلَغَتْ قَعْرَها خَمْسِينَ خَرِيفـا، ثُمّ تَنْتَهي إلـى غَيَ وأثامٍ) . قلت: وما غيّ وأثام؟ قال: بِئْرَانِ فِـي أسْفَلِ جَهَنّـمَ يَسِيـلُ فِـيهِما صَدِيدُ أهْلِ النّارِ، وهما اللذان ذكر اللّه فـي كتابه أضَاعُوا الصّلاَةَ وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا، وقوله فـي الفرقان: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَـلْقَ أثاما.

٢٠١٣٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: يَـلْقَ أثاما قال: الأثام الشرّ، وقال: سيكفـيك ما وراء ذلك: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ، ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهَانا.

٢٠١٣٦ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، فـي قوله: يَـلْقَ أثاما قال: نكالاً قال: قال: إنه وادٍ فـي جهنـم.

٢٠١٣٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن هشيـم، قال: أخبرنا زكريا بن أبـي مريـم قال: سمعت أبـا أمامة البـاهلـي يقول: إن ما بـين شفـير جهنـم إلـى قعرها مسيرة سبعين خريفـا بحجر يهوي فـيها أو بصخرة تهوي، عظمها كعشر عشراوات سمان، فقال له رجل: فهل تـحت ذلك من شيء؟ قال: نعم غيّ وأثام.

٦٩

 قوله: يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِـيامَةِ. اختلفت القرّاء فـي قراءته، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم يُضَاعَفْ جزما

ويَخْـلُدْ جزما. وقرأه عاصم: يضَاعَفُ رفعا وَيَخْـلُدُ رفعا كلاهما علـى الابتداء، وأن الكلام عنده قد تناهى عند: يَـلْقَ أثاما ثم ابتدأ قوله: يُضَاعَفُ لهُ العَذَابُ.

والصواب من القراءة عندنا فـيه: جزم الـحرفـين كلـيهما: يضاعفْ، ويخـلدْ، وذلك أنه تفسير للأثام لا فعل له، ولو كان فعلاً له كان الوجه فـيه الرفع، كما قال الشاعر:

مَتـى تأْتِهِ تَعْشُو إلـى ضَوْءِ نارِهِتَـجِدْ خيرَ نارٍ عِنْدَها خَيْرُ مُوقِدِ

فرفع تعشو، لأنه فعل لقوله تأته، معناه: متـى تأته عاشيا.

و قوله: ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا ويبقـى فـيه إلـى ما لا نهاية فـي هوان.

٧٠

و قوله: إلاّ مَنْ تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا

يقول تعالـى ذكره: ومن يفعل هذه الأفعال التـي ذكرها جل ثناؤه يـلقَ أثاما إلاّ مَنْ تابَ يقول: إلا من راجع طاعة اللّه تبـارك وتعالـى بتركه ذلك، وإنابته إلـى ما يرضاه اللّه وآمَنَ يقول: وصدق بـما جاء به مـحمد نبـيّ اللّه وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا يقول: وعمل بـما أمره اللّه من الأعمال، وانتهى عما نهاه اللّه عنه.)

 قوله: فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّه سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فأولئك يبدّل اللّه بقبـائح أعمالهم فـي الشرك، مـحاسن الأعمال فـي الإسلام، فـيبدله بـالشرك إيـمانا، وبقـيـل أهل الشرك بـاللّه قـيـل أهل الإيـمان به، وبـالزناعفة وإحصانا. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٣٨ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّه سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: هم الـمؤمنون كانوا قبل إيـمانهم علـى السيئات، فرغب اللّه بهم عن ذلك، فحوّلهم إلـى الـحسنات، وأبدلهم مكان السيئات حسنات.

٢٠١٣٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا... إلـى آخر الاَية، قال: هم الذي يتوبون فـيعملون بـالطاعة، فـيبدّل اللّه سيئاتهم حسنات حين يتوبون.

٢٠١٤٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن سعيد، قال: نزلت وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلَها آخَرَ... إلـى آخر الاَية، فـي وَحْشِيّ وأصحابه، قالوا: كيف لنا بـالتوبة، وقد عبدنا الأوثان، وقتلنا الـمؤمنـين، ونكحنا الـمشركات، فأنزل اللّه فـيهم: إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا، فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّه سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، فأبدلهم اللّه بعبـادة الأوثان عبـادة اللّه ، وأبدلهم بقتالهم مع الـمشركين، قتالاً مع الـمسلـمين للـمشركين، وأبدلهم بنكاح الـمشركات نكاح الـمؤمنات.

٢٠١٤١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قال ابن عباس ، فـي قوله: فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّه سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: بـالشرك إيـمانا، وبـالقتل إمساكا، وبـالزنا إحصانا.

٢٠١٤٢ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلهَا آخَرَ وهذه الاَية مكية نزلت بـمكة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يعني : الشرك، والقتل، والزنا جميعا. لـمّا أنزل اللّه هذه الاَية قال الـمشركون من أهل مكة: يزعم مـحمد أن من أشرك وقتل وزنى فله النار، ولـيس له عند اللّه خير، فأنزل اللّه : إلاّ مَنْ تابَ من الـمشركين من أهل مكة، فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّه سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ يقول: يبدّل اللّه مكان الشرك والقتل والزنا: الإيـمان بـاللّه ، والدخول فـي الإسلام، وهو التبديـل فـي الدنـيا. وأنزل اللّه فـي ذلك. يا عِبـادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا علـى أنْفُسِهِمْ يعني هم بذلك لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه ، إنّ اللّه يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا يعني ما كان فـي الشرك. يقول اللّه لهم: أنـيبوا إلـى ربكم وأسلـموا له، يدعوهم إلـى الإسلام، فهاتان الاَيتان مكيتان، والتـي فـي النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا... الاَية، هذه مدنـية، نزلت بـالـمدينة، وبـينها وبـين التـي نزلت فـي الفرقان ثمان سنـين، وهي مبهمة لـيس منها مخرج.

٢٠١٤٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو تُـمَيْـلة، قال: حدثنا أبو حمزة، عن جابر، عن مـجاهد ، قال: سُئل ابن عباس عن قول اللّه جلّ ثناؤه: يُبَدّلُ اللّه سَيِئاتِهمْ حَسَناتٍ فقال:

بُدّلْنَ بَعْدَ حَرّهِ خَريفـاوَبَعْدَ طُولِ النّفَسِ الوَجِيفـا

٢٠١٤٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلَهَا آخَرَ... إلـى قوله يَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا: فقال الـمشركون: ولا واللّه ما كان هؤلاء الذين مع مـحمد إلا معنا، قال: فأنزل اللّه : إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ. قال: تاب من الشرك، قال: وآمن بعقاب اللّه ورسوله وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا، قال: صدّق، فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّه سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: يبدّل اللّه أعمالهم السيئة التـي كانت فـي الشرك بـالأعمال الصالـحة حين دخـلوا فـي الإيـمان.

وقال آخرون: بل معنى ذلك، فأولئك يبدّل اللّه سيئاتهم فـي الدنـيا حسنات لهم يوم القـيامة. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٤٥ـ حدثنـي أحمد بن عمرو البصريّ، قال: حدثنا قريش بن أنس أبو أنس، قال: ثنـي صالـح بن رستـم، عن عطاء الـخراسانـي، عن سعيد بن الـمسيب فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّه سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القـيامة.

٢٠١٤٦ـ حدثنا الـحسن بن عرفة، قال: حدثنا مـحمد بن حازم أبو معاوية، عن الأعمش، عن الـمعرور بن سويد، عن أبـي ذرّ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنّـي لأَعْرِفُ آخِرَ أهْلِ النّارِ خُرُوجا مِنَ النّارِ، وآخِرَ أهْلِ النّارِ دُخُولاً الـجَنّةَ، قال: يُؤْتَـى بِرَجُلٍ يَوْمَ القِـيامَةِ، فَـيُقالُ: نَـحّوا كِبـارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغارِها، قال: فَـيُقالُ لَهُ: عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا، وَعملْتَ كَذَا وكَذَا، قال: فَـيَقُولُ: يا رَبّ لَقَدْ عَمِلْتُ أشْياءَ ما أرَاها هَا هُنا، قال: فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتـى بدت نواجذه، قال: فَـيُقالُ لَهُ: لَكَ مَكانَ كُلّ سَيّئَةِ حَسَنَةٌ) .

قال أبو جعفر: وأولَـى التأويـلـين بـالصواب فـي ذلك تأويـل من تأوّله: فأولئك يبدّل اللّه سيئاتهم: أعمالهم فـي الشرك، حسنات فـي الإسلام، بنقلهم عما يسخطه اللّه من الأعمال إلـى ما يرضى.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الاَية، لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت علـى ما كانت علـيه من القُبح، وغير جائز تـحويـل عين قد مضت بصفة، إلـى خلاف ما كانت علـيه، إلا بتغيـيرها عما كانت علـيه من صفتها فـي حال أخرى، فـيجب إن فعل ذلك كذلك، أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا فـي الكفر بعينه إيـمانا يوم القـيامة بـالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة، وذلك ما لا يقوله ذو حجا.

و قوله: وكانَ اللّه غَفُورا رَحِيـما

يقول تعالـى ذكره: وكان اللّه ذا عفو عن ذنوب من تاب من عبـاده، وراجع طاعته، وذا رحمة به أن يعاقبه علـى ذنوبه بعد توبته منها.

٧١

 قوله: وَمَنْ تابَ يقول: ومن تاب من الـمشركين، فآمن بـاللّه ورسوله

وعَمِلَ صَالِـحا يقول: وعمل بـما أمره اللّه فأطاعه، فإن اللّه فـاعل به من إبداله سَيِىء أعماله فـي الشرك، بحسنها فـي الإسلام، مثل الذي فعل من ذلك، بـمن تاب وآمن وعمل صالـحا قبل نزول هذه الاَية من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٤٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَمَنْ تابَ وعَمِلَ صَالِـحا فإنّه يَتُوبُ إلـى اللّه مَتابـا قال: هذا للـمشركين الذين قالوا لـما أنزلت وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلهَا آخَرَ... إلـى قوله وكانَ اللّه غَفُورا رَحِيـما لأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما كان هؤلاء إلا معنا، قال: وَمَنْ تَابَ وعَمِلَ صَالِـحا فإن لهم مثل ما لهؤلاء

فإنّهُ يَتُوبُ إلـى اللّه مَتابـا لـم تـخطر التوبة علـيكم.

٧٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزّورَ وَإِذَا مَرّواْ بِاللّغْوِ مَرّوا كِراماً }.

اختلف أهل التأويـل فـي معنى الزور الذي وصف اللّه هؤلاء القوم بأنهم لا يشهدونه، فقال بعضهم: معناه الشرك بـاللّه . ذكر من قال ذلك:

٢٠١٤٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفـيان، عن جويبر، عن الضحاك ، فـي قوله: لا يَشْهَدُونَ الزّورَ قال: الشرك.

٢٠١٤٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله وَالّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزّورَ قال: هؤلاء الـمهاجرون، قال: والزّور قولهم لاَلهتهم، وتعظيـمهم إياها.

وقال آخرون: بل عُنِـي به الغناء. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٥٠ـ حدثنـي علـي بن عبد الأعلـى الـمـحاربـيّ قال: حدثنا مـحمد بن مروان، عن لـيث، عن مـجاهد فـي قوله: وَالّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزّورَ قال: لا يسمعون الغِناء.

وقال آخرون: هو قول الكذب. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٥١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: وَالّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزّورَ قال: الكذب.

قال أبو جعفر: وأصل الزّور تـحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتـى يخيّـل إلـى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخـل فـي ذلك، لأنه مـحسّن لأهله، حتـى قد ظنوا أنه حقّ، وهو بـاطل، ويدخـل فـيه الغناء، لأنه أيضا مـما يحسنه ترجيع الصوت، حتـى يستـحلـي سامعُه سماعَه، والكذب أيضا قد يدخـل فـيه، لتـحسين صاحبه إياه، حتـى يظنّ صاحبه أنه حقّ، فكل ذلك مـما يدخـل فـي معنى الزّور.

فإذا كان ذلك كذلك، فأولـى الأقوال بـالصواب فـي تأويـله أن يقال: والذين لا يشهدون شيئا من البـاطل، لا شركا، ولا غناء، ولا كذبـا ولا غيره، وكلّ ما لزمه اسم الزور، لأن اللّه عمّ فـي وصفه إياهم، أنهم لا يشهدون الزور، فلا ينبغي أن يُخَصّ من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسلـيـم لها، من خبر أو عقل.

و قوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما اختلف أهل التأويـل فـي معنى اللغو الذي ذُكر فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: معناه: ما كان الـمشركون يقولونه للـمؤمنـين، ويكلـمونهم به من الأذى. ومرورهم به كراما: إعراضهم عنهم وصفحهم. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٥٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: صفحوا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، قوله وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: إذا أوذوا مرّوا كراما، قال: صفحوا.

وقال آخرون: بل معناه: مرّوا بذكر النكاح، كفوا عنه. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٥٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا العوّام بن حوشب، عن مـجاهد وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: إذا ذكروا النكاح كَفّوا عنه.

حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الأشيب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا العوّام بن حوشب، عن مـجاهد ، وَإذَا مَرّوا كِرَاما قال: كانوا إذا أتوا علـى ذكر النكاح كفوا عنه.

٢٠١٥٤ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، عن أبـي مخزوم، عن سيار وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما إذا مرّوا بـالرفَث كفّوا.

وقال آخرون: إذا مرّوا بـما كان الـمشركون فـيه من البـاطل مرّوا منكرين له. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٥٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: هؤلاء الـمهاجرون، واللغو ما كانوا فـيه من البـاطل، يعني الـمشركين وقرأ: فَـاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ.

وقال آخرون: عُنى بـاللغو ها هنا: الـمعاصي كلها. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٥٦ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: اللغو كله: الـمعاصي.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب عندي، أن يقال: إن اللّه أخبر عن هؤلاء الـمؤمنـين الذين مدحهم بأنهم إذا مرّوا بـاللغو مرّوا كراما، واللغو فـي كلام العرب هو كل كلام أو فعل بـاطل لا حقـيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح فسبّ الإنسان الإنسان بـالبـاطل الذي لا حقـيقة له من اللّغو. وذكر النكاح بصريح اسمه مـما يُستقبح فـي بعض الأماكن، فهو من اللغو، وكذلك تعظيـم الـمشركين آلهتهم من البـاطل الذي لا حقـيقة لـما عظموه علـى نـحو ما عظموه، وسماع الغناء مـما هو مستقبح فـي أهل الدين، فكل ذلك يدخـل فـي معنى اللغو، فلا وجه إذ كان كل ذلك يـلزمه اسم اللغو، أن يقال: عُنـي به بعض ذلك دون بعض، إذ لـم يكن لـخصوص ذلك دلالة من خبر أو عقل. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: وإذا مرّوا بـالبـاطل فسمعوه أو رأوه، مرّوا كراما مرورهم كراما فـي بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء. وفـي بعض ذلك بأن يعرضوا عنه ويصفحوا، وذلك إذا أوذوا بإسماع القبـيح من القول. وفـي بعضه بأن يَنْهَوْا عن ذلك، وذلك بأن يروا من الـمنكر ما يغيّر بـالقول فـيغيروه بـالقول. وفـي بعضه بأن يضاربوا علـيه بـالسيوف، وذلك بأن يروا قوما يقطعون الطريق علـى قوم، فـيستصرخهم الـمراد ذلك منهم، فـيصرخونهم، وكلّ ذلك مرورهم كراما. وقد:

٢٠١٥٧ـ حدثنـي ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا مـحمد بن مسلـم، عن إبراهيـم بن ميسرة، قال: مرّ ابن مسعود بلهو مسرعا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنْ أصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَكَرِيـما) .

و

قـيـل: إن هذه الاَية مكية. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٥٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، قال: سمعت السديّ يقول: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: هي مكية، وإنـما عنى السديّبقوله هذا إن شاء اللّه ، أن اللّه نسخ ذلك بأمره الـمؤمنـين بقتال الـمشركين ب قوله: فَـاقْتُلُوا الـمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ وأمرهم إذا مرّوا بـاللّغو الذي هو شرك، أن يُقاتلوا أمراءه، وإذا مرّوا بـاللغو، الذي هو معصية للّه أن يغيروه، ولـم يكونوا أمروا بذلك بـمكة، وهذا القول نظير تأويـلنا الذي تأوّلناه فـي ذلك.

٧٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً }.

يقول تعالـى ذكره: والذين إذا ذكّرهم مذكر بحجج اللّه ، لـم يكونوا صُما لا يسمعون، وعميا لا يبصرونها. ولكنهم يقاظُ القلوب، فهماء العقول، يفهمون عن اللّه ما يذكّرهم به، ويفهمون عنه ما ينبههم علـيه، فـيوعون مواعظة آذانا سمعته، وقلوبـا وعته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٥٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يفقهون حقا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، قوله وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآياتِ رَبّهِمْ لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا قال: لا يفقهون، ولا يسمعون، ولا يبصرون.

٢٠١٦٠ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن عُلَـية، عن ابن عون، قال: قلت للشعبـيّ: رأيت قوما قد سجدوا، ولـم أعلـم ما سجدوا منه، أسجد؟ قال: وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآيات رَبّهِمْ لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا.

٢٠١٦١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآياتِ رَبّهِمْ لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا قال: هذا مثل ضربه اللّه لهم، لـم يَدَعوها إلـى غيرها، وقرأ قول اللّه : إنّـمَا الـمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهمْ... الاَية.

فإن قال قائل: وما معنى قوله يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا أَو يَخرّ الكافرون صُمّا وعُمْيانا إذا ذُكروا بآيات اللّه ، فُـيْنَفـى عن هؤلاء ما هو صفة للكفـار؟

قـيـل: نعم، الكافر إذا تُلـيت علـيه آيات اللّه خرّ علـيها أصمّ وأعمى، وخَرّه علـيها كذلك، إقامته علـى الكفر، وذلك نظير قول العرب: سَبَبْتُ فلانا، فقام يبكي، بـمعنى فظلّ يبكي، ولا قـيام هنالك، ولعله أن يكون بكى قاعدا وكما يقال: نهيت فلانا عن كذا، فقعديشتـمنـي ومعنى ذلك: فجعل يشتـمنـي، وظلّ يشتـمنـي، ولا قعود هنالك، ولكن ذلك قد جرى علـى ألسن العرب، حتـى قد فهموا معناه. وذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول: فعد يشتـمنـي، كقولك: قام يشتـمنـي، أقبل يشتـمنـي قال: وأنشد بعض بنـي عامر:

لا يُقْنعُ الـجارِيَةَ الـخِضَابُ وَلا الوِشاحان وَلا الـجِلْبـابُ

مِن دونِ أن تَلْتَقِـيَ الأرْكابُ وَيَقْعُدَ الأَيْرُ لَهُ لُعابُ

بـمعنى: يصير، فكذلك قوله: لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا إنـما معناه: لـم يَصَمّوا عنها، ولا عموا عنها، ولـم يصيروا علـى بـاب ربهم صُمّا وعمْيانا، كما قال الراجز:

وَيَقْعُدَ الهَنُ لهُ لُعابُ بـمعنى: ويصير.

٧٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُرّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً }.

يقول تعالـى ذكره: والذين يرغبون إلـى اللّه فـي دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا: رَبّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٦٢ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ يعنون: من يعمل لك بـالطاعة، فتقرّ بهم أعيننا فـي الدنـيا والاَخرة.

٢٠١٦٣ـ حدثنـي أحمد بن الـمقدام، قال: حدثنا حزم، قال: سمعت كثـيرا سأل الـحسن، قال: يا أبـا سعيد، قول اللّه هَبْ لَنا مِن أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ فـي الدنـيا والاَخرة، قال: لا بل فـي الدنـيا، قال: وما ذاك؟ قال: الـمؤمن يرى زوجته وولده يطيعون اللّه .

٢٠١٦٤ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، قال: قرأ حضرمي: رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال: وإنـما قرّة أعينهم أن يروهم يعملون بطاعة اللّه .

٢٠١٦٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن ابن جُرَيج فـيـما قرأنا علـيه فـي قوله: هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال: يعبدونك فـيحسنون عبـادتك، ولا يجرون الـجرائر.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قوله رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال: يعبدونك يحسنون عبـادتك، ولا يجرّون علـينا الـجرائر.

٢٠١٦٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال: يسألون اللّه لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.

٢٠١٦٧ـ حدثنا مـحمد بن عون، قال: حدثنا مـحمد بن إسماعيـل بن عياش، قال: ثنـي أبـي، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جُبـير بن نُفَـير، عن أبـيه، قال: جلسنا إلـى الـمقداد بن الأسود، فقال: لقد بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـى أشدّ حالة بُعث علـيها نبـيّ من الأنبـياء فـي فترة وجاهلـية، ما يرون دينا أفضل من عبـادة الأوثان، فجاء بفرقان فَرَق به بـين الـحقّ والبـاطل، وفَرّق بـين الوالد وولده، حتـى إنْ كان الرجل لـيرى ولده ووالده وأخاه كافرا وقد فتـح اللّه قـفل قلبه بـالإسلام، فـيعلـم أنه إن مات دخـل النار، فلا تقرّ عينه، وهو يعلـم أن حبـيبه فـي النار، وإنها للتـي قال اللّه : وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ... الاَية.

حدثنـي ابن عون، قال: ثنـي علـيّ بن الـحسن العسقلانـيّ، عن عبد اللّه بن الـمبـارك، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن جُبـير بن نُفَـير، عن أبـيه، عن الـمقداد، نـحوه.

و

قـيـل: هب لنا قرّة أعين، وقد ذكر الأزواج والذريات وهم جمع،

و قوله: قُرّة أعْيُنٍ واحدة، لأن قوله: قرّة أعين مصدر من قول القائل: قرّت عينك قرّة، والـمصدر لا تكاد العرب تـجمعه.

و قوله: وَاجْعَلْنا للْـمُتّقِـينَ إماما اختلف أهل التأويـل فـي تأويـله، فقال بعضهم: معناه: اجعلنا أثمة يَقتَدِي بنا من بعدنا. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٦٨ـ حدثنـي ابن عبد الأعلـى بن واصل، قال: ثنـي عون بن سلام، قال: أخبرنا بشر بن عمارة عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، فـي قوله: وَاجْعَلْنا للـمْتّقِـينَ إماما يقول: أئمة يُقتدى بنا.

حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله وَاجْعَلْنا للْـمُتّقِـينَ إماما أثمة التقوى ولأهله يقتدى بنا. قال ابن زيد: كما قال لإبراهيـم: إنـي جاعِلُكَ للنّاس إماما.

وقال آخرون: بل معناه: واجعلنا للـمتقـين إماما: نأتـمّ بهم، ويأتـمّ بنا من بعدنا. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٦٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: وَاجْعَلْنا للْـمُتّقِـين إماما قال: أئمة نقتدي بـمن قبلنا، ونكون أئمة لـمن بعدنا.

٢٠١٧٠ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن أبن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَاجْعَلْنا للـمُتّقِـينَ إماما قال: اجعلنا مؤتـمين بهم، مقتدين بهم.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: واجعلنا للـمتقـين الذين يتقون معاصيك، ويخافون عقابك إماما يأتـمون بنا فـي الـخيرات، لأنهم إنـما سألوا ربهم أن يجعلهم للـمتقـين أئمة، ولـم يسألوه أن يجعل الـمتقـين لهم إماما، وقال وَاجْعَلْنا للْـمُتّقِـينَ إماما ولـم يقل أئمة. وقد قالوا: واجعلنا وهم جماعة، لأن الإمام مصدر من قول القائل: أمّ فلان فلانا إماما، كما يقال: قام فلان قـياما، وصام يوم كذا صياما. ومن جمع الإمام أئمة، جعل الإمام اسما، كما يقال: أصحاب مـحمد إمام، وأئمة للناس. فمن وحّد قال: يأتـمّ بهم الناس. وهذا القول الذي قلناه فـي ذلك قول بعض نـحويّـي أهل الكوفة. وقال بعض أهل البصرة من أهل العربـية: الإمام فـي قوله: للْـمُتّقِـينَ إماما جماعة، كما تقول: كلهم عُدُول. قال: ويكون علـى الـحكاية، كما يقول القائل إذا

قـيـل له: من أميركم: هؤلاء أميرنا. واستشهد لذلك بقول الشاعر:

يا عاذِلاتـي لا تُرِدْنَ مَلامَتِـي إنّ العَوَاذلَ لَسْنَ لـي بأمِيرِ

٧٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُوْلَـَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقّوْنَ فِيهَا تَحِيّةً وَسَلاَماً }.

يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم من عبـادي، وذلك من ابتداء قوله: وَعِبـادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَـمْشُونَ علـى الأرْضِ هَوْنا... إلـى قوله: وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا... الاَية يُجْزَوْنَ يقول: يُثابون علـى أفعالهم هذه التـي فعلوها فـي الدنـيا الغُرْفَةَ وهي منزلة من منازل الـجنة رفـيعة بِـمَا صَبرُوا يقول: بصبرهم علـى هذه الأفعال، ومقاساة شدتها.

و قوله: وَيُـلَقّوْنَ فِـيها تَـحِيّةً وَسَلاما اختلفت القرّاء فـي قراءته، فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: وَيُـلَقّوْنَ مضمومة الـياء، مشدّدة القاف، بـمعنى: وتتلقاهم الـملائكة فـيها بـالتـحية. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: (ويَـلْقَوْنَ) بفتـح الـياء، وتـخفـيف القاف.

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان فـي قَرَأَة الأمصار، بـمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، غير أن أعجب القراءتـين إلـيّ أن أقرأ بها (وَيَـلْقَوْنَ فِـيها) بفتـح الـياء، وتـخفـيف القاف، لأن العرب إذا قالت ذلك بـالتشديد، قالت: فلان يُتَلَقّـى بـالسلام وبـالـخير، ونـحن نَتَلقاهم بـالسلام، قرنته بـالـياء، وقلـما تقول: فلان يُـلَقّـى السلام، فكان وجه الكلام، لو كان بـالتشديد، أن يقال: ويُتَلَقّون فـيها بـالتـحية والسلام. وإنـما اخترنا القراءة بذلك، كما تـجيز: أخذت بـالـخطام، وأخذتُ الـخطام. وقد بـيّنا معنى التـحية والسلام فـيـما مضى قبل، فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

٧٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً }.

يقول تعالـى ذكره: أولئك يجزون الغرفة بـما صبروا، خالدين فـي الغرفة، يعني أنهم ماكثون فـيها، لابثون إلـى غير أمد، حسنت تلك الغرفة قرارا لهم ومقاما. يقول: وإقامة.

٧٧

و قوله: قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ ربّـي يقول جل ثناؤه لنبـيه: قل يا مـحمد لهؤلاء الذين أرسلت إلـيهم: أيّ شيء يَعُدّكم، وأيّ شيء يصنع بكم ربـي؟ يقال منه: عبأت به أعبأ عبئا، وعبأت الطيب أعبؤه: إذا هيأته، كما قال الشاعر:

كأنّ بِنَـحْرِهِ وبِـمَنْكِبَـيْهِعَبِـيرا بـاتَ يَعْبَؤُهُ عَرُوسُ

يقول: يهيئه ويعمله يعبؤُه عبـا وعبوءا، ومنه قولهم: عَبّأت الـجيش بـالتشديد والتـخفـيف فأنا أعبئه: أُهَيّئُهُ. والعِبءُ: الثقل. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٧١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: قُلْ ما يَعْبأُ بِكُمْ رَبّـي يصنع لولا دعاؤكم.

٢٠١٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّـي قال: يعبأ: يفعل.

و قوله: لَوْلا دُعاؤُكُمْ يقول: لولا عبـادة من يعبده منكم، وطاعة من يطيعه منكم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٧٣ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّـي لَوْلا دُعاؤُكُمْ يقول: لولا إيـمانكم، وأخبر اللّه الكفـار أنه لا حاجة له بهم إذ لـم يخـلقهم مؤمنـين، ولو كان له بهم حاجة لـحبب إلـيهم الإيـمان كما حبّبه إلـى الـمؤمنـين.

٢٠١٧٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله لَوْلا دُعاؤُكُمْ قال: لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وتطيعوه.

وقوله فَقَدْ كَذّبْتُـمْ

يقول تعالـى ذكره لـمشركي قريش قوم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فقد كذّبتـم أيها القوم رسولكم الذي أرسل إلـيكم وخالفتـم أمر ربكم الذي أمر بـالتـمسك به. لو تـمسكتـم به، كان يعبأ بكم ربـي فسوف يكون تكذيبكم رسول ربكم، وخلافكم أمر بـارئكم، عذابـا لكم ملازما، قتلاً بـالسيوف وهلاكا لكم مفنـيا يـلـحق بعضكم بعضا، كما قال أبو ذُؤَيب الهُذَلـيّ:

فَفـاجأَهُ بِعادِيَةٍ لِزَامٍكمَا يَتَفَجّرُ الـحَوْضُ اللّقِـيفُ

 يعني بـاللزام: الكبـير الذي يتبع بعضه بعضا، وبـاللقـيف: الـمتساقط الـحجارة الـمتهدّم، ففعل اللّه ذلك بهم، وصدقهم وعده، وقتلهم يوم بدر بأيدي أولـيائه، وألـحق بعضهم ببعض، فكان ذلك العذاب اللزام. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٧٥ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرنـي مولـى لشقـيق بن ثور أنه سمع سلـمان أبـا عبد اللّه ، قال: صلـيت مع ابن الزّبـير فسمعته يقرأ: فقد كذب الكافرون.

٢٠١٧٦ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سعيد بن أدهم السدوسيّ، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن عبد الـمـجيد، قال: سمعت مسلـم بن عمار، قال: سمعت ابن عباس يقرأ هذا الـحرف: فقد كذب الكافرون فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما.

حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّـي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذّبْتُـمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما يقول: كذب الكافرون أعداء اللّه .

٢٠١٧٧ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود، قال: فسوف يـلقون لزاما يوم بدر.

٢٠١٧٨ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلـم، عن مسروق، قال: قال عبد الرحمن: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم.

٢٠١٧٩ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، قوله فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال أُبَـيّ بن كعب: هو القتل يوم بدر.

٢٠١٨٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن عمرو، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: اللزام: يوم بدر.

٢٠١٨١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن لـيث، عن مـجاهد فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال: هو يوم بدر.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال: يوم بدر.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، مثله.

قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن مَعْمر، عن منصور، عن سفـيان، عن ابن مسعود، قال: اللزام: القتل يوم بدر.

٢٠١٨٢ـ حُدثت عن الـحسين قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَقَدْ كَذّبْتُـمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما الكفـار كذبوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبـما جاء به من عند اللّه ، فسوف يكون لزاما، وهو يوم بدر.

٢٠١٨٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم، عن عبد اللّه ، قال: قد مضى اللزام، كان اللزام يوم بدر، أسروا سبعين، وقتلوا سبعين.

وقال آخرون: معنى اللزام: القتال. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٨٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما قال: فسوف يكون قتالاً اللزام: القتال.

وقال آخرون: اللزام: الـموت. ذكر من قال ذلك:

٢٠١٨٥ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال: موتا.

وقال بعض أهل العلـم بكلام العرب: معنى ذلك: فسوف يكون جزاء يـلزم كل عامل ما عمل من خير أو شرّ. وقد بـيّنا الصواب من القول فـي ذلك. وللنصب فـي اللزام وجه آخر غير الذي قلناه، وهو أن يكون فـي قوله يَكُون مـجهول، ثم ينصب اللزام علـى الـخبر كما قـيـل: إذَا كان طَعْنا بَـيْنَهُمْ وقتالاً وقد كان بعض من لا علـم له بأقوال أهل العلـم يقول فـي تأويـل ذلك: ما يعبأ بكم ربـي لولا دعاؤكم ما تَدْعون من دونه من الاَلهة والأنداد، وهذا قول لا معنى للتشاغل به لـخروجه عن أقوال أهل العلـم من أهل التأويـل.

آخر (تفسير) سورة الفرقان، والـحمد للّه وحده.

﴿ ٠