تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة سبأ

مكية وآياتها أربع وخمسون

بسم اللّه الرحمَن الرحيـم

١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الْحَمْدُ للّه الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الاَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }.

يقول تعالـى ذكره: الشكر الكامل، والـحمد التامّ كله، للـمعبود الذي هو مالك جميع ما فـي السموات السبع، وما فـي الأرَضين السبع دون كل ما يعبدونه، ودون كل شيء سواه، لا مالك لشيء من ذلك غيره فـالـمعنى: الذي هو مالك جميعه وَلهُ الـحَمْدُ فِـي الاَخِرَةِ يقول: وله الشكر الكامل فـي الاَخرة، كالذي هو له ذلك فـي الدنـيا العاجلة، لأن منه النعم كلها علـى كل من فـي السموات والأرض فـي الدنـيا، ومنه يكون ذلك فـي الاَخرة، فـالـحمد للّه خالصا دون ما سواه فـي عاجل الدنـيا، وآجل الاَخرة، لأن النعم كلها من قِبله لا يُشركه فـيها أحد من دونه، وهو الـحكيـم فـي تدبـيره خـلقه وصرفه إياهم فـي تقديره، خبـير بهم وبـما يصلـحهم، وبـما عملوا، وما هم عاملون، مـحيط بجميع ذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٠٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَهوَ الـحَكِيـمُ الـخَبِـيرُ حكيـم فـي أمره، خبـير بخـلقه.

٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرّحِيمُ الْغَفُورُ }.

يقول تعالـى ذكره: يعلـم ما يدخـل الأرض وما يغيب فـيها من شيء من قولهم: ولـجت فـي كذا: إذا دخـلت فـيه، كما قال الشاعر:

رأيْتُ القَوَافِـي يَتّلِـجْنَ مَوَالِـجاتَضَايَقُ عَنْها أنْ تَوَلّـجَها الإبَرْ

 يعني ب قوله: (يتّلـجن موالـجا) : يدخـلن مداخـل وَما يخْرُجُ مِنْها يقول: وما يخرج من الأرض وَما يَنْزِلِ مِنَ السّماءِ وَما يَعْرُجُ فِـيها يعني : وما يصعد فـي السماء وذلك خبر من اللّه أنه العالـم الذي لا يخفـى علـيه شيء فـي السموات والأرض، مـما ظهر فـيها وما بطن، وهو الرحيـم الغفور وهو الرحيـم بأهل التوبة من عبـاده أن يعذّبهم بعد توبتهم، الغفور لذنوبهم إذا تابوا منها.

٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السّاعَةُ ...}.

يقول تعالـى ذكره: ويستعجلك يا مـحمد الذين جحدوا قُدرة اللّه علـى إعادة خـلقه بعد فنائهم بهيئتهم التـي كانوا بها من قبل فنائهم من قومك بقـيام الساعة، استهزاء بوعدك إياهم، وتكذيبـا لـخبرك، قل لهم: بلـى تأتـيكم وربـي، قسما به لتأتـينكم الساعة، ثم عاد جلّ جلاله بعد ذكره الساعة علـى نفسه، وتـمـجيدها، فقال: عالِـمِ الغَيْبِ.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة: (عالِـمُ الغَيْبِ) علـى مثال فـاعل، بـالرفع علـى الاستئناف، إذ دخـل بـين قوله: وَرَبّـي، وبـين قوله: عالِـمَ الغَيْبِ كلام حائل بـينه وبـينه. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة والبصرة، عالـم علـى مثال فـاعل، غير أنهم خفضوا عالـم ردّا منهم له علـى قوله وَرَبّـي إذ كان من صفته. وقرأ ذلك بقـية عامة قرّاء الكوفة: (عَلاّمِ الغَيْبِ) علـى مثال فعّال، وبـالـخفض ردّا لإعرابه علـى إعراب قوله وَرَبّـي إذ كان من نعته.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا، أن كلّ هذه القراءات الثلاث، قراءات مشهورات فـي قرّاء الأمصار متقاربـات الـمعانـي، فبأيتهنّ قرأ القارىء فمصيب غير أن أعجب القراءات فـي ذلك إلـيّ أقرأ بها: (عَلاّمِ الغَيْبِ) علـى القراءة التـي ذكرتها عن عامة قرّاء أهل الكوفة فأما اختـيار علام علـى عالـم، فلأنها أبلغ فـي الـمدح. وأما الـخفض فـيها فلأنها من نعت الربّ، وهو فـي موضع الـجرّ. وعنى ب قوله: (عَلاّم الغَيْبِ) علام ما يغيب عن أبصار الـخـلق، فلا يراه أحد، إما ما لـم يكوّنه مـما سيكوّنه، أو ما قد كوّنه فلـم يُطلع علـيه أحدا غيره. وإنـما وصف جل ثناؤه فـي هذا الـموضع نفسه بعلـمه الغيب، إعلاما منه خـلقه أن الساعة لا يعلـم وقت مـجيئها أحد سواه، وإن كانت جائية، فقال لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قل للذين كفروا بربهم: بلـى وربكم لتأتـينكم الساعة، ولكنه لا يعلـم وقت مـجيئها أحد سوى علام الغيوب، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة.

 يعني جل ثناؤه ب قوله: وَلا يَعْزُبُ عَنْهُ لا يغيب عنه، ولكنه ظاهر له. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٠٤ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـي، عن ابن عباس فـي قوله: لا يَعْزُبُ عَنْهُ يقول: لا يغيب عنه.

٢١٩٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه : لا يَعْزُبُ عَنْهُ قال: لا يغيب.

٢١٩٠٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرّةٍ: أي لا يغيب عنه.

وقد بـيّنا ذلك بشواهده فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

و قوله: مِثْقالُ ذَرّةٍ يعني : زنة ذرّة فـي السموات ولا فـي الأرض

يقول تعالـى ذكره: لا يغيب عنه شيء من زنة ذرّة فما فوقها فما دونها، أين كان فـي السموات ولا فـي الأرض وَلا أصْغَرُ مِنْ ذلكَ يقول: ولا يعزب عنه أصغر من مثقال ذرّة وَلا أكْبَرُ منه إلاّ فِـي كِتابٍ مُبِـينٍ يقول: هو مثبت فـي كتاب يبـين للناظر فـيه أن اللّه تعالـى ذكره قد أثبته وأحصاه وعلـمه، فلـم يعزب عن علـمه.

٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.

يقول تعالـى ذكره: أثبت ذلك فـي الكتاب الـمبـين، كي يثـيب الذين آمنوا بـاللّه ورسوله، وعملوا بـما أمرهم اللّه ورسوله به، وانتهوا عما نهاهم عنه علـى طاعتهم ربهم أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ

يقول جلّ ثناؤه: لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالـحات، مغفرة مِن رَبهم لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيـمٌ يقول: وعيش هنـيء يوم القـيامة فـي الـجنة، كما:

٢١٩٠٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيـمٌ فـي الـجنة.

٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ سَعَوْا فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ }.

يقول تعالـى ذكره: أثبت ذلك فـي الكتاب، لـيجزي الـمؤمنـين ما وصف، ولـيجزي الذين سعوا فـي آياتنا معاجزين يقول: وكي يثـيب الذين عملوا فـي إبطال أدلتنا وحججنا معاونـين، يحسبون أنهم يسبقوننا بأنفسهم فلا نقدر علـيهم أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ يقول: هؤلاء لهم عذاب من شديد العذاب الألـيـم و يعني بـالألـيـم: الـموجع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٠٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَسَعَوْا فـي آياتِنا مُعَاجِزِينَ: أي لا يعجزون أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ ألِـيـمٌ قال: الرجز: سوء العذاب، الألـيـم: الـموجع.

٢١٩٠٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قول اللّه : وَالّذِينَ سَعَوْا فِـي آياتِنا مُعاجِزِينَ قال: جاهدين لـيهبطوها أو يبطلوها، قال: وهم الـمشركون، وقرأ: لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرآنِ وَالْغَوْا فِـيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ.

٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَرَى الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ هُوَ الْحَقّ وَيَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }.

يقول تعالـى ذكره: أثبت ذلك فـي كتاب مبـين، لـيجزي الذين آمنوا، والذين سعوا فـي آياتنا ما قد بـين لهم، ولـيرى الذين أوتوا العلـم فـيرى فـي موضع نصب عطفـا به علـى قوله: يَجزي، فـي قوله: لِـيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُوا. وعنى بـالذين أوتوا العلـم: مسلـمة أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام، ونظرائه الذين قد قرؤوا كتب اللّه التـي أُنزلت قبل الفرقان، فقال تعالـى ذكره: ولـيرى هؤلاء الذين أوتوا العلـم بكتاب اللّه الذي هو التوراة، الكتاب الذي أُنزل إلـيك يا مـحمد من ربك هو الـحقّ.

و

قـيـل: عنـي بـالذين أوتوا العلـم: أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . ذكر من قال ذلك:

٢١٩١٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَيَرَى الّذِينَ أُوتُوا العِلْـمَ الّذِي أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رّبّكَ هُوَ الـحَقّ قال: أصحاب مـحمد.

و قوله: وَيهْدِي إلـى صِراطِ العَزِيزِ الـحَمِيدِ يقول: ويرشد من اتبعه، وعمل بـما فـيه إلـى سبـيـل اللّه العزيز فـي انتقامه من أعدائه، الـحميد عند خـلقه، فأياديه عندهم، ونعمه لديهم. وإنـما يعني أن الكتاب الذي أُنزل علـى مـحمد يهدي إلـى الإسلام.

٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلّكُمْ عَلَىَ رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إِنّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }.

يقول تعالـى ذكره: وقال الذين كفروا بـاللّه وبرسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ، متعجبـين من وعده إياهم البعث بعد الـمـمات بعضهم لبعض: هَلْ نَدُلّكُمْ أيها الناس علـى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إذَا مُزّقْتُـمْ كُلّ مُـمَزّقٍ إنّكُمْ لَفِـي خَـلْقٍ جَدِيدٍ يقول: يخبركم أنكم بعد تقطعكم فـي الأرض بلاء وبعد مصيركم فـي التراب رفـاتا، عائدون كهيئتكم قبل الـمـمات خـلقا جديدا، كما: ٢١٩١١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلّكُمْ علـى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إذَا مُزّقْتُـمْ كُلّ مُـمَزّقٍ قال: ذلك مشركو قُريش والـمشركون من الناس، يُنَبّئُكُمْ إذَا مُزّقْتُـمْ كُلّ مُـمَزّقٍ: إذا أكلتكم الأرض، وصرتـم رفـاتا وعظاما، وقطّعتكم السبـاع والطير إنّكُمْ لَفِـي خَـلْقٍ جَدِيدٍ ستـحيون وتبعثون.

٢١٩١٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: هَلْ نَدُلّكُمْ عَلـى رَجُلٍ.... إلـى خَـلْقٍ جَدِيدٍ قال: يقول: إذَا مُزّقْتُـمْ: وإذا بلـيتـم وكنتـم عظاما وترابـا ورفـاتا، ذلك كُلّ مُـمَزّقٍ إنّكُمْ لَفِـي خَـلْقٍ جَدِيدٍ قال: ينبئكم إنكم، فكسر إن ولـم يعمل ينبئكم فـيها، ولكن ابتدأ بها ابتداء، لأن النبأ خبر وقول، فـالكسر فـي إن لـمعنى الـحكاية فـي قوله: يُنَبّئُكُمْ دون لفظه، كأنه

قـيـل: يقول لكم: إنّكُمْ لَفِـي خَـلْقٍ جدِيدٍ.

٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفْتَرَىَ عَلَى اللّه كَذِباً أَم بِهِ جِنّةٌ بَلِ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضّلاَلِ الْبَعِيدِ }.

يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل هؤلاء الذين كفروا به، وأنكروا البعث بعد الـمـمات بعضهم لبعض، معجبـين من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي وعده إياهم ذلك: أفترى هذا الذي يعدنا أنا بعد أن نـمزّق كلّ مـمزّق فـي خـلق جديد علـى اللّه كذبـا، فتـخـلق علـيه بذلك بـاطلاً من القول، وتـخرص علـيه قول الزور أمْ به جِنّةٌ يقول: أم هو مـجنون فـيتكلـم بـما لا معنى له. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩١٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: قالوا تكذيبـا: أفْتَرَى علـى اللّه كَذِبـا قال: قالوا: إما أن يكون يكذب علـى اللّه ، أم به جنة، وإما أن يكون مـجنونا بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ... الاَية.

٢١٩١٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ثم قال بعضهم لبعض: أفْتَرَى عَلـى اللّه كَذِبـا أمْ بِهِ جِنّةٌ الرجل مـجنون فـيتكلـم بـما لا يعقل، فقال اللّه : بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـالاَخِرَةِ فِـي العَذَابِ والضّلالِ البَعِيدِ.

و قوله: بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـالاَخِرَةِ فِـي العَذَابِ والضّلالِ البَعِيدِ

يقول تعالـى ذكره: ما الأمر كما قال هؤلاء الـمشركون فـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وظنوا به من أنه أفترى علـى اللّه كذبـا، أو أن به جنة، لكنّ الذين لا يؤمنون بـالاَخرة من هؤلاء الـمشركين فـي عذاب اللّه فـي الاَخرة، وفـي الذهاب البعيد عن طريق الـحقّ، وقصد السبـيـل، فهم من أجل ذلك يقولون فـيه ما يقولون.

٢١٩١٥ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد قال اللّه : بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـالاَخِرَةِ فِـي العَذَابِ والضّلالِ البَعِيدِ وأمره أن يحلف لهم لـيعتبروا، وقرأ: قُلْ بَلـى وَرَبّـي لَتُبْعَثُنّ ثُمّ لَتُنَبّؤُنّ بِـما عَمِلْتُـمْ... الاَية كلها، وقرأ: قُلْ بَلـى وَربّـي لَتَأْتِـيَنّكُمْ.

وقطعت الألف من قوله: أفْتَرَى علـى اللّه فـي القطع والوصل، ففتُـحت لأنها ألف استفهام. فأما الألف التـي بعدها، التـي هي ألف أفتعل، فإنها ذهبت لأنها خفـيفة زائدة تسقط فـي اتصال الكلام، ونظيرها: سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ وبِـيَدَيّ أسْتَكْبَرْتَ وأَصْطَفَـى الْبَنَاتِ وما أشبه ذلك. وأما ألف (آلاَنَ) (وآلذّكَرَيْنِ) فطوّلت هذه، ولـم تطوّل تلك، لأن آلاَن وآلذكرين كانت مفتوحة، فلو أسقطت لـم يكن بـين الاستفهام والـخبر فرق، فجعل التطويـل فـيها فرقا بـين الاستفهام والـخبر، وألف الاستفهام مفتوحة، فكانتا مفترقتـين بذلك، فأغنى ذلك دلالة علـى الفرق من التطويـل.

٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ...}.

 

يقول تدعالـى ذكره: أفلـم ينظر هؤلاء الـمكذّبون بـالـمعاد، الـجاحدون البعث بعد الـمـمات، القائلون لرسولنا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : أفْتَرَى علـى اللّه كَذِبـا أمْ بِهِ جِنّةٌ إلـى ما بـين أيديهم وما خـلفهم من السماء والأرض، فـيعلـموا أنهم حيث كانوا، فإن أرضي وسمائي مـحيطة بهم من بـين أيديهم ومن خـلفهم، وعن أيـمانهم، وعن شمائلهم، فـيرتدعوا عن جهلهم، ويتزجروا عن تكذيبهم بآياتنا حذرا أن نأمر الأرض فتـخسف بهم، أو السماء فتسقط علـيهم قطعا، فإنّا إن نشأ نفعل ذلك بهم فعلنا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩١٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: أفَلَـمْ يَرَوْا إلـى ما بَـينَ أيْدِيهِمْ وَما خَـلْفَهُمْ قال: ينظرون عن أيـمانهم، وعن شمائلهم، كيف السماء قد أحاطت بهم إنْ نَشأْ نَـخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ كما خسفنا بـمن كان قبلهم أوْ نُسْقِطْ عَلَـيْهِمْ كِسَفـا مّنَ السّماءِ: أي قِطعا من السماء.

و قوله: إنّ فِـي ذلكَ لاَيَةً لِكُلّ عَبْدٍ مُنِـيبٍ

يقول تعالـى ذكره: إن فـي إحاطة السماء والأرض بعبـاد اللّه لاَية يقول: لدلالة لكلّ عبد منـيب يقول: لكل عبد أناب إلـى ربه بـالتوبة، ورجع إلـى معرفة توحيده، والإقرار بربوبـيته، والاعتراف بوحدانـيته، والإذعان لطاعته، علـى أن فـاعل ذلك لا يـمتنع علـيه فعل شيء أراد فعله، ولا يتعذّر علـيه فعل شيء شاءه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩١٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إنّ فِـي ذلكَ لاَيَةً لِكُلّ عَبْدٍ مُنِـيبٍ والـمنـيب: الـمقبل التائب.

١٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنّا فَضْلاً يَجِبَالُ أَوّبِي مَعَهُ وَالطّيْرَ وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ }.

يقول تعالـى ذكره: ولقد أعطينا داود منا فضلاً، وقلنا للـجبـال: أوّبِـي مَعَهُ: سبحي معه إذا سبح.

والتأويب عند العرب: الرجوع، ومبـيت الرجل فـي منزله وأهله ومنه قول الشاعر:

يَوْمانِ يَوْمُ مَقاماتٍ وأنْدِيَةٍوَيَوْمُ سَيْرٍ إلـى الأعْدَاءِ تَأوِيبِ

أي رجوع. وقد كان بعضهم يقرؤه: (أُوْبِـي مَعَهُ) من آب يؤوب، بـمعنى: تصرّفـي معه وتلك قراءة لا أستـجيز القراءة بها لـخلافها قراءة الـحجة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩١٨ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: ثنـي مـحمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كدينة. وحدثنا مـحمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا الـحسن بن الـحسن الأشقر، قال: حدثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عباس أوّبِـي مَعَهُ قال: سَبّحي معه.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله يا جِبـالُ أوّبِـي مَعَهُ يقول: سَبّحِي معه.

٢١٩١٩ـ حدثنا أبو عبد الرحمن العلائي، قال: حدثنا مِسْعر، عن أبـي حُصين، عن أبـي عبد الرحمنيا جِبـالُ أوّبِـي مَعَهُ يقول: سَبّحي.

٢١٩٢٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبـي إسحاق، عن أبـي ميسرة يا جبـالُ أَوّبِـي مَعَهُ قال: سَبّحي، بلسان الـحبشة.

٢١٩٢١ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي، قال: حدثنا فضيـل، عن منصور، عن مـجاهد ، فـي قوله: يا جبـالُ أوّبِـي مَعَهُ قال: سبحي معه.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: يا جبـالُ أوّبِـي مَعَهُ قال: سَبّحي.

٢١٩٢٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة يا جِبـالُ أَوّبِـي مَعَهُ: أي سبّحي معه إذا سبّح.

٢١٩٢٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: يا جِبـالُ أَوّبِـي مَعَهُ قال: سبّحي معه قال: والطيرُ أيضا.

٢١٩٢٤ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله: يا جِبـالُ أَوّبِـي مَعَهُ قال: سبّحي.

حدثنا عمرو بن عبد الـحميد، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن جُوَيبر، عن الضحاك ، قوله: يا جِبـالُ أَوّبِـي مَعَهُ سبّحي معه.

و قوله: والطّيْرَ وفـي نصب الطير وجهان: أحدهما علـى ما قاله ابن زيد من أن الطير نُوديت كما نوديت الـجبـال، فتكون منصوبة من أجل أنها معطوفة علـى مرفوع، بـما لا يحسن إعادة رافعه علـيه، فـيكون كالـمصدر عن جهته. والاَخر: فعل ضمير متروك استغنـي بدلالة الكلام علـيه، فـيكون معنى الكلام: فقلنا: يا جبـال أوّبـي معه، وسخرنا له الطير. وإن رفع ردّا علـى ما فـي قوله (سبحي) من ذكر الـجبـال كان جائزا. وقد يجوز رفع الطير وهو معطوف علـى الـجبـال، وإن لـم يحسن نداؤها بـالذي نُوديت به الـجبـال، فـيكون ذلك كما قال الشاعر:

ألا يا عَمْرُو والضحاك سِيرَافَقَدْ جاوَزْتُـمَا خَمَرَ الطّرِيقِ

و قوله: وألَنّا لَهُ الـحَدِيدَ ذكر أن الـحديد كان فـي يده كالطين الـمبلول يصرّفه فـي يده كيف يشاء بغير إدخال نار، ولا ضرب بحديد. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٢٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وألَنّا لَهُ الـحَدِيدَ سخّر اللّه له الـحديد بغير نار.

٢١٩٢٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن عثمة، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة ، فـي قوله: وألَنّا لَهُ الـحَدِيدَ كان يسوّيها بـيده، ولا يدخـلها نارا، ولا يضربها بحديدة.

و قوله: أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ يقول: وعهدنا إلـيه أن اعمل سابغات، وهي التوامّ الكوامل من الدروع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٢٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ دروع، وكان أوّل من صنعها داود، إنـما كان قبل ذلك صفـائح.

٢١٩٢٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ قال: السابغات: دروع الـحديد.

و قوله: وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ اختلف أهل التأويـل فـي السرد، فقال بعضهم: السرد: هو مسمار حلق الدرع. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٢٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ قال: كان يجعلها بغير نار، ولا يقرعها بحديد، ثم يسردها. والسرد: الـمسامير التـي فـي الـحَلَق.

وقال آخرون: هو الـحلق بعينها. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٣٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ قال: السرد: حلقه أي قدّر تلك الـحلق. قال: وقال الشاعر:

الـمُسَدّي سَرْدَها وأذَالَهَا

قال: يقول: وسعها، وأجاد حلقها() .

٢١٩٣١ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ يعني بـالسرد: ثقب الدروع فـيسد قتـيرها.

وقال بعض أهل العلـم بكلام العرب: يقال درع مسرودة: إذا كانت مسمورة الـحلق واستشهد لقـيـله ذلك بقول الشاعر:

وَعَلَـيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضَاهُمادَاوُدُ أوْ صَنَعُ السّوَابِغَ تُبّعُ

وقـيـل: إنـما قال اللّه لداود: وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ لأنها كانت قبلُ صفـائح. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٣٢ـ حدثنا نصر بن علـيّ، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا خالد بن قـيس، عن قتادة وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ قال: كانت صفـائح، فأمر أن يسردها حلقا.

وعنى بقوله وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ: وقدّر الـمسامير فـي حلق الدروع حتـى يكون بـمقدار لا تغلظ الـمسمار، وتضيق الـحلقة، فتفصم الـحلقة، ولا توسع الـحلقة، وتصغر الـمسامير وتدقها، فتسلس فـي الـحلقة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٣٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ قال: قدّر الـمسامير والـحلق، لا تدقّ الـمسامير فتسلس، ولا تـجلها. قال مـحمد بن عمرو، وقال الـحارث: فتفصم.

حدثنـي علـيّ بن سهل، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد ، فـي قوله: وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ قال: لا تصغر الـمسمار، وتعظم الـحلقة فتسلس، ولا تعظم الـمسمار وتصغر الـحلقة فـيفصم الـمسمار.

٢١٩٣٤ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن عيـينة، قال: حدثنا أبـي، عن الـحكم، فـي قوله: وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ قال: لا تغلظ الـمسمار فـيفصم الـحلقة، ولا تدقه فـيقلق.

و قوله: واعْمَلُوا صَالِـحا

يقول تعالـى ذكره: واعمل يا داود أنت وآلك بطاعة اللّه إنّـي بـمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

يقول جلّ ثناؤه: إنـي بـما تعمل أنت وأتبـاعك ذو بصر لا يخفـى علـيّ منه شيء، وأنا مـجازيك وإياهم علـى جميع ذلك.

١٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ غُدُوّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ... }.

اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَلِسُلَـيْـمانَ الرّيحَ فقرأته عامة قرّاء الأمصار وَلِسُلَـيْـمانَ الرّيحَ بنصب الريح، بـمعنى: ولقد آتـينا داود منا فضلاً، وسخرنا لسلـيـمان الريحَ. وقرأ ذلك عاصم: (وَلِسُلَـيْـمانَ الرّيحُ) رفعا بحرف الصفة، إذ لـم يظهر الناصب.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا النصب لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه.

و قوله: غُدُوّها شَهْرٌ

يقول تعالـى ذكره: وسخرنا لسلـيـمان الريح، غدوّها إلـى انتصاف النهار مسيرة شهر، ورواحها من انتصاف النهار إلـى اللـيـل مسيرة شهر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٣٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَلِسُلَـيْـمانَ الرّيحَ غُدُوّها شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ قال: تغدو مسيرة شهر، وتروح مسيرة شهر، قال: مسيرة شهرين فـي يوم.

٢١٩٣٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه: وَلِسُلَـيْـمانَ الرّيحَ غُدُوّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ قال: ذكر لـي أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فـيه كتاب كتبه بعض صحابة سلـيـمان، إما من الـجنّ، وإما من الإنس: نـحن نزلناه وما بنـيناه، ومبنـيا وجدناه، غدونا من إصطخر فقِلناه، ونـحن رائحون منه إن شاء اللّه فبـائتون بـالشام.

٢١٩٣٧ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَلِسُلَـيْـمانَ الرّيحَ غُدُوّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ قال: كان له مركب من خشب، وكان فـيه ألف ركن، فـي كل ركن ألف بـيت تركب فـيه الـجنّ والإنس، تـحت كل ركن ألف شيطان، يرفعون ذلك الـمركب هم والعصار فإذا ارتفع أتت الريح رُخَاء، فسارت به، وساروا معه، يقـيـل عند قوم بـينه وبـينهم شهر، ويـمسي عند قوم بـينه وبـينهم شهر، ولا يدري القوم إلا وقد أظلهم معه الـجيوش والـجنود.

٢١٩٣٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا قرة، عن الـحسن، فـي قوله غُدُوّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ قال: كان يغدو فـيقـيـل فـي إصطخر، ثم يروح منها، فـيكون رواحها بكابل.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا قرة، عن الـحسن بـمثله.

و قوله: وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ يقول: وأذبنا له عين النـحاس، وأجريناها له. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٣٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ عين النـحاس، كانت بأرض الـيـمن، وإنـما ينتفع الـيوم بـما أخرج اللّه لسلـيـمان.

٢١٩٤٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ قال: الصّفر سال كما يسيـل الـماء، يعمل به كما كان يعمل العجين فـي اللـين.

٢١٩٤١ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ يقول: النـحاس.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ يعني : عين النـحاس أسيـلت.

و قوله: وَمِنَ الـجِنّ مَنْ يَعْمَلُ بَـينَ يَدَيْهِ بإذْنِ رَبّهِ

يقول تعالـى ذكره: ومن الـجنّ من يطيعه، ويأتـمر بأمره، وينتهي لنهيه، فـيعمل بـين يديه ما يأمره طاعة له بإذن ربه يقول: بأمر اللّه بذلك، وتسخيره إياه له وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أمْرِنا يقول: ومن يزُل ويعدل من الـجنّ عن أمرنا الذي أمرناه من طاعة سلـيـمان نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السّعِيرِ فِـي الاَخرة، وذلك عذاب نار جهنـم الـموقدة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٤٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أمْرِنا أي يعدل منهم عن أمرنا عما أمره به سلـيـمان نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السّعِيرِ.

١٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ ... }.

 يعني تعالـى ذكره: يعمل الـجنّ لسلـيـمان ما يشاء من مـحاريب، وهي جمع مـحراب، والـمـحراب: مقدّم كل مسجد وبـيت ومصلّـى ومنه قول عديّ بن زيد:

كَدُمَى العاجِ فِـي الـمَـحارِيبِ أوْ كالْبَـيضِ فـي الرّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِـيرُ

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٤٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: ما يَشاءُ مِنْ مَـحَارِيبَ قال: بنـيان دون القصور.

٢١٩٤٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَـحَارِيبَ وقصور ومساجد.

٢١٩٤٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَـحَارِيبَ قال: الـمـحاريب: الـمساكن. وقرأ قول اللّه : فَنادَتْهُ الـمَلائكَةُ وَهُوَ قائمٌ يُصَلّـي فِـي الـمـحْرابِ.

٢١٩٤٦ـ حدثنـي عمرو بن عبد الـحميد الاَملـي، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن جُوَيبر، عن الضحاك : يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَـحَارِيبَ قال: الـمـحاريب: الـمساجد.

و قوله: وتَـماثِـيـلَ يعني أنهم يعملون له تـماثـيـل من نـحاس وزجاج، كما:

٢١٩٤٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وتَـماثِـيـلَ قال: من نـحاس.

٢١٩٤٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وتَـماثِـيـلَ قال: من زجاج وشَبَه.

٢١٩٤٩ـ حدثنا عمرو بن عبد الـحميد، قال: حدثنا مروان، عن جُوَيبر، عن الضحاك فـي قول اللّه وتَـماثِـيـلَ قال: الصور.

و قوله: وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ يقول: وينـحتون له ما يشاء من جفـان كالـجواب وهي جمع جابـية، والـجابـية: الـحوض الذي يُجْبَـي فـيه الـماء، كما قال الأعشى ميـمون بن قَـيس:

تَرُوحُ علـى نادِي الـمُـحَلّقِ جَفْنَةٌكَجابِـيَةِ الشّيْخِ العِرَاقِـيّ تَفْهَقُ

وكما قال الاَخر:

فَصَبّحْتُ جابِـيَةً صُهارِجاكأنّها جِلْدُ السّماءِ خارِجا

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٥٠ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ يقول: كالـجوبة من الأرض.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ يعني بـالـجواب: الـحياض.

٢١٩٥١ـ وحدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، عن الـحسن وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ قال: كالـحياض.

٢١٩٥٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ قال: حياض الإبل.

٢١٩٥٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ قال: جفـان كجوبة الأرض من العظم، والـجوبة من الأرض: يستنقع فـيها الـماء.

٢١٩٥٤ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ كالـحياض.

حدثنا عمرو، قال: حدثنا مروان بن معاوية، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك : وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ قال: كحياض الإبل من العظم.

و قوله: وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ يقول: وقدور ثابتات لا يحركن عن أماكنهنّ، ولا تـحوّل لعظمهنّ.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٥٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال: عظام.

٢١٩٥٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال: عِظام ثابتات الأرض لا يزُلن عن أمكنتهن.

٢١٩٥٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال: مثال الـجبـال من عِظمها، يعمل فـيها الطعام من الكبر والعظم، لا تـحرّك، ولا تنقل، كما قال للـجبـال: راسيات.

و قوله: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا

يقول تعالـى ذكره: وقلنا لهم اعملوا بطاعة اللّه يا آل داود شكرا له علـى ما أنعم علـيكم من النعم التـي خَصّكم بها عن سائر خـلقه مع الشكر له علـى سائر نعمه التـي عمكم بها مع سائر خـلقه وتُرِك ذكر: وقلنا لهم، اكتفـاء بدلالة الكلام علـى ما ترك منه، وأخرج قوله شُكْرا مصدرا من قوله اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ لأن معنى قوله اعْمَلُوا اشكروا ربكم بطاعتكم إياه، وأن العمل بـالذي رضي اللّه ، للّه شكر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا موسى بن عبـادة، عن مـحمد بن كعب، قوله: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا قال: الشكر: تقوى اللّه ، والعمل بطاعته.

٢١٩٥٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أخبرنـي حَيْوَة، عن زُهْرة بن معبد، أنه سمع أبـا عبد الرحمن الـحبلـي يقول: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا وأفضل الشكر: الـحمد.

٢١٩٦٠ـ قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا قال: أعطاكم وعلـمكم وسخر لكم ما لـم يسخر لغيركم، وعلّـمكم منطق الطير، اشكروا له يا آل داود، قال: الـحمد طرف من الشكر.

و قوله: وَقَلِـيـلٌ مِنْ عِبـادِيَ الشّكُورُ

يقول تعالـى ذكره: وقلـيـل من عبـادي الـمخـلصو توحيدي، والـمفردو طاعتـي وشكري علـى نعمتـي علـيهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٦١ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَقَلِـيـلٌ مِنْ عِبـادِيَ الشّكُورُ يقول: قلـيـل من عبـادي الـموحّدون توحيدهم.

١٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلّهُمْ عَلَىَ مَوْتِهِ إِلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ...}.

يقول تعالـى ذكره: فلـما أمضينا قضاءنا علـى سلـيـمان بـالـموت فمات ما دَلّهُمْ عَلـى مَوْتِهِ يقول: لـم يدلّ الـجنّ علـى موت سلـيـمان إلاّ دَابّةُ الأرْضِ وهي الأَرَضَة وقعت فـي عصاه، التـي كان متكئا علـيها فأكلتها، فذلك قول اللّه عزّ وجلّ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٦٢ـ حدثنـي ابن الـمثنى وعلـيّ، قالا: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ يقول: الأَرَضَة تأكل عصاه.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال: عصاه.

٢١٩٦٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنـي أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: إلاّ دَابّةُ الأرْضِ قال: الأَرَضَة تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال: عصاه.

حدثنـي مـحمد بن عمارة، قال: حدثنا عبد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى، عن مـجاهد تأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال: عصاه.

٢١٩٦٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن عثمة، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة ، فـي قوله: تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ أكلت عصاه حتـى خرّ.

٢١٩٦٥ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: الـمنسأة: العصا بلسان الـحبشة.

٢١٩٦٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الـمنسأة: العصا.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: مِنْسأتَهُ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل البصرة: (مِنْساتَهُ) غير مهموزة وزعم من اعتلّ لقارىء ذلك كذلك من أهل البصرة أن الـمنِساة: العصا، وأن أصلها من نسأت بها الغنـم، قال: وهي من الهمز الذي تركته العرب، كما تركوا همز النبي والبرية والـخابـية، وأنشد لترك الهمز فـي ذلك بـيتا لبعض الشعراء:

إذَا دَبَبتَ عَلـى الـمِنساةِ مِنْ هَرَمٍفَقَدْ تَبـاعَدَ عَنْكَ اللّه وُ والغَزَلُ

وذكر الفراء عن أبـي جعفر الرّوَاسِيّ، أنه سأل عنها أبـا عمرو، فقال: (مِنْساتَهُ) بغير همز.

وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: مِنْسأتَهُ بـالهمز، وكأنهم وجهوا ذلك إلـى أنها مِفْعَلة، من نسأت البعير: إذا زجرته لـيزداد سيره، كما يقال: نسأت اللبن: إذا صببت علـيه الـماء، وهو النّسيء. وكما يقال: نسأ اللّه فـي أجلك أي أدام اللّه فـي أيام حياتك.

قال أبو جعفر: وهما قراءتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما علـماء من القرّاء بـمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، وأن كنت أختار الهمز فـيها لأنه الأصل.

و قوله: فَلَـمّا خَرّ تَبَـيّنَتِ الـجِنّ يقول عزّ وجلّ: فلـما خرّ سلـيـمان ساقطا بـانكسار منسأته تبـيّنت الـجنّ أنْ لو كانوا يعلـمون الغَيْبَ الذي يدّعون علـمه ما لَبِثُوا فِـي العَذَابِ الـمُهِينِ الـمذلّ حولاً كاملاً بعد موت سلـيـمان، وهم يحسبون أن سلـيـمان حيّ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٦٧ـ حدثنا أحمد بن منصور، قال: حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة، قال: حدثنا إبراهيـم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عباس ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (كانَ سُلَـيْـمانُ نَبِـيّ اللّه إذَا صَلّـى رأَى شَجَرَةً نابِتَةً بـينَ يَدَيْهِ، فَـيَقُولُ لَهَا: ما اسمُكِ؟ فَتَقُولُ: كَذَا، فَـيَقُولُ: لأَيّ شَيْءٍ أنْتِ؟ فإنْ كانَتْ تُغْرَسُ غُرِسَتْ، وَإنْ كانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ، فَبَـيْنَـما هُوَ يُصَلّـي ذَاتَ يَوْمٍ، إذْ رأى شَجَرَةً بـينَ يَدَيْهِ، فَقالَ لَهَا: ما اسمُكِ؟ قالَتْ: الـخَرّوب، قالَ: لأَيّ شَيْءٍ أنْتِ؟ قالَتْ: لـخَرَابِ هَذَا البَـيْتِ، فَقالَ سُلَـيْـمانُ: اللّه مّ عَمّ علـى الـجِنّ مَوْتِـي حتـى يَعْلَـمَ الإنْسُ أنّ الـجِنّ لا يَعْلَـمُونَ الغَيْبَ، فَنَـحَتَها عَصا فَتَوَكّأَعَلَـيْها حَوْلاً مَيّتا، والـجِنّ تَعْمَلُ، فأكَلَتْها الأرَضَةُ، فَسَقَطَ، فَتَبَـيّنَتِ الإنْسُ أنّ الـجِنّ لَوْ كانُوا يَعْلَـمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا حَوْلاً فِـي العَذَابِ الـمُهِينِ) قال: وكان ابن عباس يقرؤها كذلك، قال: فشكرت الـجنّ للأرضة، فكانت تأتـيها بـالـماء.

٢١٩٦٨ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عباس ، وعن مُرّة الهمْدانـيّ، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: كان سلـيـمان يتـجرّد فـي بـيت الـمقدس السنة والسنتـين، والشهر والشهرين، وأقلّ من ذلك وأكثر، يَدْخـل طعامه وشرابه، فدخـله فـي الـمرّة التـي مات فـيها، وذلك أنه لـم يكن يوم يُصبح فـيه، إلا تنبت فـيه شجرة، فـيسألها ما اسمك، فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فـيقول لها: لأيّ شيء نبتّ؟ فتقول: نبتّ لكذا وكذا، فـيأمر بها فتقطع، فإن كانت نبتت لغرس غرسها، وإن كانت نبتت لدواء، قالت: نبتّ دواء لكذا وكذا، فـيجعلها كذلك، حتـى نبتت شجرة يقال لها الـخرّوبة، فسألها: ما اسمك؟ فقالت له: أنا الـخرّوبة، فقال: لأيّ شيء نبتّ؟ قالت: لـخراب هذا الـمسجد قال سلـيـمان: ما كان اللّه لـيخربه وأنا حيّ، أنت التـي علـى وجهك هلاكي وخراب بـيت الـمقدس، فنزعها وغرسها فـي حائط له، ثم دخـل الـمـحراب، فقام يصلـي متكئا علـى عصاه، فمات ولا تعلـم به الشياطين فـي ذلك، وهم يعملون له يخافون أن يخرج فـيعاقبهم وكانت الشياطين تـجتـمع حول الـمـحراب، وكان الـمـحراب له كُوًى بـين يديه وخـلفه، وكان الشيطان الذي يريد أن يخـلع يقول: ألست جَلدا إن دخـلتُ، فخرجتُ من الـجانب الاَخر فدخـل شيطان من أولئك فمرّ، ولـم يكن شيطان ينظر إلـى سلـيـمان فـي الـمـحراب إلا احترق، فمرّ ولـم يسمع صوت سلـيـمان علـيه السلام، ثم رجع فلـم يسمع، ثم رجع فوقع فـي البـيت فلـم يحترق، ونظر إلـى سلـيـمان قد سقط فخرج فأخبر الناس أن سلـيـمان قد مات، ففتـحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته، وهي العصا بلسان الـحبشة، قد أكلتها الأرضة، ولـم يعلـموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة علـى العصا، فأكلت منها يوما ولـيـلة، ثم حسبوا علـى ذلك النـحو، فوجدوه قد مات منذ سنة. وهي فـي قراءة ابن مسعود: (فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً) فأيقن الناس عند ذلك أن الـجنّ كانوا يكذِبونهم، ولو أنهم علـموا الغيب لعلـموا بـموت سلـيـمان، ولـم يـلبثوا فـي العذاب سنة يعملون له، وذلك قول اللّه : ما دَلّهُمْ عَلـى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ فَلَـمّا خَرّ تَبَـيّنَتِ الـجِنّ أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَـمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا فِـي العَذابِ الـمُهِينِ يقول: تبـين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذِبونهم، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلـين الطعام أتـيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربـين الشراب سقـيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إلـيك الـماء والطين، فـالذي يكون فـي جوف الـخشب، فهو ما تأتـيها به الشياطين شكرا لها.

٢١٩٦٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: كانت الـجنّ تـخبر الإنس أنهم كانوا يعلـمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلـمون ما فـي غد، فـابتلوا بـموت سلـيـمان، فمات، فلبث سنة علـى عصاه وهم لا يشعرون بـموته، وهم مسخرون تلك السنة يعملون دائبـين فَلَـمّا تَبَـيّنَتِ الْـجِنّ أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَـمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا فِـي العَذَابِ الـمُهِينِ ولقد لبثوا يدأبون، ويعملون له حولاً.

٢١٩٧٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: ما دَلّهُمْ عَلـى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال: قال سلـيـمان لـملك الـموت: يا ملك الـموت، إذا أُمِرْتَ بـي فأعلـمنـي قال: فأتاه فقال: يا سلـيـمان، قد أُمرت بك، قد بقـيت لك سُويعة، فدعا الشياطين فبنوا علـيه صرحا من قوارير، لـيس له بـاب، فقام يصلـي، واتكأ علـى عصاه قال: فدخـل علـيه ملك الـموت فقبض روحه وهو متكىء علـى عصاه ولـم يصنع ذلك فرارا من ملك الـموت، قال: والـجنّ تعمل بـين يديه، وينظرون إلـيه، يحسبون أنه حيّ، قال: فبعث اللّه دابة الأرض، قال: دابة تأكل العِيدان يقال لها القادح، فدخـلت فـيها فأكلتها، حتـى إذا أكلت جوف العصا، ضعفت وثقل علـيها، فخرّ ميتا، قال: فلـما رأت الـجنّ ذلك، انفضوا وذهبوا، قال: فذلك قوله: ما دَلّهُمْ عَلـى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال: والـمنسأة: العصا.

٢١٩٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، قال: كان سلـيـمان بن داود يصلـي، فمات وهو قائم يصلـي والـجنّ يعملون لا يعلـمون بـموته، حتـى أكلت الأرضة عصاه، فخرّ، و(أن) فـي قوله: أن لَوْ كانُوا فـي موضع رفع بتبـين، لأن معنى الكلام: فلـما خرّ تبـين وانكشف، أن لو كان الـجنّ يعلـمون الغيب، ما لبثوا فـي العذاب الـمهين.

وأما علـى التأويـل الذي تأوّله ابن عباس من أن معناه: تبـينت الإنس الـجنّ، فإنه ينبغي أن يكون فـي موضع نصب بتكريرها علـى الـجنّ، وكذلك يجب علـى هذه القراءة أن تكون الـجنّ منصوبة، غير أنـي لا أعلـم أحدا من قرّاء الأمصار يقرأ ذلك بنصب الـجنّ، ولو نصب كان فـي قوله تَبَـيّنَت ضمير من ذكر الإنس.

١٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ }.

يقول تعالـى ذكره: لقد كان لولد سبإ فـي مسكنهم علامة بـينة، وحجة واضحة، علـى أنه لا رب لهم إلا الذي أنعم علـيهم النعم التـي كانوا فـيها. وسبأ عن رسول اللّه اسم أبـي الـيـمن. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٧٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن أبـي حيان الكلبـي، عن يحيى بن هانىء، عن عروة الـمراديّ، عن رجل منهم يقال له: فروة بن مسيك، قال: قلت: يا رسول اللّه أخبرنـي عن سَبَإٍ ما كان؟ رجلاً كان أو امرأة، أو جبلاً، أو دوابّ؟ فقال: (لا، كانَ رَجُلاً مِن العَرَبِ وَلَهُ عَشَرَةُ أوْلادٍ، فَتَـيَـمّنَ مِنْهُمْ سِتّةٌ، وَتَشاءَمَ أرْبَعَةٌ، فأمّا الّذِينَ تَـيَـمّنُوا مِنْهُمْ فِكِنْدَةُ، وحِمْيَرُ، والأزْدُ، والأشْعَرِيّونَ، وَمَذْحِجُ، وأنْـمَارُ الّذِينَ مِنْها خَثْعَمٌ وَبُجَيْـلَةٌ. وأمّا الّذِينَ تَشاءَمُوا: فَعامِلَةُ، وَجُذَامُ، وَلـخْمُ، وَغَسّان) .

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أُسامة، قال: ثنـي الـحسن بن الـحكَم، قال: حدثنا أبو سَبْرة النـخَعيّ، عن فروة بن مُسَيْك القُطَيعِيّ، قال: قال رجل: يا رسولَ اللّه أخبرنـي عن سَبَإٍ ما هو؟ أرض أو امرأة؟ قال: (لَـيْسَ بأرْضٍ وَلا امْرأةٍ، وَلَكِنّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنَ الوَلَد، فَتَـيامَنَ سِتّةٌ، وَتَشاءَمَ أرْبَعَةٌ، فأمّا الّذِين تَشاءَمُوا: فَلَـخْمٌ، وَجُذَامُ، وَعامِلَةُ، وَغَسّانُ وأمّا الّذِينَ تَـيامَنُوا: فَكِنْدَةُ، والأشْعَرِيّونَ، والأزْدُ، وَمَذْحجُ، وحِمْيَر، وأنْـمَارُ) فقال رجل: ما أنـمار؟ قال: (الّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبجِيْـلَةُ) .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا العَنْقَزيّ، قال: أخبرنـي أسبـاط بن نصر، عن يحيى بن هانىء الـمراديّ، عن أبـيه، أو عن عمه (أسبـاطٌ شكّ) قال: قدم فَرْوة بن مُسَيك علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه ، أخبرنـي عن سبإٍ، أجبلاً كان أو أرضا؟ فقال: (لـم يكُنْ جَبَلاً وَلا أرْضا، ولَكِنّهُ كان رَجُلاً مِنَ العَرَبِ وَلَدَ عَشَرَةَ قَبـائِلَ) ، ثم ذكر نـحوه، إلا أنه قال: (وأنـمار الذين يقولون منهم بجيـلة وخثعم) .

فإن كان الأمر كما رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، من أن سَبَأ رجل، كان الإجراء فـيه وغير الإجراء معتدلـين. أما الإجراء فعلـى أنه اسم رجل معروف، وأما ترك الإجراء فعلـى أنه اسم قبـيـلة أو أرض. وقد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: (فِـي مَساكِنِهِمْ) فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: (فـي مساكنهم) علـى الـجماع بـمعنى منازل آل سبأ. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين (فِـي مَسْكِنِهِمْ) علـى التوحيد وبكسر الكاف، وهي لغة لأهل الـيـمن فـيـما ذُكر لـي. وقرأ حمزة: مَسْكَنِهِمْ علـى التوحيد وفتـح الكاف.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا: أن كلّ ذلك قراءات متقاربـات الـمعنى، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب.

و قوله: آيَةٌ قد بـيّنا معناها قبل. وأما قوله: جَنّتانِ عَن يَـمِينٍ وَشِمالٍ فإنه يعني : بستانان كانا بـين جبلـين، عن يـمين من أتاهما وشماله. وكان من صنفهما فـيـما ذكر لنا ما:

٢١٩٧٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا سلـيـمان، قال: حدثنا أبو هلال، قال: سمعت قتادة ، فـي قوله: لَقَدْ كانَ لِسَبإٍ فِـي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتانِ عَنْ يَـمِينٍ وشِمالٍ قال: كانت جنتان بـين جبلـين، فكانت الـمرأة تُـخَرْجُ، مِكْتَلُها علـى رأسها، فتـمشي بـين جبلـين، فـيـمتلـىء مِكَتلُها، وما مست بـيدها، فلـما طَغَوا بعث اللّه علـيهم دابة، يقال لها (جُرَذ) ، فنقَبت علـيهم، فغرقتهم، فما بقـي لهم إلا أَثْل، وشيء من سِدْرٍ قلـيـل.

٢١٩٧٤ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: لَقَدْ كانَ لِسَبإٍ فِـي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتانِ عَنْ يَـمِينٍ وَشِمالٍ... إلـى قوله: فَأَعْرَضُوا فَأرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ سَيْـلَ العَرِمِ قال: ولـم يكن يرى فـي قريتهم بعوضة قط، ولا ذُبـاب، ولا بُرْغوث، ولا عَقْرب، ولا حَية، وإنْ كان الركبُ لـيأتون وفـي ثـيابهم القُمّل والدّوابّ، فما هم إلا أن ينظروا إلـى بـيوتهم، فتـموتَ الدوابّ، قال: وإن كان الإنسان لـيدخـل الـجنتـين، فـيـمسك القُـفّة علـى رأسه، فـيخرج حين يخرج وقد امتلأت تلك القـفة من أنواع الفـاكهة ولـم يتناول منها شيئا بـيده قال: والسّدّ يسقـيها.

ورُفعت الـجنتان فـي قوله: جَنّتانِ عنْ يَـمِينٍ وشِمالٍ ترجمة عن الاَية، لأن معنى الكلام: لقد كان لسبأ فـي مسكنهم آية هي جنتان عن أيـمانهم وشمائلهم.

و قوله: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبّكُمْ الذي يرزقكم من هاتـين الـجنتـين من زروعهما وأثمارهما، وَاشْكُرُوا لَهُ علـى ما أنعم به علـيكم من رزقه ذلك وإلـى هذا منتهى الـخبر، ثم ابتدأ الـخبر عن البلدة، ف

قـيـل: هذه بلدة طيبة: أي لـيست بسبخة، ولكنها كما ذكرنا من صفتها عن عبد الرحمن بن زيد أن كانت كما وصفها به ابن زيد، من أنه لـم يكن فـيها شيء مؤذ، الهمـج والدبـيب والهوامّ وَرَبّ غَفُورٌ يقول: وربّ غفور لذنوبكم إن أنتـم أطعتـموه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ وربكم غفور لذنوبكم، قوم أعطاهم اللّه نعمة، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته.

١٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ...}.

يقول تعالـى ذكره: فأعرضت سبأ عن طاعة ربها وصدّت عن اتبـاع ما دعتها إلـيه رسلها من أنه خالقها، كما:

٢١٩٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه الـيـمانـي، قال: لقد بعث اللّه إلـى سبإ، ثلاثة عشر نبـيا، فكذّبوهم فأرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ سَيْـلَ العَرِمِ

يقول تعالـى ذكره: فثقبنا علـيهم حين أعرضوا عن تصديق رسلنا سدّهم الذي كان يحبس عنهم السيول.

والعرم: الـمسناة التـي تـحبس الـماء، واحدها: عرمة، وإياه عنى الأعشى ب قوله:

فَفِـي ذَاكَ للْـمُؤْتَسِي أُسْوَةٌوَمأْرِبُ عَفّـى عَلَـيْهِ العَرِمْ

رِجامٌ بَنَتْهُ لَهم حِمْيَرٌإذَا جاءَ ماؤُهُمُ لَـمْ يَرِمْ

وكان العرم فـيـما ذُكر مـما بنته بلقـيس. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٧٧ـ حدثنا أحمد بن إبراهيـم الدورقـي، قال: ثنـي وهب بن جرير، قال: حدثنا أبـي، قال: سمعت الـمغيرة بن حكيـم، قال: لـما ملكت بلقـيس، جعل قومها يقتتلون علـى ماء واديهم قال: فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها فتركت مُلكها، وانطلقت إلـى قصر لها، وتركتهم فلـما كثر الشرّ بـينهم، وندموا أتوها، فأرادوها علـى أن ترجع إلـى مُلكها، فأبت فقالوا: لترجعنّ أو لنقتلنك، فقالت: إنكم لا تطيعوننـي، ولـيست لكم عقول، ولا تطيعونـي، قالوا: فإنا نطيعك، وإنا لـم نـجد فـينا خيرا بعدك، فجاءت فأمرت بواديهم، فسدّ بـالعرم. قال أحمد، قال وهب، قال أبـي: فسألت الـمغيرة بن حكيـم عن العرم، فقال: هو بكلام حِمْير الـمُسنّاة فسدّت ما بـين الـجبلـين، فحبست الـماء من وراء السدّ، وجعلت له أبوابـا بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة ضخمة، فجعلت فـيها اثنـي عشر مخرجا علـى عدّة أنهارهم فلـما جاء الـمطر احتبس السيـل من وراء السدّ، فأمرت بـالبـاب الأعلـى ففُتـح، فجرى ماؤه فـي البركة، وأمرت بـالبعر فألقـي فـيها، فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض، فلـم تزل تضيق تلك الأنهار، وترسل البعر فـي الـماء، حتـى خرج جميعا معا، فكانت تقسمه بـينهم علـى ذلك، حتـى كان من شأنها وشأن سلـيـمان ما كان.

٢١٩٧٨ـ حدثنا أحمد بن عمر البصري، قال: حدثنا أبو صالـح بن زريق، قال: أخبرنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن أبـي ميسرة، فـي قوله فأَرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ سَيْـلَ العَرِمِ قال: الـمسناة بلـحن الـيـمن.

٢١٩٧٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه : سَيْـلَ العَرِمِ قال: شديد.

وقـيـل: إن العرم: اسم واد كان لهؤلاء القوم. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٨٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: فأَرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ سَيْـلَ العَرِمِ قال: واد كان بـالـيـمن، كان يسيـل إلـى مكة، وكانوا يسقون وينتهي سيـلهم إلـيه.

٢١٩٨١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فأَرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ سَيْـلَ العَرِمِ ذُكر لنا أن سيـل العرم واد كانت تـجتـمع إلـيه مسايـل من أودية شتـى، فعمدوا فسدّوا ما بـين الـجبلـين بـالقـير والـحجارة، وجعلوا علـيه أبوابـا، وكانوا يأخذون من مائه ما احتاجوا إلـيه، ويسدّون عنهم ما لـم يعنوا به من مائه شيئا.

٢١٩٨٢ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله: فأَرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ سَيْـلَ العَرِمِ وَاد يُدعى العَرِم، وكان إذا مُطِر سالت أودية الـيـمن إلـى العرم، واجتـمع إلـيه الـماء، فَعمَدَت سَبأُ إلـى العرم، فسدّوا ما بـين الـجبلـين، فحجزوه بـالصخر والقار، فـانسدّ زمانا من الدهر، لا يَرْجون الـماء، يقول: لا يخافون.

وقال آخرون: العَرِم: صفة للـمُسَنّاة التـي كانت لهم ولـيس بـاسم لها. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٨٣ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: سَيْـلَ العَرِمِ يقول: الشديد، وكان السبب الذي سبب اللّه لإرسال ذلك السيـل علـيهم فـيـما ذُكر لـي جُرذا ابتعثه اللّه علـى سدّهم، فثقب فـيه ثقبـا.

ثم اختلف أهل العلـم فـي صفة ما حدث عن ذلك الثقب مـما كان فـيه خَراب جَنتـيهم.

 فقال بعضهم: كان صفة ذلك أن السيـل لـما وجد عملاً فـي السدّ عمِل فـيه، ثم فـاض الـماء علـى جناتهم، فغرّقها وخرّب أرضهم وديارهم. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٨٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن وهب بن مُنَبه الـيـمانـي، قال: كان لهم، يعني لسبأ سدّ، قد كانوا بنوْه بنـيانا أبدا، وهو الذي كان يَرُدّ عنهم السيـل إذا جاء أن يغشى أموالهم. وكان فـيـما يزعمون فـي علـمهم من كَهانتهم، أنه إنـما يخرّب علـيهم سدّهم ذلك فأرة، فلـم يتركوا فُرْجة بـين حجرين، إلا ربطوا عندها هرّة فلـما جاء زمانه، وما أراد اللّه بهم من التغريق، أقبلت فـيـما يذكرون فأرة حمراء إلـى هرّة من تلك الهِرر، فساورتها، حتـى استأخرت عنها أي الهرة، فدخـلت فـي الفُرجة التـي كانت عندها، فغلغلت فـي السدّ، فحفرت فـيه حتـى وَهّنته للسيـل وهم لا يدرون فلـما جاء السيـل وجد خَـلَلاً، فدخـل فـيه حتـى قلع السدّ، وفـاض علـى الأموال، فـاحتـملها فلـم يُبْق منها إلا ما ذكره اللّه فلـما تفرّقوا نزلوا علـى كَهانة عمران بن عامر.

٢١٩٨٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: لـما ترك القوم أمر اللّه ، بعث اللّه علـيهم جُرَذا يسمى الـخُـلْد، فثَقبه من أسفله حتـى غرّق به جناتُهم، وخَرب به أرضهم عقوبة بأعمالهم.

٢١٩٨٦ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول: لـما طغَوْا وبَغَوْا، يعني سَبَأ، بعث اللّه علـيهم جُرَذا، فخَرَق علـيهم السّدّ، فأغرقهم اللّه .

٢١٩٨٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: بعث اللّه علـيه جُرَذا، وسلّطه علـى الذي كان يحبس الـماء الذي يَسقـيها، فأخرب فـي أفواه تلك الـحجارة، وكلّ شيء منها من رَصاص وغيره، حتـى تركها حِجارة، ثم بعث اللّه سيـل العرم، فـاقتلع ذلك السّدّ، وما كان يحبس، واقتلع تلك الـجنتـين، فذهب بهما وقرأ: فأَرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ سَيْـلَ العَرِمِ وَبَدّلْناهُمْ بِجَنّتَـيْهِمْ جَنّتَـيْنَ قال: ذهب بتلك القُرى والـجنتـين.

وقال آخرون: كانت صفة ذلك أن الـماء الذي كانوا يعمُرُون به جَناتهم سال إلـى موضع غير الـموضع الذي كانوا ينتفعون به، فبذلك خربت جناتهم. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٨٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قال: بعث اللّه علـيهم، يعني علـى العرم، دابة من الأرض، فثَقَبت فـيه ثَقبـا، فسال ذلك الـماء إلـى موضع غير الـموضع الذي كانوا ينتفعون به، وأبدلهم اللّه مكان جنتـيهم جنتـين ذواتـي أُكُلٍ خَمْط، وذلك حين عَصَوا، وبَطِروا الـمعيشة.

والقول الأوّل أشبه بـما دلّ علـيه ظاهر التنزيـل، وذلك أن اللّه تعالـى ذكره أخبر أنه أرسل علـيهم سيـل العرم، ولا يكون إرسال ذلك علـيهم إلا بإسالته علـيهم، أو علـى جناتهم وأرضهم، لا بصرفه عنهم.

و قوله: وَبَدّلْناهُمْ بِجَنّتَـيْهِمْ جَنّتَـيْنِ ذَوَاتـيْ أُكُلٍ خَمْطٍ

يقول تعالـى ذكره: وجعلنا لهم مكان بساتـينهم من الفواكه والثمار، بساتـين من جَنى ثمر الأراك، والأراك: هو الـخَمْط. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٨٩ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قال: أبدلهم اللّه مكان جنّتـيهم جنتـين ذواتـي أُكُلٍ خَمْط، والـخمْط: الأَراك.

٢١٩٩٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَـية، عن أبـي رجاء، قال: سمعت الـحسن، يقول فـي قوله: ذَوَاتـيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قال: أراه قال: الـخَمْط: الأراك.

٢١٩٩١ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة، قال: ثنـي عبد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى، عن مـجاهد أُكُلٍ خَمْطٍ قال: الـخمْط: الأراك.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ذَوَاتـيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قال: الأراك.

٢١٩٩٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ذَوَاتـيْ أُكُلٍ خَمْطٍ والـخمط: الأراك، وأُكُلُه: بريره.

٢١٩٩٣ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله: وَبَدّلْناهُمْ بِجَنّتَـيْهِمْ جَنّتَـيْنِ ذَوَاتـيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قال: بدّلهم اللّه بجنان الفواكه والأعناب، إذ أصبحت جناتهم خَمْطا، وهو الأراك.

٢١٩٩٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَبَدّلْناهُمْ بِجَنّتَـيْهِمْ جَنّتَـيْنِ قال: أذهب تلك القرى والـجنتـين، وأبدلهم الذي أخبرك ذواتـي أكل خَمْط قال: فـالـخَمْط: الأراك، قال: جعل مكان العنب أراكا، والفـاكهة أَثْلاً، وشيء من سدر قلـيـل.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار بتنوين أُكُلٍ غيرَ أبـي عمرو، فإنه يضيفها إلـى الـخمط، بـمعنى: ذواتـي ثمرِ خَمْطٍ. وأما الذين لـم يضيفوا ذلك إلـى الـخَمْط، وينوّنون الأُكُل، فإنهم جعلوا الـخمط هو الأُكُل، فردّوه علـيه فـي إعرابه. وبضم الألف والكاف من الأُكُل قرأت قرّاء الأمصار، غير نافع، فإنه كان يخفف منها.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندي قراءة من قرأه: ذَوَاتَـيْ أُكُلٍ بضم الألف والكاف لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه، وبتنوين أُكُلٍ لاستفـاضة القراءة بذلك فـي قُرّاء الأمصار، من غير أن أرى خطأ قراءة من قرأ ذلك بإضافته إلـى الـخمط وذلك فـي إضافته وترك إضافته، نظيرُ قول العرب: فـي بُستان فلان أعنابُ كَرْمٍ وأعنابٌ كَرْمٌ، فتضيف أحيانا الأعناب إلـى الكرم، لأنها منه، وتنوّن أحيانا، ثم تترجم بـالكرم عنها، إذ كانت الأعنابُ ثمرَ الكَرْم. وأما الأَثْل فإنه يقال له الطّرْفـاء و

قـيـل: شجر شبـيه بـالطّرْفـاء، غير أنه أعظم منها. و

قـيـل: إنها السّمُر. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٩٥ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس وأَثْلٍ، قال: الأثل: الطرفـاء.

و قوله: وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِـيـلٍ يقول: ذواتـي أُكُل خَمْطٍ وأَثْلٍ وشيءٍ من سدر قلـيـل.

وكان قتادة يقول فـي ذلك ما:

٢١٩٩٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: ثنـي سعيد، عن قتادة ذَوَاتَـي أُكُلٍ خَمْطٍ وأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِـيـلٍ قال: بـينـما شجر القوم خير الشجر، إذ صيره اللّه من شرّ الشجر بأعمالهم.

١٧

و قوله: ذلكَ جَزَيْناهُمْ بِـمَا كَفَرُوا

يقول تعالـى ذكره: هذا الذي فعلنا بهؤلاء القوم من سبأ من إرسالنا علـيهم سيـل العرم، حتـى هلكت أموالهم، وخَرِبت جناتهم، جزاء منّا علـى كفرهم بنا، وتكذيبهم رسلنا (وذلك) من قوله: ذلكَ جَزَيْناهُمْ فـي موضع نصب بوقوع جزيناهم علـيه ومعنى الكلام: جزيناهم ذلك بـما كفروا.

و قوله: وَهَلْ نُـجازِي إلاّ الكَفُورَ اختلفت القرّاء فـي قراءته، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة، وبعضُ أهل الكوفة: (وَهَلْ يُجازَي) بـالـياء وبفتـح الزاي علـى وجه ما لـم يُسَمّ فـاعله (إلاّ الكَفُورُ) رفعا. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: وَهَلْ نُـجازِي بـالنون وبكسر الزاي إلاّ الكَفُورَ بـالنصب.

والصواب من القول فـي ذلك أنهما قراءتان مشهورتان فـي قرّاء الأمصار، متقاربتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. ومعنى الكلام: كذلك كافأناهم علـى كفرهم بـاللّه ، وهل يُجازَي إلا الكفور لنعمة اللّه ؟.

فإن قال قائل: أو ما يجزي اللّه أهل الإيـمان به علـى أعمالهم الصالـحة، فـيخصّ أهل الكفر بـالـجزاء؟ فـيقال وهل يجازي إلا الكفور؟

قـيـل: إن الـمـجازاة فـي هذا الـموضع: الـمكافأة، واللّه تعالـى ذكره وعد أهل الإيـمان به التفضل علـيهم، وأن يجعل لهم بـالواحدة من أعمالهم الصالـحة عشرَ أمثالها إلـى ما لا نهاية له من التضعيف، ووعد الـمسيء من عبـاده أن يجعل بـالواحدة من سيئاته، مثلَها مكافأة له علـى جُرمه، والـمكافأة لأهل الكبـائر والكفر والـجزاء لأهل الإيـمان مع التفضل، فلذلك قال جل ثناؤه فـي هذا الـموضع: (وَهَلْ يُجازَي إلاّ الكَفُورُ) ؟ كأنه قال جلّ ثناؤه: لا يجازَي: لا يكافأ علـى عمله إلا الكفور، إذا كانت الـمكافأة مثل الـمكافَأ علـيه، واللّه لا يغفر له من ذنوبه شيئا، ولا يُـمَـحّصُ شيء منها فـي الدنـيا. وأما الـمؤمن فإنه يتفضل علـيه علـى ما وصفتُ.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٩٧ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَهَلْ نُـجازِي: نعاقِب.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ذلكَ جَزَيْناهُمْ بِـمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُـجازِي إلاّ الكَفُورَ إن اللّه تعالـى إذا أراد بعبده كرامة تقبّل حسناته، وإذا أراد بعبده هوانا أمسك علـيه ذنوبه حتـى يُوَافـيَ به يوم القـيامة. قال: وذُكر لنا أن رجلاً بـينـما هو فـي طريق من طرق الـمدينة، إذا مرّت به امرأة، فأتبعها بصره، حتـى أتـى علـى حائط، فشجّ وجهه، فأتـى نبـيّ اللّه ووجهه يسيـل دما، فقال: يا نبـيّ اللّه فعلت كذا وكذا، فقال له نبـيّ اللّه : (إنّ اللّه إذَا أرَادَ بِعَبْدٍ كَرَامَةً، عَجّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ فِـي الدنـيا، وإذَا أرَادَ اللّه بِعَبْدٍ هَوَانا أمْسَكَ عَلَـيْهِ ذَنْبَهُ حتـى يُوَافِـيَ بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ، كأنّهُ عَيرٌ أبْتَر) .

١٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدّرْنَا فِيهَا السّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيّاماً آمِنِينَ }.

يقول تعالـى ذكره مخبرا عن نعمته التـي كان أنعمها علـى هؤلاء القوم الذين ظلـموا أنفسهم. وجعلنا بـين بلدهم وبـين القُرى التـي بـاركنا فـيها وهي الشأم، قُرًى ظاهرة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢١٩٩٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قوله: القُرَى التـي بـارَكْنا فِـيها قال: الشأم.

٢١٩٩٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ وَبَـينَ القُرَى الّتِـي بـارَكْنا فِـيها يعني الشأم.

حدثنـي علـيّ بن سهل، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد القُرَى التـي بـارَكْنا فِـيها قال: الشأم.

و

قـيـل: عُنِـي بـالقرى التـي بُورِك فـيَها بـيت الـمقدس. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٠٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ وَبَـينَ القُرَى التـي بـارَكْنا فِـيها قُرًى ظاهِرَةً قال: الأرض التـي بـاركنا فـيها: هي الأرض الـمقدسة.

و قوله: قُرًى ظاهِرَةً يعني : قُرًى متصلة، وهي قُرًى عَرَبِـيّةٌ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٠١ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، قال: سمعت الـحسن، فـي قوله: وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ وَبَـينَ القُرَى التـي بـارَكْنا فِـيها قُرًى ظاهِرَةً قال: قُرًى متواصلة، قال: كان أحدهم يغدو فَـيَقِـيـل فـي قرية ويَرُوح، فـيأوِي إلـى قرية أخرى. قال: وكانت الـمرأة تضع زِنْبـيـلها علـى رأسها، ثم تـمتهن بـمغزلها، فلا تأتـي بـيتها حتـى يـمتلـىء من كلّ الثمار.

٢٢٠٠٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قُرًى ظاهِرَةً: أي متواصلة.

٢٢٠٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: قُرًى ظاهِرَةً يعني : قُرَى عَرَبِـيّةً، بـين الـمدينة والشام.

٢٢٠٠٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنـي أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: ثناء ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: قُرًى ظاهِرَةً قال: السّرَوَات.

٢٢٠٠٥ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: قُرًى ظاهِرَةً يعني : قُرَى عَرَبِـيّةً، وهي بـين الـمدينة والشأم.

٢٢٠٠٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَجَعَلْنا بَـيْنَهُمْ وَبَـينَ القُرَى التـي بـارَكْنا فِـيها قُرًى ظاهِرَةً قال: كان بـين قريتهم وبـين الشأم قُرًى ظاهرة، قال: إن كانت الـمرأة لتَـخرجُ معها مِغْزلها ومِكْتلُها علـى رأسها، تروح من قريةٍ وتغدوها، وتبـيت فـي قرية لا تـحمل زادا ولا ماء لـما بـينها وبـين الشأم.

و قوله: وَقَدّرْنا فِـيها السّيْرَ

يقول تعالـى ذكره: وجعلنا بـين قُراهم والقرى التـي بـاركنا فـيها سيرا مقدّرا من منزل إلـى منزل، وقرية إلـى قرية، لا ينزلون إلا فـي قرية، ولا يغدون إلا من قرية.

و قوله: سِيرُوا فِـيها لَـيالِـيَ وأيّاما آمِنـينَ يقول: وقلنا لهم سيروا فـي هذه القرى ما بـين قراكم، والقرى التـي بـاركنا فـيها لـيالـيَ وأياما، آمنـين لا تـخافون جوعا ولا عطشا، ولا من أحد ظلـما. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٠٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة سِيرُوا فِـيها لَـيالِـيَ وأيّاما آمِنِـينَ: لا يخافون ظلـما ولا جوعا، وإنـما يغدون فَـيقِـيـلون، ويروحون فـيبـيتون فـي قريةٍ أهلِ جنة ونهر، حتـى لقد ذُكر لنا أن الـمرأة كانت تضع مِكتلها علـى رأسها، وتـمتهن بـيدها، فـيـمتلـىء مكتلها من الثمر قبل أن ترجع إلـى أهلها من غير أن تـخترف شيئا، وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زادا ولا سِقاء مـما بُسِط للقوم.

٢٢٠٠٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وأيّاما آمِنِـينَ قال: لـيس فـيها خوف.

١٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَقَالُواْ رَبّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ ...}.

اختلق القرّاء فـي قراءة قوله: رَبّنا بـاعِدْ بـينَ أسْفـارِنا فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والكُوفة: رَبّنا بـاعِدْ بـينَ أسْفـارِنا علـى وجه الدعاء والـمسألة بـالألف وقرأ ذلك بعض أهل مكة والبصرة: (بَعّدْ) بتشديد العين علـى الدعاء أيضا. وذُكر عن الـمتقدمين أنه كان يقرؤه: (رَبّنا بـاعَدَ بَـينَ أسْفـارِنا) علـى وجه الـخبر من اللّه أن اللّه فعل ذلك بهم. وحكي عن آخر أنه قرأه: (ربنا بَعّد) علـى وجه الـخبر أيضا غير أنّ الربّ منادي.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: رَبّنا بـاعِدْ و(بَعّدْ) لأنهما القراءتان الـمعروفتان فـي قرأة الأمصار وما عداهما فغير معروف فـيهم علـى أن التأويـل من أهل التأويـل أيضا يحقّق قراءة من قرأه علـى وجه الدعاء والـمسألة، وذلك أيضا مـما يزيد القراءة الأخرى بُعدا من الصواب.

فإذا كان هو الصواب من القراءة، فتأويـل الكلام: فقالوا: يا ربنا بـاعِدْ بـين أسفـارنا، فـاجعل بـيننا وبـين الشأم فَلَوات ومَفـاوِز، لنركب فـيها الرواحل، ونتزوّد معنا فـيها الأزواد وهذا من الدلالة علـى بطر القوم نعمة اللّه علـيهم وإحسانه إلـيهم، وجهلهم بـمقدار العافـية ولقد عجل لهم ربهم الإجابة، كما عجل للقائلـين: إنْ كانَ هَذَا هُوَ الـحَقّ مِنْ عَنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَـيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِـيـمٍ أعطاهم ما رغبوا إلـيه فـيه وطلبوا من الـمسألة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٠٩ـ حدثنـي أبو خُصَين عبد اللّه بن أحمد بن يونس، قال: حدثنا عَبْثَر، قال: حدثنا حُصَين، عن أبـي مالك فـي هذه الاَية: فَقالُوا رَبّنا بـاعِدْ بـينَ أسْفـارِنا قال: كانت لهم قُرًى متصلة بـالـيـمن، كان بعضها ينظر إلـى بعض، فبطروا ذلك، وقالوا: ربنا بـاعدْ بـين أسفـارنا، قال: فأرسل اللّه علـيهم سَيْـل العَرِم، وجعل طعامهم أَثْلاً وخَمْطا وشيئا من سدر قلـيـل.

٢٢٠١٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: فَقَالُوا رَبّنا بـاعِدْ بَـيْنَ أَسْفَـارِنَا وظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ قال: فإنهم بطِروا عيشهم، وقالوا: لو كان جَنَى جناتنا أبعد مـما هي كان أجدر أن نشتهيه، فمُزّقوا بـين الشأم وسبأ، وبدّلوا بجنتـيهم جنتـين ذواتـي أكل خمط وأثل، وشيء من سدر قلـيـل.

٢٢٠١١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَقالُوا رَبّنا بـاعِدْ بـينَ أسْفـارِنا بطر القوم نعمة اللّه ، وغَمَطوا كرامة اللّه ، قال اللّه وَظَلَـمُوا أنُفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ.

٢٢٠١٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فَقالُوا رَبّنا بـاعِدْ بَـينَ أسْفـارِنا حتـى نبـيت فـي الفَلَوات والصحاري فَظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ.

وقوله فَظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ وكان ظلـمهم إياها عَمَلَهم بـما يسخط اللّه علـيهم من معاصيه، مـما يوجب لهم عقاب اللّه فجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ يقول: صيرناهم أحاديث للناس يضربون بهم الـمثل فـي السبّ، فـيقال: تفرّق القوم أيادِي سَبَـا، وأيدي سبـا، إذا تفرّقوا وتقطّعوا.

وقوله وَمَزّقْناهُمْ كُلّ مُـمَزّقٍ يقول: وقطعناهم فِـي البلاد كلّ مقطع، كما:

٢٢٠١٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ فجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ وَمَزّقْناهُمْ كُلّ مُـمّزّقٍ قال قتادة : قال عامر الشّعْبِـي: أما غَسّان فقد لَـحِقوا بـالشأم، وأما الأنصار فلـحقوا بَـيثرِب، وأما خَزَاعة فلـحقوا بتهامة، وأما الأزد فلـحقوا بعُمان.

٢٢٠١٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: يزعمون أن عمِران بن عامر، وهو عمّ القوم كان كاهنا، فرأى فـي كَهانته أن قومه سيـمزّقون ويتبـاعَدُون، فقال لهم: إنـي قد علـمت أنكم سَتُـمزّقون، فمن كان منكم ذا همّ بعيد، وجمل شديد، ومزاد جديد، فلـيـلـحق بكأس أو كرود، قال: فكانت وادعة بن عمرو ومن كان منكم ذا هم مدنٍ، وأمرد عَنٍ، فلـيـلْـحَق بأرض شَنّ، فكانت عوف بن عمرو، وهم الذين يقال لهم بـارق ومن كان منكم يريد عيشا آينا، وحرَما آمنا، فلـيـلـحق بـالأرزين، فكانت خزاعة ومن كان يريد الراسيات فـي الوحْل، الـمطْعِمات فـي الـمَـحْل، فلـيـلـحق بـيثرب ذات النـخـل، فكانت الأوس والـخزرج فهما هذان الـحيان من الأنصار ومن كان يريد خمرا وخميرا، وذهبـا وحريرا، وملكا وتأميرا فلـيـلـحق بكُوثىَ وبُصْرَى، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشأم ومن كان منهم بـالعراق. قال ابن إسحاق: قد سمعت بعض أهل العلـم يقول: إنـما قالت هذه الـمقالة طريفة امرأة عمران بن عامر، وكانت كاهنة، فرأت فـي كهانتها ذلك، واللّه أعلـم أيّ ذلك كان قال: فلـما تفرّقوا، نزلوا علـى كهانة عمران بن عامر.

و قوله: إنّ فِـي ذلكَ لاَياتٍ لِكُلّ صَبّـارٍ شَكُورٍ

يقول تعالـى ذكره: إن فـي تـمزيقناهم كلّ مـمزّق لاَيات يقول: لعظة وعِبْرة ودلالة علـى واجب حق اللّه علـى عبده من الشكر علـى نعمه إذا أنعم علـيه، وحقه من الصبر علـى مـحنته إذا امتـحنه ببلاء لكلّ صبـار شكور علـى نعمه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠١٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إنّ فِـي ذلكَ لاَياتٍ لِكُلّ صَبّـارٍ شَكُورٍ كان مطرّف يقول: نعم العبد الصّبـار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلـي صبر.

٢٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنّهُ فَاتّبَعُوهُ إِلاّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ }.

اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَـيْهِمْ إبْلِـيسُ ظَنّهُ فقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين: وَلَقَدْ صَدّقَ بتشديد الدال من صَدّق، بـمعنى أنه قال ظنا منه: وَلا تَـجِد أَكَثرَهُمْ شاكِرِينَ وقال: فَبِعِزّتِكَ لأُغَوْيَنّهُمْ أجَمعِينَ إلاّ عِبـادَكَ مِنْهُمُ الـمُخْـلَصِينَ ثم صدّق ظنه ذلك فـيهم، فحقّق ذلك بهم، وبـاتبـاعهم إياه. وقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والشأم والبصرة (وَلَقَدْ صَدَقَ) بتـخفـيف الدال، بـمعنى: ولقد صدق علـيهم ظنه.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا الـمعنى وذلك أن إبلـيس قد صدَق علـى كفرة بنـي آدم فـي ظنه، وصدق علـيهم ظنّه الذي ظنّ حين قال: ثُمّ لاَتِـيَنّهُمْ مِنْ بـينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَـلْفِهِمْ وَعَنْ أيـمانِهِمْ وَعَنْ شَمائلِهِمْ وَلا تَـجِدُ أكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ، وحين قال: وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّـيَنّهُمْ... الاَية، قال ذلك عدوّ اللّه ، ظنا منه أنه يفعل ذلك لا علـما، فصار ذلك حقا بـاتبـاعهم إياه، فبأيّ القراءتـين قرأ القارىء فمصيب. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام علـى قراءة من قرأ بتشديد الدال: ولقد ظنّ إبلـيس بهؤلاء الذين بدّلناهم بجنّتـيهم جنتـين ذواتـي أكل خمط، عقوبة منا لهم، ظنا غير يقـين، علـم أنهم يتبعونه ويطيعونه فـي معصية اللّه ، فصدق ظنه علـيهم، بإغوائه إياهم، حتـى أطاعوه، وعصوا ربهم، إلا فريقا من الـمؤمنـين بـاللّه ، فإنهم ثبتوا علـى طاعة اللّه ومعصية إبلـيس.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠١٦ـ حدثنـي أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، قال: أخبرنـي عمرو بن مالك، عن أبـي الـجوزاء، عن ابن عباس أنه قرأ: وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَـيْهِمْ إبْلِـيسُ ظَنّهُ مشددة، وقال: ظنّ ظنا، فصدّق ظنه.

٢٢٠١٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَـيْهِمْ إبْلِـيسُ ظَنّهُ قال: ظنّ ظنا فـاتبعوا ظنه.

٢٢٠١٨ـ قال: ثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَـيْهِمْ إبْلِـيسُ ظَنّهُ قال اللّه : ما كان إلا ظنا ظنه، واللّه لا يصدّق كاذبـا، ولا يكذّب صادقا.

٢٢٠١٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَـيْهِمْ إبْلِـيسُ ظَنّهُ قال: أرأيت هؤلاء الذين كرّمتهم علـيّ، وفضّلتهم وشرّفتهم، لا تـجد أكثرهم شاكرين، وكان ذلك ظنا منه بغير علـم، فقال اللّه : فـاتّبَعُوهُ إلاّ فَرِيقا منَ الـمُؤْمِنِـينَ.

٢١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاَخِرَةِ مِمّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكّ وَرَبّكَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ حَفُيظٌ }.

يقول تعالـى ذكره: وما كان لإبلـيس علـى هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم من حُجة يضلهم بها، إلا بتسلـيطناه علـيهم، لُـيعلـم حزبُنا وأولـياؤنا مَنْ يُؤْمِنُ بـالاَخِرَةِ يقول: من يصدّق بـالبعث والثواب والعقاب مِـمّنْ هُوَ مِنْها فِـي شَكَ فلا يُوقِن بـالـمعاد، ولا يصدّق بثواب ولا عقاب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٢٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَما كانَ لَهُ عَلَـيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ قال: قال الـحسن: واللّه ما ضربهم بعصا ولا سَيف ولا سَوْط، إلا أمانـيّ وغرورا دعاهم إلـيها.

٢٢٠٢١ـ قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: إلاّ لِنَعْلَـمَ مَنْ يُؤْمِنُ بـالاَخِرَةِ مِـمّنْ هُوَ مِنْها فِـي شكّ قال: وإنـما كان بلاءً لـيَعلـم اللّه الكافر من الـمؤمن.

و

قـيـل: عُنِـي ب قوله: إلاّ لِنَعْلَـمَ مَنْ يُؤْمِنُ بـالاَخِرَةِ إلا لنعلـم ذلك موجودا ظاهرا لـيستـحقّ به الثواب أو العقاب.

و قوله: وَرَبّكَ علـى كُلّ شَيْءٍ حَفِـيظٌ

يقول تعالـى ذكره: وربك يا مـحمد علـى أعمال هؤلاء الكفرة به، وغير ذلك من الأشياء كلها حَفِـيظٌ لا يعزب عنه علـم شيء منه، وهو مُـجازٍ جميعَهم يوم القـيامة، بـمِا كسبوا فـي الدنـيا من خير وشرّ.

٢٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللّه لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ ... }.

يقول تعالـى ذكره: فهذا فعلُنا بولـينا ومن أطاعنا، داود وسلـيـمان الذي فعلنا بهما من إنعامنا علـيهما النعم التـي لا كفـاءَ لها إذ شكرانا، وذاك فعلنا بسَبَإ الذين فعلنا بهم، إذ بَطِروا نعمتنا، وكذّبوا رسلنا، وكفروا أيادَينا، فقل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين بربهم من قومك، الـجاحدين نعمنا عندهم: ادعوا أيها القوم الذين زعمتـم أنهم للّه شريك من دونه، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض أفعالنا، بـالذين وصفنا أمرهم من إنعام أو إياس، فإن لـم يقدروا علـى ذلك فـاعلـموا أنكم مبطلون، لأن الشركة فـي الربوبـية لا تصلـح ولا تـجوز، ثم وصف الذين يدعون من دون اللّه ، فقال: إنهم لا يـملكون مثقال ذرّة فـي السموات ولا فـي الأرض من خير ولا شرّ ولا ضرّ ولا نفع، فكيف يكون إلها من كان كذلك.

و قوله: وَما لَهُمْ فِـيهِما مِنْ شِرْكٍ

يقول تعالـى ذكره: ولا هم إذ لـم يكونوا يـملكون مثقال ذرّة فـي السموات ولا فـي الأرض، منفردين بـملكه من دون اللّه ، يـملكونه علـى وجه الشّرِكة، لأن الأملاك فـي الـمـملوكات، لا تكون لـمالكها إلا علـى أحد وجهين: إما مقسوما، وإما مُشَاعا يقول: وآلهتهم التـي يدعون من دون اللّه ، لا يـملكون وزن ذَرّة فـي السموات ولا فـي الأرض، لا مُشاعا ولا مقسوما، فكيف يكون من كان هكذا شريكا لـمن له ملك جميع ذلك.

و قوله: وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ يقول: وما للّه من الاَلهة التـي يدعون من دونه مُعِين علـى خـلق شيء من ذلك، ولا علـى حفظه، إذ لـم يكن لها ملك شيء منه مُشاعا ولا مقسوما، فـيقال: هو لك شريك من أجل أنه أعان وإن لـم يكن له ملك شيء منه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٢٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: قُلِ ادْعُوا الّذِينَ زَعَمْتُـمْ مِنْ دُونِ اللّه لاَ يـمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرّةٍ فِـي السّمَوَاتِ وَلا فِـي الأرْضِ وَما لَهُمْ فِـيهِما مِنْ شِرْكٍ يقول: ما للّه من شريك فـي السماء ولا فـي الأرض وما لَهُ مِنْهمْ من الذين يدعون من دون اللّه مِن ظهيرٍ من عون بشيء.

٢٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّىَ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ...}.

يقول تعالـى ذكره: ولا تنفع شفـاعة شافع كائنا من كان الشافع لـمن شَفَع له، إلا أن يشفع لـمن أذن اللّه فـي الشفـاعة. يقول تعالـى: فإذا كانت الشفـاعات لا تنفع عند اللّه أحدا إلا لـمن أذِن اللّه فـي الشفـاعة له، واللّه لا يأذن لأحد من أولـيائه فـي الشفـاعة لأحد من الكفرة به، وأنتـم أهل كفر به أيها الـمشركون، فكيف تعبدون من تعبدونه من دون اللّه زعما منكم أنكم تعبدونه، لـيقرّبكم إلـى اللّه زُلْفَـى، ولـيشفع لكم عند ربكم (فمن) إذ كان هذا معنى الكلام التـي فـي قوله إلاّ لِـمَنْ أَذِنَ لَهُ: الـمشفوع له.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: أَذِنَ لَهُ فقرأ ذلك عامة القرّاء بضم الألف مِن (أَذِنَ لَهُ) علـى وجه ما لـم يسمّ فـاعله. وقرأه بعض الكوفـيـين: أَذِنَ لَهُ علـى اختلاف أيضا عنه فـيه، بـمعنى أذن اللّه له.

و قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يقول: حتـى إذا جُلِـيَ عن قلوبهم، وكشف عنها الفزع وذهب.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٢٢٠٢٣ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يعني : جُلِـيَ.

٢٢٠٢٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال: كشف عنها الغطاء يوم القـيامة.

٢٢٠٢٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: إذا جلـي عن قلوبهم.

واختلف أهل التأويـل فـي الـموصوفـين بهذه الصفة مَنْ هُم؟ وما السبب الذي من أجله فُزّع عن قلوبهم؟ فقال بعضهم: الذي فُزّع عن قلوبهم الـملائكة، قالوا: وإنـما يفزّع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم اللّه بـالوحي. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٢٦ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَـية، عن داود، عن الشّعبـيّ، قال: قال ابن مسعود فـي هذه الاَية: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال: إذا حدث أمر عند ذي العرش سَمع مَن دونه من الـملائكة صوتا كجرّ السلسلة علـى الصفـا، فـيُغْشى علـيهم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم تنادَوا: ماذَا قالَ رَبّكُمْ قال: فـيقول من شاء، قال: الـحقّ، وهو العلـيّ الكبـير.

٢٢٠٢٧ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، قال: سمعت داود، عن عامر، عن مسروق قال: إذا حدث عند ذي العرش أمر سمعت الـملائكة صوتا، كجرّ السلسلة علـى الصفـا، قال: فـيُغْشَى علـيهم، فإذا فُزّع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال: فـيقول من شاء اللّه : الـحَقّ، وهو العلـيّ الكبـير.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنـي عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود، أنه قال: إذا حدث أمر عند ذي العرش، ثم ذكر نـحو معناه إلاّ أنه قال: فـيُغْشَى علـيهم من الفزع، حتـى إذا ذهب ذلك عنهم تنادوا: ماذا قال ربكم؟

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم، عن عبد اللّه بن مسعود، فـي قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال: إن الوحي إذا أُلقـي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة علـى الصفوان، قال: فـيتنادون فـي السموات. ماذا قال ربكم؟ قال: فـيتنادون: الـحَقّ، وهو العلـيّ الكبـير.

وبه عن منصور، عن أبـي الضّحَى، عن مسروق، عن عبد اللّه ، مثله.

٢٢٠٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: يُنَزّلُ الأمرُ من عند ربّ العزّة إلـى السماء الدنـيا، فـيفُزَع أهل السماء الدنـيا، حتـى يستبـين لهم الأمر الذي نُزّل فـيه، فـيقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فـيقولون: قال الـحقّ، وهو العلـيّ الكبـير، فذلك قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ... الاَية.

٢٢٠٢٩ـ حدثنا أحمد بن عَبْدة الضّبـيّ، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرِمة، قال: حدثنا أبو هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّ اللّه إذَا قَضَى أمْرا فِـي السّماءِ ضَرَبَتِ الـمَلائِكَةُ بأجْنِـحَتِها جَمِيعا، ولقوله صوت كصوت السلسلة علـى الصفـا الصّفْوان، فذلك قوله) : حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحقّ وَهُو العَلِـيّ الكَبِـيرُ.

٢٢٠٣٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَـية، قال: حدثنا أيوب، عن هشام بن عروة، قال: قال الـحارث بن هشام لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كيف يأتـيك الوحي؟ قال: (يَأْتِـينِـي فِـي صَلَصَلَةٍ كَصَلْصَلَةِ الـجَرَسِ فَـيَفْصِمُ عَنّـي حِينَ يَفْصِمُ وَقَدْ وَعَيْتُهُ، ويَأْتِـي أحْيانا فِـي مِثْلِ صُورَةِ الرّجُلِ، فَـيُكَلّـمُنِـي بِهِ كَلاما، وَهُوَ أهْوَنُ عَلـيّ) .

٢٢٠٣١ـ حدثنـي زكريا بن أَبـان الـمصريّ، قال: حدثنا نعيـم، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن ابن أبـي زكريا، عن جابر بن حَيْوَة، عن النوّاس بن سمعان، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إذَا أرَادَ اللّه أنْ يُوحِيَ بـالأَمْرِ تَكَلّـمَ بـالوَحْيِ، أخَذَتِ السّمَوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ أوْ قالَ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ خَوْفَ أمْرِ اللّه ، فإذا سَمِعَ بذلكَ أهْلُ السّمَوَاتِ صَعِقُوا وَخَرّوا للّه سُجّدا، فَـيَكُونُ أوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رأسَهُ جَبْرائِيـلُ، فَـيُكَلّـمُهُ اللّه مِنْ وَحْيِهِ بِـمَا أرَادَ، ثُمّ يَـمُرّ جَبْرائِيـلُ علـى الـمَلائِكَةِ كُلّـما مَرّ بِسَماءٍ سأَلَهُ مَلائِكَتُها. ماذَا قال رَبّنا يا جَبْرائِيـلُ؟ فَـيَقُولُ جَبْرَائِيـلُ. قالَ الـحَقّ وَهُوَ العِلـيّ الكَبِـيرُ، قالَ: فَـيَقُولُونَ كُلّهُمْ مِثْلَ ما قالَ جَبْرائِيـلُ، فَـيَنْتَهي جَبْرائِيـلُ بـالوَحْيِ حَيثُ أمَرَهُ اللّه ) .

٢٢٠٣٢ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ... الاَية. قال: كان ابن عباس يقول: إن اللّه لـما أراد أن يوحي إلـى مـحمد، دعا جبريـل، فلـما تكلـم ربنا بـالوحي، كان صوته كصوت الـحديد علـى الصفـا فلـما سمع أهل السموات صوت الـحديد خرّوا سُجّدا فلـما أَتـيَ علـيهم جبرائيـل بـالرسالة رفعوا رُؤوسهم، فقالوا: ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحَقّ وَهُوَ العَلِـيّ الكَبِـيرُ وهذا قول الـملائكة.

٢٢٠٣٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ... إلـى وَهُوَ العَلِـيّ الكَبِـير قال: لـما أوحَي اللّه تعالـى ذكره إلـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم دعا الرسولَ من الـملائكة، فبعث بـالوحْي، سمعت الـملائكة صوت الـجَبـار يتكلـم بـالوحي فلـما كُشِف عن قلوبهم سألوا عما قال اللّه ، فقالوا: الـحقّ، وعلـموا أن اللّه لا يقول إلا حَقا، وأنه مُنـجز ما وعد. قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الـحديد علـى الصفـا فلـما سمعوه خرّوا سجّدا فلـما رفعوا رؤوسهم قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحَقّ وَهُوَ العَلِـيّ الكَبِـيرُ ثم أمر اللّه نبـيه أن يسأل الناس قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَوَاتِ... إلـى قوله: فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ.

٢٢٠٣٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا قُرّة، عن عبد اللّه بن القاسم، فـي قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ... الاَية، قال: الوحي ينزل من السماء، فإذا قضاه قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحَقّ وَهُوَ العَلِـيّ الكَبِـيرُ.

٢٢٠٣٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم، عن عبد اللّه ، فـي قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال: إن الوحي إذا قَضَى فـي زوايا السماء، قال: مثل وقع الفُولاذ علـى الصخرة، قال: فـيُشْفِقون، لا يدرون ما حدث، فـيفزعون، فإذا مرّت بهم الرسل قالُوا ماذا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحَقّ وَهُوَ العَلـيّ الكَبِـيرُ.

وقال آخرون مـمن قال: الـموصوفون بذلك الـملائكة: إنـما يُفَزّع عن قلوبهم فَزعُهُم من قضاء اللّه الذي يقضيه حذرا أن يكون ذلك قـيام الساعة. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٣٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ... الاَية، قال: يوحي اللّه إلـى جبرائيـل، فَتَفرّق الـملائكة، أو تفزع مخافة أن يكون شيء من أمر الساعة، فإذا جُلِـيَ عن قلوبهم، وعلـموا أنه لـيس ذلك من أمر الساعة قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحَقّ وَهُوَ العَلِـيّ الكَبِـيرُ.

وقال آخرون: بل ذلك من فعل ملائكة السموات إذا مرّت بها الـمعقّبـات فزَعا أن يكون حدث أمر الساعة. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٣٧ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ... الاَية، زعم ابن مسعود أن الـملائكة الـمُعَقبـات الذين يختلفون إلـى الأرض يكتبون أعمالهم، إذا أرسلهم الربّ فـانـحدروا سمع لهم صوت شديد، فـيحسب الذين هم أسفل منهم من الـملائكة أنه من أمر الساعة، فخرّوا سُجّدا، وهكذا كلـما مرُوا علـيهم يفعلون ذلك من خوف ربهم.

وقال آخرون: بل الـموصوفون بذلك الـمشركون، قالوا: وإنـما يُفزّع الشيطان عن قلوبهم قال: وإنـما يقولون: ماذا قال ربكم عند نزول الـمنـية بهم. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٣٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: حتـى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال: فَزّع الشيطان عن قلوبهم وفـارقهم وأمانـيهم، وما كان يضلهم قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الـحَقّ وَهُوَ العَلِـيّ الكَبِـيرُ قال: وهذا فـي بنـي آدم، وهذا عند الـموت أقرّوا به حين لـم ينفعهم الإقرار.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، القول الذي ذكره الشّعْبـيّ، عن ابن مسعود لصحة الـخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتأيـيده. وإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: لا تنفع الشفـاعة عنده، إلا لـمن أذن له أن يشفَع عنده، فإذا أذن اللّه لـمن أذن له أن يشفع فزع لسماعه إذنه، حتـى إذا فُزّع عن قلوبهم، فجُلّـيَ عنها، وكشَف الفزع عنهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالت الـملائكة: الـحقّ، وهو العلـيّ علـى كل شيء الكبـير الذي لا شيء دونه. والعرب تستعمل فُزّع فـي معنـيـين، فتقول للشجاع الذي به تنزل الأمور التـي يفزَع منها: وهو مُفَزّع وتقول للـجبـان الذي يَفْزَع من كلّ شيء: إنه لـمُفَزّع، وكذلك تقول للرجل الذي يقضي له الناس فـي الأمور بـالغلبة علـى من نازله فـيها: هو مُغَلّب وإذا أريد به هذا الـمعنى كان غالبـا وتقول للرجل أيضا الذي هو مغلوب أبدا: مُغَلّب.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار أجمعون: فُزّعَ بـالزاي والعين علـى التأويـل الذي ذكرناه عن ابن مسعود ومن قال بقوله فـي ذلك. ورُوي عن الـحسن أنه قرأ ذلك: (حتـى إذَا فُزِعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) بـالراء والغين علـى التأويـل الذي ذكرناه عن ابن زيد. وقد يحتـمل توجيه معنى قراءة الـحسن ذلك كذلك، إلـى (حتـى إذَا فُزِغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) فصارت فـارغة من الفزع الذي كان حلّ بها. ذُكر عن مـجاهد أنه قرأ ذلك: (فُزِعَ) بـمعنى: كَشَف اللّه الفزع عنها.

والصواب من القراءة فـي ذلك القراءة بـالزاي والعين لإجماع الـحجة من القراء وأهل التأويـل علـيها، ولصحة الـخبر الذي ذكرناه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتأيـيدها، والدلالة علـى صحتها.

٢٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّه وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين بربهم الأوثان والأصنام: من يرزقكم من السموات والأرض بإنزاله الغيث علـيكم منها حياة لـحروثكم، وصلاحا لـمعايشكم، وتسخيره الشمس والقمر والنـجوم لـمنافعكم، ومنافع أقواتكم، والأرض بإخراجه منها أقواتكم وأقوات أنعامكم؟ وترك الـخبر عن جواب القوم استغناء بدلالة الكلام علـيه، ثم ذكره، وهو: فإن قالوا: لا ندري، فقل: الذي يرزقكم ذلك اللّه ، وإنا أو إياكم أيها القوم لعلـي هُدًى أو فـي ضلال مبـين يقول: قل لهم: إنا لعلـى هدى أو فـي ضلال، أو إنكم علـى ضلال أو هُدًى. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٣٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّه وإنّا أوْ إيّاكُمْ لعَلـى هُدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ قال: قد قال ذلك أصحاب مـحمد للـمشركين، واللّه ما أنا وأنتـم علـى أمر واحد، إنّ أحد الفريقـين لـمهتد.

وقد قال قوم: معنى ذلك: وإنا لعلـى هدى، وإنكم لفـي ضلال مبـين. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٤٠ـ حدثنـي إسحاق بن إبراهيـم الشهيديّ، قال: حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف عن عكرمة وزياد، فـي قوله: وَإنّا أوْ إيّاكُمْ لَعَلـى هَدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ قال: إنا لعلـى هدى وإنكم لفـي ضلال مبـين.

واختلف أهل العربـية فـي وجه دخول (أو) فـي هذا الـموضع، فقال بعض نـحويـيّ البصرة: لـيس ذلك لأنه شك، ولكن هذا فـي كلام العرب علـى أنه هو الـمهتدِي، قال: وقد يقول الرجل لعبده: أحدنا ضارب صاحبه، ولا يكون فـيه إشكال علـى السامع أن الـمولـى هو الضارب.

وقال آخر منهم: معنى ذلك: إنا لعلـى هدى، وإنكم إياكم فـي ضلال مبـين، لأن العرب تضع (أو) فـي موضع واو الـموالاة، قال جرير:

أثَعْلَبَةَ الفَوَارِسِ أوْ رِياحاعَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيّةَ والـخِشابـا

قال: يعني ثعلبة ورياحا، قال: وقد تكلـم بهذا من لا يشكّ فـي دينه، وقد علـموا أنهم علـى هدى، وأولئك فـي ضلال، فـيقال: هذا وإن كان كلاما واحدا علـى جهة الاستهزاء، فقال: هذا لهم، وقال:

فإنْ يَكُ حُبّهُمْ رُشْدا أُصِبْهُوَلسْتُ بِـمُخْطىءٍ إنْ كانَ غَيّا

وقال بعض نـحويـي الكوفة: معنى (أو) ومعنى الواو فـي هذا الـموضع فـي الـمعنى، غير أن القرينة علـى غير ذلك لا تكون (أو) بـمنزلة الواو، ولكنها تكون فـي الأمر الـمفوّض، كما تقول: إن شئت فخذ درهما أو اثنـين، فله أن يأخذ اثنـين أو واحدا، ولـيس له أن يأخذ ثلاثة. قال: وهو فـي قول من لا يبصر العربـية، ويجعل (أو) بـمنزلة الواو، ويجوز له أن يأخذ ثلاثة، لأنه فـي قولهم بـمنزلة قولك: خذ درهما أو اثنـين قال: والـمعنى فـي إنّا أو إياكُمْ إنا لضالون أو مهتدون، وإنكم أيضا لضالون، وهو يعلـم أن رسوله الـمهتدي، وأن غيره الضالّ. قال: وأنت تقول فـي الكلام للرجل يكذّبك. واللّه إن أحدنا لكاذب، وأنت تعنـيه، وكذّبته تكذيبـا غير مكشوف، وهو فـي القرآن وكلام العرب كثـير، أن يوجّه الكلام إلـى أحسن مذاهبه، إذا عرف، كقول القائل لـمن قال: واللّه لقد قدم فلان، وهو كاذب فـيقول: قل: إن شاء اللّه ، أو قل: فـيـما أظنّ، فـيكذّبه بأحسن تصريح التكذيب. قال: ومن كلام العرب أن يقولوا: قاتله اللّه ، ثم يستقبح فـيقولون: قاتله اللّه ، وكاتعه اللّه . قال: ومن ذلك: ويحَك، وويسَك، إنـما هي فـي معنى: ويْـلَك، إلا أنها دونها.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أن ذلك أمر من اللّه لنبـيه بتكذيب من أمره بخطابه بهذا القول بأجمل التكذيب، كما يقول الرجل لصاحب له يخاطبه، وهو يريد تكذيبه فـي خبر له: أحدنا كاذب، وقائل ذلك يعني صاحبه، لا نفسه فلهذا الـمعنى صير الكلام بأو.

٢٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُل لاّ تُسْأَلُونَ عَمّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قل لهؤلاء الـمشركين: أحد فريقـينا علـى هدى والاَخر علـى ضلال، لا تُسْألون أنتـم عما أجرمنا نـحن من جرم، وركبنا من إثم، ولا نُسأَلُ نـحن عما تعملون أنتـم من عمل، قل لهم: يجمع بـيننا ربنا يوم القـيامة عنده، ثم يفتـح بـيننا بـالـحقّ. يقول: ثم يقضي بـيننا بـالعدل، فـيتبـين عند ذلك الـمهتدي منا من الضالّ وَهُوَ الفَتّاحُ العَلِـيـمُ يقول: واللّه القاضي العلـيـم بـالقضاء بـين خـلقه، لأنه لا تـخفـى عنه خافـية، ولا يحتاج إلـى شهود تعرّفه الـمُـحقّ من الـمبطل. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٤١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ،

٢٦

قوله: قُلْ يَجْمَعُ بَـيْنَنا رَبّنا يوم القـيامة ثُمّ يَفْتَـحُ بَـيْنَنا: أي يقضي بـيننا.

٢٢٠٤٢ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَهُوَ الفَتّاحُ العَلِـيـمُ يقول: القاضي.

٢٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ أَرُونِيَ الّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاّ بَلْ هُوَ اللّه الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين بـاللّه الاَلهة والأصنام: أَرُونـي أيّها القوم الّذين ألـحقتـموهم بـاللّه فصيّرتـموهم له شركاء فـي عبـادتكم إياهم: ماذا خـلقوا من الأرض، أم لهم شرك فـي السموات، كلاّ

يقول تعالـى ذكره: كذبوا، لـيس الأمر كما وصفوا، ولا كما جعلوا وقالوا من أن للّه شريكا، بل هو الـمعبود الذي لا شريك له، ولا يصلـح أن يكون له شريك فـي ملكه، العزيز فـي انتقامه مـمن أشرك به من خـلقه، الـحكيـم فـي تدبـيره خـلقه.

٢٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: وما أرسلناك يا مـحمد إلـى هؤلاء الـمشركين بـاللّه من قومك خاصة، ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين، العرب منهم والعجم، والأحمر والأسود، بشيرا من أطاعك، ونذيرا من كذّبك، وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَـمُونَ أن اللّه أرسلك كذلك إلـى جميع البشر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٤٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافّةً للنّاس قال: أرسل اللّه مـحمدا إلـى العرب والعجم، فأكرمُهُم علـى اللّه أطوعهم له.

ذُكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أنا سابِقُ العَرَبِ، وَصُهَيْبُ سابِقُ الرّومِ، وَبِلالُ سابِقُ الـحَبَشَةِ، وسلم انُ سابِقُ فـارِسَ) .

٢٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.

يقول تعالـى ذكره: ويقول هؤلاء الـمشركون بـاللّه إذا سمعوا وعيد اللّه الكفـار وما هو فـاعل بهم فـي معادهم مـما أنزل اللّه فـي كتابه: مَتـى هَذَا الوَعْدُ جائيا، وفـي أيّ وقت هو كائن إنْ كُنْتُـمْ فـيـما تَعِدُوننا من ذلك صَادِقِـينَ أنه كائن،

٣٠

قال اللّه لنبـيه: قُلْ لهم يا مـحمد: لَكُمْ أيها القوم مِيعادُ يَوْمٍ هو آتـيكم لا تَسْتأْخِرُونَ عَنْهُ إذا جاءكم ساعَةً فتنظروا للتوبة والإنابة وَلا تسْتَقدِمونَ قبله بـالعذاب، لأن اللّه جعل لكم ذلك أجلاً.

٣١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَن نّؤْمِنَ بِهَـَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ...}.

يقول تعالـى ذكره: وَقَالَ الّذِينَ كَفَروا من مشركي العرب: لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا القُرآنِ الذي جاءنا به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ، ولا بـالكتاب الذي جاء به غيره من بـين يديه، كما:

٢٢٠٤٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا القُرآنِ وَلا بـالّذِي بـينَ يَدَيْهِ قال: قال الـمشركون: لن نؤمن بهذا القرآن، وَلا بـالّذِي بـينَ يَدَيْهِ من الكتب والأنبـياء.

و قوله: وَلَوْ تَرَى إذِ الظّالِـمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبّهِمْ يتلاومون، يحاور بعضهم بعضا، يقول الـمستضعفون كانوا فـي الدنـيا للذين كانوا علـيهم فـيها يستكبرون: لولا أنتـم أيها الرؤساء والكبراء فـي الدْنـيا لكنا مؤمنـين بـاللّه وآياته.

٣٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُوَاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىَ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مّجْرِمِينَ }.

يقول تعالـى ذكره: قالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوا فـي الدنـيا، فرأسوا فـي الضلالة والكفر بـاللّه لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فـيها فكانوا أتبـاعا لأهل الضلالة منهم، إذ قالوا لهم لَوْلا أنْتُـمْ لَكُنّا مُؤْمِنِـينَ أَنـحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الهُدَى ومنعناكم من اتبـاع الـحقّ بَعْدَ إذْ جاءَكُمْ من عند اللّه ، يبـين لكم بَلْ كُنْتُـمْ مُـجْرِمِينَ فمنعكم إيثاركم الكفر بـاللّه علـى الإيـمان من اتبـاع الهدى، والإيـمان بـاللّه ورسوله.

٣٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الْلّيْلِ ...}.

يقول تعالـى ذكره: وَقالَ الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا من الكفرة بـاللّه فـي الدنـيا، فكانوا أتبـاعا لرؤسائهم فـي الضلالة لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُوا فـيها، فكانوا لهم رؤساء بَلْ مَكْرُ كم لنا ب اللّـيْـلِ والنّهارِ صدّنا عن الهدى إذْ تَأْمُرُونَنا أنْ نَكْفُرَ بـاللّه وَنـجْعَلَ لَهُ أمثالاً وأشبـاها فـي العبـادة والألوهة فأضيف الـمكر إلـى اللـيـل والنهار. والـمعنى ما ذكرنا من مكر الـمستكبرين بـالـمستضعفـين فـي اللـيـل والنهار، علـى اتساع العرب فـي الذي قد عُرِف معناها فـيه من منطِقها، من نقل صفة الشيء إلـى غيره، فتقول للرجل: يا فلان نهارك صائم ولـيـلك قائم، وكما قال الشاعر:

(ونِـمْتِ وَما لَـيْـلُ الـمَطِيّ بِنائمِ )

وما أشبه ذلك مـما قد مضى بـياننا له فـي غير هذا الـموضع من كتابنا هذا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٤٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: بَلْ مَكْرُ اللّـيْـلِ والنّهارِ إذ تَأْمُرُونَنا أنْ نَكْفُرَ بـاللّه وَنـجْعَلَ لَهُ أنْدَادا يقول: بل مكرُكُم بنا فـي اللـيـل والنهار أيها العظماء الرؤساء حتـى أزلتـمونا عن عبـادة اللّه .

وقد ذُكر فـي تأويـله عن سعيد بن جبـير ما:

٢٢٠٤٦ـ حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَـير بَلْ مَكْرُ اللّـيْـلِ والنّهارِ قال: مَرّ اللـيـل والنهار.

و قوله: إذْ تَأْمُرُونَنا أنْ نَكْفُرَ بـاللّه يقول: حين تأمروننا أن نكفر بـاللّه .

و قوله: ونـجعَلَ لَهُ أنْدَادا يقول: شركاء، كما:

٢٢٠٤٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ونَـجْعَلَ لَهُ أنْدَادا شركاء.

 قوله: وأَسَرّوا النّدامَةَ لَـمّا رأَوُا العَذَابَ يقول: وندموا علـى ما فرّطوا من طاعة اللّه فـي الدنـيا حين عاينوا عذاب اللّه الذي أعدّه لهم، كما:

٢٢٠٤٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وأَسَرّوا النّدَامَةَ بـينهم لَـمّا رأَوُا العَذَابَ.

 قوله: وَجَعَلْنا الأَغْلالَ فِـي أعْناقِ الّذِينَ كَفَرُوا وغُلّت أيدي الكافرين بـاللّه فـي جهنـم إلـى أعناقهم فـي جوامع من نار جهنـم، جزاء بـما كانوا بـاللّه فـي الدنـيا يكفرون،

يقول جلّ ثناؤه: ما يفعل اللّه ذلك بهم إلاّ ثوابـا لأعمالهم الـخبـيثة التـي كانوا فـي الدنـيا يعملونها، ومكافأة لهم علـيها.

٣٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: وما بعثنا إلـى أهل قرية نذيرا يُنذرهم بأسَنا أن ينزل بهم علـى معصيتهم إيانا، إلاّ قال كُبراؤها ورؤساؤها فـي الضلالة كما قال قوم فرعون من الـمشركين له: إنا بـما أُرسلتـم به من النّذارة، وبُعثتـم به من توحيد اللّه ، والبراءة من الاَلهة والأنداد كافرون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٤٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَما أرْسَلْنا فِـي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلاّ قالَ مُتْرَفُوها إنّا بِـمَا أُرْسِلْتُـمْ بِهِ كافِرُونَ قال: هم رؤوسهم وقادتهم فـي الشرّ.

٣٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ }.

يقول تعالـى ذكره: وقال أهل الاستكبـار علـى اللّه من كل قرية أرسلنا فـيها نذيرا لأنبـيائنا ورسلنا: نـحن أكْثَرُ أمْوَالاً وأوْلادا وَما نَـحْنُ فِـي الاَخرَةِ بِـمُعَذّبـينَ لأن اللّه لو لـم يكن راضيا ما نـحن علـيه من الـملة والعمل لـم يخوّلنا الأموال والأولاد، ولـم يبسط لنا فـي الرزق، وإنـما أعطانا ما أعطانا من ذلك لرضاه أعمالنا، وآثرنا بـما آثرنا علـى غيرنا لفضلنا، وزلفة لنا عنده يقول اللّه لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قل لهم يا مـحمد: إن ربـي يبسط الرزق من الـمعاش والرياش فـي الدنـيا لـمن يشاء من خـلقه ويَقْدِر فـيضيق علـى من يشاء لا لـمـحبة فـيـمن يبسط له ذلك ولا خير فـيه ولا زُلْفة له، استـحقّ بها منه، ولا لبُغض منه لـمن قدر علـيه ذلك، ولا مَقْت، ولكنه يفعل ذلك مِـحْنة لعبـاده وابتلاء، وأكثر الناس لا يعلـمون أن اللّه يفعل ذلك اختبـارا لعبـاده، ولكنهم يظنون أن ذلك منه مـحبة لـمن بَسَطَ له ومَقْت لـمن قَدَرعلـيه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٥٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله:

٣٦

وَما أمْوَالُكُمْ وَلا أوْلادُكمْ بـالتـي تُقَرّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفَـى... الاَية، قال: قالوا: نـحن أكثر أموالاً وأولادا، فأخبرهم اللّه أنه لـيست أموالكم ولا أولادكم بـالتـي تقرّبكم عندنا زُلْفـى، إلاّ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالـحا، قال: وهذا قول الـمشركين لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، قالوا: لو لـم يكن اللّه عنا راضيا لـم يعطنا هذا، كما قال قارون: لولا أن اللّه رَضِيَ بـي وبحالـي ما أعطانـي هذا، قال: أوَ لَـمْ يَعْلَـمْ أنّ اللّه قَدْ أهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ... إلـى آخر الاَية.

٣٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالّتِي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىَ إِلاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ...}.

 

يقول جلّ ثناؤه: وما أموالكم التـي تفتـخرون بها أيّها القوم علـى الناس، ولا أولادكم الذين تتكبرون بهم بـالتـي تقرّبكم منا قُرْبَةً. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٥١ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: عِنْدَنا زُلْفَـى قال: قُربَى.

٢٢٠٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَما أمْوَالُكُمْ وَلا أوْلادُكُمْ بـالّتِـي تُقَرّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفَـى لا يعتبر الناس بكثرة الـمال والولد، وإن الكافر قد يُعْطَى الـمال، وربـما حُبِس عن الـمؤمن.

وقال جلّ ثناؤه: وَما أمْوَالُكُمْ وَلا أوْلادُكُمْ بـالتـي تُقَرّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفَـى ولـم يقل بـاللّتـين، وقد ذكر الأموال والأولاد، وهما نوعان مختلفـان لأنه ذُكر من كل نوع منهما جمع يصلـح فـيه التـي ولو قال قائل: أراد بذلك أحد النوعين لـم يبعد قوله، وكان ذلك كقول الشاعر:

نَـحْنُ بِـمَا عِنْدَنا، وأنْتَ بِـمَاعِنْدَكَ رَاضٍ والرأيُ مُخْتَلِفُ

ولـم يقل: راضيان.

و قوله: إلاّ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالِـحا اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك فقال بعضهم: معنى ذلك: وما أموالكم ولا أولادكم بـالتـي تقرّبكم عندنا زُلفـى، إلاّ من آمن وعمل صالـحا، فإنه تقرّبهم أموالهم وأولادهم بطاعتهم اللّه فـي ذلك وأدائهم فـيه حقه إلـى اللّه زلفـى دون أهل الكفر بـاللّه . ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٥٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قول اللّه : إلاّ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالِـحا قال: لـم تضرّهم أموالهم ولا أولادهم فـي الدنـيا للـمؤمنـين، وقرأ: لِلّذِينَ أحْسَنُوا الـحُسْنَى وَزِيادَةٌ فـالـحُسنى: الـجنة، والزيادة: ما أعطاهم اللّه فـي الدنـيا لـم يحاسبهم به، كما حاسب الاَخرين، فمن حملها علـى هذا التأويـل نصب بوقوع تقرّب علـيه، وقد يحتـمل أن يكون (من) فـي موضع رفع، فـيكون كأنه

قـيـل: وما هو إلاّ من آمن وعمل صالـحا.

و قوله: فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضّعْفِ يقول: فهؤلاء لهم من اللّه علـى أعمالهم الصالـحة الضعف من الثواب، بـالواحدة عشر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٥٤ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضّعْفِ بِـمَا عَمِلُوا قال: بأعمالهم الواحد عشر، وفـي سبـيـل اللّه بـالواحد سبعُ مئة.

و قوله: فِـي الغُرُفـاتِ آمِنُونَ يقول: وهم فـي غرفـات الـجنات آمنون من عذاب اللّه .

٣٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: والذين يعملون فـي آياتنا، يعني : فـي حججنا وآي كتابنا، يبتغون إبطاله، ويريدون إطفـاء نوره معاونـين، يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم، ويُعْجزوننا أُولَئكَ فـي العَذابِ مُـحْضَرونَ يعني فـي عذاب جهنـم مـحضرون يوم القـيامة قُلْ إنّ رَبّـي يَبْسُطُ الرّزْقَ لِـمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبـادِهِ

يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد إن ربـي يبسط الرزق لـمن يشاء من خَـلْقه، فـيوسعه علـيه تكرمة له وغير تكرمة، ويَقْدِر علـى من يشاء منهم فـيضيقه ويقتره إهانة له وغير إهانة، بل مِـحنة واختبـارا وَما أنْفَقْتُـمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْـلِفُهُ يقول: وما أنفقتـم أيها الناس من نفقة فـي طاعة اللّه ، فإن اللّه يخـلفها علـيكم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٥٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفـيان، عن الـمنهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَـير وَما أنْفَقْتُـمْ منْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْـلِفُهُ قال: ما كان فـي غير إسراف ولا تقتـير.

و قوله: وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِـينَ يقول: وهو خير من قـيـل إنه يَرْزُق ووُصِف به، وذلك أنه قد يوصف بذلك من دونه، فـيقال: فلان يَرزُق أهله وعياله.

٣٩

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}

 يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، فَيُوَسِّعُهُ عَلَيْهِ تَكْرِمَةً لَهُ وَغَيْرَ تَكْرِمَةٍ،

وَيَقْدِرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ فَيُضَيِّقُهُ وَيُقْتِرُهُ إِهَانَةً لَهُ وَغَيْرَ إِهَانَةٍ، بَلْ مِحْنَةً وَاخْتِبَارًا

{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} يَقُولُ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ نَفَقَةٍ فِي طَاعَةِ اللّه ، فَإِنَّ اللّه يُخْلِفُهَا عَلَيْكُمْ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، [ص:٢٩٩] عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: ٣٩] قَالَ: «مَا كَانَ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ»

وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون: ٧٢] يَقُولُ: وَهُوَ خَيْرُ مَنْ قِيلَ إِنَّهُ يَرْزُقُ وَوُصِفَ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُوصَفُ بِذَلِكَ مَنْ دُونَهُ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ يَرْزُقُ أَهْلَهُ وَعِيَالَهُ

٤٠

انظر تفسير الآية:٤١

٤١

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنِ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ

يقول تعالـى ذكره: ويوم نـحشر هؤلاء الكفـار بـاللّه جميعا، ثم نقول للـملائكة: أهؤلاء كانوا يعبدونكم من دوننا؟

فتتبرأ منهم الـملائكة قَالُوا سُبْحَانَكَ ربنا، تنزيها لك وتبرئة مـما أضاف إلـيك هؤلاء من الشركاء والأنداد أَنْتَ وَلِـيّنَا مِنْ دونِهِمْ لا نتـخذ ولـيا دونك بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْـجِنّ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٥٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَيَوْمَ نَـحْشُرُهُمْ جَمِيعا ثُمّ نَقُولُ للْـمَلاَئِكة أهَؤُلاءِ إيّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ استفهام، كقوله لعيسى: أءَنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّـخِذُونِـي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه ؟

و قوله: أكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ يقول: أكثرهم بـالـجنّ مصدّقون، يزعمون أنهم بنات اللّه ، تعالـى اللّه عما يقولون عُلُوّا كبـيرا.

٤٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النّارِ الّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: فـالـيوم لا يـملك بعضكم أيها الـملائكة للذين كانوا فـي الدنـيا يعبدونكم نفعا ينفعونكم به ولا ضرّا ينالونكم به، أو تنالونهم به وَنَقُولُ للّذِينَ ظَلَـمُوا يقول: ونقول للذين عبدوا غير اللّه فوضعوا العبـادة فـي غير موضعها، وجعلوها لغير من تنبغي أن تكون له: ذُوقُوا عَذَابَ النّارِ التـي كُنْتُـم بها فـي الدنـيا تُكَذّبونَ فقد وردتـموها.

٤٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ ... }.

يقول تعالـى ذكره: وإذا تُتلـى علـى هؤلاء الـمشركين آيات كتابنا بـيّنات يقول: واضحات أنهنّ حقّ من عندنا قالُوا ما هَذَا إلاّ رَجُلُ يُرِيدُ أنْ يَصُدّكُمْ عَمّا كانَ يَعْبُدُ آبـاؤُكُمْ يقول: قالوا عند ذلك: لا تتبعوا مـحمدا، فما هو إلاّ رجل يريد إن يصدّكم عما كان يعبد آبـاؤكم من الأوثان، ويغير دينكم ودين آبـائكم وَقالُوا ما هَذَا إلاّ إفْكٌ مُفْتَرًى

يقول تعالـى ذكره: وقال هؤلاء الـمشركون: ما هذا الذي تتلو علـينا يا مـحمد، يعنون القرآن، إلاّ إفك. يقول: إلاّ كَذِبٌ مُفْترى يقول: مختلَق. متـخرّص وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا للْـحَقّ لـما جَاءهمْ إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِـينٌ

يقول جلّ ثناؤه: وقال الكفـار للـحقّ، يعني مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم لـما جاءهم، يعني : لـما بعثه اللّه نبـيا: هذا سحر مبـين يقول: ما هذا إلاّ سحر مبـين، يبـين لـمن رآه وتأمله أنه سحر.

٤٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نّذِيرٍ }.

يقول تعالـى ذكره: وما أنزلنا علـى الـمشركين القائلـين لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم لـما جاءهم بآياتنا: هذا سحر مبـين بـما يقولون من ذلك كتبـا يدرسونها: يقول: يقرؤونها، كما:

٢٢٠٥٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَما ءاتَـيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها: أي يقرؤونها.

وَما أرْسَلْنا إلَـيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يقول: وما أرسلنا إلـى هؤلاء الـمشركين من قومك يا مـحمد فـيـما يقولون ويعملون قبلك من نبـيّ ينذرهم بأسنا علـيه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٥٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَما أرْسَلْنا إلَـيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ما أنزل اللّه علـى العرب كتابـا قبل القرآن، ولا بعث إلـيهم نبـيا قبل مـحمد صلى اللّه عليه وسلم .

٤٥

و قوله: وكَذّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول: وكذّب الذين من قبلهم من الأمـم رسلنا وتنزيـلنا وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَـيْناهُمْ يقول: ولـم يبلغ قومك يا مـحمد عُشْر ما أعطينا الذين من قبلهم من الأمـم من القوّة والأيدي والبطْش، وغير ذلك من النعم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٥٩ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما ءاتَـيْناهُمْ من القوّة فـي الدنـيا.

٢٢٠٦٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما ءاتَـيْناهُمْ يقول: ما جاوزوا معشار ما أنعمنا علـيهم.

٢٢٠٦١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وكَذّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما ءاتَـيْناهُمْ يخبركم أنه أَعْطَى القوم ما لـم يُعْطكم من القوّة وغير ذلك.

٢٢٠٦٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما ءاتَـيْنَاهُمْ قال: ما بلغ هؤلاء أمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم معشار ما آتـينا الذين من قبلهم، وما أعطيناهم من الدنـيا، وبسطنا علـيهم فَكَذّبوا رسلـي فكَيْفَ كانَ نَكِيرِ يقول: فكذّبوا رسلـي فـيـما أتوهم به من رسالتـي، فعاقبناهم بتغيـيرنا بهم ما كنا آتـيناهم من النعم، فـانظر يا مـحمد كيف كان نكير. يقول: كيف كان تغيـيري بهم وعقوبتـي.

٤٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ إِنّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ للّه مَثْنَىَ وَفُرَادَىَ...}.

يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين من قومك: إنـما أعظكم أيّها القوم بواحدة وهي طاعة اللّه ، كما:

٢٢٠٦٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: إنّـما أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ قال: بطاعة اللّه .

و قوله: أنْ تَقُومُوا للّه مَثْنَى وَفُرَادَى يقول: وتلك الواحدة التـي أعظكم بها هي أن تقوموا للّه اثنـين اثنـين، وفُرادَى فُرادَى، فإن فـي موضع خفض ترجمة عن الواحدة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنـي أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أنْ تَقُومُوا للّه مَثْنَى وَفُرَادَى قال: واحدا واثنـين.

٢٢٠٦٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: قُلْ إنّـمَا أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أنْ تَقُومُوا للّه مَثْنَى وَفُرَادَى رجلاً ورجلـين. و

قـيـل: إنـما

قـيـل: إنـما أعظكم بواحدة، وتلك الواحدة أن تقوموا للّه بـالنصيحة وترك الهوى. مَثْنَى يقول: يقوم الرجل منكم مع آخر فـيتصادقان علـى الـمناظرة، هل علـمتـم بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم جنونا قطّ؟ ثم ينفرد كل واحد منكم، فـيتفكر ويعتبر فردا هل كان ذلك به؟ فتعلـموا حينئذٍ أنه نذير لكم.

و قوله: ثُمّ تَتَفَكّرُوا ما بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنّةٍ يقول: لأنه لـيس بـمـجنون. وقوله إنْ هُوَ إلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَـينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ يقول: ما مـحمد إلاّ نذير لكم ينذركم علـى كفركم بـاللّه عقابه أمام عذاب جهنـم قبل أن تَصْلَوْها،

و قوله: (هو) كناية اسم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم .

٤٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّه وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٍ }.

يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد لقومك الـمكذّبـيك، الرّادّين علـيك ما أتـيتهم به من عند ربك: ما أسألكم من جُعْلٍ علـى إنذاريكم عذاب اللّه ، وتـخويفكم به بأسه، ونصيحتـي لكم فـي أمري إياكم بـالإيـمان بـاللّه ، والعمل بطاعته، فهو لكم لا حاجة لـي به. وإنـما معنى الكلام: قل لهم: إنـي لـم أسألكم علـى ذلك جُعْلاً فتتهمونـي، وتظنوا أنـي إنـما دعوتكم إلـى اتبـاعي لـمال آخذه منكم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٦٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: قُلْ ما سألْتُكُمْ مِنْ أجْر: أي جُعل فَهُوَ لَكُمْ يقول: لـم أسألكم علـى الإسلام جُعْلاً.

و قوله: إنْ أجْرِيَ إلاّ عَلـى اللّه يقول: ما ثوابـي علـى دعائكم إلـى الإيـمان بـاللّه ، والعمل بطاعته، وتبلـيغكم رسالته، إلاّ علـى اللّه وَهُوَ عَلـى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يقول: واللّه علـى حقـيقة ما أقول لكم شهيد يشهد لـي به، وعلـى غير ذلك من الأشياء كلها.

٤٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ إِنّ رَبّي يَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلاّمُ الْغُيُوبِ }.

يقول جل ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قُلْ يا مـحمد لـمشركي قومك إنّ رَبّـي يَقْذِفُ بـالـحَقّ وهو الوحي، يقول: ينزله من السماء، فـيقذفه إلـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم عَلاّمُ الغُيُوبِ يقول: علام ما يغيب عن الأبصار، ولا مَظْهَر لها، وما لـم يكن مـما هو كائن، وذلك من صفة الربّ غير أنه رُفع لـمـجيئه بعد الـخبر، وكذلك تفعل العرب إذا وقع النعت بعد الـخبر، فـي أن أتبعوا النعت إعراب ما فـي الـخبر، فقالوا: إن أبـاك يقوم الكريـم، فرفع الكريـم علـى ما وَصَفت، والنصب فـيه جائز، لأنه نعت للأب،

٤٩

فـيتبع إعرابه قُلْ جاءَ الـحَقّ يقول: قل لهم يا مـحمد: جاء القرآن ووحي اللّه وَما يُبْدِىءُ البـاطِلُ يقول: وما ينشىء البـاطل خـلقا والبـاطل هو فـيـما فسّره أهل التأويـل: إبلـيس وَما يُعِيدُ يقول: ولا يعيده حيا بعد فنائه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٦٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: قُلْ إنّ رَبّـي يَقْذِفُ بـالـحَقّ: أي بـالوحي عَلاّمُ الغُيُوبِ قُلْ جاءَ الـحَقّ أي القرآن وَما يُبْدِىءُ البـاطِلُ وَما يُعِيدُ، والبـاطل: إبلـيس: أي ما يخـلق إبلـيس أحدا، ولا يبعثه.

٢٢٠٦٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: قُلْ إنّ رَبّـي يَقْذِفُ بـالـحَقّ عَلاّمُ الغُيُوبِ، فقرأ: بَلْ نَقْذِفُ بـالـحَقّ علـى البـاطلِ... إلـى قوله وَلَكُمُ الوَيْـلُ مِـمّا تَصِفُونَ قال: يُزْهِق اللّه البـاطل، ويثبت اللّه الـحقّ الذي دمغ به البـاطل، يدمغ بـالـحقّ علـى البـاطل، فـيهلك البـاطل ويثبت الـحقّ، فذلك قوله قُلْ إنّ رَبّـي يَقْذِفُ بـالـحَقّ عَلاّمُ الغُيُوبِ.

٥٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنّمَآ أَضِلّ عَلَىَ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيّ رَبّي إِنّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ }.

يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد لقومك: إن ضَلَلتُ عن الهدى، فسلكت غير طريق الـحقّ، فإنـما ضلالـي عن الصواب علـى نفسي، يقول: فإن ضلالـي عن الهدى علـى نفسي ضرّه وَإنِ اهْتَدَيْتُ يقول: وإن استقمت علـى الـحقّ فِـيـما يُوحِي إلـيّ رَبّـي يقول: فبوحي اللّه الذي يوحِي إلـيّ، وتوفـيقه للاستقامة علـى مـحجة الـحق وطريق الهُدى.

و قوله: إنّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يقول: إن ربـي سميع لـما أقول لكم، حافظ له، وهو الـمـجازِي لـي علـى صدقـي فـي ذلك، وذلك منـي غير بعيد، فـيتعذّر علـيه سماع ما أقول لكم، وما تقولون، وما يقوله غيرنا، ولكنه قريب من كلّ متكلـم يسمع كل ما ينطق به، أقرب إلـيه من حبل الوريد.

٥١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مّكَانٍ قَرِيبٍ }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : ولو تَرى يا مـحمد إذ فزعوا.

واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيـين بهذه الاَية، فقال بعضهم: عُنِـي بها هؤلاء الـمشركون الذين وصفهم تعالـى ذكره ب قوله: وَإذَا تُتْلَـى عَلَـيْهِمْ آياتُنا بَـيّناتٍ قالُوا ما هَذَا إلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أنْ يَصُدّكُمْ عَمّا كانَ يَعْبُدُ آبـاؤُكُمْ قال: وعُنِـي ب قوله: إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ عند نزول نقمة اللّه بهم فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٦٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ... إلـى آخر الاَية، قال: هذا من عذاب الدنـيا.

٢٢٠٧٠ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قال: هذا عذاب الدنـيا.

٢٢٠٧١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ... إلـى آخر السورة، قال: هؤلاء قتلـى الـمشركين من أهل بدر، نزلت فـيهم هذه الاَية، قال: وهم الذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا، وأحلّوا قومهم دارَ البوار جهنـم، أهل بدر من الـمشركين.

وقال آخرون: عنى بذلك جيش يخسف بهم ببـيداء من الأرض. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٧٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، فـي قوله: وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ قال: هم الـجيش الذي يُخْسَف بهم بـالبـيداء، يبقـى منهم رجل يخبر الناس بـما لقـي أصحابه.

٢٢٠٧٣ـ حدثنا عصام بن رَوّاد بن الـجَرّاح، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا سفـيان بن سعيد، قال: ثنـي منصور بن الـمعتـمر، عن رِبْعِيّ بن حِرَاش، قال: سمعت حُذيفة بن الـيـمان يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وذَكر فتنة تكون بـين أهل الـمشرق والـمغرب. قال: (فبـينـما هم كذلك، إذ خرج علـيهم السّفْـيانـيّ من الوادي الـيابس فـي فَورة ذلك، حتـى ينزل دمشق، فـيبعث جيشين: جيشا إلـى الـمشرق، وجيشا إلـى الـمدينة، حتـى ينزلوا بأرض بـابل فـي الـمدينة الـملعونة، والبقعة الـخبـيثة، فـيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف، وَيَبْقُرون بها أكثر من مئة امرأة، ويقتلون بها ثلاث مئة كبش من بنـي العباس ، ثم ينـحدرون إلـى الكوفة فـيخَرّبون ما حولها، ثم يخرجون متوجهين إلـى الشأم، فتـخرج راية هذا من الكوفة، فتلـحق ذلك الـجيش منها علـى الفئتـين فـيقتلونهم، لا يفلت منهم مخبر، ويستنقذون ما فـي أيديهم من السّبْـي والغنائم، ويخـلـي جيشه التالـي بـالـمدينة، فـينهبونها ثلاثة أيام ولـيالـيها، ثم يخرجون متوجهين إلـى مكة، حتـى إذا كانوا بـالبـيداء، بعث اللّه جبريـل، فـيقول: يا جبرائيـل اذهب فأبدهم، فـيضربها برجله ضربة يخسف اللّه بهم، فذلك قوله فـي سورة سبأ وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ... الاَية، ولا ينفلت منهم إلاّ رجلان: أحدهما بشير، والاَخر نذير، وهما من جهينة، فلذلك جاء القول) : ( وَعِنْدَ جُهَيْنَةَ الـخَبرُ الـيَقِـينُ )

٢٢٠٧٤ـ حدثنا مـحمد بن خـلَف العسقلانـيّ قال: سألت روّاد بن الـجرّاح، عن الـحديث الذي حدث به عنه، عن سفـيان الثوري، عن منصور، عن ربعى، عن حذيفة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، عن قصة ذكرها فـي الفتن، قال: فقلت له: أخبرنـي عن هذا الـحديث سمعته من سفـيان الثوريّ؟ قال: لا، قلت: فقرأته علـيه، قال: لا، قلت: فقرىء علـيه وأنت حاضر؟ قال: لا، قلت: فما قصته، فما خبره؟ قال: جاءنـي قوم فقالوا: معنا حديث عجيب، أو كلام هذا معناه، نقرؤه وتسمعه، قلت لهم: هاتوه، فقرءوه علـيّ، ثم ذهبوا فحدّثوا به عنـي، أو كلام هذا معناه.

قال أبو جعفر: وقد:

٢٢٠٧٥ـ حدثنـي ببعض هذا الـحديث مـحمد بن خـلف، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبـان، عن سفـيان الثوري، عن منصور، عن ربعى، عن حُذيفة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، حديث طويـل، قال: رأيته فـي كتاب الـحسين بن علـيّ الصدائي، عن شيخ، عن روّاد، عن سفـيان بطوله.

وقال آخرون: بل عنى بذلك الـمشركون إذا فزعوا عند خروجهم من قبورهم. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٧٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن الـحسن، قوله: وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعوا قال: فزعوا يوم القـيامة حين خرجوا من قبورهم. وقال قتادة : وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ حين عاينوا عذاب اللّه .

٢٢٠٧٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن معقل وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ قال: أفزعهم يوم القـيامة فلـم يفوتوا.

والذي هو أولـى بـالصواب فـي تأويـل ذلك، وأشبه بـما دلّ علـيه ظاهر التنزيـل قول من قال: وعيد اللّه الـمشركين الذين كذّبوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قومه لأن الاَيات قبل هذه الاَية جاءت بـالإخبـار عنهم وعن أسبـابهم، وبوعيد اللّه إياهم مغبته، وهذه الاَية فـي سياق تلك الاَيات، فلأن يكون ذلك خبرا عن حالهم أشبه منه بأن يكون خبرا لـما لـم يجر له ذكر. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: ولو ترى يا مـحمد هؤلاء الـمشركين من قومك، فتعاينهم حين فزعوا من معاينتهم عذاب اللّه فَلا فَوْتَ يقول فلا سبـيـل حينئذٍ أن يفوتوا بأنفسهم، أو يعجزونا هربـا، وينـجوا من عذابنا، كما:

٢٢٠٧٨ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ يقول: فلا نـجاة.

٢٢٠٧٩ـ حدثنا عمرو بن عبد الـحميد، قال: حدثنا مروان، عن جويبر، عن الضحاك ، فـي قوله: وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ قال: لا هرب.

و قوله: وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يقول: وأخذهم اللّه بعذابه من موضع قريب، لأنهم حيث كانوا من اللّه قريب لا يبعدون عنه.

٥٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُوَاْ آمَنّا بِهِ وَأَنّىَ لَهُمُ التّنَاوُشُ مِن مّكَانِ بَعِيدٍ }.

يقول تعالـى ذكره: وقال هؤلاء الـمشركون حين عاينوا عذاب اللّه آمنا به، يعني : آمنا بـاللّه وبكتابه ورسوله. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٨٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَقالُوا آمَنّا بِهِ قالوا: آمنا بـاللّه .

٢٢٠٨١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قالُوا آمَنّا بِهِ عند ذلك، يعني : حين عاينوا عذاب اللّه .

٢٢٠٨٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَقالُوا آمَنّا بِهِ بعد القتل وقوله وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ يقول: ومن أيّ وجه لهم التناوش.

واختلفت قرّاء الأمصار فـي ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة التّناوُشُ بغير همز، بـمعنى: التناول وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة: (التّناؤُشُ) بـالهمز، بـمعنى: التنؤّش، وهو الإبطاء، يقال منه: تناءشت الشيء: أخذته من بعيد، ونشته: أخذته من قريب ومن التنؤّش قول الشاعر:

تَـمَنّى نَئِيشا أنْ يكُونَ أطاعَنِـيوَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأمُورِ أمُورُ

ومن النّوْش قول الراجز:

فَهْيَ تَنُوشُ الـحَوْضَ نَوْشا مِنْ عَلانَوْشا بِهِ تَقْطَعُ أجْوَازَ الفَلا

ويقال للقوم فـي الـحرب، إذا دنا بعضهم إلـى بعض بـالرماح ولـم يتلاقوا: قد تناوش القوم.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان فـي قرّاء الأمصار، متقاربتا الـمعنى، وذلك أن معنى ذلك: وقالوا آمنا بـاللّه ، فـي حين لا ينفعهم قـيـل ذلك، فقال اللّه وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ أي وأين لهم التوبة والرجعة: أي قد بعدت عنهم، فصاروا منها كموضع بعيد أن يتناولوها وإنـما وصفت ذلك الـموضع بـالبعيد، لأنهم قالوا ذلك فـي القـيامة، فقال اللّه : أنـي لهم بـالتوبة الـمقبولة، والتوبة الـمقبولة إنـما كانت فـي الدنـيا، وقد ذهبت الدنـيا فصارت بعيدا من الاَخرة، فبأية القراءتـين اللتـين ذكرت قرأ القارىء فمصيب الصواب فـي ذلك.

وقد يجوز أن يكون الذين قرؤوا ذلك بـالهمز همزوا، وهم يريدون معنى من لـم يهمز، ولكنهم همزوه لانضمام الواو فقلبوها، كما

قـيـل: وَإذَا الرّسُلُ أُقّتَتْ فجعلت الواو من وُقتت، إذا كانت مضمومة همزوه.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٨٣ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، قال: قلت لابن عباس : أرأيت قول اللّه : وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال: يسألون الردّ، ولـيس بحين ردّ.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، عن ابن عباس نـحوه.

حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ يقول: فكيف لهم بـالردّ.

٢٢٠٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال: الردّ.

٢٢٠٨٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال: التناول مِنْ مَكانٍ بَعيد.

٢٢٠٨٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَقالُوا آمَنّا بِهِ وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال: هؤلاء قتلـى أهل بدر من قتل منهم، وقرأ: وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَد فَوْتَ وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ وَقالُوا آمَنّا بِهِ... الاَية، قال: التناوش: التناول، وأنّى لهم تناول التوبة من مكان بعيد، وقد تركوها فـي الدنـيا، قال: وهذا بعد الـموت فـي الاَخرة.

قال: وقال ابن زيد فـي قوله وَقالُوا آمَنّا بِهِ بعد القتل وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعيدٍ وقرأ: وَلا الّذِينَ يَـمُوتونَ وَهُمْ كُفّـارٌ قال: لـيس لهم توبة، وقال: عرض اللّه علـيهم أن يتوبوا مرّة واحدة، فـيقبلها اللّه منهم، فأبوا، أو يعرضون التوبة بعد الـموت، قال: فهم يعرضونها فـي الاَخرة خمس عرضات، فـيأبى اللّه أن يقبلها منهم قال: والتائب عند الـموت لـيست له توبة وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِـفُوا علـى النّارِ فَقالُوا يا لَـيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا... الاَية، وقرأ: رَبّنا أبْصَرْنا وَسمعْنا فـارْجِعْنا نَعْمَلْ صَالِـحا إنّا مُوقِنُونَ.

٢٢٠٨٧ـ حدثنا عمرو بن عبد الـحميد، قال: حدثنا مروان، عن جُويبر، عن الضحاك ، فـي قوله: وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال: وأنى لهم الرجعة.

و قوله: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يقول: من آخرتهم إلـى الدنـيا، كما:

٢٢٠٨٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من الاَخرة إلـى الدنـيا.

٥٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مّكَانٍ بَعِيدٍ }.

يقول تعالـى ذكره: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ يقول: وقد كفروا بـما يسألونه ربهم عند نزول العذاب بهم، ومعاينتهم إياه من الإقالة له، وذلك الإيـمان بـاللّه ، وبـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وبـما جاءهم به من عند اللّه .

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٨٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ: أي بـالإيـمان فـي الدنـيا.

و قوله: وَيَقْذِفُونَ بـالغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يقول: وهم الـيوم يقذفون بـالغيب مـحمدا من مكان بعيد، يعني أنهم يرجمونه، وما أتاهم من كتاب اللّه بـالظنون والأوهام، فـيقول بعضهم: هو ساحر، وبعضهم شاعر، وغير ذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٩٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: وَيَقْذِفُونَ بـالغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال: قولهم ساحر، بل هو كاهن، بل هو شاعر.

٢٢٠٩١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَيَقْذِفُونَ بـالغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي يرجمون بـالظنّ، يقولون: لا بعث، ولا جنة، ولا نار.

٢٢٠٩٢ـ حدثنـي يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَيَقْذِفُونَ بـالغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال: بـالقرآن.

٥٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مّن قَبْلُ إِنّهُمْ كَانُواْ فِي شَكّ مّرِيبِ }.

يقول تعالـى ذكره: وحيـل بـين هؤلاء الـمشركين حين فزعوا، فلا فوت، وأخذوا من مكان قريب، فقالوا آمنا به وَبَـينَ ما يَشْتَهُونَ حينئذ من الإيـمان بـما كانوا به فـي الدنـيا قبل ذلك يكفرون ولا سبـيـل لهم إلـيه.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٩٣ـ حدثنـي إسماعيـل بن حفص الأبلـي، قال: حدثنا الـمعتـمر، عن أبـي الأشهب، عن الـحسن، فـي قوله: وَحيـلَ بَـيْنَهُم وَبَـينَ ما يَشْتَهُونَ قال: حيـل بـينهم وبـين الإيـمان بـاللّه .

حدثنا ابن بِشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد الصمد، قال: سمعت الـحسن، وسئل عن هذه الاَية وَحِيـلَ بَـيْنَهُم وَبَـينَ ما يَشْتَهُونَ قال: حيـل بـينهم وبـين الإيـمان.

حدثنـي ابن أبـي زياد، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا أبو الأشهب، عن الـحسن وَحِيـلَ بَـيْنَهُم وَبَـينَ ما يَشْتَهُونَ قال: حيـل بـينهم وبـين الإيـمان.

٢٢٠٩٤ـ حدثنا أحمد بن عبد الصمد الأنصاري، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَحِيـلَ بَـيْنَهُم وَبَـينَ ما يَشْتَهُونَ قال: من الرجوع إلـى الدنـيا لـيتوبوا.

٢٢٠٩٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَحِيـلَ بَـيْنَهُم وَبَـينَ ما يَشْتَهُونَ كان القوم يشتهون طاعة اللّه أن يكونوا عملوا بها فـي الدنـيا حين عاينوا ما عاينوا.

حدثنا الـحسن بن واضح، قال: حدثنا الـحسن بن حبـيب، قال: حدثنا أبو الأشهب، عن الـحسن، فـي قوله: وَحِيـلَ بَـيْنَهُم وَبَـينَ ما يَشْتَهُونَ قال: حيـل بـينهم وبـين الإيـمان.

وقال آخرون: معنى ذلك: وحيـل بـينهم وبـين ما يشتهون من مال وولد وزهرة الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٩٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى قال: ثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه : وَحِيـلَ بَـيْنَهُم وَبَـينَ ما يَشْتَهُونَ قال: من مال أو ولد أو زهرة.

٢٢٠٩٧ـ حدثنـي يونس، قال: قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَحِيـلَ بَـيْنَهُم وَبَـينَ ما يَشْتَهُونَ قال: فـي الدنـيا التـي كانوا فـيها والـحياة.

وإنـما اخترنا القول الذي اخترناه فـي ذلك، لأن القوم إنـما تَـمَنّوا حين عاينوا من عذاب اللّه ما عاينوا، ما أخبر اللّه عنهم أنهم تَـمَنّوه، وقالوا آمنا به، فقال اللّه : وأنى لهم تَناوُش ذلك من مكان بعيد، وقد كفروا من قبل ذلك فـي الدنـيا. فإذا كان ذلك كذلك، فلأن يكون قوله: وَحِيـلَ بَـيْنَهُم وَبَـينَ ما يَشْتَهُونَ خبرا عن أنه لا سبـيـل لهم إلـى ما تـمنوه أولـى من أن يكون خبرا عن غيره.

و قوله: كمَا فُعِلَ بأشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ يقول فعلنا بهؤلاء الـمشركين، فحلنا بـينهم وبـين ما يشتهون من الإيـمان بـاللّه عند نزول سَخَط اللّه بهم، ومعاينتهم بأسه كما فعلنا بأشياعهم علـى كفرهم بـاللّه من قبلهم من كفـار الأمـم، فلـم نقبل منهم إيـمانهم فـي ذلك الوقت، كما لـم نقبل فـي مثل ذلك الوقت من ضُرَبـائهم. والأشياع: جمع شِيَع، وشِيَع: جمع شيعة، فأشياع جمع الـجمع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٠٩٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح كمَا فُعِلَ بأشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ قال الكفـار من قبلهم.

٢٢٠٩٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة كمَا فُعِلَ بأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي فـي الدنـيا كانوا إذا عاينوا العذاب لـم يُقبل منهم إيـمان.

و قوله: إنّهُمْ كانُوا فِـي شَكَ مُرِيبٍ

يقول تعالـى ذكره: وحيـل بـين هؤلاء الـمشركين حين عاينوا بأس اللّه ، وبـين الإيـمان: إنهم كانوا قبل فـي الدنـيا فـي شكّ من نزول العذاب الذي نزل بهم وعاينوه، وقد أخبرهم نبـيهم أنهم إن لـم ينـيبوا مـما هم علـيه مقـيـمون من الكفر بـاللّه ، وعبـادة الأوثان أن اللّه مُهْلِكهم، ومُـحِلّ بهم عقوبته فـي عاجل الدنـيا، وآجل الاَخرة قبل نزوله بهم مريب يقول: موجب لصاحبه الذي هو به ما يَرِيبه من مكروه، من قولهم: قد أراب الرجل: إذا أتـى ريبة وركب فـاحشة كما قال الراجز:

يا قَوْمُ مالـي وأبـا ذُؤَيْبِ؟كُنْتُ إذا أتَوْتُهُ مِنْ غَيْبِ

يَشُمّ عِطْفِـي وَيَبَزّ ثَوْبِـيِ كأنّـمَا أرَبْتُهُ بِرَيْبِ

يقول: كأنـما أتـيت إلـيه ريبة.

آخر تفسير سورة سبأ

﴿ ٠