تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة السجدة

مكية وآياتها ثلاثون

بسم اللّه الرحمَن الرحيـم

١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الَـمَ }.

قال أبو حعفر: قد مضى البـيان عن تأويـل قوله الـم بـما فـيه الكفـاية.

٢

و قوله: تَنزِيـلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِـيهِ

يقول تعالـى ذكره: تنزيـل الكتاب الذي نزّل علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ، لا شكّ فـيه من ربّ العالـمين: يقول: من ربّ الثقلـين: الـجنّ، والإنس. كما:

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: الـم تَنْزِيـلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِـيهِ لا شكّ فـيه. وإنـما معنى الكلام: أن هذا القرآن الذي أُنزل علـى مـحمد لا شكّ فـيه أنه من عند اللّه ، ولـيس بشعر ولا سجع كاهن، ولا هو مـما تـخرّصه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وإنـما كذّب جلّ ثناؤه بذلك قول الذين قالُوا أساطِيرُ الأوّلِـينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُـمْلَـى عَلَـيْهِ بُكْرَةً وأصِيلاً وقول الذين قالوا: إنْ هَذَا إلاّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانَهُ عَلَـيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ.

٣

و قوله: أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ

يقول تعالـى ذكره: يقول الـمشركون بـاللّه : اختلق هذا الكتاب مـحمد من قِبل نفسه، وتكذّبه و (أم) هذه تقرير، وقد بـيّنا فـي غير موضع من كتابنا، أن العرب إذا اعترضت بـالاستفهام فـي أضعاف كلام قد تقدّم بعضه أن يستفهم بأم. وقد زعم بعضهم أن معنى ذلك: ويقولون. وقال: أم بـمعنى الواو، بـمعنى بل فـي مثل هذا الـموضع، ثم أكذبهم تعالـى ذكره فقال: ما هو كما تزعمون وتقولون من أن مـحمدا افتراه، بل هو الـحقّ والصدق من عند ربك يا مـحمد، أنزله إلـيك، لتنذر قوما بأس اللّه وسطوته، أن يحلّ بهم علـى كفرهم به ما أتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ منْ قَبْلكَ يقول: لـم يأت هؤلاء القوم الذين أرسلك ربك يا مـحمد إلـيهم، وهم قومه من قريش، نذير ينذرهم بأس اللّه علـى كفرهم قبلك.

و قوله: لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ يقول: لـيتبّـينوا سبـيـل الـحقّ فـيعرفوه ويؤمنوا به. وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٦٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لِتُنْذِرَ قَوْما ما أتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ قال: كانوا أمّة أُمّيّة، لـم يأتهم نذير قبل مـحمد صلى اللّه عليه وسلم .

٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {اللّه الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ...}.

يقول تعالـى ذكره: الـمعبود الذي لا تصلـح العبـادة إلاّ له أيها الناس الّذِي خَـلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَما بَـيْنَهُما من خـلق فِـي سِتّةِ أيّامٍ ثم استوى علـى عرشه فـي الـيوم السابع بعد خـلقه السموات والأرض وما بـينهما. كما:

٢١٤٦٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة اللّه الّذِي خَـلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَما بَـيْنَهُما فِـي سِتّةِ أيّامٍ ثُمّ اسْتَوَى عَلـى العَرْشِ فـي الـيوم السابع. يقول: مالكم أيها الناس إله إلاّ من فعل هذا الفعل، وخـلَق هذا الـخَـلْق العجيب فـي ستة أيام.

و قوله: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلـيّ وَلا شَفِـيعٍ يقول: ما لكم أيها الناس دونه ولـيّ يـلـي أمركم وينصركم منه إن أراد بكم ضرّا، ولا شفـيع يشفع لكم عنده إن هو عاقبكم علـى معصيتكم إياه، يقول: فإياه فـاتـخذوا ولـيا، وبه وبطاعته فـاستعينوا علـى أموركم فإنه يـمنعكم إذا أراد منعكم مـمن أرادكم بسوء، ولا يقدر أحد علـى دفعه عما أراد بكم هو، لأنه لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب أفَلا تَتَذَكّرُونَ

يقول تعالـى ذكره: أفلا تعتبرون وتتفكّرون أيها الناس، فتعلـموا أنه لـيس لكم دونه ولـيّ ولا شفـيع، فتفردوا له الألوهة، وتـخـلصوا له العبـادة، وتـخـلعوا ما دونه من الأنداد والاَلهة.

٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ }.

يقول تعالـى ذكره: اللّه هو الذي يدبر الأمر من أمر خـلقه من السماء إلـى الأرض، ثم يعرُج إلـيه.

واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بقوله ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ فقال بعضهم: معناه: أن الأمر ينزل من السماء إلـى الأرض، ويصعد من الأرض إلـى السماء فـي يوم واحد، وقدر ذلك ألف سنة مـما تعدّون من أيام الدنـيا، لأن ما بـين الأرض إلـى السماء خمس مئة عام، وما بـين السماء إلـى الأرض مثل ذلك، فذلك ألف سنة. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٦٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو بن معروف، عن لـيث، عن مـجاهد فِـي يَوْمٍ كان مقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ يعني بذلك نزول الأمر من السماء إلـى الأرض، ومن الأرض إلـى السماء فـي يوم واحد، وذلك مقداره ألف سنة، لأن ما بـين السماء إلـى الأرض مسيرة خمس مئة عام.

٢١٤٦٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة يُدَبّرُ الأَمْرَ مِنَ السّماءِ إلـى الأرْض ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ من أيامكم كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سنة مِـمّا تَعُدّونَ يقول: مقدار مسيره فـي ذلك الـيوم ألف سنة مـما تعدّون من أيامكم من أيام الدنـيا خمس مئة سنة نزوله، وخمس مئة صعوده فذلك ألف سنة.

٢١٤٦٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن جُوَيبر، عن الضحاك ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ قال: تعرج الـملائكة إلـى السماء، ثم تنزل فـي يوم من أيامكم هذه، وهو مسيرة ألف سنة.

٢١٤٧٠ـ قال: ثنا أبـي، عن سفـيان، عن سماك، عن عكرمة ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ قال: من أيام الدنـيا.

٢١٤٧١ـ حدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبـي الـحارث، عن عكرمة، عن ابن عباس ، فـي قوله: يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّماءِ إلـى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ من أيامكم هذه، مسيرة ما بـين السماء إلـى الأرض خمس مئة عام.

وذكر عن عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قال: تنـحدر الأمور وتصعد من السماء إلـى الأرض فـي يوم واحد، مقداره ألف سنة، خمس مئة حتـى ينزل، وخمس مئة حتـى يعرُج.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلـى الأرض، ثم يعرج إلـيه فـي يوم من الأيام الستة التـي خـلق اللّه فـيهنّ الـخـلق، كان مقدار ذلك الـيوم ألف سنة مـما تعدّون من أيامكم. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٧٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ قال: ذلك مقدار الـمسير قوله كألف سنة مـما تعدّون، قال: خـلق السموات والأرض فـي ستة أيام، وكلّ يوم من هذه كألف سنة مـما تعدّون أنتـم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدونَ قال: الستة الأيام التـي خـلق اللّه فـيها السموات والأرض.

٢١٤٧٣ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدونَ يعني هذا الـيوم من الأيام الستة التـي خـلق اللّه فـيهنّ السموات والأرض وما بـينهما.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلـى الأرض بـالـملائكة، ثم تعرج إلـيه الـملائكة، فـي يَوْمٍ كان مقداره ألف سنة من أيام الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٧٤ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، فـي قوله ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ قال: هذا فـي الدنـيا تعرج الـملائكة إلـيه فـي يوم كان مقداره ألف سنة.

٢١٤٧٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن سماك، عن عكرمة فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ قال: ما بـين السماء والأرض مسيرة ألف سنة مـما تعدّون من أيام الاَخرة.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة أنه قال فـي هذه الاَية: يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ قال: ما بـين السماء والأرض مسيرة ألف سنة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلـى الأرض فـي يوم كان مقدار ذلك التدبـير ألف سنة مـما تعدّون من أيام الدنـيا، ثم يعرج إلـيه ذلك التدبـير الذي دبره. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٧٦ـ ذُكر عن حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، أنه قال: يقضي أمر كل شيء ألف سنة إلـى الـملائكة ثم كذلك حتـى تـمضي ألف سنة، ثم يقضي أمر كل شيء ألفـا، ثم كذلك أبدا، قال: يوم كان مقداره، قال: الـيوم أن يقال لـما يقضي إلـى الـملائكة ألف سنة، كن فـيكون، ولكن سماه يوما. سماه كما بـيّنا كل ذلك عن مـجاهد ، قال:

و قوله: إنّ يَوْما عِنْدَ رَبّك كألْفِ سَنَةِ مِـمّا تَعُدّون قال: هو هوسواء.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلـى الأرض، ثم يعرج إلـى اللّه فـي يوم كان مقداره ألف سنة، مقدار العروج ألف سنة مـما تعدّون. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٧٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال: قال ابن زيد، فـي قوله: ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةِ مِـمّا تَعُدّونَ قال بعض أهل العلـم: مقدار ما بـين الأرض حين يعرج إلـيه إلـى أن يبلغ عروجه ألف سنة، هذا مقدار ذلك الـمعراج فـي ذلك الـيوم حين يعرج فـيه.

وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: معناه: يدبر الأمر من السماء إلـى الأرض، ثم يعرج إلـيه فـي يوم، كام مقدار ذلك الـيوم فـي عروج ذلك الأمر إلـيه، ونزوله إلـى الأرض ألف سنة مـما تعدون من أيامكم خمس مئة فـي النزول، وخمس مئة فـي الصعود، لأن ذلك أظهر معانـيه، وأشبهها بظاهر التنزيـل.

٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ }.

يقول تعالـى ذكره: هذا الذي يفعل ما وصفت لكم فـي هذه الاَيات، هو عالـم الغيب، يعني عالـم ما يغيب عن أبصاركم أيها الناس، فلا تبصرونه مـما تكنه الصدور، وتـخفـيه النفوس، وما لـم يكن بعد مـما هو كائن، والشهادة: يعني ما شاهدته الأبصار فأبصرته وعاينته وما هو موجود العَزِيزُ يقول: الشديد فـي انتقامه مـمن كفر به وأشرك معه غيره، وكذّب رسله الرّحِيـمُ بـمن تاب من ضلالته، ورجع إلـى الإيـمان به وبرسوله، والعمل بطاعته، أن يعذّبه بعد التوبة.

٧

و قوله: الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعض قراء مكة والـمدينة والبصرة: (أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ) بسكون اللام. وقرأه بعض الـمدنـيـين وعامة الكوفـيـين: أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ بفتـح اللام.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء صحيحتا الـمعنى، وذلك أن اللّه أحكم خـلقه، وأحكم كل شيء خـلَقه، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: أتقن كلّ شيء وأحكمه. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٧٨ـ حدثنـي العباس بن أبـي طالب، قال: حدثنا الـحسين بن إبراهيـم إشكاب، قال: حدثنا شريك، عن خَصيف عن عكرمة، عن ابن عباس ، فـي قوله: الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ قال: أما إن است القرد لـيست بحسنة، ولكن أحكم خـلقها.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو النضر، قال: حدثنا أبو سعيد الـمؤدّب، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس ، أنه كان يقرؤها: الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ قال: أما إن است القرد لـيست بحسنة، ولكنه أحكمها.

٢١٤٧٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ قال: أتقن كلّ شيء خـلقه.

٢١٤٨٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة، قال: حدثنا عبد اللّه بن موسى، قال: حدثنا إسرائيـل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ: أحصى كلّ شيء.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذي حسن خـلق كل شيء. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٨١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ حسن علـى نـحو ما خـلق.

٢١٤٨٢ـ وذُكر عن الـحجاج، عن ابن جُرَيج، عن الأعرج، عن مـجاهد قال: هو مثل أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثم هَدَى قال: فلـم يجعل خـلق البهائم فـي خـلق الناس، ولا خـلق الناس فـي خـلق البهائم ولكن خـلق كلّ شيء فقدّره تقديرا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعلـم كل شيء خـلقه، كأنهم وجهوا تأويـل الكلام إلـى أنه ألهم خـلقه ما يحتاجون إلـيه، وأن قوله أحْسَنَ إنـما هو من قول القائل: فلان يحسن كذا إذا كان يعلـمه. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٨٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن شريك، عن خصيف، عن مـجاهد الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ قال: أعطى كلّ شيء خـلقه، قال: الإنسان إلـى الإنسان، والفرس للفرس، والـحمار للـحمار. وعلـى هذا القول، الـخَـلْق والكلّ منصوبـان بوقوع أحسن علـيهما.

وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب علـى قراءة من قرأه الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ بفتـح اللام قول من قال: معناه أحكم وأتقن، لأنه لا معنى لذلك إذ قرىء كذلك إلاّ أحد وجهين: إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان أو معنى التـحسين الذي هو فـي معنى الـجمال والـحُسن فلـما كان فـي خـلقه ما لا يشكّ فـي قُبحه وسماجته، علـم أنه لـم يُعن به أنه أحسن كلّ ما خـلق، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته. وأما علـى القراءة الأخرى التـي هي بتسكين اللام، فإن أولـى تأويلاته به قول من قال: معنى ذلك أعلـم وألهم كلّ شيء خـلقه، هو أحسنهم، كما قال الّذِي أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثُمّ هَدَى لأن ذلك أظهر معانـيه. وأما الذي وجه تأويـل ذلك إلـى أنه بـمعنى: الذي أحسن خـلق كلّ شيء، فإنه جعل الـخـلق نصبـا بـمعنى التفسير، كأنه قال: الذي أحسن كلّ شيء خـلقا منه. وقد كان بعضهم يقول: هو من الـمقدّم الذي معناه التأخير، ويوجهه إلـى أنه نظير قول الشاعر:

وَظَعْنِـي إلَـيْك اللّـيْـل حِضْنَـيْهِ أنّنِـيلِتِلْكَ إذَا هابَ الهِدَانُ فَعُولُ

 يعني : وظعنـي حضنـي اللـيـل إلـيك ونظير قول الاَخر:

كأنّ هِنْدا ثَناياها وبَهْجَتَهايَوْمَ الْتَقَـيْنا عَلـى أدْحالِ دَبّـاب

أي كأن ثنايا هند وبهجتها.

و قوله: وَبَدأَ خَـلْقَ الإنْسانِ مِنْ طِينٍ

يقول تعالـى ذكره: وبدأ خـلق آدم من طين ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ يعني ذرّيته من سلالة، يقول: من الـماء الذي انسلّ فخرج منه. وإنـما يعني من إراقة من مائه، كما قال الشاعر:

فجاءتْ بهِ عَضْبَ الأدِيـمِ غَضَنْفَراسُلالَةَ فَرْجٍ كانَ غيرَ حَصِينِ

و قوله: مِنْ ماءٍ مَهينٍ يقول: من نطفة ضعيفة رقـيقة. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٨٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَبَدأَ خَـلْقَ الإنْسانِ مِنْ طِينٍ وهو خـلق آدم،

٨

ثم جعل نسله: أي ذرّيته من سلالة من ماء مهين، والسلالة: هي الـماء الـمهين الضعيف.

٢١٤٨٥ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن أبـي يحيى الأعرج، عن ابن عباس ، فـي قوله مِنْ سُلالَةِ قال: صفو الـماء.

٢١٤٨٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مِنْ ماءٍ مَهِينٍ قال: ضعيف نطفة الرجل، ومهين: فعيـل من قول القائل: مهن فلان، وذلك إذا زلّ وضعف.

٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: ثم سوّى الإنسان الذي بدأ خـلقه من طين خـلقا سويا معتدلاً، ونَفَخَ فِـيهِ مِنْ رُوحِهِ فصار حيا ناطقا وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ والأبْصَارَ والأفْئِدَةَ، قَلِـيلاً ما تشْكُرُونَ يقول: وأنعم علـيكم أيها الناس ربكم بأن أعطاكم السمع تسمعون به الأصوات، والأبصار تبصرون بها الأشخاص والأفئدة، تعقلون بها الـخير من السوء، لتشكروه علـى ما وهب لكم من ذلك.

و قوله: قَلِـيلاً ما تَشْكُرُونَ يقول: وأنتـم تشكرون قلـيلاً من الشكر ربكم علـى ما أنعم علـيكم.

١٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُوَاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبّهِمْ كَافِرُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: وقال الـمشركون بـاللّه ، الـمكذّبون بـالبعث: أئِذَا ضَلَلْنا فـي الأرْض أي صارت لـحومنا وعظامنا ترابـا فـي الأرض وفـيها لغتان: ضَلَلْنا، وضَلِلْنا، بفتـح اللام وكسرها والقراءة علـى فتـحها، وهي الـجوداء، وبها نقرأ. وذكر عن الـحسن أنه كان يقرأ: (أئِذَا صَلَلْنا) بـالصاد، بـمعنى: أنتنا، من قولهم: صلّ اللـحم وأصلّ: إذا أنتن. وإنـما عنى هؤلاء الـمشركون بقوله م: أئِذَا ضَلَلْنا فِـي الأرْضِ أي إذا هلكت أجسادنا فـي الأرض، لأن كلّ شيء غلب علـيه غيره حتـى خفـي فـيـما غلب، فإنه قد ضلّ فـيه، تقول العرب: قد ضلّ الـماء فـي اللبن: إذا غلب علـيه حتـى لا يتبـين فـيه ومنه قول الأخطل لـجرير:

كُنْتَ القَذَى فـي مَوْج أكْدَرَ مُزْبدٍقَذَفَ الأَتِـيّ به فَضَلّ ضَلالاَ

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٨٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن لـيث، عن مـجاهد أئِذَا ضَلَلْنا فِـي الأرْضِ يقول: أئذا هلكنا.

حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أئِذَا ضَلَلْنا فِـي الأرْضِ هلكنا.

٢١٤٨٨ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد: قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله أئِذَا ضَلَلْنا فِـي الأرْضِ يقول: أئذا كنا عظاما ورفـاتا أنبعث خـلقا جديدا؟ يكفرون بـالبعث.

٢١٤٨٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، وَقالُوا أئِذَا ضلَلْنا فـي الأرْض أئِنّا لَفِـي خَـلْقٍ جَدِيدٍ قال: قالوا: أئذا كنا عظاما ورفـاتا أئنا لـمبعوثون خـلقا جديدا؟.

و قوله: بَلْ هُمْ بِلِقاء رَبّهِمْ كافِرُونَ

يقول تعالـى ذكره: ما بهؤلاء الـمشركين جحود قدرة اللّه علـى ما يشاء، بل هم بلقاء ربهم كافرون، حذرا لعقابه، وخوف مـجازاته إياهم علـى معصيتهم إياه، فهم من أجل ذلك يجحدون لقاء ربهم فـي الـمعاد.

١١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ يَتَوَفّاكُم مّلَكُ الْمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين بـاللّه : يتوفـاكم ملك الـموت، يقول: يستوفـي عددكم بقبض أرواحكم ملك الـموت الذي وكل بقبض أرواحكم ومنه قول الراجز:

إنّ بَنِـي الأَدْرَمِ لَـيْسُوا مِنْ أحَدْوَلا تَوَفّـاهُمْ قُرَيْشٌ فِـي العَدَدْ

ثُمّ إلـى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ يقول: من بعد قبض ملك الـموت أرواحكم إلـى ربكم يوم القـيامة تردّون أحياء كهيئتكم قبل وفـاتكم، فـيجازى الـمـحسن منكم بإحسانه، والـمُسيء بإساءته.

٢١٤٩٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قُلْ يَتَوَفّـاكُمْ مَلَكُ الـمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ قال: ملك الـموت يتوفـاكم، ومعه أعوان من الـملائكة.

٢١٤٩١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قوله يَتَوَفّـاكُمْ مَلَكُ الـمَوْتِ قال: حُوِيَت له الأرض، فجُعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بزّة، عن مـجاهد ، بنـحوه.

١٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : لو ترى يا مـحمد هؤلاء القائلـين أئِذَا ضَلَلْنا فِـي الأرْضِ أئِنّا لَفِـي خَـلْقٍ جَدِيدٍ إذ هم ناكسوا رؤوسهم عند ربهم حياء من ربهم، للذي سلف منهم من معاصيه فـي الدنـيا، يقولون: يا رَبّنَا أبْصَرْنَا ما كنا نكذّب به من عقابك أهل معاصيك وَسَمِعْنَا منك تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به فـي الدنـيا، فـارجعنا يقول: فـارددنا إلـى الدنـيا نعمل فـيها بطاعتك، وذلك العمل الصالـح إنّا مُوقِنُونَ يقول: إنا قد أيقنا الاَن ما كنا به فـي الدنـيا جهالاً من وحدانـيتك، وأنه لا يصلـح أن يُعبد سواك، ولا ينبغي أن يكون ربّ سواك، وأنك تـحيـي وتـميت، وتبعث من فـي القبور بعد الـمـمات والفناء وتفعل ما تشاء.

وبنـحو ما قلنا فـي قوله: نَاكِسُوا رُءُوسِهمْ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٩٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قوله وَلَوْ تَرَى إذِ الـمُـجْرِمونَ ناكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبّهِمْ قال: قد حزنوا واستـحيوا.

١٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـَكِنْ حَقّ الْقَوْلُ مِنّي لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ }.

يقول تعالـى ذكره: وَلَوْ شِئْنَا يا مـحمد لاَتَـيْنَا هؤلاء الـمشركين بـاللّه من قومك وغيرهم من أهل الكفر بـاللّه هُدَاهَا يعني : رشدها وتوفـيقها للإيـمان بـاللّه وَلَكِنْ حَقّ القَوْلُ مِنّـي يقول: وجب العذاب منـي لهم، وقوله لأَمْلأَنّ جَهَنّـمَ منَ الـجِنّة والنّاسِ أجمَعِينَ يعني من أهل الـمعاصي والكفر بـاللّه منهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٩٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَلَوْ شِئْنا لاَتَـيْنا كُلّ نَفْسٍ هُداها قال: لو شاء اللّه لهدى الناس جميعا، لو شاء اللّه لأنزل علـيهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين وَلَكِنْ حَقّ القَوْلُ مِنّـي حقّ القول علـيهم.

١٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـَذَآ إِنّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: يقال لهؤلاء الـمشركين بـاللّه إذا هم دخـلوا النار: ذوقوا عذاب اللّه بـما نسيتـم لقاء يومكم هذا فـي الدنـيا، إنّا نَسِيناكُمْ يقول: إنا تركناكم الـيوم فـي النار.

و قوله: وَذُوقُوا عَذَابَ الـخُـلْدِ يقول: يقال لهم أيضا: ذوقوا عذابـا تـخـلدون فـيه إلـى غير نهاية بِـما كُنْتُـمْ فـي الدنـيا تَعْمَلُونَ من معاصي اللّه . وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَذُوقُوا بِـما نَسِيتُـمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إنّا نَسِيناكُمْ قال: نسوا من كلّ خير، وأما الشرّ فلـم ينسوا منه.

٢١٤٩٥ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، فـي قوله إنّا نَسِيناكُمْ يقول: تركناكم.

١٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرّواْ سُجّداً وَسَبّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: ما يصدق بحججنا وآيات كتابنا إلاّ القوم الذين إذا ذكروا بها ووعظوا خرّوا للّه سجدا لوجوههم، تذلّلاً له، واستكانة لعظمته، وإقرارا له بـالعبوديّة وَسَبّحُوا بِحَمْدِ رَبّهِمْ يقول: وسبحوا اللّه فـي سجودهم بحمده، فـيبرّؤونه مـما يصفه أهل الكفر به، ويضيفون إلـيه من الصاحبة والأولاد والشركاء والأنداد وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يقول: يفعلون ذلك، وهم لا يستكبرون عن السجود له والتسبـيح، لا يستنكفون عن التذلّل له والاستكانة. و

قـيـل: إن هذه الاَية نزلت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لأن قوما من الـمنافقـين كانوا يخرجون من الـمسجد إذا أقـيـمت الصلاة، ذُكر ذلك عن حجاج، عن ابن جُرَيج.

١٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: تتنـحّى جُنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات اللّه ، الذين وصفت صفتهم، وترتفع من مضاجعهم التـي يضطجعون لـمنامهم، ولا ينامون يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفـا وَطَمَعا فـي عفوه عنهم، وتفضّله علـيهم برحمته ومغفرته ومِـمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فـي سبـيـل اللّه ، ويؤدّون منه حقوق اللّه التـي أوجبها علـيهم فـيه. وتتـجافـى: تتفـاعل من الـجفـاء والـجفـاء: النبو، كما قال الراجز:

وَصَاحِبـي ذَاتُ هِبـاب دَمْشَقُوَابنُ مِلاطٍ مُتـجاف أرْفَقُ

 يعني : أن كرمها سجية عن ابن ملاط. وإنـما وصفهم تعالـى ذكره بتـجافـي جنوبهم عن الـمضاجع لتركهم الاضطجاع للنوم شغلاً بـالصلاة.

واختلف أهل التأويـل فـي الصلاة التـي وصفهم جلّ ثناؤه، أن جنوبهم تتـجافـى لها عن الـمضطجع، فقال بعضهم: هي الصلاة بـين الـمغرب والعشاء، وقال: نزلت هذه الاَية فـي قوم كانوا يصلون فـي ذلك الوقت. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٩٦ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبـي عروبة، قال: قال قتادة ، قال أنس، فـي قوله كانُوا قَلِـيلاً مِنَ اللّـيْـل مَا يَهْجَعُونَ قال: كانوا يتنفّلون فـيـما بـين الـمغرب والعشاء، وكذلك تتـجافـى جنوبهم.

قال: ثنا ابن أبـي عديّ، عن سعيد، عن قتادة ، عن أنس، فـي قوله تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ قال: يصلون ما بـين هاتـين الصلاتـين.

حدثنـي علـيّ بن سعيد الكنديّ، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن سعيد، عن قتادة ، عن أنس تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ قال: ما بـين الـمغرب والعشاء.

حدثنـي مـحمد بن خـلف، قال: حدثنا يزيد بن حيان، قال: حدثنا الـحارث بن وجيه الراسبـي، قال: حدثنا مالك بن دينار، عن أنس بن مالك، أن هذه الاَية نزلت فـي رجال من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، كانوا يصلون فـيـما بـين الـمغرب والعشاء تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمضَاجِعِ.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا مـحمد بن بشر، عن سعيد بن أبـي عروبة، عن قتادة ، عن أنس: تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَن الـمَضَاجِعِ قال: كانوا يتطوّعون فـيـما بـين الـمغرب والعشاء.

قال: ثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن أنس تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَن الـمَضَاجِعِ قال: ما بـين الـمغرب والعشاء.

٢١٤٩٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ قال: كانوا يتنفّلون ما بـين صلاة الـمغرب وصلاة العشاء.

وقال آخرون: عنى بها صلاة الـمغرب. ذكر من قال ذلك:

٢١٤٩٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: ثنـي أبـي، عن طلـحة، عن عطاء تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَن الـمَضَاجِعِ قال: عن العتـمة.

٢١٤٩٩ـ وذُكر عن حجاج، عن ابن جريج، قال: قال يحيى بن صَيفـي، عن أبـي سلـمة، قال: العتـمة.

وقال آخرون: لانتظار صلاة العتـمة. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٠٠ـ حدثنـي عبد اللّه بن أبـي زياد، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد اللّه الأَويسي، عن سلـيـمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أنس بن مالك، أن هذه الاَية تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ نزلت فـي انتظار الصلاة التـي تدعى العتـمة.

وقال آخرون: عنى بها قـيام اللـيـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٠١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن الـحسن تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَن الـمَضَاجِعِ قال: قـيام اللـيـل.

٢١٥٠٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ قال: هؤلاء الـمتهجدون لصلاة اللـيـل.

٢١٥٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ يقومون يصلون من اللـيـل.

وقال آخرون: إنـما هذه صفة قوم لا تـخـلو ألسنتهم من ذكر اللّه . ذكر من قال ذلك:

٢١٥٠٤ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِع، يَدْعُونَ رَبّهُم خَوْفـا وَطَمَعا وهم قوم لا يزالون يذكرون اللّه ، إما فـي صلاة، وإما قـياما، وإما قعودا، وإما إذا استـيقظوا من منامهم، هم قوم لا يزالون يذكرون اللّه .

٢١٥٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ... إلـى آخر الاَية، يقول: تتـجافـى لذكر اللّه ، كلـما استـيقظوا ذكروا اللّه ، إما فـي الصلاة، وإما فـي قـيام، أو فـي قعود، أو علـى جنوبهم فهم لا يزالون يذكرون اللّه .

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن اللّه وصف هؤلاء القوم بأن جنوبهم تنبو عن مضاجعهم، شغلاً منهم بدعاء ربهم وعبـادته خوفـا وطمعا، وذلك نبوّ جنوبهم عن الـمضاجع لـيلاً، لأن الـمعروف من وصف الواصف رجلاً بأن جنبه نبـا عن مضجعه، إنـما هو وصف منه له بأنه جفـا عن النوم فـي وقت منام الناس الـمعروف، وذلك اللـيـل دون النهار، وكذلك تصف العرب الرجل إذا وصفته بذلك، يدلّ علـى ذلك قول عبد اللّه بن رواحة الأنصاري رضي اللّه عنه فـي صفة نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

يَبِـيتُ يُجافِـي جَنْبَهُ عَنْ فِراشِهِإذا اسْتَثْقَلَت بـالـمُشْرِكِينَ الـمَضَاجِعُ

فإذا كان ذلك كذلك، وكان اللّه تعالـى ذكره لـم يخصص فـي وصفه هؤلاء القوم بـالذي وصفهم به من جفـاء جنوبهم عن مضاجعهم من أحوال اللـيـل وأوقاته حالاً ووقتا دون حال ووقت، كان واجبـا أن يكون ذلك علـى كلّ آناء اللـيـل وأوقاته. وإذا كان كذلك كان من صلـى ما بـين الـمغرب والعشاء، أو انتظر العشاء الاَخرة، أو قام اللـيـل أو بعضه، أو ذكر اللّه فـي ساعات اللـيـل، أو صلـى العتـمة مـمن دخـل فـي ظاهر قوله: تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ لأن جنبه قد جفـا عن مضجعه فـي الـحال التـي قام فـيها للصلاة قائما صلـى أو ذكر اللّه ، أو قاعدا بعد أن لا يكون مضطجعا، وهو علـى القـيام أو القعود قادر. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن توجيه الكلام إلـى أنه معنـيّ به قـيام اللـيـل أعجب إلـيّ، لأن ذلك أظهر معانـيه، والأغلب علـى ظاهر الكلام، وبه جاء الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . وذلك ما:

٢١٥٠٦ـ حدثنا به ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، قال: سمعت عروة بن الزبـير يحدّث عن معاذ بن جبل، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له: (ألا أدلّكَ عَلـى أبْوَاب الـخَيْرِ: الصّوْمُ جُنّةٌ، والصّدَقَةُ تُكَفّرُ الـخَطِيئَةَ، وَقِـيامُ العَبْدِ فِـي جَوْفِ اللّـيْـلِ. وتلا هذه الاَية: تَتَـجافَـى جُنُوبُهُم عَنِ الـمَضَاجِع، يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفـا وَطَمَعا، ومِـمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) .

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا يحيى بن حماد، قال: حدثنا أبو أُسامة، عن سلـيـمان، عن حبـيب بن أبـي ثابت والـحكم، عن ميـمون بن أبـي شبـيب، عن معاذ بن جبل، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بنـحوه.

حدثنـي مـحمد بن خـلف العسقلانـي، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا سفـيان، قال: حدثنا منصور بن الـمعتـمر، عن الـحكم بن عُتـيبة، عن ميـمون بن أبـي شبـيب، عن معاذ بن جبل، قال: قال لـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنْ شِئْتَ أنبأْتُكَ بأبْوَابِ الـخَيْرِ: الصّوْمُ جُنّةٌ، والصّدَقَةُ تُكَفّرُ الـخَطِيئَةَ، وَقِـيامُ الرّجُلِ فـي جَوْفِ اللّـيْـلِ) ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يزيد بن حيان، عن حماد بن سلـمة، قال: حدثنا عاصم بن أبـي النـجود، عن شهر بن حوشب، عن معاذ بن جبل، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فـي قوله تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ قال: (قِـيامُ العَبْدِ مِنَ اللّـيْـل) .

٢١٥٠٧ـ حدثنا أبو همام الولـيد بن شجاع قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي زياد بن خيثمة، عن أبـي يحيى بـائع القتّ، عن مـجاهد ، قال: ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قـيام اللـيـل، ففـاضت عيناه حتـى تـحادرت دموعه، فقال: تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَن الـمَضَاجِعِ.

وأما قوله: يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفـا وَطَمَعا... الاَية، فإن بنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٠٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفـا وَطَمَعا ومِـمّا رَزَقْناهُم يُنْفِقُونَ قال: خوفـا من عذاب اللّه ، وطمعا فـي رحمة اللّه ، ومـما رزقناهم ينفقون فـي طاعة اللّه ، وفـي سبـيـله.

١٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: فلا تعلـم نفس ذي نفسٍ ما أخفـى اللّه لهؤلاء الذين وصف جل ثناؤه صفتهم فـي هاتـين الاَيتـين، مـما تقرّ به أعينهم فـي جنانه يوم القـيامة جَزَاءً بِـمَا كانُوا يَعْمَلُونَ يقول: ثوابـا لهم علـى أعمالهم التـي كانوا فـي الدنـيا يعملون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٠٩ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبـي إسحاق، عن أبـي عبـيدة، قال: قال عبد اللّه : إن فـي التوراة مكتوبـا: لقد أعدّ اللّه للذين تتـجافـى جنوبهم عن الـمضاجع ما لـم تر عين، ولـم يخطر علـى قلب بشر، ولـم تسمع أذن، وما لـم يسمعه ملك مقرّب. قال: ونـحن نقرؤها: فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفِـيَ لَهُمْ مِنْ قُرّةِ أعْيُنٍ.

حدثنا خلاد، قال: أخبرنا النضر بن شميـل، قال: أخبرنا إسرائيـل، قال: أخبرنا أبو إسحاق، عن عُبـيدة بن ربـيعة، عن ابن مسعود، قال: مكتوب فـي التوراة علـى اللّه للذين تتـجافـى جنوبهم عن الـمضاجع ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر علـى قلب بشر، فـي القرآن فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفِـيَ لَهُمْ منْ قُرّةِ أعْيُن جَزَاءً بِـمَا كانُوا يَعْمَلُونَ.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن أبـي عبـيدة، عن عبد اللّه قال: خبىء لهم ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر علـى قلب بشر. قال سفـيان: فـيـما علـمت علـى غير وجه الشكّ.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي إسحاق قال: سمعت أبـا عبـيدة، قال: قال عبد اللّه ، قال، يعني اللّه : أعددت لعبـادي الصالـحين ما لـم تر عين، ولـم تسمع أذن، ولـم يخطر علـى قلب ناظر فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفِـيَ لَهُمْ منْ قُرّةِ أعْيُنِ جَزَاءً بِـما كانُوا يَعْمَلونَ.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن صلت، عن قـيس بن الربـيع، عن أبـي إسحاق، عن عبـيدة بن ربـيعة الـحارثـي، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: إن فـي التوراة للذين تتـجافـى جنوبهم عن الـمضاجع من الكرامة، ما لـم تر عين، ولـم يخطر علـى قلب بشر، ولـم تسمع أذن، وإنه لفـي القرآن فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفِـيَ لَهُمْ مِنْ قُرّةِ أعْيُن.

٢١٥١٠ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا الأشجعي، عن ابن أبجر، قال: سمعت الشعبـيّ يقول: سمعت الـمغيرة بن شعبة يقول علـى الـمنبر: إن موسى صلى اللّه عليه وسلم سأل عن أبخس أهل الـجنة فـيها حظا، ف

قـيـل له: رجل يُؤتـى به وقد دخـل أهل الـجنة الـجنة، قال: فـيقال له: ادخـل، فـيقول: أين وقد أخذ الناس أَخَذاتهم؟ فـيقال: اعدد أربعة ملوك من ملوك الدنـيا، فـيكون لك مثل الذي كان لهم، ولك أخرى شهوة نفسك، فـيقول: أشتهي كذا وكذا، وأشتهي كذا ويقال: لك أخرى، لك لذّة عينك، فـيقول: ألذّ كذا وكذا، فـيقال: لك عشرة أضعاف مثل ذلك، وسأله عن أعظم أهل الـجنة فـيها حظا، فقال: ذاك شيء ختـمت علـيه يوم خـلقت السموات والأرض. قال الشعبـي: فإنه فـي القرآن: فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفِـيَ لَهُمْ مِنْ قُرّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِـمَا كانُوا يَعْملونَ.

٢١٥١١ـ حدثنـي أحمد بن مـحمد الطّوسي، قال: حدثنا الـحميدي، قال: حدثنا ابن عُيـينة وحدثنـي به القرقسانـي، عن ابن عيـينة، عن مطرف بن طريف، وابن أبجر، سمعنا الشعبـيّ يقول: سمعت الـمغيرة بن شعبة علـى الـمنبر يرفعه إلـى النبي صلى اللّه عليه وسلم : (إنّ مُوسَى سألَ رَبّهُ: أيْ رَبّ، أيّ أهْلِ الـجَنّةِ أدْنَى مَنْزِلةً؟ قال: رَجُلُ يَجيءُ بَعْدَ ما دَخَـلَ أهْلُ الـجَنّةِ الـجَنّةَ، فَـيُقالُ لَهُ: ادْخُـلْ، فَـيَقُولُ: كَيْفَ أدْخُـلُ وَقَدْ نَزَلُوا مَنازِلَهُمْ؟ فَـيُقالُ لَهُ: أتَرْضَى أنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ ما كانَ لِـمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدّنْـيا؟، فَـيَقُولُ: بَخ أيْ رَبّ قَدْ رَضِيتُ فَـيُقالُ لَهُ: إنّ لَكَ هَذَا وَمِثْلَهُ وَمِثْلهُ ومِثْلَهُ، فَـيَقُولُ: رَضِيتُ أيْ رَبّ رَضِيتُ، فَـيُقالُ لَهُ: إنّ لَكَ هَذَا وَعَشْرَةَ أمْثالِهِ مَعَهُ، فـيَقُول: رَضِيتُ أيْ رَبّ، فَـيُقالُ لَهُ: فإنّ لَكَ مَعَ هَذَا ما اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذّتْ عَيْنُكَ قالَ: فَقالَ مُوسَى: أيْ رَبّ، وأيّ أهْل الـجَنّةَ أرْفَعُ مَنْزِلَةً؟ قالَ: إيّاها أرَدْتُ، وسأُحَدّثُكَ عَنْهُمْ غَرَسْتُ لَهُمْ كَرَامَتِـي بِـيَدِي، وَخَتَـمْتُ عَلَـيْها، فَلا عَيْنٌ رأتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلـى قَلْبِ بَشَرٍ. قالَ: وَمِصْدَاق ذلكَ فِـي كِتابِ اللّه فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفـيَ لَهُمْ مِنْ قُرّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِـمَا كانُوا يَعْمَلُونَ.)

٢١٥١٢ـ حدثنا مـحمد بن منصور الطوسيّ، قال: حدثنا إسحاق بن سلـيـمان، قال: حدثنا عمرو بن أبـي قَـيْس، عن ابن أبـي لـيـلَـى، عن الـمنهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عباس ، فـي قوله: وكانَ عَرْشُهُ علـى الـمَاءِ وكان عرش اللّه علـى الـماء، ثم اتـخذ لنفسه جنة، ثم اتـخذ دونها أخرى، ثم أطبقها بلؤلؤة واحدة قال: ومن دونهما جنتان قال: وهي التـي لا تعلـم نفس، أو قال: هما التـي لا تعلـم نفس ما أخفـي لهم من قرّة أعين جزاء بـما كانوا يعملون. قال: وهي التـي لا تعلـم الـخلائق ما فـيها، أو ما فـيهما يأتـيهم كلّ يوم منها أو منهما تـحفة.

٢١٥١٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن عنبسة، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جُبَـير، بنـحوه.

٢١٥١٤ـ حدثنا سهل بن موسى الرازيّ، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، عن صفوان بن عمرو، عن أبـي الـيـمان الهَوْزنـيّ أو غيره، قال: الـجنة مئة درجة، أوّلها درجة فضة، أرضها فضة، ومساكنها فضة، وآنـيتها فضة، وترابها الـمِسك. والثانـية ذهب، وأرضها ذهب، ومساكنها ذهب، وآنـيتها ذهب، وترابها الـمسك. والثالثة لؤلؤ، وأرضها لؤلؤ، ومساكنها لؤلؤ، وآنـيتها لؤلؤ، وترابها الـمسك. وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عينٌ رأته، ولا أذن سمعته، ولا خطر علـى قلب بشر، وتلا هذه الاَية فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفِـيَ لَهُمْ مِنْ قُرّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِـمَا كانُوا يَعْمَلُونَ.

٢١٥١٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الـمـحاربـي وعبد الرحيـم، عن مـحمد بن عمرو، عن أبـي سلـمة، عن أبـي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (قالَ اللّه : أعْدَدْتُ لِعِبـادِي الصّالِـحِينَ ما لا عَيْنٌ رأتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلـى قَلْبِ بَشَرٍ، وَاقْرَءُوا إنْ شِئْتُـمْ، قالَ اللّه فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفِـيَ لَهُمْ مِنْ قُرّةِ أعْيُنٍ، جَزَاءً بِـمَا كانُوا يَعْمَلُونَ) .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا أبو معاوية وابن نـمير، عن الأعمش، عن أبـي صالـح، عن أبـي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أعْدَدْتُ لعِبـادِي الصّالِـحِينَ، ما لا عَيْنٌ رأتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلـى قَلْبِ بَشَرٍ) قال أبو هريرة: ومن بله ما أطلعكم علـيه، اقرَءوا إن شئتـم: فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفِـيَ لَهُمْ مِنْ قُرّةِ أعْيُنٍ، جَزَاءً بِـمَا كانُوا يَعْمَلُونَ قال أبو هريرة: نقرؤها: (قُرّاتِ أعيُنٍ) .

٢١٥١٦ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان، عن الـحكم بن أبـان، عن الغطريف، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، عن الروح الأمين، قال: (يُؤْتَـى بِحَسَناتِ العَبْدِ وَسَيّئاتِهِ، فَـيَنْقُصُ بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ، فإنْ بَقِـيَتْ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ، وَسّعَ اللّه لَهُ فِـي الـجَنّةِ) قال: فدخـلت علـى يزداد، فحدّث بـمثل هذا قال: قلت: فأين ذهبت الـحسنة؟ قال: أُولَئِكَ الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما عَمِلُوا، وَنَتَـجاوَزُ عَنْ سَيّئاتِهِمْ فِـي أصحابِ الـجَنّةِ وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كانُوا يُوعَدُونَ، قلت: قوله فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفِـيَ لَهُمْ مِنْ قُرّةِ أعْيُنٍ قال: العبد يعمل سرّا أسرّه إلـى اللّه لـم يعلـم به الناس، فأسرّ اللّه له يوم القـيامة قرّة عين.

٢١٥١٧ـ حدثنـي العباس بن أبـي طالب، قال: حدثنا معلـى بن أسد، قال: حدثنا سلام بن أبـي مطيع، عن قتادة ، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبـي سعيد الـخدري، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يروي عن ربه، قال: (أعْدَدْتُ لِعِبـادِيَ الصّالِـحينَ ما لا عَيْنٌ رأتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلـى قَلْبِ بَشَرٍ) .

٢١٥١٨ـ حدثنـي أبو السائب، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي أبو صخر، أن أبـا حازم حدثه، قال: سمعت سهل بن سعد يقول: شهدت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مـجلسا وصف فـيه الـجنة حتـى انتهى، ثم قال فـي آخر حديثه: (فـيهَا ما لا عَيْنٌ رأتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلـى قَلْبِ بَشَرٍ) ثم قرأ هذه الاَية: تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ... إلـى قوله جَزَاءً بِـمَا كانُوا يَعْمَلُونَ.

٢١٥١٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن عوف، عن الـحسن، قال: بلغنـي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (قالَ رَبّكُمْ: أعْدَدْتُ لعِبـادِي الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ ما لا عَيْنٌ رأتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلـى قَلْبِ بَشَرٍ) .

٢١٥٢٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يروي ذلك عن ربه، (قالَ رَبّكُمْ: أعْدَدْتُ لِعِبـادِي الصّالِـحِينَ ما لا عَيْنٌ رأتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلـى قَلْبِ بَشَرٍ) .

٢١٥٢١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الـحسن فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفِـيَ لَهُمْ مِنْ قُرّةِ أعْيُنٍ قال: أخفوا عملاً فـي الدنـيا، فأثابهم اللّه بأعمالهم.

٢١٥٢٢ـ حدثنـي القاسم بن بشر، قال: حدثنا سلـيـمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن ثابت، عن أبـي رافع، عن أبـي هريرة، قال حماد: أحسبه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (مَنْ يَدْحُلِ الـجَنّةَ يَنْعَمْ وَلا يَبْؤُسْ، لا تَبْلَـى ثِـيابُهُ، وَلا يَفْنَى شَبـابُهُ، فـي الـجَنّةِ ما لا عَيْنٌ رأتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلـى قَلْبِ بَشَرٍ) .

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفِـيَ لَهمْ مِنْ قُرّةِ أعْيُنٍ فقرأ ذلك بعض الـمدنـيـين والبصريـين، وبعض الكوفـيـين: أُخْفِـيَ بضم الألف وفتـح الـياء بـمعنى فُعِل. وقرأ بعض الكوفـيـين: (أُخْفِـي لَهُمْ) بضم الألف وإرسال الـياء، بـمعنى أفعل، أخفـي لهم أنا.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان، متقاربتا الـمعنى، لأن اللّه إذا أخفـاه فهو مخفـى، وإذا أخفـى فلـيس له مخف غيره، و (ما) فـي قوله فَلا تَعْلَـمُ نَفْسٌ ما أُخْفِـيَ لَهُمْ فإنها إذا جعلت بـمعنى الذي كانت نصبـا بوقوع تعلـم علـيها كيف قرأ القارىء أخفـى، وإذا وجهت إلـى معنى أيّ كانت رفعا إذا قرىء أخفـى بنصب الـياء وضم الألف، لأنه لـم يسمّ فـاعله، وإذا قرىء أُخْفِـي بإرسال الـياء كانت نصبـا بوقوع أخفـي علـيها.

١٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاّ يَسْتَوُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: أفهذا الكافر الـمكذّب بوعد اللّه ووعيده، الـمخالف أمر اللّه ونهيه، كهذا الـمؤمن بـاللّه ، الـمصدّق بوعده ووعيده، الـمطيع له فـي أمره ونهيه؟ كلا لا يستوون عند اللّه . يقول: لا يعتدل الكفّـار بـاللّه ، والـمؤمنون به عنده، فـيـما هو فـاعل بهم يوم القـيامة. وقال: لا يَسْتَوُونَ فجمع، وإنـما ذكر قبل ذلك اثنـين: مؤمنا، وفـاسقا، لأنه لـم يرد بـالـمؤمن: مؤمنا واحدا، وبـالفـاسق: فـاسقا واحدا، وإنـما أريد به جميع الفسّاق، وجميع الـمؤمنـين بـاللّه . فإذا كان الاثنان غير مصمود لهما، ذهبت بهما العرب مذهب الـجمع.

وذُكر أن هذه الاَية نزلت فـي علـيّ بن أبـي طالب، رضوان اللّه علـيه، والولـيد بن عُقبة. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٢٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قال: ثنـي ابن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نزلت بـالـمدينة، فـي علـيّ بن أبـي طالب، والولـيد بن عقبة بن أبـي معيط كان بـين الولـيد وبـين علـيّ كلام، فقال الولـيد بن عقبة: أنا أبسط منك لسانا، وأحدّ منك سنانا، وأردّ منك للكتـيبة، فقال علـيّ: اسكت، فإنك فـاسق، فأنزل اللّه فـيهما: أفمَنْ كانَ مُؤْمِنا كمَنْ كانَ فـاسِقا لا يَسْتَوُونَ... إلـى قوله بِهِ تُكَذّبُونَ.

٢١٥٢٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله أفمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كمَنْ كانَ فـاسِقا لا يَسْتَوُونَ قال: لا واللّه ما استووا فـي الدنـيا، ولا عند الـموت، ولا فـي الاَخرة.

١٩

و قوله: أمّا الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالـحِاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الـمأْوَى

يقول تعالـى ذكره: أما الذين صدّقوا اللّه ورسوله، وعملوا بـما أمرهم اللّه ورسوله، فلهم جنات الـمأوى: يعني بساتـين الـمساكن التـي يسكنونها فـي الاَخرة ويأوون إلـيها.

و قوله: نُزُلاً بِـما كانُوا يَعْمَلُونَ يقول: نزلاً بـما أنزلهموها جزاء منه لهم بـما كانوا يعملون فـي الدنـيا بطاعته.

٢٠

و قوله: وأمّا الّذِينَ فَسَقُوا

يقول تعالـى ذكره: وأما الذين كفروا بـاللّه ، وفـارقوا طاعته فَمأْوَاهُمُ النّارُ يقول: فمساكنهم التـي يأوون إلـيها فـي الاَخرة النار كُلّـما أرَادوا أنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِـيهَا وَقِـيـلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النّارِ الّذِي كُنْتُـمْ بِهِ فـي الدنـيا تُكَذّبُونَ أن اللّه أعدّها لأهل الشرك به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٢٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وأمّا الّذِينَ فَسَقُوا أشركوا وَقِـيـلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النّارِ الّذِي كُنْتُـمْ به تُكَذّبُونَ والقوم مكذّبون كما ترون.

٢١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَنُذِيقَنّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الأدْنَىَ دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ }.

اختلف أهل التأويـل فـي معنى العذاب الأدنى، الذي وعد اللّه أن يذيقه هؤلاء الفسقة، فقال بعضهم: ذلك مصائب الدنـيا فـي الأنفس والأموال. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٢٦ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـي، عن ابن عباس وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى يقول: مصائب الدنـيا وأسقامها وبلاؤها مـما يبتلـي اللّه بها العبـاد حتـى يتوبوا.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ لعلّهُمْ يَرْجِعُونَ قال: العذاب الأدنى: بلاء الدنـيا،

قـيـل: هي الـمصائب.

٢١٥٢٧ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة ، عن عروة، عن الـحسن العرنـي، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن أُبـيّ بن كعب وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأَدْنَى قال: الـمصيبـات فـي الدنـيا. قال: والدخان قد مضى، والبطشة واللزام.

قال أبو موسى: ترك يحيى بن سعيد، يحيى بن الـجزار، نقصان رجل.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد ومـحمد بن جعفر، قالا: حدثنا شعبة، عن قتادة ، عن ابن عروة، عن الـحسن العرنـي، عن يحيى بن الـجزار، عن ابن أبـي لَـيـلـى، عن أُبـيّ بن كعب، أنه قال: فـي هذه الاَية وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ قال: مصيبـات الدنـيا، واللزوم والبطشة، أو الدخان شكّ شعبة فـي البطشة أو الدخان.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة ، عن عروة، عن الـحسن العرنـي، عن يحيى بن الـجزّار، عن ابن أبـي لَـيـلـى، عن أُبـيّ بن كعب، بنـحوه، إلاّ أنه قال: الـمصيبـات واللزوم والبطشة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا زيد بن حبـاب، عن شعبة، عن قتادة ، عن عروة، عن الـحسن العرنـي، عن يحيى بن الـجزّار، عن عبد الرحمن بن أبـي لَـيـلـى، عن أُبـيّ بن كعب، قال: الـمصيبـات يصابون بها فـي الدنـيا: البطشة، والدخان، واللزوم.

٢١٥٢٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن أبـي جعفر الرازي، عن الربـيع، عن أبـي العالـية وَلَنُذيقَنّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنَى قال: الـمصائب فـي الدنـيا.

٢١٥٢٩ـ قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن جُوَيبر، عن الضحاك وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: الـمصيبـات فـي دنـياهم وأموالهم.

٢١٥٣٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، حدثه، عن الـحسن، قوله وَلَنُذيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى: أي مصيبـات الدنـيا.

٢١٥٣١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم وَلَنُذيقَنّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنَى قال: أشياء يُصابون بها فـي الدنـيا.

وقال آخرون: عنى بها الـحدود. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٣٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شبـيب، عن عكرمة، عن ابن عباس وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: الـحدود.

وقال آخرون: عنى بها القتل بـالسيف، قال: وقتلوا يوم بدر. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٣٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن السديّ، عن أبـي الضحى، عن مسروق، عن عبد اللّه ، وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى قال: يوم بدر.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن السديّ، عن أبـي الضحى، عن مسروق، عن عبد اللّه مثله.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيـل، عن السديّ، عن مسروق، عن عبد اللّه ، مثله.

٢١٥٣٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عوف عمن حدثه، عن الـحسن بن علـيّ، أنه قال وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: القتل بـالسيف صبرا.

٢١٥٣٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الأعلـى، عن عوف، عن عبد اللّه بن الـحارث بن نوفل وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: القتل بـالسيف، كلّ شيء وعد اللّه هذه الأمة من العذاب الأدنى إنـما هو السيف.

٢١٥٣٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: القتل والـجوع لقريش فـي الدنـيا.

٢١٥٣٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: كان مـجاهد يحدّث عن أُبـيّ بن كعب أنه كان يقول وَلَنُذيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ يوم بدر.

وقال آخرون: عنى بذلك سنون أصابتهم. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٣٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنَى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: سنون أصابتهم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم، مثله.

وقال آخرون: عنى بذلك: عذاب القبر. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٣٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة، قال: حدثنا عبـيد اللّه ، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى، عن مـجاهد : وَلَنُذيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ قال: الأدنى فـي القبور وعذاب الدنـيا.

وقال آخرون: ذلك عذاب الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٤٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذاب الأدْنَى قال: العذاب الأدنى: عذاب الدنـيا.

وأولـى الأقوال فـي ذلك أن يقال: إن اللّه وعد هؤلاء الفسقة الـمكذّبـين بوعيده فـي الدنـيا العذاب الأدنى، أن يذيقهموه دون العذاب الأكبر، والعذاب: هو ما كان فـي الدنـيا من بلاء أصابهم، إما شدّة من مـجاعة، أو قتل، أو مصائب يصابون بها، فكل ذلك من العذاب الأدنى، ولـم يخصص اللّه تعالـى ذكره، إذ وعدهم ذلك أن يعذّبهم بنوع من ذلك دون نوع، وقد عذّبهم بكل ذلك فـي الدنـيا بـالقتل والـجوع والشدائد والـمصائب فـي الأموال، فأوفـى لهم بـما وعدهم.

و قوله: دُونَ العَذَاب الأكْبَرِ يقول: قبل العذاب الأكبر، وذلك عذاب يوم القـيامة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٤١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن السديّ، عن أبـي الضحى، عن مسروق، عن عبد اللّه دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ قال: يوم القـيامة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيـل، عن السديّ، عن مسروق، عن عبد اللّه مثله.

٢١٥٤٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ يوم القـيامة فـي الاَخرة.

حدثنـي مـحمد بن عمارة، قال: حدثنا عبـيد اللّه ، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى، عن مـجاهد دونَ العَذَابِ الأكْبَرِ يوم القـيامة.

٢١٥٤٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ يوم القـيامة. حدّث به قتادة ، عن الـحسن.

٢١٥٤٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله دُونَ العَذَاب الأكْبَرِ قال: العذاب الأكبر: عذاب الاَخرة.

وقوله لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول: كي يرجعوا ويتوبوا بتعذيبهم العذاب الأدنى. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٤٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن السديّ، عن أبـي الضحى، عن مسروق، عن عبد اللّه لَعلّهُمْ يَرْجِعُونَ قال: يتوبون.

٢١٥٤٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن أبـي جعفر الرازيّ، عن الربـيع، عن أبـي العالـية لَعَلّهُمْ يَرْجعونَ قال: يتوبون.

٢١٥٤٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ: أي يتوبون.

٢٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن ذُكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ ثُمّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: وأيّ الناس أظلـم لنفسه مـمن وعظه اللّه بحججه، وآي كتابه ورسله، ثم أعرض عن ذلك كله، فلـم يتعظ بـمواعظه، ولكنه استكبر عنها.

وقوله إنّا مِنَ الـمُـجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ يقول: إنا من الذين اكتسبوا الاَثام، واجترحوا السيئات منتقمون.

وكان بعضهم يقول: عنى بـالـمـجرمين فـي هذا الـموضع: أهل القدر. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٤٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا مروان بن معاوية، قال: أخبرنا وائل بن داود، عن مروان بن سفـيح، عن يزيد بن رفـيع، قال: إن قول اللّه فـي القرآن إنّا مِنَ الـمُـجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ هم أصحاب القدر، ثم قرأ إنّ الـمُـجْرِمِينَ فِـي ضَلالٍ وَسُعُرٍ... إلـى قوله خَـلَقْناهُ بِقَدَرٍ.

حدثنا الـحسن بن عرفة، قال: حدثنا مروان، قال: أخبرنا وائل بن داود، عن ابن سفـيح، عن يزيد بن رفـيع بنـحوه، إلاّ أنه قال فـي حديثه: ثم قرأ وائل بن داود هؤلاء الاَيات إنّ الـمُـجْرِمِينَ فِـي ضَلالٍ وسُعُرٍ... إلـى آخر الاَيات.

وقال آخرون فـي ذلك، بـما:

٢١٥٤٩ـ حدثنـي به عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا مـحمد بن الـمبـارك، قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبـيد اللّه ، عن عبـادة بن نسيّ، عن جنادة بن أبـي أُميّة، عن معاذ بن جبل، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (ثَلاثٌ مَنْ فَعَلَهُنّ فَقَدْ أجْرَمَ: مَنِ اعْتَقَدَ لِوَاءً فِـي غيرِ حَقّ، أوْ عَقّ وَالِدَيْهِ، أوْ مَشَى مَعَ ظالِـمٍ يَنْصُرُهُ فَقَدْ أجْرَمَ. يَقُولُ اللّه : إنّا مِنَ الـمُـجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) .

٢٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ }.

يقول تعالـى ذكره: ولقد آتـينا موسى التوراة، كما آتـيناك الفرقان يا مـحمد فَلا تَكُنْ فِـي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ يقول: فلا تكن فـي شكّ من لقائه فكان قتادة يقول: معنى ذلك: فلا تكن فـي شكّ من أنك لقـيته، أو تلقاه لـيـلة أُسري بك، وبذلك جاء الأثر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .

٢١٥٥٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة عن أبـي العالـية الرياحي، قال: حدثنا ابن عمّ نبـيكم، يعني ابن عباس ، قال: قال نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أُرِيتُ لَـيْـلَةَ أُسْرِيَ بِـي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلاً آدَمَ طِوَالاً جَعْدا، كأنّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ، ورأيْتُ عِيسَى رَجُلاً مَربُوعَ الـخَـلْقِ إلـى الـحُمْرَةِ والبَـياضِ، سَبْطَ الرأسِ، ورأيْتُ مالِكا خازِنَ النّارِ، والدّجّالَ) فـي آيات أرَاهُنّ اللّه إيّاهُ، فَلا تَكُنْ فِـي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ أنه قد رأى موسى، ولقـي موسى لـيـلة أُسري به.

و قوله: وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِـي إسْرائِيـلَ

يقول تعالـى ذكره: وجعلنا موسى هدى لبنـي إسرائيـل، يعني : رشادا لهم يرشدون بـاتبـاعه، ويصيبون الـحقّ بـالاقتداء به، والائتـمام بقوله . وبـالذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٥١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِـي إسْرائِيـلَ قال: جعل اللّه موسى هدى لبنـي إسرائيـل.

٢٤

و قوله: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمّةً

يقول تعالـى ذكره: وجعلنا من بنـي إسرائيـل أئمة، وهي جمع إمام، والإمام الذي يؤتـمّ به فـي خير أو شرّ، وأريد بذلك فـي هذا الـموضع أنه جعل منهم قادة فـي الـخير، يؤتـم بهم، ويُهْتَدى بهديهم. كما:

٢١٥٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمّةً يَهْدُونَ بأمْرِنا قال: رؤساء فـي الـخير. وقوله يَهْدُونَ بأمْرِنا

يقول تعالـى ذكره: يهدون أتبـاعهم وأهل القبول منهم بإذننا لهم بذلك، وتقويتنا إياهم علـيه.

و قوله: لَـمّا صَبرُوا اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة، وبعض أهل الكوفة: لَـمّا صَبرُوا بفتـح اللام وتشديد الـميـم، بـمعنى: إذ صبروا، وحين صبروا. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: (لِـمَا) بكسر اللام وتـخفـيف الـميـم، بـمعنى: لصبرهم عن الدنـيا وشهواتها، واجتهادهم فـي طاعتنا، والعمل بأمرنا. وذُكر أن ذلك فـي قراءة ابن مسعودِ: (بـمَا صَبَرُوا) . وما إذا كسرت اللام من (لِـمَا) فـي موضع خفض، وإذا فتـحت اللام وشدّدت الـميـم، فلا موضع لها، لأنها حينئذٍ أداة.

والقول عندي فـي ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا الـمعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما عامة من القرّاء فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وتأويـل الكلام إذا قُرىء ذلك بفتـح اللام وتشديد الـميـم: وجعلنا منهم أئمة يهدون أتبـاعهم بإذننا إياهم، وتقويتنا إياهم علـى الهداية، إذ صبروا علـى طاعتنا، وعزفوا أنفسهم عن لذّات الدنـيا وشهواتها. وإذا قرىء بكسر اللام علـى ما قد وصفنا. وقد:

٢١٥٥٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: قال أبـي، سمعنا فـي وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمّةً يَهْدُونَ بأمْرِنا لَـمّا صبَرُوا قال: عن الدنـيا.

و قوله: وكانُوا بآياتِنا يُوقِنُونَ يقول: وكانوا أهل يقـين بـما دلهم علـيه حججنا، وأهل تصديق بـما تبـين لهم من الـحقّ وإيـمان برسلنا، وآيات كتابنا وتنزيـلنا.

٢٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ رَبّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: إن ربك يا مـحمد هو يبـين جميع خـلقه يوم القـيامة فـيـما كانوا فـيه فـي الدنـيا يختلفون من أمور الدين والبعث والثواب والعقاب، وغير ذلك من أسبـاب دينهم، فـيفرق بـينهم بقضاء فـاصل بإيجابه لأهل الـحقّ الـجنة، ولأهل البـاطل النار.

٢٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: أَوَ لـم يبـين لهم؟ كما:

٢١٥٥٤ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس أوَ لَـمْ يَهْدِ لَهُمْ يقول: أو لـم يبـين لهم.

وعلـى القراءة بـالـياء فـي ذلك قرّاء الأمصار، وكذلك القراءة عندنا لإجماع الـحجة من القرّاء، بـمعنى: أو لـم يبـين لهم إهلاكنا القرون الـخالـية من قبلهم، سنتنا فـيـمن سلك سبـيـلهم من الكفر بآياتنا، فـيتعظوا وينزجروا. وقوله كَمْ إذا قُرىء يهْدِ بـالـياء، فـي موضع رفع بـيهد. وأما إذا قرىء ذلك بـالنون (أوَ لَـمْ نَهْدِ) فإن موضع (كم) وما بعدها نصب.

و قوله: يَـمْشونَ فِـي مَساكِنهمْ

يقول تعالـى ذكره: أو لـم يبـين لهن كثرة إهلاكنا القرون الـماضية من قبلهم يـمشون فـي بلادهم وأرضهم، كعاد وثمود. كما:

٢١٥٥٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أو لَـمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهمْ مِنَ القُرُونِ عاد وثمود وأنهم إلـيهم لا يُرجعون.

و قوله: إنّ فِـي ذلكَ لاَياتٍ

يقول تعالـى ذكره: إن فـي خلاء مساكن القرون الذين أهلكناهم من قبل هؤلاء الـمكذّبـين بآيات اللّه من قريش من أهلها الذين كانوا سكانها وعمّارها بإهلاكنا إياهم لـما كذّبوا رسلنا، وجحدوا بآياتنا، وعبدوا من دون اللّه آلهة غيره التـي يـمرّون بها فـيعاينونها، لاَيات لهم وعظات يتعظون بها، لو كانوا أولـي حجا وعقول. يقول اللّه : أفَلا يَسْمَعُونَ عظات اللّه وتذكيره إياهم آياته، وتعريفهم مواضع حججه؟

٢٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: أو لـم ير هؤلاء الـمكذّبون بـالبعث بعد الـموت والنشر بعد الفناء، أنا بقُدرتنا نسوق الـماء إلـى الأرض الـيابسة الغلـيظة التـي لا نبـات فـيها وأصله من قولهم: ناقة جرز: إذا كانت تأكل كلّ شيء، وكذلك الأرض الـجروز: التـي لا يبقـى علـى ظهرها شيء إلاّ أفسدته، نظير أكل الناقة الـجراز كلّ ما وجدته، ومنه قولهم للإنسان الأكول: جَرُوز، كما قال الراجز:

(خَبّ جَرُوزٌ وَإذَات )

ومنه قـيـل للسيف إذا كان لا يبقـي شيئا إلاّ قطعه: سيف جراز، فـيه لغات أربع: أرض جُرُز، وجَرْز، وجِرز وجُرْز، والفتـح لبنـي تـميـم فـيـما بلغنـي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٥٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن عمرو، عن ابن عباس الأرْضِ الـجُرُزِ أرض بـالـيـمن.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس ، قال: أرض بـالـيـمن.

٢١٥٥٧ـ قال: ثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد اللّه بن الـمبـارك عن معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أوَ لَـمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ الـمَاءَ إلـى الأرْضِ الـجُرُزِ قال: أبـين ونـحوها.

حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة، قال: حدثنا عبد الرزاق بن عمر، عن ابن الـمبـارك، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، مثله، إلاّ أنه قال: ونـحوها من الأرض.

٢١٥٥٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن رجل، عن ابن عباس ، فـي قوله إلـى الأرْضِ الـجُرُزِ قال: الـجرز: التـي لا تُـمطر إلاّ مطرا لا يغنـي عنها شيئا، إلاّ ما يأتـيها من السيول.

٢١٥٥٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا مـحمد بن يزيد، عن جُوَيبر، عن الضحاك إلـى الأرْضِ الـجُرُزِ لـيس فـيها نبت.

٢١٥٦٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أوَ لَـمْ يَرَوْا أنّا نَسوقُ الـمَاءَ إلـى الأرْضِ الـجُرُز الـمغبرة.

٢١٥٦١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: أوَ لَـمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ الـمَاءَ إلـى الأرْضِ الـجُرزِ قال: الأرض الـجرز: التـي لـيس فـيها شيء، لـيس فـيها نبـات. وفـي قوله: صَعيدا جُرُزا قال: لـيس علـيها شيء ولـيس فـيها نبـات ولا شيء.

فنـخرجُ به زرعا تأكلُ منهُ أنعامهُمْ وَأنْفُسهُمْ

يقول تعالـى ذكره: فنـخرج بذلك الـماء الذي نسوقه إلـيها علـى يبسها وغلظها وطول عهدها بـالـماء زرعا خضرا تأكل منه مواشيهم، وتغذَى به أبدانهم وأجسامهم فـيعيشون به أفَلا يُبْصرُونَ

يقول تعالـى ذكره: أفلا يرون ذلك بأعينهم، فـيعلـموا برؤيتهموه أن القدرة التـي بها فعلت ذلك لا يتعذّر علـيّ أن أحيى بها الأموات وأُنشرهم من قبورهم، وأعيدهم بهيئاتهم التـي كانوا بها قبل وفـاتهم.

٢٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.

يقول تعالـى ذكره: وَيَقُولُونَ هؤلاء الـمشركون بـاللّه يا مـحمد لك مَتـى هَذَا الْفَتْـحُ. واختلف فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: متـى يجيء هذا الـحكم بـيننا وبـينكم، ومتـى يكون هذا الثواب والعقاب. ذكر من قال ذلك:

٢١٥٦٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، فـي قوله وَيَقُولُونَ مَتـى هَذَا الفَتْـحُ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ قال: قال أصحاب نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن لنا يوما أوشك أن نستريح فـيه وننعم فـيه، فقال الـمشركون مَتـى هَذَا الفَتْـحُ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ.

وقال آخرون: بل عنى بذلك: فتـح مكة.

والصواب من القول فـي ذلك قول من قال: معناه: ويقولون متـى يجيء هذا الـحكم بـيننا وبـينكم، يعنون العذاب، يدلّ علـى أن ذلك معناه

٢٩

قوله: قُلْ يَوْمَ الفَتْـحِ لا يَنْفَعُ الّذِينَ كَفَرُوا إيـمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ

ولا شكّ أن الكفـار قد كان جعل اللّه لهم التوبة قبل فتـح مكة وبعده، ولو كان معنى قوله مَتـى هَذَا الفَتْـحُ علـى ما قاله من قال: يعني به: فتـح مكة، لكان لا توبة لـمن أسلـم من الـمشركين بعد فتـح مكة، ولا شكّ أن اللّه قد تاب علـى بشر كثـير من الـمشركين بعد فتـح مكة، ونفعهم بـالإيـمان به وبرسوله فمعلوم بذلك صحة ما قلنا من التأويـل، وفساد ما خالفه.

و قوله: إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ يعني : إن كنتـم صادقـين فـي الذي تقولون من أنا معاقبون علـى تكذيبنا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم ، وعبـادتنا الاَلهة والأوثان.

و قوله: قُلْ يَوْمَ الفَتْـحِ يقول لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قل يا مـحمد لهم يوم الـحكم، ومـجيء العذاب: لا ينفع من كفر بـاللّه وبآياته إيـمانهم الذي يحدثونه فـي ذلك الوقت. كما:

٢١٥٦٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله قُلْ يَوْمَ الفَتْـحِ لا يَنْفَعُ الّذِينَ كَفَرُوا إيـمَانُهُمْ قال: يوم الفتـح إذا جاء العذاب.

٢١٥٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد يَوْمَ الفَتْـحِ يوم القـيامة. ونصب الـيوم فـي قوله قُلْ يَوْمَ الفَتْـحِ ردّا علـى متـى، وذلك أن (متـى) فـي موضع نصب. ومعنى الكلام: أنـي حينُ هذا الفتـح إن كنتـم صادقـين، ثم قـيـل يوم كذا، وبه قرأ القرّاء.

و قوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يقول: ولا هم يؤخرون للتوبة والـمراجعة.

٣٠

وقوله فأعْرِضْ عَنْهُمْ وانْتَظِرْ إنّهُمْ مُنْتَظِرونَ يقول لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : فأعرض يا مـحمد عن هؤلاء الـمشركين بـاللّه ، القائلـين لك: متـى هذا الفتـح، الـمستعجلـيك بـالعذاب، وانتظر ما اللّه صانع بهم، إنهم منتظرون ما تعدهم من العذاب ومـجيء الساعة. كما:

٢١٥٦٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَأعْرِضْ عَنْهُمْ، وَانْتَظرْ إنّهُمْ مُنْتَظِرُونَ يعني يوم القـيامة.

آخر تفسير سورة السجدة، وللّه الـحمد والـمنة.

﴿ ٠