تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة يس

مكية وآياتها ثلاث وثمانون

بسم اللّه الرحمَن الرحيـم

١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يسَ

٢

وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ }.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: يس، فقال بعضهم: هو قسم أقسم اللّه به، وهو من أسماء اللّه . ذكر من قال ذلك:

٢٢٢١١ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: يس قال: فإنه قسم أقسمه اللّه ، وهو من أسماء اللّه .

وقال آخرون: معناه: يا رجل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢١٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو تُـمَيـلة، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس ، فـي قوله يس قال: يا إنسان، بـالـحبشية.

٢٢٢١٣ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن شرقـيّ، قال: سمعت عكرمة يقول: تفسير يس: يا إنسان.

وقال آخرون: هو مفتاح كلام افتتـح اللّه به كلامه. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢١٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قال: يس مفتاح كلام، افتتـح اللّه به كلامه.

وقال آخرون: بل هو اسم من أسماء القرآن. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢١٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: يس قال: كلّ هجاء فـي القرآن اسم من أسماء القرآن.

قال أبو جعفر: وقد بـيّنا القول فـيـما مضى فـي نظائر ذلك من حروف الهجاء بـما أغنى عن إعادته وتكريره فـي هذا الـموضع.

و قوله: والقُرآنِ الـحَكِيـمِ يقول: والقرآن الـمـحكم بـما فـيه من أحكامه، وبـيّنات

٣

حججه إنّكَ لَـمِنَ الـمُرْسَلِـينَ

يقول تعالـى ذكره مقسما بوحيه وتنزيـله لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : إنك يا مـحمد لـمن الـمرسلـين بوحي اللّه إلـى عبـاده، كما:

٢٢٢١٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة والقُرآنِ الـحَكِيـمِ إنّكَ لَـمِنَ الـمُرْسَلـينَ قسم كما تسمعون إنّكَ لَـمِنَ الـمُرْسَلِـينَ علـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ.

٤

و قوله: عَلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ يقول: علـى طريق لا اعوجاج فـيه من الهدى، وهو الإسلام، كما:

٢٢٢١٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة عَلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ: أي علـى الإسلام.

وفـي قوله: عَلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ وجهان أحدهما: أن يكون معناه: إنك لـمن الـمرسلـين علـى استقامة من الـحقّ، فـيكون حينئذٍ علـى من قوله عَلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ من صلة الإرسال. والاَخر أن يكون خبرا مبتدأ، كأنه

قـيـل: إنك لـمن الـمرسلـين، إنك علـى صراط مستقـيـم.

٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ }.

اختلف القرّاء فـي قراءة قوله: تَنْزِيـلَ العَزِيزِ الرّحِيـمِ فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: (تَنْزِيـلُ العَزِيز) برفع تنزيـل، والرفع فـي ذلك يتـجه من وجهين أحدهما: بأن يُجعل خبرا، فـيكون معنى الكلام: إنه تنزيـل العزيز الرحيـم. والاَخر: بـالابتداء، فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: إنك لـمن الـمرسلـين، هذا تنزيـل العزيز الرحيـم. وقرأته عامة قرّاء الكوفة وبعض أهل الشام: تَنْزِيـلَ نصبـا علـى الـمصدر من قوله: إنّكَ لَـمِنَ الـمُرْسَلِـينَ لأنّ الإرسال إنـما هو عن التنزيـل، فكأنه

قـيـل: لـمنزل تنزيـل العزيز الرحيـم حقا.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان فـي قرّاء الأمصار، متقاربتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب. ومعنى الكلام: إنك لـمن الـمرسلـين يا مـحمد إرسال الربّ العزيز فـي انتقامه من أهل الكفر به، الرحيـم بـمن تاب إلـيه، وأناب من كفره وفسوقه أن يعاقبه علـى سالف جرمه بعد توبته له.

٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ }.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: لِتُنْذِرَ قَوْما ما أُنْذِرَ آبـاؤُهُمْ فقال بعضهم: معناه: لتنذر قوما ما أنذر اللّه من قبلهم من آبـائهم. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢١٨ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شُعْبة، عن سِماك، عن عكرمة فـي هذه الاَية: لِتُنْذِرَ قَوْما ما أُنْذِرَ آبـاؤُهُمْ قال: قد أنذروا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك لتنذر قوما ما أنذر آبـاؤهم. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢١٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لِتُنْذِرَ قَوْما ما أُنْذِرَ آبـاؤُهُمْ قال بعضهم: لتنذر قوما ما أنذر آبـاؤهم من إنذار الناس قبلهم. وقال بعضهم: لتنذر قوما ما أنذر آبـاؤهم: أي هذه الأمة لـم يأتهم نذير، حتـى جاءهم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم .

واختلف أهل العربـية فـي معنى (ما) التـي فـي قوله: ما أُنْذرَ آبـاؤُهُمْ إذا وُجّه معنى الكلام إلـى أن آبـاءهم قد كانوا أنذروا، ولـم يُرد بها الـجحد، فقال بعض نـحويّـي البصرة: معنى ذلك: إذا أريد به غير الـجحد لتنذرهم الذي أُنذر آبـاؤهم فَهُمْ غافِلُونَ. وقال: فدخول الفـاء فـي هذا الـمعنى لا يجوز، واللّه أعلـم. قال: وهو علـى الـجحد أحسن، فـيكون معنى الكلام: إنك لـمن الـمرسلـين إلـى قوم لـم ينذر آبـاؤهم، لأنهم كانوا فـي الفترة.

وقال بعض نـحويّـي الكوفة: إذا لـم يرد بـما الـجحد، فإن معنى الكلام: لتنذرهم بـما أنذر آبـاؤهم، فتلقـى البـاء، فتكون (ما) فـي موضع نصب فَهُمْ غافِلُونَ يقول: فهم غافلون عما اللّه فـاعل: بأعدائه الـمشركين به، من إحلال نقمته، وسطوته بهم.

٧

و قوله: لَقَدْ حَقّ القَوْلُ علـى أكْثَرِهِمْ فَهمْ لا يُؤْمِنُونَ

يقول تعالـى ذكره: لقد وجب العقاب علـى أكثرهم، لأن اللّه قد حتـم علـيهم فـي أمّ الكتاب أنهم لا يؤمنون بـاللّه ، ولا يصدّقون رسوله.

٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّا جَعَلْنَا فِيَ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُم مّقْمَحُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: إنا جعلنا أيـمان هؤلاء الكفـار مغلولة إلـى أعناقِهم بـالأغلال، فلا تُبْسط بشيء من الـخيرات وهي فـي قراءة عبد اللّه فـيـما ذُكر: (إنّا جَعَلْنا فِـي أيـمَانِهِمْ أغْلالاً فَهِيَ إلـى الأَذْقانِ) .

و قوله: إلـى الأَذْقانِ يعني : فأَيـمانهم مـجموعة بـالأغلال فـي أعناقهم، فكُنّـي عن الأيـمان، ولـم يجر لها ذكر لـمعرفة السامعين بـمعنى الكلام، وأن الأغلال إذا كانت فـي الأعناق لـم تكن إلاّ وأيدي الـمغلولـين مـجموعة بها إلـيها فـاستغنى بذكر كون الأغلال فـي الأعناق من ذكر الأيـمان، كما قال الشاعر:

وَما أَدْرِي إذَا يَـمّـمْتُ وَجْهاأُرِيدُ الـخَيْرَ أيّهُما يَـلِـينِـي

أألْـخَيْرُ الّذِي أنا أبْتَغِيهِأمِ الشّرّ الّذِي لا يَأْتَلِـينِـي

فكنى عن الشرّ، وإنـما ذكر الـخير وحده لعلـم سامع ذلك بـمعنـيّ قائله، إذ كان الشرّ مع الـخير يُذكر. والأذقان: جمع ذَقَن، والذّقَن: مـجمع اللّـحْيَـين.

و قوله: فَهُمْ مُقْمَـحُونَ والـمُقْمَـح: هو الـمقنع، وهو أن يحدر الذقن حتـى يصير فـي الصدر، ثم يرفع رأسه فـي قول بعض أهل العلـم بكلام العرب من أهل البصرة. وفـي قول بعض الكوفـيـين: هو الغاضّ بصره، بعد رفع رأسه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٢٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: إنّا جَعَلْنا فِـي أعْناقِهِمْ أغْلاَلاً فَهِيَ إلـى الأَذْقان فَهُمْ مُقْمَـحُونَ قال: هو كقول اللّه : وَلا تَـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلـى عُنُقِكَ يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلـى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسُطوها بخير.

٢٢٢٢١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: فَهُمْ مُقْمَـحُونَ قال: رافعو رؤوسهم، وأيديهم موضوعة علـى أفواههم.

٢٢٢٢٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: إنّا جَعَلْنا فِـي أعْناقِهِمْ أغْلالاً فَهِيَ إلـى الأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَـحُونَ: أي فهم مغلولون عن كلّ خير.

٩

و قوله: وَجَعَلْنا مِنْ بـينِ أيْدِيهِمْ سَدّا

يقول تعالـى ذكره: وجعلنا من بـين أيدي هؤلاء الـمشركين سدّا، وهو الـحاجز بـين الشيئين إذا فتـح كان من فعل بنـي آدم، وإذا كان من فعل اللّه كان بـالضمّ. وبـالضمّ قرأ ذلك قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين. وقرأه بعض الـمكيـين وعامة قرّاء الكوفـيـين بفتـح السين سَدّا فـي الـحرفـين كلاهما والضم أعجب القراءتـين إلـيّ فـي ذلك، وإن كانت الأخرى جائزة صحيحة.

وعنى ب قوله: وَجَعَلْنا مِن بـينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَـلْفِهِمْ سَدّا أنه زيّن لهم سوء أعمالهم، فهم يَعْمَهون، ولا يبصرون رشدا، ولا يتنبهون حقا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٢٣ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بَزّة، عن مـجاهد ، فـي قوله: مِنْ بـينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَـلْفِهِمْ سَدّا قال: عن الـحقّ.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَجَعَلْنا مِنْ بـين أيْديهِمْ سَدّا وَمِنْ خَـلْفهِمْ سَدّا عن الـحقّ فهم يتردّدون.

٢٢٢٢٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَجَعَلْنا مِنْ بـينِ أيْدِيهِمْ سدّا وَمِنْ خَـلْفِهِمْ سَدّا قال: ضلالات.

٢٢٢٢٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قول اللّه : وَجَعَلْنا مِنْ بَـينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَـلْفِهِمْ سَدّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال: جعل هذا سدّا بـينهم وبـين الإسلام والإيـمان، فهم لا يخـلصون إلـيه، وقرأ: وَسَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَـمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، وقرأ: إنّ الّذِينَ حَقّتْ عَلَـيْهِمْ كَلِـمَةُ رَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ... الاَية كلها، وقال: من منعه اللّه لا يستطيع.

و قوله: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يقول: فأغشينا أبصار هؤلاء: أي جعلنا علـيها غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا ينتفعون به، كما:

٢٢٢٢٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ هُدًى، ولا ينتفعون به.

وذُكر أن هذه الاَية نزلت فـي أبـي جهل بن هشام حين حلف أن يقتله أو يشدخ رأسه بصخرة. ذكر الرواية بذلك:

٢٢٢٢٧ـ حدثنـي عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا عُمارة بن أبـي حفصة، عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت مـحمدا لأفعلنّ ولأفعلنّ، فأنزلت: إنّا جَعَلْنا فِـي أعْناقِهِمْ أغْلالاً... إلـى قوله فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال: فكانوا يقولون: هذا مـحمد، فـيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصره.

وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: (فَأَعْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) بـالعين بـمعنى أعشيناهم عنه، وذلك أن العَشَا هو أن يـمشي بـاللـيـل ولا يبصر.

١٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: وسواء يا مـحمد علـى هؤلاء الذين حقّ علـيهم القول، أيّ الأمرين كان منك إلـيهم الإنذار، أو ترك الإنذار، فإنهم لا يؤمنون، لأن اللّه قد حكم علـيهم بذلك.

١١

 وقوله: إنّـمَا تُنْذِرُ مَنِ اتّبَعَ الذّكْرَ

يقول تعالـى ذكره: إنـما ينفع إنذارك يا مـحمد من آمن بـالقران، واتبع ما فـيه من أحكام اللّه وَخَشِيَ الرّحْمَنَ يقول: وخاف اللّه حين يغيب عن أبصار الناظرين، لا الـمنافق الذي يستـخفّ بدين اللّه إذا خلا، ويظهر الإيـمان فـي الـملأ، ولا الـمشرك الذي قد طبع اللّه علـى قلبه.

و قوله: فَبشّرْهُ بِـمغْفِرَةٍ يقول: فبشر يامـحمد هذا الذي اتبع الذكر وخشي الرحمن بـالغيب بـمغفرة من اللّه لذنوبه وأجْرٍ كَرِيـم يقول: وثواب منه له فـي الاَخرة كريـم، وذلك أن يعطيه علـى عمله ذلك الـجنة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٢٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إنّـمَا تُنْذِرُ مَنِ اتّبَعَ الذّكْرَ واتبـاع الذكر: اتبـاع القرآن.

١٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىَ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيَ إِمَامٍ مّبِينٍ }.

يقول تعالـى ذكره: إنّا نَـحْنُ نُـحْيـي الـمَوْتـى من خـلقنا وَنَكْتُبُ ما قَدّمُوا فـي الدنـيا من خير وشرّ، وصالـح الأعمال وسيئها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٢٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: إنّا نَـحْنُ نُـحْيِـي الـمَوْتَـى وَنَكْتُبُ ما قَدّمُوا من عمل.

٢٢٢٣٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَنَكْتُبُ ما قَدّمُوا قال: ما عملوا.

٢٢٢٣١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: ما قَدّمُوا قال: أعمالهم.

و قوله: وآثارَهُمْ يعني : وآثار خُطاهم بأرجلهم، وذكر أن هذه الاَية نزلت فـي قوم أرادوا أن يقربوا من مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لـيقرب علـيهم. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٣٢ـ حدثنا نصر بن علـيّ الـجهضميّ، قال: حدثنا أبو أحمد الزّبـيري، قال: حدثنا إسرائيـل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس ، قال: كانت منازل الأنصار متبـاعدة من الـمسجد، فأرادوا أن ينتقلوا إلـى الـمسجد فنزلت وَنَكْتُبُ ما قَدّمُوا وآثارَهُمْ فقالوا: نثبت فـي مكاننا.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس ، قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من الـمسجد، فأرادوا أن ينتقلوا، قال: فنزلت وَنَكْتُبُ ما قَدّمُوا وآثارَهُمْ فثبتوا.

٢٢٢٣٣ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا الـجريريّ، عن أبـي نضرة، عن جابر، قال: أراد بنو سَلِـمة قرب الـمسجد، قال: فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يا بَنِـي سَلِـمَةَ دِيارَكُمْ، إنّها تُكْتَبُ آثارُكُمْ) .

٢٢٢٣٤ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا معتـمر، قال: سمعت كهمسا يحدّث، عن أبـي نضرة، عن جابر، قال: أراد بنو سَلِـمة أن يتـحوّلوا إلـى قُرب الـمسجد، قال: والبقاع خالـية، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: (يا بَنِـي سَلِـمَةَ دِيارَكُمْ إنّها تُكْتَبُ آثارُكُمْ) قال: فأقاموا وقالوا: ما يسرّنا أنا كنا تـحوّلنا.

٢٢٢٣٥ـ حدثنا سلـيـمان بن عمر بن خالد الرقـي، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن طريف، عن أبـي نضرة، عن أبـي سعيد الـخُدريّ، قال: شكت بنو سلِـمة بُعد منازلهم إلـى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فنزلت: إنّا نَـحْنُ نُـحْيِـي الـمَوْتَـى وَنَكْتُبُ ما قَدّمُوا وآثارَهُمْ فقال: (عَلَـيْكُمْ مَنازلَكُمْ تُكْتَبُ آثارُكم) .

٢٢٢٣٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو تُـمَيـلة، قال: حدثنا الـحسين، عن ثابت، قال: مشيت مع أنس، فأسرعت الـمشي، فأخذ بـيدي، فمشينا رُويدا، فلـما قضينا الصلاة قال أنس: مشيت مع زيد بن ثابت، فأسرعت الـمشي، فقال: يا أنس أما شعرت أن الاَثار تكتب؟

٢٢٢٣٧ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَـية، عن يونس، عن الـحسن أن بنـي سَلِـمة كانت دورهم قاصية عن الـمسجد، فهموا أن يتـحوّلوا قرب الـمسجد، فـيشهدون الصلاة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم : (ألا تَـحْتَسِبُونَ آثارَكُمْ يا بَنـي سَلِـمَةَ؟) فمكثوا فـي ديارهم.

٢٢٢٣٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم ابن أبـي بَزّة، عن مـجاهد ، فـي قوله ما قَدّمُوا وآثارَهُمْ قال: خُطَاهم بأرجلهم.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وآثارَهُمْ قال: خطاهم.

٢٢٢٣٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وآثارَهُمْ قال: قال الـحسن: وآثارهم قال: خُطَاهم. وقال قتادة : لو كان مُغْفِلاً شيئا من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفّـي الرياح من هذه الاَثار.

و قوله: وكُلّ شَيْء أحْصَيْناهُ فـي إمام مُبِـينٍ

يقول تعالـى ذكره: وكل شيء كان أو هو كائن أحصيناه، فأثبتناه فـي أمّ الكتاب، وهو الإمام الـمبـين. و

قـيـل: مُبـين، لأنه يبـين عن حقـيقة جميع ما أثبت فـيه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٤٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد فـي إمامٍ مُبِـينٍ قال: فـي أمّ الكتاب.

٢٢٢٤١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وكُلّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِـي إمامٍ مُبِـينٍ كلّ شيء مـحصيّ عند اللّه فـي كتاب.

٢٢٢٤٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وكُلّ شَيْء أحْصَيْناهُ فِـي إمام مُبِـينٍ قال: أمّ الكتاب التـي عند اللّه فـيها الأشياء كلها هي الإمام الـمبـين.

١٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: ومثل يا مـحمد لـمشركي قومك مثلاً أصحابَ القرية ذُكر أنها أنطاكية، إذْ جاءَها الـمُرْسَلُونَ. اختلف أهل العلـم فـي هؤلاء الرسل، وفـيـمن كان أرسلهم إلـى أصحاب القرية، فقال بعضهم: كانوا رسل عيسى بن مريـم، وعيسى الذي أرسلهم إلـيهم. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٤٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَاضْربْ لَهُمْ مَثَلاً أصحَابَ القَرْيَةِ إذْ جاءَها الـمُرْسَلُونَ إذْ أرْسَلْنا إلَـيْهِمُ اثْنَـيْنِ فَكَذّبُوهُما فَعَزّزْنا بِثالِثٍ قال: ذُكر لنا أن عيسى بن مريـم بعث رجلـين من الـحواريـين إلـى أنطاكية مدينة بـالروم فكذّبوهما، فأعزّهما بثالث، فَقالُوا إنّا إلَـيْكُمْ مُرْسَلُونَ.

٢٢٢٤٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا: حدثنا سفـيان، قال: ثنـي السديّ، عن عكرمة وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أصحَابَ القَرْيَةِ قال: أنطاكية.

وقال آخرون: بل كانوا رسلاً أرسلهم اللّه إلـيهم. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٤٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سَلَـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، فـيـما بلغه، عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبـار، وعن وهب بن مُنَبه، قال: كان بـمدينة أنطاكية، فرعون من الفراعنة يقال له أبطيحس بن أبطيحس يعبد الأصنام، صاحب شرك، فبعث اللّه الـمرسلـين، وهم ثلاثة: صادق، ومصدوق، وسلوم، فقدم إلـيه وإلـى أهل مدينته، منهم اثنان فكذّبوهما، ثم عزّز اللّه بثالث فلـما دعته الرسل ونادته بأمر اللّه ، وصدعت بـالذي أُمرت به، وعابت دينه، وما هم علـيه، قال لهم: إنّا تَطَيّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَـمْ تَنْتَهُوا لَنرْجُمَنّكُمْ وَلَـيَـمَسّنّكُمْ مِنّا عَذَابٌ ألِـيـمٌ.

١٤

و قوله: إذْ أرْسَلْنا إلَـيْهِمُ اثْنَـيْنِ فَكَذّبُوهُما فَعَزّزْنا بِثالِثٍ

يقول تعالـى ذكره: حين أرسلنا إلـيهم اثنـين يدعوانهم إلـى اللّه فكذّبوهما فشددناهما بثالث، وقوّيناهما به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٤٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: فَعَزّزْنا بِثالِثٍ قال: شدّدنا.

٢٢٢٤٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بَزّة، عن مـجاهد فـي قوله فَعَزّزْنا بِثالِثٍ قال: زدنا.

٢٢٢٤٨ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فَعَزّزْنا بِثالِثٍ قال: جعلناهم ثلاثة، قال: ذلك التعزّز، قال: والتعزّز: القوّة.

و قوله: فَقالُوا إنّا إلَـيْكُمْ مُرْسَلُونَ يقول: فقال الـمرسلون الثلاثة لأصحاب القرية: إنا إلـيكم أيها القومُ مرسلون، بأن تُـخْـلِصوا العبـادة للّه وحده، لا شريك له، وتتبرّءوا مـما تعبدون من الاَلهة والأصنام. وبـالتشديد فـي قوله: فَعَزّزْنا قرأت القرّاء سِوى عاصم، فإنه قرأه بـالتـخفـيف، والقراءة عندنا بـالتشديد، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه، وأن معناه، إذا شُدّد: فقوّينا، وإذا خُفف: فغلبنا، ولـيس لغلبنا فـي هذا الـموضع كثـير معنى.

١٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرّحْمَـَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: قال أصحاب القرية للثلاثة الذين أُرسلوا إلـيهم حين أخبروهم أنهم أرسلوا إلـيهم بـما أرسلوا به: ما أنتـم أيها القوم إلاّ أُناس مثلنا، ولو كنتـم رسلاً كما تقولون، لكنتـم ملائكة وَما أنْزَلَ الرّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ يقول: قالوا: وما أنزل الرحمن إلـيكم من رسالة ولا كتاب ولا أمركم فـينا بشيء إنْ أنْتُـمْ إلاّ تَكْذِبُونَ فـي قـيـلكم إنكم إلـينا مرسلون

١٦

قالُوا رَبّنا يَعْلَـمُ إنّا إلَـيْكُمْ لَـمُرْسَلُونَ يقول: قال الرسل: ربنا يعلـم إنا إلـيكم لـمرسلون فـيـما دعوناكم إلـيه، وإنا لصادقون

١٧

وَما عَلَـيْنا إلاّ البَلاغُ الـمُبِـينُ يقول: وما علـينا إلاّ أن نبلغكم رسالة اللّه التـي أرسلنا بها إلـيكم بلاغا يبـين لكم أنا أبلغناكموها، فإن قبلتـموها فحظّ أنفسكم تصيبون، وإن لـم تقبلوها فقد أدّينا ما علـينا، واللّه ولـيّ الـحكم فـيه.

١٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالُوَاْ إِنّا تَطَيّرْنَا بِكُمْ لَئِن لّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنّكُمْ وَلَيَمَسّنّكُمْ مّنّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }.

يقول تعالـى ذكره: قال أصحاب القرية للرسل: أنّا تَطَيّرْنا بِكُمْ يعنون: إنا تشاءمنا بكم، فإن أصابنا بَلاء فمن أجلكم، كما:

٢٢٢٤٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قالُوا إنّا تَطَيّرْنا بِكُمْ قالوا: إن أصابنا شرّ، فإنـما هو من أجلكم.

و قوله: لَئِنْ لَـمْ تَنْتَهُوا لَنرْجُمَنّكُمْ يقول: لئن لـم تنتهوا عما ذكرتـم من أنكم أرسلتـم إلـينا بـالبراءة من آلهتنا، والنهي عن عبـادتنا لنرجمنكم،

قـيـل: عُنـي بذلك لنرجُمَنّكم بـالـحجارة. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٥٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لَئِنْ لَـمْ تَنْتَهُوا لَنرْجُمَنّكُمْ بـالـحجارة وَلَـيَـمَسّنّكُمْ مِنّا عَذَابٌ ألِـيـمٌ يقول: ولـينالنكم منا عذاب مُوجِع.

١٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالُواْ طَائِرُكُم مّعَكُمْ أَإِن ذُكّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مّسْرِفُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: قالت الرسل لأصحاب القرية: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أئِنْ ذُكّرْتُـمْ يقولون: أعمالكم وأرزاقكم وحظّكم من الـخير والشرّ مَعكم، ذلك كله فـي أعناقكم، وما ذلك من شؤمنا إن أصابكم سوء فـيـما كتب علـيكم، وسبق لكم من اللّه . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٥١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ: أي أعمالكم معكم.

٢٢٢٥٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فـيـما بلغه عن ابن عباس ، وعن كعب، وعن وهب بن منبه، قالت لهم الرسل: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ: أي أعمالكم معكم.

و قوله: أئِنْ ذُكّرْتُـمْ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار أئِنْ ذُكّرْتُـمْ بكسر الألف من (إنْ) وفتـح ألف الاستفهام: بـمعنى إن ذكرناكم فمعكم طائركم، ثم أدخـل علـى (إن) التـي هي حرف جزاء ألفَ استفهام فـي قول بعض نـحويّـي البصرة، وفـي قول بعض الكوفـيـين منويّ به التكرير، كأنه

قـيـل: قالوا طائركم معكم إن ذُكّرتـم فمعكم طائركم، فحذف الـجواب اكتفـاء بدلالة الكلام علـيه. وإنـما أنكر قائل هذا القول القول الأوّل، لأن ألف الاستفهام قد حالت بـين الـجزاء وبـين الشرط، فلا تكون شرطا لـما قبل حرف الاستفهام. وذُكر عن أبـي رَزِين أنه قرأ ذلك: أئِنْ ذُكّرْتُـمْ بـمعنى: ألأِن ذُكّرتُـم طائركم معكم؟. وذُكر عن بعض قارئيه أنه قرأه: (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أيْنَ ذُكِرْتُـمْ) بـمعنى: حيث ذُكِرتـم بتـخفـيف الكاف من ذُكِرْتـم.

والقراءة التـي لا نـجيز القراءة بغيرها القراءة التـي علـيها قرّاء الأمصار، وهي دخول ألف الاستفهام علـى حرف الـجزاء، وتشديد الكاف علـى الـمعنى الذي ذكرناه عن قارئيه كذلك، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٥٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أئِنْ ذُكّرْتُـمْ: أي إن ذكّرناكم اللّه تطيرتـم بنا؟ بَلْ أنْتُـمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ.

و قوله: بَلْ أنْتُـمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ يقول: قالوا لهم: ما بكم التطَيّر بنا، ولكنكم قومٌ أهل معاص للّه وآثام، قد غلبت علـيكم الذنوب والاَثام.

٢٠

و قوله: وَجاءَ مِنْ أقْصَى الـمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى يقول: وجاء من أقصى مدينة هؤلاء القوم الذين أرسلت إلـيهم هذه الرسل رجل يسعى إلـيهم وذلك أن أهل الـمدينة هذه عزموا، واجتـمعت آراؤهم علـى قتل هؤلاء الرسل الثلاثة فـيـما ذُكِر، فبلغ ذلك هذا الرجل، وكان منزله أقصَى الـمدينة، وكان مؤمنا، وكان اسمه فـيـما ذُكر (حبـيب بن مري) . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك جاءت الأخبـار. ذكر الأخبـار الواردة بذلك:

٢٢٢٥٤ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيـل، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم الأحول، عن أبـي مُـجَلّز، قال: كان صاحب يس (حبـيب بن مري) .

٢٢٢٥٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: كان من حديث صاحب يس فـيـما حدثنا مـحمد بن إسحاق فـيـما بلغه، عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبـار وعن وهب بن منبه الـيـمانـيّ أنه كان رجلاً من أهل أنطاكية، وكان اسمه (حبـيبـا) ، وكان يعمل الـجَرير، وكان رجلاً سقـيـما، قد أسرع فـيه الـجُذام، وكان منزله عند بـاب من أبوب الـمدينة قاصيا، وكان مؤمنا ذا صدقة، يجمع كسبه إذا أمسى فـيـما يذكرون، فـيقسمه نصفـين، فـيطعم نصفـا عياله، ويتصدّق بنصف، فلـم يُهِمّه سقمه ولا عمله ولا ضعفه، عن عمل ربه، قال: فلـما أجمع قومه علـى قتل الرسل، بلغ ذلك حبـيبـا وهو علـى بـاب الـمدينة الأقصى، فجاء يسعى إلـيهم يذكرهم بـاللّه ، ويدعوهم إلـى اتبـاع الـمرسلـين، فقال: يا قَوْمِ اتّبِعُوا الـمُرْسَلِـينَ.

٢٢٢٥٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن معمر بن عمرو بن حزم أنه حُدّث عن كعب الأحبـار قال: ذكر له حبـيب بن زيد بن عاصم أخو بنـي مازن بن النـجار الذي كان مسيـلـمة الكذّاب قطعه بـالـيـمامة حين جعل يسأله عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فجعل يقول: أتشهد أن مـحمدا رسول اللّه ؟ فـيقول: نعم، ثم يقول: أتشهد أنـي رسول اللّه ؟ فـيقول له: لا أسمع، فـيقول مسيـلـمة: أتسمع هذا، ولا تسمع هذا؟ فـيقول: نعم، فجعل يقطعه عُضْوا عضوا، كلـما سأله لـم يزده علـى ذلك حتـى مات فـي يديه. قال كعب حين قـيـل له اسمه حبـيب: وكان واللّه صاحب يس اسمه حبـيب.

٢٢٢٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن الـحسن بن عمارة، عن الـحكم بن عتـيبة، عن مِقْسم أبـي القاسم مولـى عبد اللّه بن الـحارث بن نوفل، عن مـجاهد ، عن عبد اللّه بن عباس أنه كان يقول: كان اسم صاحب يس حبـيبـا، وكان الـجُذام قد أسرع فـيه.

٢٢٢٥٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَجاءَ مِنْ أقْصَى الـمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قال: ذُكر لنا أن اسمه حبـيب، وكان فـي غار يعبد ربه، فلـما سمع بهم أقبل إلـيهم.

و قوله: قالَ يا قَوْمِ اتّبِعُوا الـمُرْسَلِـينَ

يقول تعالـى ذكره: قال الرجل الذي جاء من أقصى الـمدينة لقومه: يا قوم اتبعوا الـمرسلـين الذين أرسلهم اللّه إلـيكم، واقبلوا منهم ما أتوكم به.

وذُكر أنه لـما أتـى الرسل سألهم: هل يطلبون علـى ما جاءوا به أجرا؟ فقالت الرسل: لا، فقال لقومه حينئذٍ: اتبعوا من لا يسألكم علـى نصيحتهم لكم أجرا. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٥٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: لـما انتهى إلـيهم، يعني إلـى الرسل، قال: هل تسألون علـى هذا من أجر؟ قالوا: لا، فقال عند ذلك: يا قَوْمِ اتّبِعُوا الـمُرْسَلِـينَ اتّبِعوا مَنْ لا يَسأَلُكُمْ أجْرا وَهُمْ مُهْتَدُونَ.

٢٢٢٦٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فـيـما بلغه، عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبـار، وعن وهب بن منبه

٢١

اتّبِعُوا مَنْ لا يَسألُكُمْ أجْرا وَهُمْ مُهْتَدُونَ: أي لا يسألونكم أموالكم علـى ما جاؤوكم به من الهدى، وهم لكم ناصحون، فـاتبعوهم تهتدوا بهداهم.

و قوله: وَهُمْ مُهْتَدُونَ يقول: وهم علـى استقامة من طريق الـحقّ، فـاهتدوا أيها القوم بهداهم.

٢٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.

يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل هذا الرجل الـمؤمن وَمالـيَ لا أعْبُدُ الّذِي فَطَرَنِـي: أي وأيّ شيء لـي لا أعبد الربّ الذي خـلقنـي وَإلَـيْهِ تُرْجَعُونَ يقول: وإلـيه تصيرون أنتـم أيها القوم وتردّون جميعا، وهذا حين أبدى لقومه إيـمانه بـاللّه وتوحيده، كما:

٢٢٢٦١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فـيـما بلغه، عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبـار، وعن وهب بن منبه قال: ناداهم، يعني نادى قومه بخلاف ما هم علـيه من عبـادة الأصنام، وأظهر لهم دينه وعبـادة ربه، وأخبرهم أنه لا يـملك نفعه ولا ضرّه غيره، فقال: وَمالِـيَ لا أعْبُدُ الّذِي فَطَرَنِـي وَإلَـيْهِ تُرْجَعُونَ أءتّـخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ثم عابها، فقال: إن يُردْنِ الرّحْمَنُ بِضُرّ وشدّة لا تُغْنِ عَنّـي شَفـاعَتُهُمْ شَيْئا وَلا يُنْقِذُونَ.

٢٣

و قوله: أءتّـخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يقول: أأعبد من دون اللّه آلهة، يعني معبودا سواه إنْ يُردْنِ الرّحْمَنُ بِضُرّ يقول: إذ مسنـي الرحمن بضرّ وشدّة لا تُغْنِ عَنّـي شَفـاعَتُهُمْ شَيْئا يقول: لا تغنـي عنـي شيئا بكونها إلـيّ شفعاء، ولا تقدر علـى دفع ذلك الضرّ عنـي وَلا يُنْقِذُونِ يقول: ولا يخـلصونـي من ذلك الضرّ إذا مسنـي.

٢٤

و قوله: إنّـي إذا لَفـي ضَلالٍ مُبِـينٍ يقول: إنـي إن اتـخذت من دون اللّه آلهة هذه صفتها إذن لفـي ضلالٍ مبـين لـمن تأمله، جوره عن سبـيـل الـحقّ.

٢٥

و قوله: إنّـي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فـاسمَعُونِ فـاختلف فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: قال هذا القول هذا الـمؤمنُ لقومه يعلـمهم إيـمانه بـاللّه . ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٦٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فـيـما بلغه، عن ابن عباس ، وعن كعب، وعن وهب بن منبه إنّـي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فـاسمَعُونِ إنـي آمنت بربكم الذي كفرتـم به، فـاسمعوا قولـي.

وقال آخرون: بل خاطب بذلك الرسلَ، وقال لهم: اسمعوا قولـي لتشهدوا لـي بـما أقول لكم عند ربـي، وأنـي قد آمنت بكم واتبعتكم فذكر أنه لـما قال هذا القول، ونصح لقومه النصيحة التـي ذكرها اللّه فـي كتابه وثبوا به فقتلوه.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي صفة قتلهم إياه، فقال بعضهم: رَجَموه بـالـحجارة. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٦٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَما لـيَ لا أعْبُدُ الذِي فَطَرَنِـي وَإلَـيْهِ تُرْجَعُونَ هذا رجل دعا قومه إلـى اللّه ، وأبدى لهم النصيحة فقتلوه علـى ذلك. وذُكر لنا أنهم كانوا يرجمونه بـالـحجارة، وهو يقول: اللّه م اهدِ قومي، اللّه مّ اهدِ قومي، اللّه مّ اهدِ قومي، حتـى أَقْعصُوه وهو كذلك.

وقال آخرون: بل وثبوا علـيه، فوطئوه بأقدامهم حتـى مات. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٦٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فـيـما بلغه، عن ابن عباس ، وعن كعب، وعن وهب بن منبه قال لهم: وَما لـيَ لا أعْبُدُ الّذِي فَطَرَنِـي... إلـى قوله: فـاسمَعُونِ وثبوا وثبة رجل واحد فقتلوه واستضعفوه لضعفه وسقمه، ولـم يكن أحد يدفع عنه.

٢٢٢٦٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أصحابه أن عبد اللّه بن مسعود كان يقول: وطِئوه بأرجلهم حتـى خرج قُصْبه من دُبُره.

٢٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنّةَ قَالَ يَلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: قال اللّه له إذ قتلوه كذلك فلقـيه: ادْخُـلِ الـجَنّةَ فلـما دخـلها وعاين ما أكرمه اللّه به لإيـمانه وصبره فـيه قالَ يا لَـيْتَ قَوْمي يَعْلَـمُونَ بِـمَا غَفَرَ لـي رَبّـي يقول: يا لـيتهم يعلـمون أن السبب الذي من أجله غفر لـي ربـي ذنوبـي، وجعلنـي من الذين أكرمهم اللّه بإدخاله إياه جنته، كان إيـمانـي بـاللّه وصبري فـيه، حتـى قتلت، فـيؤمنوا بـاللّه ويستوجبوا الـجنة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٦٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، عن بعض أصحابه أن عبد اللّه بن مسعود كان يقول: قال اللّه له: ادخـل الـجنة، فدخـلها حيا يُرزق فـيها، قد أذهب اللّه عنه سقم الدنـيا وحزنها ونصبها، فلـما أفضى إلـى رحمة اللّه وجنته وكرامته قالَ يا لَـيْتَ قَوْمي يَعْلَـمُونَ بِـمَا غَفَرَ رَبّـي وَجَعَلَنِـي مِنَ الـمُكْرَمِينَ.

٢٢٢٦٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ،

٢٧

 قوله: قِـيـلَ ادْخُـلِ الـجَنّةِ فلـما دخـلها قالَ يا لَـيْتَ قَوْمي يَعْلَـمُونَ بِـما غَفَرَ لـي رَبّـي وَجَعَلِنـي مِنَ الـمُكْرَمِينَ قال: فلا تلقـى الـمؤمن إلاّ ناصحا، ولا تلقاه غاشا، فلـما عاين من كرامة اللّه قالَ يا لَـيْتَ قَوْمي يَعْلَـمُونَ بـمَا غَفَرَ لـي رَبّـي وَجَعَلَنِـي مِنَ الـمُكْرَمِينَ تـمنى علـى اللّه أن يعلـم قومه ما عاين من كرامة اللّه ، وما هجم علـيه.

٢٢٢٦٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: قِـيـلَ ادْخُـلِ الـجَنّةَ قال:

قـيـل: قد وجبت له الـجنة قال ذاك حين رأى الثواب.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد قِـيـلَ ادْخُـلِ الـجَنّةَ قال: وجبت لك الـجنة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكَام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بَزّة، عن مـجاهد قِـيـلَ ادْخُـلِ الـجَنّةَ قال: وجبت له الـجنة.

٢٢٢٦٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفـيان، عن عاصم الأحول، عن أبـي مـجلز، فـي قوله: بـمَا غَفَرَ لـي رَبّـي قال: إيـمانـي بربـي، وتصديقـي رسله، واللّه أعلـم.

تابع : تفسير سورة يس

٢٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىَ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ السّمَآءِ وَمَا كُنّا مُنزِلِينَ }.

يقول تعالـى ذكره: وما أنزلنا علـى قوم هذا الـمؤمن الذي قتله قومه لدعائه إياهم إلـى اللّه ونصيحته لهم مِنْ بَعْدِهِ يعني : من بعد مهلكه مِنْ جُنْدٍ مِنَ السّماءِ.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى الـجند الذي أخبر اللّه أنه لـم ينزل إلـى قوم هذا الـمؤمن بعد قتلهموه فقال بعضهم: عُنِـي بذلك أنه لـم ينزل اللّه بعد ذلك إلـيهم رسالة، ولا بعث إلـيهم نبـيا. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٧٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: مِنْ جُنْدٍ مِنَ السّماءِ قال: رسالة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكّام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بَزّة عن مـجاهد ، مثله.

٢٢٢٧١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَما أنْزَلْنا عَلـى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلِـينَ قال: فلا واللّه ما عاتب اللّه قومه بعد قتله إنْ كانَتْ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فإذَا هُمْ خامدُونَ.

وقال آخرون: بل عُنـي بذلك أن اللّه تعالـى ذكره لـم يبعث لهم جنودا يقاتلهم بها، ولكنه أهلكهم بصيحة واحدة. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٧٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، عن بعض أصحابه، أن عبد اللّه بن مسعود، قال: غضب اللّه له، يعني لهذا الـمؤمن، لاستضعافهم إياه غضبةً لـم تبق من القوم شيئا، فعجّل لهم النقمة بـما استـحلوا منه، وقال: وَما أنْزَلْنا عَلـى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السمّاءِ وَما كُنّا مُنْزِلِـينَ يقول: ما كاثرناهم بـالـجموع: أي الأمر أيسر علـينا من ذلك إنْ كانَتْ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فإذَا هُمْ خامِدُونَ فأهلك اللّه ذلك الـملك وأهل أنطاكية، فبـادوا عن وجه الأرض، فلـم تبق منهم بـاقـية.

وهذا القول الثانـي أولـى القولـين بتأويـل الاَية، وذلك أن الرسالة لا يقال لها جند إلا أن يكون أراد مـجاهد بذلك الرّسُل، فـيكون وجها، وإن كان أيضا من الـمفهوم بظاهر الاَية بعيدا، وذلك أن الرسُل من بنـي آدم لا ينزلون من السماء والـخبر فـي ظاهر هذه الاَية عن أنه لـم ينزل من السماء بعد مَهْلِك هذا الـمؤمن علـى قومه جندا وذلك بـالـملائكة أشبه منه ببنـي آدم.

٢٩

و قوله: إنْ كانَتْ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فإذَا هُمْ خامِدُونَ يقول: ما كانت هَلَكتهم إلا صيحة واحدة أنزلها اللّه من السماء علـيهم.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار إنْ كانَتْ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً نصبـا علـى التأويـل الذي ذكرت، وأنّ فـي (كانت) مضمرا. وذُكر عن أبـي جعفر الـمدنـي أنه قرأه: (إلاّ صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ) رفعا علـى أنها مرفوعة بكان، ولا مضمر فـي كان.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندي النصب لإجماع الـحجة علـى ذلك، وعلـى أن فـي (كانت) مضمرا.

و قوله: فإذَا هُمْ خامِدُونَ يقول: فإذا هم هالكون.

٣٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رّسُولٍ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: يا حسرةً من العبـاد علـى أنفسها وتندّما وتلهفـا فـي استهزائهم برسل اللّه ما يَأتِـيهِمْ مِنْ رَسُولٍ من اللّه إلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. وذُكر أن ذلك فـي بعض القراءات: (يا حَسْرَةَ العِبـادِ عَلـى أنْفُسِها) . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٧٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة يا حَسْرَةً عَلـى العِبـادِ: أي يا حسرة العبـاد علـى أنفسها علـى ما ضَيّعت من أمر اللّه ، وفرّطت فـي جنب اللّه . قال: وفـي بعض القراءات: (يا حَسْرَةَ العِبـادِ عَلـى أنْفُسِها) .

٢٢٢٧٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: يا حَسْرَةً عَلـى العِبـادِ قال: كان حسرةً علـيهم استهزاؤهم بـالرسل.

٢٢٢٧٥ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: يا حَسْرَةً عَلـى العِبـادِ يقول: يا ويلاً للعبـاد. وكان بعض أهل العربـية يقول: معنى ذلك: يا لها حسرةً علـى العبـاد.

٣١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ أَنّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: ألـم ير هؤلاء الـمشركون بـاللّه من قومك يا مـحمد كم أهلكنا قبلهم بتكذيبهم رسلنا، وكفرهم بآياتنا من القرون الـخالـية أنّهُمْ إلَـيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ يقول: ألـم يَرَوا أنهم إلـيهم لا يرجعون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٧٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أَلَـمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ القُرُونَ أنّهُمْ إلَـيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ قال: عاد وثمود، وقرون بـين ذلك كثـير.

و(كم) من قوله: كَمْ أهْلَكْنَا فـي موضع نصب إن شئت بوقوع يروا علـيها. وقد ذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد اللّه : (أَلَـمْ يَرَوْا مَنْ أهْلَكْنا) وإن شئت بوقوع أهلكنا علـيها وأما (أنهم) ، فإن الألف منها فتـحت بوقوع يروا علـيها. وذُكر عن بعضهم أنه كسر الألف منها علـى وجه الاستئناف بها، وترك إعمال (يروا) فـيها.

٣٢

و قوله: وإنْ كُلّ لـمّا جَميعٌ لَدَيْنا مُـحْضَرُونَ

يقول تعالـى ذكره: وإن كل هذه القرون التـي أهلكناها والذين لـم نهلكهم وغيرهم عندنا يوم القـيامة جميعهم مـحضرون، كما:

٢٢٢٧٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة وَإنْ كُلّ لـمّا جَميعٌ لَدَيْنا مُـحْضَرُونَ أي هم يوم القـيامة.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: (وَإنْ كُلّ لَـمَا) بـالتـخفـيف توجيها منهم إلـى أن ذلك (ما) أدخـلت علـيها اللام التـي تدخـل جوابـا لإنْ وأن معنى الكلام: وإن كلّ لـجميع لدينا مـحضرون. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: لَـمّا بتشديد الـميـم. ولتشديدهم ذلك عندنا وجهان: أحدهما: أن يكون الكلام عندهم كان مرادا به: وإن كلّ لـمـما جميع، ثم حذفت إحدى الـميـمات لـما كثرت، كما قال الشاعر:

غَدَاةَ طَفَت عَلْـماءِ بَكْرُ بنُ وَائِلٍوَعُجنْا صُدُورَ الـخَيْـلِ نَـحْوَ تَـمِيـمِ

والاَخر: أن يكونوا أرادوا أن تكون لَـمّا بـمعنى إلا، مع إنْ خاصة فتكون نظيرة إنـما إذا وضعت موضع (إلا) . وقد كان بعض نـحويـيّ الكوفة يقول: كأنها (لَـمْ) ضمت إلـيها (ما) ، فصارتا جميعا استثناء، وخرجتا من حدّ الـجحد. وكان بعض أهل العربـية يقول: لا أعرف وجه (لـمّا) بـالتشديد.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.

٣٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَآيَةٌ لّهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: ودلالة لهؤلاء الـمشركين علـى قُدرة اللّه علـى ما يشاء، وعلـى إحيائه من مات من خـلقه وإعادته بعد فنائه، كهيئته قبل مـماته إحياؤه الأرض الـميتة، التـي لا نبت فـيها ولا زرع بـالغيث الذي ينزله من السماء حتـى يخرج زرعها، ثم إخراجه منها الـحبّ الذي هو قوت لهم وغذاء، فمنه يأكلون.

٣٤

و قوله: وَجَعَلْنا فِـيها جَنّاتٍ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ

يقول تعالـى ذكره: وجعلنا فـي هذه الأرض التـي أحيـيناها بعد موتها بساتـين من نـخيـل وأعناب وَفَجّرْنا فِـيها مِنَ العُيُونِ يقول: وأنبعنا فـيها من عيون الـماء.

٣٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: أنشأنا هذه الـجنات فـي هذه الأرض لـيأكل عبـادي من ثمره، وما عملت أيديهم يقول: لـيأكلوا من ثمر الـجنات التـي أنشأنا لهم، وما عملت أيديهم مـما غرسوا هم وزرعوا.

و(ما) التـي فـي قوله: وَما عَمِلَتْهُ أيْدِيهِمْ فـي موضع خفض عطفـا علـى الثمر، بـمعنى: ومن الذي عملت وهي فـي قراءة عبد اللّه فـيـما ذُكر: (وَمـمّا عَمِلَتْهُ) بـالهاء علـى هذا الـمعنى فـالهاء فـي قراءتنا مضمرة، لأن العرب تضمرها أحيانا، وتظهرها فـي صلات: من، وما، والذي. ولو

قـيـل: (ما) بـمعنى الـمصدر كان مذهبـا، فـيكون معنى الكلام: ومن عمل أيديهم. ولو

قـيـل: إنها بـمعنى الـجحد ولا موضع لها كان أيضا مذهبـا، فـيكون معنى الكلام: لـيأكلوا من ثمره ولـم تعمله أيديهم.

و قوله: أفَلا يَشْكُرُونَ يقول: أفلا يشكر هؤلاء القوم الذين رزقناهم هذا الرزق من هذه الأرض الـميتة التـي أحيـيناها لهم مَنْ رزقهم ذلك وأنعم علـيهم به؟.

٣٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الأزْوَاجَ كُلّهَا مِمّا تُنبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمّا لاَ يَعْلَمُونَ }.

يقول تعالـى ذكره تنزيها وتبرئة للذي خـلق الألوان الـمختلفة كلها من نبـات الأرض، ومن أنفسهم، يقول: وخـلق من أولادهم ذكورا وإناثا، ومـما لا يعلَـمون أيضا من الأشياء التـي لـم يطلعهم علـيها، خـلق كذلك أزواجا مـما يضيف إلـيه هؤلاء الـمشركون، ويصفونه به من الشركاء وغير ذلك.

٣٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَآيَةٌ لّهُمُ الْلّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النّهَارَ فَإِذَا هُم مّظْلِمُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: ودلـيـل لهم أيضا علـى قدرة اللّه علـى فعل كل ما شاء اللّـيْـلُ نَسْلَـخُ مِنْهُ النّهارَ يقول: ننزع عنه النهار. ومعنى (منه) فـي هذا الـموضع: عنه، كأنه

قـيـل: نسلَـخ عنه النهار، فنأتـي بـالظلـمة ونذهب بـالنهار. ومنه قوله: وَاتْلُ عَلَـيْهِمْ نَبَأَ الّذِي آتَـيْناهُ فـانْسَلَـخَ مِنْها: أي خرج منها وتركها، فكذلك انسلاخ اللـيـل من النهار.

و قوله: فإذَا هُمْ مُظْلِـمُونَ يقول: فإذا هم قد صاروا فـي ظلـمة بـمـجيء اللـيـل. وقال قتادة فـي ذلك ما:

٢٢٢٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وآيَةٌ لَهُمُ اللّـيْـلُ نَسْلَـخُ مِنْهُ النّهارَ فإذَا هُمْ مُظْلِـمُونَ قال: يولـج اللـيـل فـي النهار، ويولـج النهار فـي اللـيـل.

وهذا الذي قاله قتادة فـي ذلك عندي، من معنى سلـخ النهار من اللـيـل، بعيد وذلك أن إيلاج اللـيـل فـي النهار، إنـما هو زيادة ما نقص من ساعات هذا فـي ساعات الاَخر، ولـيس السلْـخ من ذلك فـي شيء، لأن النهار يسلـخ من اللـيـل كله، وكذلك اللـيـل من النهار كله، ولـيس يولـج كلّ اللـيـل فـي كلّ النهار، ولا كلّ النهار فـي كلّ اللـيـل.

٣٨

و قوله: والشّمْسُ تَـجْرِي لِـمُسْتَقَرّ لَهَا

يقول تعالـى ذكره: والشمس تـجري لـموضع قرارها، بـمعنى: إلـى موضع قرارها وبذلك جاء الأثر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . ذكر الرواية بذلك:

٢٢٢٧٩ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيـم التـيـمي، عن أبـيه، عن أبـي ذرّ الغفـاريّ، قال: كنت جالسا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فـي الـمسجد، فلـما غَرَبت الشمس، قال: (يا أبـا ذَرّ هَلْ تَدْرِي أيْنَ تَذْهَبُ الشّمْسُ؟) قلت: اللّه ورسوله أعلـم، قال: (فإنها تذهب فتسجد بَـينَ يَدَيْ رَبّها، ثُمّ تَسْتأذِنُ بـالرّجُوعِ فَـيُؤْذَنُ لَهَا، وكأنّها قَدْ قِـيـلَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعَ مِنْ مَكانِهَا، وَذلكَ مُسْتَقَرّها) .

وقال بعضهم فـي ذلك بـما:

٢٢٢٨٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: والشّمْسُ تَـجْرِي لِـمُسْتَقَرّ لَهَا قال: وقت واحد لا تعدوه.

وقال آخرون: معنى ذلك: تـجري لـمـجرى لها إلـى مقادير مواضعها، بـمعنى: أنها تـجري إلـى أبعد منازلها فـي الغروب، ثم ترجع ولا تـجاوزه. قالوا: وذلك أنها لا تزال تتقدّم كل لـيـلة حتـى تنتهي إلـى أبعد مغاربها ثم ترجع.

و قوله: ذلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِـيـمِ يقول: هذا الذي وصفنا من جري الشمس لـمستقرّ لها، تقدير العزيز فـي انتقامه من أعدائه، العلـيـم بـمصالـح خـلقه، وغير ذلك من الأشياء كلها، لا يخفـى علـيه خافـية.

٣٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالْقَمَرَ قَدّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتّىَ عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ }.

اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَالقَمَرَ قَدّرْناهُ مَنازِلَ فقرأه بعض الـمكيـين وبعض الـمدنـيـين وبعض البصريـين: (وَالقَمَرُ) رفعا عطفـا بها علـى الشمس، إذ كانت الشمس معطوفة علـى اللـيـل، فأتبعوا القمر أيضا الشمس فـي الإعراب، لأنه أيضا من الاَيات، كما اللـيـل والنهار آيتان، فعلـى هذه القراءة تأويـل الكلام: وآية لهم القمرُ قدّرناه منازل. وقرأ ذلك بعض الـمكيـين وبعض الـمدنـيـين وبعض البصريـين، وعامة قرّاء الكوفة نصبـا: وَالقَمَرَ قَدّرْناهُ بـمعنى: وقدّرنا القمر منازل، كما فعلنا ذلك بـالشمس، فردّوه علـى الهاء من الشمس فـي الـمعنى، لأن الواو التـي فـيها للفعل الـمتأخر.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، فتأويـل الكلام: وآية لهم، تقديرنا القمر منازل للنقصان بعد تناهيه وتـمامه واستوائه، حتـى عاد كالعرجون القديـم والعرجون: من العذق من الـموضع النابت فـي النـخـلة إلـى موضع الشماريخ وإنـما شبهه جل ثناؤه بـالعرجون القديـم، والقديـم هو الـيابس، لأن ذلك من العِذْق، لا يكاد يوجد إلا متقوّسا منـحنـيا إذا قدم ويبس، ولا يكاد أن يُصاب مستويا معتدلاً، كأغصان سائر الأشجار وفروعها، فكذلك القمرُ إذا كان فـي آخر الشهر قبل استسراره، صار فـي انـحنائه وتقوّسه نظير ذلك العرجون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٨١ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: حتـى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيـمِ يقول: أصل العِذق العتـيق.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: حتـى عادَ كالعُرجُونَ القَديـم يعني بـالعُرجون: العذقَ الـيابس.

٢٢٢٨٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن عُلَـية، عن أبـي رجاء، عن الـحسن، فـي قوله: والقَمَرَ قَدّرْناهُ مَنازِلَ حتـى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيـمِ قال: كعِذْق النـخـلة إذا قدُم فـانـحنى.

٢٢٢٨٣ـ حدثنـي أحمد بن إبراهيـم الدورقـيّ، قال: حدثنا أبو يزيد الـخرّاز، يعني خالد بن حيان الرقّـي، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصمّ فـي قوله: حتـى عادَ كالعُرْجُونَ القَدِيـمِ قال: عذق النـخـلة إذا قدُم انـحنى.

٢٢٢٨٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عيسى بن عبـيد، عن عكرمة، فـي قوله: كالعُرْجُونِ القَدِيـمِ قال: النـخـلة القديـمة.

٢٢٢٨٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى عن مـجاهد كالعُرْجُونِ القَدِيـمِ قال: العِذْق الـيابس.

٢٢٢٨٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمر بن علـيّ الـمقدمي وابن سنان القزاز، قالا: حدثنا أبو عاصم والـمقدمي، قال: سمعت أبـا عاصم يقول: سمعت سلـيـمان التـيـمي فـي قوله: حتـى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيـمِ قال: العذْق.

٢٢٢٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة حتـى عادَ كالْعُرْجُونِ القَدِيـمِ قال: قدّره اللّه منازل، فجعل ينقص حتـى كان مثل عذق النـخـلة، شبهه بعذق النـخـلة.

٤٠

و قوله: لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَها أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ

يقول تعالـى ذكره: لا الشمس يصلـح لها إدراك القمر، فـيذهب ضوؤها بضوئه، فتكون الأوقات كلها نهارا لا لـيـل فـيها وَلا اللّـيْـلُ سابِقُ النّهارِ

يقول تعالـى ذكره: ولا اللـيـل بفـائت النهار حتـى تذهب ظلـمته بضيائه، فتكون الأوقات كلها لـيلاً.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل علـى اختلاف منهم فـي ألفـاظهم فـي تأويـل ذلك، إلا أن معانـي عامتهم الذي قلناه. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٨٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بَزّة، عن مـجاهد فـي قوله: لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ قال: لا يشبه ضَوءُها ضوء الاَخر، لا ينبغي لها ذلك.

٢٢٢٨٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ قال: لا يُشبه ضوء أحدهما ضوء الاَخر، ولا ينبغي ذلك لهما. وفـي قوله: وَلا اللّـيْـلُ سابِقُ النّهار قال: يتطالبـان حَثـيثـين ينسلـخ أحدهما من الاَخر.

٢٢٢٩٠ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا الأشجعيّ، عن سفـيان، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح: لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللّـيْـلُ سابِقُ النّهارِ قال: لا يدرك هذا ضوءَ هذا ولا هذا ضوء هذا.

٢٢٢٩١ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله: لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وهذا فـي ضوء القمر وضوء الشمس، إذا طلعت الشمس لـم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر بضوئه لـم يكن للشمس ضوء ولاَ اللّـيْـلُ سابِقُ النّهارِ قال: فـي قضاء اللّه وعلـمه أن لا يفوت اللـيـل النهار حتـى يدركه، فـيذهب ظلـمته، وفـي قضاء اللّه أن لا يفوت النهار اللـيـل حتـى يدركه، فـيذهب بضوئه.

٢٢٢٩٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللّـيْـلُ سابِقُ النّهارِ ولكلَ حدّ وعلـم لا يعدوه، ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا، ذهب سلطان هذا، وإذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا. ورُوي عن ابن عباس فـي ذلك ما:

٢٢٢٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللّـيْـلُ سابِقُ النّهارِ يقول: إذا اجتـمعا فـي السماء كان أحدهما بـين يدي الاَخر، فإذا غابـا غاب أحدهما بـين يدي الاَخر.

وأن من قوله: أنْ تُدْرِكَ فـي موضع رفع ب قوله: ينبغي.

و قوله: وكُلّ فِـي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يقول: وكلّ ما ذكرنا من الشمس والقمر واللـيـل والنهار فـي فلك يَجْرُون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٩٤ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا أبو النعمان الـحكم بن عبد اللّه العجلـي، قال: حدثنا شعبة، عن مسلـم البطين، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عباس وكُلّ فِـي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال: فـي فلك كفلك الـمِغْزَل.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا الأعمش، عن مسلـم البطين، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عباس ، مثله.

٢٢٢٩٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد ، قال: مـجرى كلّ واحد منهما، يعني اللـيـل والنهار، فـي فَلَك يسبحون: يجرون.

٢٢٢٩٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وكُلّ فِـي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ: أي فـي فلك السماء يسبحون.

٢٢٢٩٧ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وكُلّ فِـي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ دورانا، يقول: دورانا يسبحون يقول: يجرون.

٢٢٢٩٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وكُلّ فِـي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يعني : كلّ فـي فلك فـي السموات.

٤١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَآيَةٌ لّهُمْ أَنّا حَمَلْنَا ذُرّيّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ }.

يقول تعالـى ذكره: ودلـيـل لهم أيضا، وعلامة علـى قُدرتنا علـى كلّ ما نشاء، حملنا ذرّيتهم يعني من نـجا من ولد آدم فـي سفـينة نوح، وإياها عنى جل ثناؤه بـالفُلك الـمشحون والفلك: هي السفـينة، والـمشحون: الـمـملوء الـموقر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٢٩٩ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس قوله: أنّا حَمَلْنا ذُرّيّتَهُمْ فِـي الفُلْكِ الـمَشْحُونِ يقول: الـمـمتلـىء.

٢٢٣٠٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: فـي الفُلْكِ الـمَشْحُونِ يعني الـمثقل.

٢٢٣٠١ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: حدثنا مـحمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد الفُلْكِ الـمَشْحُونِ قال: الـموقَر.

٢٢٣٠٢ـ حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا يونس، عن الـحسن، فـي قوله: الـمَشْحُونَ قال: الـمـحمول.

٢٢٣٠٣ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: أنّا حَمَلْنا ذُرّيّتَهُمْ فِـي الفُلْكِ الـمَشْحُونِ يعني : سفـينة نوح علـيه السلام.

٢٢٣٠٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَآيَةٌ لَهُمْ أنّا حَمْلنا ذُرّيّتَهُمْ فِـي الفُلْكِ الـمَشْحُونِ الـمُوقَر، يعني سفـينة نوح.

٢٢٣٠٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: الفُلْكِ الـمَشْحُونِ قال: الفلك الـمشحون: الـمَرْكَب الذي كان فـيه نوح، والذرية التـي كانت فـي ذلك الـمركب قال: والـمشحون: الذي قد شُحن، الذي قد جعل فـيه لـيركبه أهله، جعلوا فـيه ما يريدون، فربـما امتلأ، وربـما لـم يـمتلـىء.

حدثنا الفضل بن الصبـاح، قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عباس قال: أتدرون ما الفُلك الـمشحون؟ قلنا: لا، قال: هو الـمُوقَر.

٢٢٣٠٦ـ حدثنا عمرو بن عبد الـحميد الاَمُلِـي، قال: حدثنا هارون، عن جُوَيبر، عن الضحاك ، فـي قوله: الفُلكِ الـمَشحُون قال الـمُوقَر.

٤٢

و قوله: وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ

يقول تعالـى ذكره: وخـلقنا لهؤلاء الـمشركين الـمكذّبـيك يا مـحمد، تفضلاً منا علـيهم، من مثل ذلك الفلك الذي كنا حملنا من ذرّية آدم مَنْ حملنا فـيه الذي يركبونه من الـمراكب.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي الذي عُنـي ب قوله: ما يَرْكَبُونَ فقال بعضهم: هي السفن. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٠٧ـ حدثنا الفضل بن الصبـاح، قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عباس قال: تدرون ما وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ؟ قلنا: لا. قال: هي السفن جُعلت من بعد سفـينة نوح علـى مِثْلها.

٢٢٣٠٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفـيان، عن السديّ، عن أبـي مالك فـي قوله: وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال: السفن الصغار.

قال: ثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفـيان، عن السديّ، عن أبـي مالك، فـي قوله: وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال: السفن الصغار، ألا ترى أنه قال: وَإنْ نَشأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ؟.

٢٢٣٠٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الـحسن فـي هذه الاَية: وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال: السفن الصغار.

٢٢٣١٠ـ حدثنا حاتـم بن الضبّـي، قال: حدثنا عثمان بن عمر، عن شعبة، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح: وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال: السفن الصغار.

٢٢٣١١ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ يعني : السفن التـي اتـخذت بعدها، يعني بعد سفـينة نوح.

٢٢٣١٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال: هي السفن التـي ينتفع بها.

٢٢٣١٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال: وهي هذه الفلك.

حدثنـي يونس، قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح، فـي قوله: وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال: نعم من مثل سفـينة.

وقال آخرون: بل عُنـي بذلك الإبل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣١٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنا أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ يعني : الإبل، خَـلَقها اللّه كما رأيت، فهي سفن البرّ، يُحْمَلون علـيها ويركبونها.

٢٢٣١٥ـ حدثنا نصر بن علـيّ، قال: حدثنا غندر، عن عثمان بن غياث، عن عكرمة وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال: الإبل.

٢٢٣١٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن السديّ، قال: قال عبد اللّه بن شدّاد: وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ هي الإبل.

٢٢٣١٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: وَخَـلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال: من الأنعام.

٢٢٣١٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: قال الـحسن: هي الإبل.

٤٣

وأشبه القولـين بتأويـل ذلك قول مَن قال: عُنِـي بذلك السفن، وذلك لدلالة قوله: وَإنْ نَشأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ علـى أن ذلك كذلك، وذلك أن الغرق معلوم أن لا يكون إلا فـي الـماء، ولا غرق فـي البرّ.

٤٤

و قوله: وَإنْ نَشأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهمْ

يقول تعالـى ذكره: وإن نشأ نغرق هؤلاء الـمشركين إذا ركبوا الفُلك فـي البحر فَلا صَريخَ لَهُمْ يقول: فلا مُغِيثَ لهم إذا نـحن غرْقناهم يُغِيثهم، فـينـجيهم من الغرق، كما:

٢٢٣١٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَإنْ نَشأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهمْ: أي لا مُغِيث.

و قوله: وَلاَ هُمْ يُنْقَذُونَ يقول: ولا هو ينقذهم من الغرق شيء إن نـحن أغرقناهم فـي البحر، إلا أن ننقذهم نـحن رحمة منا لهم، فننـجيهم منه.

و قوله: وَمَتاعا إلـى حِينٍ يقول: ولنـمتعهم إلـى أجل هم بـالغوه، فكأنه قال: ولاهم يُنْقذُونَ، إلا أن نرحمهم فنـمتعهم إلـى أجل. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٢٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَمَتاعا إلـى حِينٍ: أي إلـى الـموت.

٤٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: وإذا قـيـل لهؤلاء الـمشركين بـاللّه ، الـمكذّبـين رسوله مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم : احذروا ما مضى بـين أيديكم من نقم اللّه وَمثُلاته بـمن حلّ ذلك به من الأمـم قبلكم أن يحلّ مثله بكم بشرككم وتكذيبكم رسوله. وَما خَـلْفَكُمْ يقول: وما بعد هلاككم مـما أنتـم لاقوه إن هلكتـم علـى كفركم الذي أنت علـيه لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ يقول: لـيرحمكم ربكم إن أنتـم حذرتـم ذلك، واتقـيتـموه بـالتوبة من شرككم والإيـمان به، ولزوم طاعته فـيـما أوجب علـيكم من فرائضه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٢١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمُ اتّقُوا ما بـينَ أيْدِيكُمْ: وقائع اللّه فـيـمن خلا قبلهم من الأمـم وما خـلفهم من أمر الساعة. وكان مـجاهد يقول فـي ذلك ما:

٢٢٣٢٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: ما بـينَ أيْدِيكُمْ قال: ما مضى من ذنوبهم.

وهذا القول قريب الـمعنى من القول الذي قلنا، لأن معناه: اتقوا عقوبة ما بـين أيديكم من ذنوبكم، وما خـلفكم مـما تعملون من الذنوب ولـم تعملوه بعد، فذلك بعد تـخويف لهم العقاب علـى كفرهم.

٤٦

و قوله: وَما تَأْتِـيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبّهمْ إلاّ كَانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ

يقول تعالـى ذكره: وما تـجيء هؤلاء الـمشركين من قريش آية، يعني حجة من حُجَج اللّه ، وعلامة من علاماته علـى حقـيقة توحيده، وتصديق رَسُوله، إلا كانوا عنها معرضين، لا يتفكرون فـيها، ولا يتدبرونها، فـيعلـموا بها ما احتـجّ اللّه علـيهم بها.

فإن قال قائل: وأين جواب قوله: وَإذا قِـيـلَ لَهُمُ اتّقُوا ما بَـيَنَ أيْدِيكُمْ وَما خَـلْفَكُمْ؟

قـيـل: جوابه وجواب قوله وَما تَأْتِـيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبّهمْ... قوله: إلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لأن الإعراض منهم كان عن كلّ آية للّه، فـاكتفـى بـالـجواب عن قوله: اتّقُوا ما بَـينَ أيْدِيكُمْ وعن قوله: وَما تَأْتِـيهِمْ مِنْ آيَةٍ بـالـخبر عن إعراضهم عنها لذلك، لأن معنى الكلام: وإذا قـيـل لهم اتقوا ما بـين أيديكم وما خـلفكم أعرضوا، وإذا أتتهم آية أعرضوا.

٤٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ اللّه ...}.

يقول تعالـى ذكره: وإذا قـيـل لهؤلاء الـمشركين بـاللّه : أنفقوا من رزق اللّه الذي رزقكم، فأدّوا منه ما فرض اللّه علـيكم فـيه لأهل حاجتكم ومسكنتكم، قال الذين أنكروا وحدانـية اللّه ، وعبدوا مَنْ دونه للذين آمنوا بـاللّه ورسوله: أنطعم أموالنا وطعامنا مَنْ لو يشاء اللّه أطعمه؟.

وفـي قوله: إنْ أنْتُـمْ إلاّ فِـي ضَلالٍ مُبِـين وجهان: أحدهما أن يكون من قـيـل الكفـار للـمؤمنـين، فـيكون تأويـل الكلام حينئذٍ: ما أنتـم أيها القومُ فـي قـيـلكم لنا: أنفقوا مـما رزقكم اللّه علـى مساكينكم، إلا فـي ذهاب عن الـحقّ، وجور عن الرشد مُبِـين لـمن تأمله وتدبره، أنه فـي ضلال وهذا أَوْلـى وجهيه بتأويـله. والوجه الاَخر: أن يكون ذلك من قـيـل اللّه للـمشركين، فـيكون تأويـله حينئذٍ: ما أنتـم أيها الكافرون فـي قـيـلكم للـمؤمنـين: أنطعم من لو يشاء اللّه أطعمه، إلا فـي ضلال مبـين، عن أن قـيـلكم ذلك لهم ضلال.

٤٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.

يقول تعالـى ذكره: ويقول هؤلاء الـمشركون الـمكذّبون وعيدَ اللّه ، والبعثَ بعد الـمـمات، يستعجلون ربهم بـالعذاب مَتـى هَذَا الوَعْدُ: أي الوعد بقـيام الساعة إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أيها القوم، وهذا قولهم لأهل الإيـمان بـاللّه ورسوله.

٤٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مَا يَنظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: ما ينتظر هؤلاء الـمشركون الذين يستعجلون بوعيد اللّه إياهم، إلا صيحة واحدة تأخذهم، وذلك نفخة الفَزَع عند قـيام الساعة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل، وجاءت الاَثار. ذكر من قال ذلك، وما فـيه من الأثر:

٢٢٣٢٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ ومـحمد بن جعفر، قالا: حدثنا عوف بن أبـي جميـلة عن أبـي الـمغيرة القوّاس، عن عبد اللّه بن عمرو، قال: لُـيْنفَخَنّ فـي الصور، والناس فـي طرقهم وأسواقهم ومـجالسهم، حتـى إن الثوب لـيكون بـين الرجلـين يتساومان، فما يُرسله أحدهما من يده حتـى يُنفَخ فـي الصور، وحتـى إن الرجل لـيغدو من بـيته فلا يرجع حتـى ينفخ فـي الصّور، وهي التـي قال اللّه : ما يَنْظُرُونَ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً... الاَية.

٢٢٣٢٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ما يَنْظُرُونَ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ ذُكر لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (تَهِيجُ السّاعَةُ بـالنّاسِ وَالرّجُلُ يَسْقِـي ماشِيَتَهُ، وَالرّجُلُ يُصْلِـحُ حَوْضَهُ، وَالرّجُلُ يُقِـيـمُ سِلْعَتَهُ فِـي سُوقِهِ والرّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ، وَتهِيجُ بِهِمْ وَهُمْ كَذلكَ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ولا إلـى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) .

٢٢٣٢٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: ما ينظُرُونَ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً قال: النفخة نفخة واحدة.

٢٢٣٢٦ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـيّ، عن إسماعيـل بن رافع، عمن ذكره، عن مـحمد بن كعب القرظيّ، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنّ اللّه لـمّا فَرَغَ مِنْ خَـلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ خَـلَقَ الصّورَ، فأعْطاهُ إسْرَافِـيـلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلـى فِـيهِ شاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلـى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتـى يُؤْمَرُ) قالَ أبو هريرة: يا رسول اللّه : وما الصور؟ قال: (قَرْنٌ) قال: وكَيْفَ هُوَ؟ قال: (قَرْنٌ عَظِيـمٌ يُنْفَخُ فِـيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ، الأُولـى نَفْخَةُ الفَزَعِ، والثّانِـيَةُ نَفْخَةُ الصّعْقِ، والثّالِثَةُ نَفْخَةُ القِـيام لِرَبّ العالَـمِينَ، يَأْمُرُ اللّه إسْرَافِـيـلَ بـالنّفْخَةِ الأُولـى فَـيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ، فَـيَفْزَعُ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّه ، وَيأْمُرُهُ اللّه فَـيُدِيـمُها وَيُطَوّلُها، فَلا يَفْتُرُ، وَهِيَ التـي يَقُولُ اللّه : ما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ، ثُمّ يَأْمُرُ اللّه إسْرَافِـيـلَ بنَفْخَةِ الصّعْقِ، فَـيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الصّعْقِ، فَـيَصْعَقُ أهْلُ السّمَوَاتِ والأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّه ، فإذَا هُمْ خامِدُونَ، ثُمّ يُـمِيتُ مَنْ بَقِـيَ، فإذَا لَـمْ يَبْقَ إلاّ اللّه الوَاحِدُ الصّمَدُ، بَدّلَ الأرْضَ غيرَ الأرْضِ والسّمَوَاتِ، فَـيَبْسُطُها وَيَسْطَحُها، وَيَـمُدّها مَدّ الأدِيـمِ العِكاظِيّ، لا تَرَى فِـيها عِوَجا وَلا أمْتا، ثُمّ يَزْجُرُ اللّه الـخَـلْقَ زَجْرَةً، فإذَا هُمُ فِـي هَذِهِ الـمُبَدّلَةِ فِـي مِثْلِ مَوَاضِعِهِمْ مِنَ الأُولـى ما كانَ فـي بَطْنها كان فـي بَطْنِها، وَما كانَ علـى ظَهْرِها كانَ عَلـى ظَهْرِها) .

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَهُمْ يَخِصّمُونَ فقرأ ذلك بعض قرّاء الـمدينة: (وَهُمْ يَخْصّمُونَ) بسكون الـخاء وتشديد الصاد، فجمع بـين الساكنـين، بـمعنى: يختصمون، ثم أدغم التاء فـي الصاد فجعلها صادا مشدّدة، وترك الـخاء علـى سكونها فـي الأصل. وقرأ ذلك بعض الـمكيـين والبصريـين: (وَهُمْ يُخَصّمُونَ) بفتـح الـخاء وتشديد الصاد بـمعنى: يختصمون، غير أنهم نقلوا حركة التاء وهي الفتـحة التـي فـي يفتعلون إلـى الـخاء منها، فحرّكوها بتـحريكها، وأدغموا التاء فـي الصاد وشدّدوها. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة: يَخِصّمُونَ بكسر الـخاء وتشديد الصاد، فكسروا الـخاء بكسر الصاد وأدغموا التاء فـي الصاد وشدّدوها. وقرأ ذلك آخرون منهم: (يَخْصِمُونَ) بسكون الـخاء وتـخفـيف الصاد، بـمعنى (يَفْعَلُونَ) من الـخصومة، وكأن معنى قارىء ذلك كذلك: كأنهم يتكلـمون، أو يكون معناه عنده: كان وهم عند أنفسهم يَخْصمُون مَن وعدهم مـجيء الساعة، وقـيام القـيامة، ويغلبونه بـالـجدل فـي ذلك.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن هذه قراءات مشهورات معروفـات فـي قرّاء الأمصار، متقاربـات الـمعانـي، فبأيتهنّ قرأ القارىء فمصيب.

٥٠

و قوله: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً

يقول تعالـى ذكره: فلا يستطيع هؤلاء الـمشركون عند النفخ فـي الصّور أن يوصوا فـي أموالهم أحدا وَلا إلـى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ يقول: ولا يستطيع من كان منهم خارجا عن أهله أن يرجع إلـيهم، لأنهم لا يُـمْهَلون بذلك. ولكن يُعَجّلون بـالهلاك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٢٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً: أي فـيـما فـي أيديهم وَلا إلـى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ قال: أُعْجِلوا عن ذلك.

٢٢٣٢٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: ما يَنْظُرُ هَؤُلاء إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً... الاَية، قال هذا مبتدأ يوم القـيامة، وقرأ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً حتـى بلغ إلـى رَبّهِمْ يَنْسِلُونَ.

٥١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَإِذَا هُم مّنَ الأجْدَاثِ إِلَىَ رَبّهِمْ يَنسِلُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: ونُفِخَ فِـي الصّورِ، وقد ذكرنا اختلاف الـمختلفـين والصواب من القول فـيه بشواهده فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع، ويُعْنَى بهذه النفخة، نفخة البعث.

و قوله: فإذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ يعني من أجداثهم، وهي قبورهم، واحدها جَدَث، وفـيها لغتان، فأما أهل العالـية، فتقوله بـالثاء: جَدَث، وأما أهل السافلة فتقوله بـالفـاء جَدَف. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٢٩ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: مِنَ الأَجْدَاثِ إلـى رَبّهِمْ يَنْسِلُونَ يقول: من القبور.

٢٢٣٣٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فإذَا هُمْ مِنَ الأجْداث: أي من القبور.

و قوله: إلـى رَبّهِمْ يَنْسِلُونَ يقول: إلـى ربهم يخرجون سراعا، والنّسَلان: الإسراع فـي الـمشي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٣١ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: يَنْسِلونَ يقول: يخرجون.

٢٢٣٣٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إلـى رَبّهِمْ يَنْسِلُونَ: أي يخرجون.

٥٢

و قوله: قالُوا يا وَيْـلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا ما وَعَدَ الرّحْمَنُ وَصَدَقَ الـمُرْسَلُونَ

يقول تعالـى ذكره: قال هؤلاء الـمشركون لـما نُفخ فـي الصور نفخة البعث لـموقـف القـيامة فردّت أرواحهم إلـى أجسامهم، وذلك بعد نومة ناموها: يا وَيْـلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا وقد

قـيـل: إن ذلك نومة بـين النفختـين. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٣٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن خيثمة، عن الـحسن، عن أُبـيّ بن كعب، فـي قوله: يا وَيْـلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا قال: ناموا نومة قبل البعث.

٢٢٣٣٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن رجل يقال له خيثمة فـي قوله: يا وَيْـلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا قال: ينامون نومة قبل البعث.

٢٢٣٣٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قالُوا يا وَيْـلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا قول أهل الضلالة. والرّقدة: ما بـين النفختـين.

٢٢٣٣٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: يا وَيْـلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا قال: الكافرون يقولونه.

و يعني ب قوله: مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا من أيقظنا من منامنا، وهو من قولهم: بعث فلان ناقته فـانبعثت، إذا أثارها فثارت. وقد ذُكر أن ذلك فـي قراءة ابن مسعود: (مَنْ أهَبّنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا) . وفـي قوله: هَذَا وجهان: أحدهما: أن تكون إشارة إلـى (ما) ، ويكون ذلك كلاما مبتدأ بعد تناهي الـخبر الأوّل ب قوله: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا فتكون (ما) حينئذٍ مرفوعة بهذا، ويكون معنى الكلام: هذا وعد الرحمن وصدق الـمرسلون. والوجه الاَخر: أن تكون من صفة الـمرقد، وتكون خفضا وردّا علـى الـمرقد، وعند تـمام الـخبر عن الأوّل، فـيكون معنى الكلام: من بعثنا من مرقدنا هذا، ثم يبتدىء الكلام فـيقال: ما وعدَ الرحمن، بـمعنى: بعثكم وعد الرحمن، فتكون (ما) حينئذٍ رفعا علـى هذا الـمعنى.

وقد اختلف أهل التأويـل فـي الذي يقول حينئذٍ: هذا ما وعد الرحمن، فقال بعضهم: يقول ذلك أهل الإيـمان بـاللّه . ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٣٧ـ حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد : هَذَا ما وَعَدَ الرّحمَنُ مـما سرّ الـمؤمنون يقولون هذا حين البعث.

٢٢٣٣٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، فـي قوله: هَذَا ما وَعَدَ الرّحمَنُ وَصَدَقَ الـمُرْسَلُونَ قال: قال أهل الهدى: هذا ما وعد الرحمن وصدق الـمرسلون.

وقال آخرون: بل كلا القولـين، أعنـي يا وَيْـلَنا مَنْ بَعثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا ما وَعَدَ الرّحْمَنُ وَصَدَق الـمُرْسَلُونَ من قول الكفـار. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٣٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: يا وَيْـلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنا ثم قال بعضهم لبعض: هَذَا ما وَعَدَ الرّحْمَنُ وَصَدَقَ الـمُرْسَلُونَ كانوا أخبرونا أنا نبعث بعد الـموت، ونُـحاسب ونُـجازَى.

والقول الأوّل أشبه بظاهر التنزيـل، وهو أن يكون من كلام الـمؤمنـين، لأن الكفـار فـي قـيـلهم: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا دلـيـل علـى أنهم كانوا بـمن بعثهم من مَرْقَدهم جُهّالاً، ولذلك من جهلهم استثبتوا، ومـحال أن يكونوا استثبتوا ذلك إلاّ من غيرهم، مـمن خالفت صفته صفتهم فـي ذلك.

٥٣

و قوله: إنْ كانَتْ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فإذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُـحْضَرُونَ

يقول تعالـى ذكره: إن كانت إعادتهم أحياء بعد مـماتهم إلا صيحة واحدة، وهي النفخة الثالثة فـي الصور فإذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُـحْضَرُونَ يقول: فإذا هم مـجتـمعون لدينا قد أُحضروا، فأُشهدوا مَوْقـفَ العرض والـحساب، لـم يتـخـلف عنه منهم أحد. وقد بـينا اختلاف الـمختلفـين فـي قراءتهم إلاّ صَيْحَةً بـالنصب والرفع فـيـما مضى، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

٥٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: فـالْـيَوْمَ يعني يوم القـيامة لا تُظْلَـمُ نَفْسٌ شَيْئا كذلك ربنا لا يظلـم نفسا شيئا، فلا يوفـيها جزاء عملها الصالـح، ولا يحمل علـيها وِزْر غيرها، ولكنه يوفـي كل نفس أجر ما عملت من صالـح، ولا يعاقبها إلا بـما اجترمت واكتسبت من شيء وَلا تُـجْزَوْنَ إلاّ ما كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ يقول: ولا تكافؤون إلا مكافأة أعمالكم التـي كنتـم تعملونها فـي الدنـيا.

٥٥

و قوله: إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ الـيَوْمَ فِـي شُغُلٍ فـاكِهُونَ اختلف أهل التأويـل فـي معنى الشغل الذي وصف اللّه جل ثناؤه أصحاب الـجنة أنهم فـيه يوم القـيامة، فقال بعضهم: ذلك افتضاض العذارَى. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٤٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شَمِر بن عطية، عن شقـيق بن سلـمة، عن عبد اللّه بن مسعود، فـي قوله: إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ الـيَوْمَ فِـي شُغُلٍ فـاكِهُونَ قال: شغلهم افتضاض العذارى.

٢٢٣٤١ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، عن أبـيه، عن أبـي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ الـيَوْمَ فِـي شُغُلٍ فـاكِهُونَ قال: افتضاض الأبكار.

حدثنـي عبـيد بن أسبـاط بن مـحمد، قال: حدثنا أبـي، عن أبـيه، عن عكرمة، عن ابن عباس إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ الـيَوْمَ فِـي شُغُلٍ فـاكِهُون قال: افتضاض الأبكار.

حدثنـي الـحسن بن زُرَيْق الطّهَوِيّ، قال: حدثنا أسبـاط بن مـحمد، عن أبـيه، عن عكرمة، عن ابن عباس ، مثله.

٢٢٣٤٢ـ حدثنـي الـحسين بن علـيّ الصّدائي، قال: حدثنا أبو النضر، عن الأشجعيّ، عن وائل بن داود، عن سعيد بن الـمسيب، فـي قوله: إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ الـيَوْمَ فِـي شُغُلٍ فـاكِهُونَ قال: فـي افتضاض العذارَى. وقال آخرون: بل عُنِى بذلك: أنهم فـي نعمة. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٤٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ الْـيَوْمَ فِـي شُغُلٍ قال: فـي نعمة.

٢٢٣٤٤ـ حدثنا عمرو بن عبد الـحميد، قال: حدثنا مروان، عن جُوَيبر، عن أبـي سهل، عن الـحسن، فـي قول اللّه : إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ... الاَية، قال: شَغلَهم النعيـمُ عما فـيه أهل النار من العذاب.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم فـي شغل عما فـيه أهل النار. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٤٥ـ حدثنا نصر بن علـيّ الـجَهْضَمِيّ، قال: حدثنا أبـي، عن شعبة، عن أبـان بن تغلب، عن إسماعيـل بن أبـي خالد إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ... الاَية، قال: فـي شغل عما يـلقـى أهلُ النار.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال كما قال اللّه جل ثناؤه إنّ أصحَابَ الـجَنّةِ وهم أهلها فِـي شُغُلٍ فـاكِهُونَ بنعم تأتـيهم فـي شغل، وذلك الشغل الذي هم فـيه نعمة، وافتضاض أبكار، ولهو ولذّة، وشغل عما يَـلْقـى أهل النار.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: فـي شُغُلٍ، فقرأت ذلك عامة قرّاء الـمدينة وبعض البصريـين علـى اختلاف عنه: (فِـي شُغْلٍ) بضم الشين وتسكين الغين. وقد رُوي عن أبـي عمرو الضمّ فـي الشين والتسكين فـي الغين، والفتـح فـي الشين والغين جميعا فـي شغل. وقرأ ذلك بعض أهل الـمدينة والبصرة وعامة قرّاء أهل الكوفة فِـي شُغُلٍ بضم الشين والغين.

والصواب فـي ذلك عندي قراءته بضم الشين والغين، أو بضم الشين وسكون الغين، بأيّ ذلك قرأه القارىء فهو مصيب، لأن ذلك هو القراءة الـمعروفة فـي قرّاء الأمصار مع تقارب معنـيـيهما. وأما قراءته بفتـح الشين والغين، فغير جائزة عندي، لإجماع الـحجة من القرّاء علـى خلافها.

واختلفوا أيضا فـي قراءة قوله: فـاكِهُونَ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار فـاكِهُونَ بـالألف. وذُكر عن أبـي جعفر القارىء أنه كان يقرؤه: (فَكِهُونَ) بغير ألف.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندي قراءة من قرأه بـالألف، لأن ذلك هو القراءة الـمعروفة.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فَرِحون. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٤٦ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: فِـي شُغُلٍ فـاكِهُونَ يقول: فرحون.

وقال آخرون: معناه: عجبون. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٤٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: فـاكِهُونَ قال: عجبون.

حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فَكِهُونَ قال: عَجِبون.

واختلف أهل العلـم بكلام العرب فـي ذلك، فقال بعض البصريـين: منهم الفكه الذي يتفكّه. وقال: تقول العرب للرجل الذي يتفكّه بـالطعام أو بـالفـاكهة، أو بأعراض الناس: إن فلانا لفكِه بأعراض الناس، قال: ومن قرأها فـاكِهُونَ جعله كثـير الفواكه صاحب فـاكهة، واستشهد لقوله ذلك ببـيت الـحُطَيئة:

وَدَعَوْتَنِـي وَزَعَمْتَ أنّكَلابنٌ بـالصّيْفِ تامِرْ

أي عنده لبن كثـير، وتـمرٌ كثـير، وكذلك عاسل، ولاحم، وشاحم. وقال بعض الكوفـيـين: ذلك بـمنزلة حاذرون وحذرون، وهذا القول الثانـي أشبه بـالكلـمة.

٥٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرَآئِكِ مُتّكِئُونَ }.

 يعني تعالـى ب قوله: هُمُ أصحاب الـجنة وأزْوَاجُهُمْ من أهل الـجنة فـي الـجنة، كما:

٢٢٣٤٨ـ حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: هُمْ وأزْوَاجُهُمْ فـي ظِلالٍ قال: حلائلهم فـي ظُلَل.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: (فِـي ظُلَلٍ) بـمعنى: جمع ظلة، كما تُـجمع الْـحُلة حُللاً. وقرأه آخرون: فِـي ظِلالٍ وإذا قرىء ذلك كذلك كان له وجهان: أحدهما أن يكون مُرادا به جمع الظّلَل الذي هو بـمعنى الكِنّ، فـيكون معنى الكلـمة حينئذٍ: هم وأزواجهم فـي كنّ لا يضْحَوْن لشمس كما يَضْحَى لها أهلُ الدنـيا، لأنه لا شمس فـيها. والاَخر: أن يكون مرادا به جمع ظلة، فـيكون وجه جمعها كذلك نظير جمعهم الـحلة فـي الكثرة: الـخِلال، والقُلّة: قِلال.

و قوله: عَلـى الأرَائِكِ مُتّكِئُونَ والأرائك: هي الـحِجال فـيها السُرر والفُرُش: واحدتها أريكة، وكان بعضهم يزعم أن كلّ فِراش فأريكة، ويستشهد لقوله ذلك بقول ذي الرمة:

ت.كأنّـما تُبـاشِرْنَ بـالـمَعزاءِ مَسّ الأَرَائِكِ

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٤٩ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حُصَيْن، عن مـجاهد ، عن ابن عباس ، فـي قوله: عَلـى الأَرَائِكِ مُتّكِئِونَ قال: هي السّرُر فـي الـحِجال.

٢٢٣٥٠ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه : عَلـى الأرَائِكِ مُتّكِئُونَ قال: الأرائك: السّرر علـيها الـحِجال.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، قال: حدثنا حصين، عن مـجاهد ، فـي قوله: مُتّكِئِينَ عَلـى الأرَائِكِ قال: الأرائك: السّرُر فـي الـحِجال.

حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حُصَيْن، عن مـجاهد ، فـي قوله: عَلـى الأرَائك قال: سُرُر علـيها الـحِجال.

٢٢٣٥١ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، عن أبـيه، قال: زعم مـحمد أن عكرمة قال: الأرائك: السّرُر فـي الـحِجال.

٢٢٣٥٢ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَـية، عن أبـي رجاء، قال: سمعت الـحسن، وسأله رجل عن الأرائك قال: هي الـحجال. أهل الـيـمن يقولون: أريكة فلان. وسمعت عكرمة وسئل عنها فقال: هي الـحجال علـى السّرُر.

٢٢٣٥٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة علـى الأرائِكِ مُتّكِئُونَ قال: هي الـحِجال فـيها السرر.

٥٧

و قوله: لَهُمْ فِـيها فـاكِهَةٌ يقول لهؤلاء الذين ذكرهم تبـارك وتعالـى من أهل الـجنة فـي الـجنة فـاكهة وَلَهُمْ ما يَدّعُونَ يقول: ولهم فـيها ما يتَـمّنون. وذُكر عن العرب أنها تقول: دع علـيّ ما شئت: أي تـمنّ علـيّ ما شئت.

و قوله: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيـمٍ فـي رفع سلامٌ وجهان فـي قول بعض نـحويـيّ الكوفة أحدهما: أن يكون خبرا لـما يدّعون، فـيكون معنى الكلام: ولهم ما يدّعون مسلّـم لهم خالص. وإذا وُجّه معنى الكلام إلـى ذلك كان القول حينئذٍ منصوبـا توكيدا خارجا من السلام، كأنه

قـيـل: ولهم فـيها ما يدّعون مسلّـم خالص حقا، كأنه

قـيـل: قاله قولاً. والوجه الثانـي: أن يكون قوله: سَلامٌ مرفوعا علـى الـمدح، بـمعنى: هو سلام لهم قولاً من اللّه . وقد ذُكر أنها فـي قراءة عبد اللّه : (سَلاما قَوْلاً) علـى أن الـخبر متناه عند قوله: وَلَهُمْ ما يَدّعُونَ، ثم نصب سلاما علـى التوكيد، بـمعنى: مسلـما قولاً. وكان بعضُ نـحويـيّ البصرة يقول: انتصب قولاً علـى البدل من اللفظ بـالفعل، كأنه قال: أقول ذلك قولاً. قال: ومن نصبها نصبها علـى خبر الـمعرفة علـى قوله: وَلهُمْ فِـيها ما يَدّعُونَ.

والذي هو أولـى بـالصواب علـى ما جاء به الـخبر عن مـحمد بن كعب القُرَظيّ، أن يكون سَلامٌ خبرا ل قوله: وَلَهُمْ ما يَدّعُونَ فـيكون معنى ذلك: ولهم فـيها ما يدّعون، وذلك هو سلام من اللّه علـيهم، بـمعنى: تسلـيـم من اللّه ، ويكون سلام ترجمة ما يدّعون، ويكون القول خارجا من قوله: سلام. وإنـما قلت ذلك أولـى بـالصواب لـما:

٢٢٣٥٤ـ حَدّثنا به إبراهيـم بن سعيد الـجوهريّ، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الـمقري عن حرملة، عن سلـيـمان بن حميد، قال: سمعت مـحمد بن كعب، يحدّث عمر بن عبد العزيز، قال: إذا فرغ اللّه من أهل الـجنة وأهل النار، أقبل يـمشي فـي ظُلَل من الغمام والـملائكة، فـيقـف علـى أوّل أهل درجة، فـيسلـم علـيهم، فـيردّون علـيه السلام، وهو فـي القرآن:

٥٨

سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيـمٍ فـيقول: سَلُوا، فـيقولون: ما نسألك وعزّتك وجلالك، لو أنك قسمت بـيننا أرزاق الثّقَلـين لأطعمناهم وسقـيناهم وكسوناهم، فـيقول: سَلُوا، فـيقولون: نسألك رضاك، فـيقول: رضائي أحلّكم دار كرامتـي، فـيفعل ذلك بأهل كلّ درجة حتـى ينتهي، قال: ولو أن امرأة من الـحُور العِين طلعت لأطفأ ضوء سِوارَيْها الشمس والقمر، فكيف بـالـمُسَوّرة.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا حرملة، عن سلـيـمان بن حميد، قال: سمعت مـحمد بن كعب القرظيّ يحدّث عمر بن عبد العزيز، قال: إذا فرغ اللّه من أهل الـجنة والنار، أقبل فـي ظُلَل من الغمام والـملائكة، قال: فـيسلـم علـى أهل الـجنة، فـيردُون علـيه السلام، قال القُرظيّ: وهذا فـي كتاب اللّه : سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيـمٍ؟ فـيقول: سَلُونـي، فـيقولون: ماذا نسألك، أي رَبّ؟ قال: بل سلونـي قالوا: نسألك أي ربّ رضاك، قال: رضائي أحلكم دار كرامتـي، قالوا: يا ربّ وما الذي نسألك فوعزّتك وجلالك، وارتفـاع مكانك، لو قسمت علـينا رزق الثقلـين لأطعمناهم، ولأسقـيناهم، ولألبسناهم ولأخدمناهم، لا يُنقصنا ذلك شيئا، قال: إن لديّ مزيدا، قال: فـيفعل اللّه ذلك بهم فـي درجهم حتـى يستوي فـي مـجلسه، قال: ثم تأتـيهم التـحف من اللّه تـحملها إلـيهم الـملائكة. ثم ذكر نـحوه.

حدثنا ابن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن، قال: حدثنا حرملة، قال: حدثنا سلـيـمان بن حميد، أنه سمع مـحمد بن كعب القرظي يحدّث عمر بن عبد العزيز، قال: إذا فرغ اللّه من أهل الـجنة وأهل النار، أقبل يـمشي فـي ظُلل من الغمام ويقـف، قال: ثم ذكر نـحوه، إلا أنه قال: فـيقولون: فماذا نسألك يا ربّ، فوعزّتك وجلالك وارتفـاع مكانك، لو أنك قسمت علـينا أرزاق الثقلـين، الـجنّ والإنس، لأطعمناهم، ولسقـيناهم، ولأخدمناهم، من غير أن ينتقص ذلك شيئا مـما عندنا، قال: بلـى فسلونـي، قالوا: نسألك رضاك، قال: رضائي أحلّكم دار كرامتـي، فـيفعل هذا بأهل كلّ درجة، حتـى ينتهي إلـى مـجلسه. وسائر الـحديث مثله.

فهذا القول الذي قاله مـحمد بن كعب، ينبىء عن أن (سلام) بـيان عن قوله: ما يَدّعُونَ، وأن القول خارج من السلام.

و قوله: مِنْ رَبّ رَحِيـمٍ يعني : رحيـم بهم إذ لـم يعاقبهم بـما سلف لهم من جُرْم فـي الدنـيا.

٥٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيّهَا الْمُجْرِمُونَ }.

 يعني ب قوله: وَامْتازُوا: تَـميزوا وهي افتعلوا، من ماز يـميز، فعل يفعل منه: امتاز يـمتاز امتـيازا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٥٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَامْتَازوا الـيَوْمَ أيّها الـمُـجْرِمُونَ قال: عُزِلوا عن كلّ خير.

٢٢٣٥٦ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي، عن إسماعيـل بن رافع، عمن حدثه، عن مـحمد بن كعب القرظيّ، عن أبـي هريرة، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إذَا كانَ يَوْمُ القِـيامَةِ أمَرَ اللّه جَهَنّـمَ فَـيَخْرُجُ مِنْها عُنُقٌ ساطِعٌ مُظْلِـمٌ، ثُمّ يَقُولُ: ألَـمْ أعْهَدْ إلَـيْكُمْ يا بَنِـي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشّيْطانَ... الاَية، إلـى قوله: هَذِهِ جَهَنّـمُ التـي كُنْتُـمْ تُوعَدُونَ وَامْتازُوا الْـيَوْمَ أيّها الـمُـجْرِمُونَ، فـيَتَـمَيّزُ النّاسُ وَيجْثُونَ، وَهِيَ قَوْلُ اللّه : وَتَرَى كُلّ أُمّةٍ... الاَية) .

فتأويـل الكلام إذن: وتـميزوا من الـمؤمنـين الـيوم أيها الكافرون بـاللّه ، فإنكم واردون غير موردهم، داخـلون غير مدخـلهم.

٦٠

و قوله: ألَـمْ أعْهَدْ إلَـيْكُمْ يا بَنِـي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشّيْطانَ إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِـينٌ، وفـي الكلام متروك استغنـي بدلالة الكلام علـيه منه، وهو: ثم يقال: ألـم أعهد إلـيكم يا بنـي آدم، يقول: ألـم أوصكم وآمركم فـي الدنـيا أن لا تعبدوا الشيطان فتطيعوه فـي معصية اللّه إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِـينٌ يقول: وأقول لكم: إن الشيطان لكم عدوّ مبـين، قد أبـان لكم عَداوته بـامتناعه من السجود، لأبـيكم آدم، حسدا منه له، علـى ما كان اللّه أعطاه من الكرامة، وغُروره إياه، حتـى أخرجه وزوجته من الـجنة.

٦١

و قوله: وَأنِ اعْبُدُونِـي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِـيـمٌ يقول: وألـم أعهد إلـيكم أن اعبدونـي دون كلّ ما سواي من الاَلهة والأنداد، وإياي فأطيعوا، فإن إخلاص عبـادتـي، وإفراد طاعتـي، ومعصية الشيطان، هو الدين الصحيح، والطريق الـمستقـيـم.

٦٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ أَضَلّ مِنْكُمْ جِبِلاّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ }.

 يعني تعالـى ذكره ب قوله: وَلَقَدْ أضَلّ مِنْكُمْ جِبِلاّ كَثِـيرا: ولقد صدّ الشيطان منكم خـلقا كثـيرا عن طاعتـي، وإفرادي بـالألوهة حتـى عبدوه، واتـخذوا من دونـي آلهة يعبدونها، كما:

٢٢٣٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَلَقَدْ أضَلّ مِنْكُمْ جِبِلاّ قال: خـلقا.

واختلف القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة وبعض الكوفـيـين جِبِلاّ بكسر الـجيـم وتشديد اللام، وكان بعض الـمكّيـين وعامة قرّاء الكوفة يقرؤونه: (جُبُلاً) بضم الـجيـم والبـاء وتـخفـيف اللام. وكان بعض قرّاء البصرة يقرؤه: (جُبْلاً) بضم الـجيـم وتسكين البـاء، وكل هذه لغات معروفـات، غير أنـي لا أحبّ القراءة فـي ذلك إلا بإحدى القراءتـين اللتـين إحداهما بكسر الـجيـم وتشديد اللام، والأخرى: ضم الـجيـم والبـاء وتـخفـيف اللام، لأن ذلك هو القراءة التـي علـيها عامة قرّاء الأمصار.

و قوله: أفَلَـمْ تَكُونُوا تَعْقلُونَ يقول: أفلـم تكونوا تعقلون أيها الـمشركون، إذ أطعتـم الشيطان فـي عبـادة غير اللّه ، أنه لا ينبغي لكم أن تطيعوا عدوّكم وعدوّ اللّه ، وتعبدوا غير اللّه . و

٦٣

 قوله: هَذِهِ جَهَنّـم التـي كُنْتُـمْ تُوعَدُونَ يقول: هذه جهنـم التـي كنتـم توعدون بها فـي الدنـيا علـى كفركم بـاللّه ، وتكذيبكم رسله، فكنتـم بها تكذّبون. و

قـيـل: إن جهنـم أوّل بـاب من أبواب النار. و

٦٤

 قوله: اصْلَوْها الـيَوْمَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ يقول: احترقُوا بها الـيوم ورِدُوها يعني بـالـيوم: يوم القـيامة بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ: يقول: بـما كنتـم تَـجْحدونها فـي الدنـيا، وتكذّبون بها.

٦٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىَ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }.

 يعني تعالـى ذكره ب قوله: الْـيَوْمَ نَـخْتِـمُ عَلـى أفْوَاهِهِمْ: الـيوم نطبع علـى أفواه الـمشركين، وذلك يوم القـيامة وَتُكَلّـمُنا أيْدِيهِمْ بـما عملوا فـي الدنـيا من معاصي اللّه وَتَشْهَدُ أرْجُلُهُمْ

قـيـل: إن الذي ينطق من أرجلهم: أفخاذهم من الرجل الـيُسرى بَـمَا كانُوا يَكْسِبُونَ فـي الدنـيا من الاَثام. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٥٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا يونس بن عبـيد، عن حميد بن هلال، قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى: يدعى الـمؤمن للـحساب يوم القـيامة، فـيعرض علـيه ربّه عمله فـيـما بـينه وبـينه، فـيعترف فـيقول: نعم أي ربّ عملت عملت عملت، قال: فـيغفر اللّه لهم ذنوبه، ويستره منها، فما علـى الأرض خـلـيقة ترى من تلك الذنوب شيئا، وتبدو حسناته، فودّ أن الناس كلهم يرونها ويدَعى الكافر والـمنافق للـحساب، فـيعرض علـيه ربه عمله فـيجحده، ويقول: أي ربّ، وعزّتك لقد كتب علـيّ هذا الـملك ما لـم أعمل، فـيقول له الـملك: أما عملت كذا فـي يوم كذا فـي مكان كذا؟ فـيقول: لا وعزّتك أي ربّ، ما عملته، فإذا فعل ذلك ختـم علـى فـيه. قال الأشعري: فإنـي أحسب أوّل ما ينطق منه لفخذه الـيـمنى، ثم تلا: الـيَوْمَ نَـخْتِـمُ عَلـى أفْوَاهِهِمْ وتُكَلّـمُنا أيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أرْجُلُهُمْ بِـمَا كانُوا يَكْسِبُونَ.

٢٢٣٥٩ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنـي يحيى، عن أبـي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن الشعبـيّ، قال: يقال للرجل يوم القـيامة: عملت كذا وكذا، فـيقول: ما عملت، فـيختـم علـى فـيه، وتنطق جوارحه، فـيقول لـجوارحه: أبعدكنّ اللّه ، ما خاصمت إلا فـيكنّ.

٢٢٣٦٠ـ حدثنا بشر، قلا: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: الْـيَوْمَ نَـخْتِـمُ عَلـى أفْوَاهِهِمْ... الاَية، قال: قد كانت خصومات وكلام، فكان هذا آخره، وَخَتَـمَ علـى أفْوَاهِهِمْ.

٢٢٣٦١ـ حدثنـي مـحمد بن عوف الطائي، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن ابن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبـيد، عن عقبة بن عامر، أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: (أوّلُ شَيْءٍ يَتَكَلّـمُ مِنَ الإنْسانِ، يَوْمَ يَخْتِـمُ اللّه علـى الأَفْوَاهِ، فَخِذُهُ مِنْ رِجْلِهِ الـيُسْرَى) .

٦٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىَ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصّرَاطَ فَأَنّىَ يُبْصِرُونَ }.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا علـى أعْيُنِهِمْ فـاسْتَبَقُوا الصّراطَ فقال بعضهم: معنى ذلك: ولو نشاء لأعميناهم عن الهدى، وأضللناهم عن قصد الـمَـحَجّة. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٦٢ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلـى أعْيُنِهِمْ يقول: أضللتهم وأعميتهم عن الهدى.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولو نشاء لتركناهم عميا. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٦٣ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، عن الـحسن، فـي

٦٧

 قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلـى أعْيُنِهِمْ فـاسْتَبَقُوا الصّراطَ فَأنّى يُبْصِرُونَ قال: لو يشاء لطمس علـى أعينهم فتركهم عميا يتردّدون.

٢٢٣٦٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا علـى أعْيُنِهِمْ فـاسْتَبَقُوا الصّرَاطَ فأنّى يُبْصِرُونَ يقول: لو شئنا لتركناهم عميا يتردّونه.

وهذا القول الذي ذكرناه عن الـحسن وقتادة أشبه بتأويـل الكلام، لأن اللّه إنـما تهدّد به قوما كفـارا، فلا وجه لأن يقال: وهم كفـار، لو نشاء لأضللناهم وقد أضلهم، ولكنه قال: لو نشاء لعاقبناهم علـى كفرهم، فطمسنا علـى أعينهم فصيرّناهم عميا لا يبصرون طريقا، ولا يهتدون له والطّمْس علـى العين: هو أن لا يكون بـين جفنـي العين غرّ، وذلك هو الشقّ الذي بـين الـجفنـين، كما تطمس الريح الأثر، يقال: أعمى مطموس وطميس.

و قوله: فـاسْتَبَقُوا الصّراطَ يقول: فـابتدروا الطريق، كما:

٢٢٣٦٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: فـاسْتَبَقَوا الصّرَاطَ قال الطريق.

٢٢٣٦٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـاسْتَبَقُوا الصّراطَ: أي الطريق.

٢٢٣٦٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فـاسْتَبَقُوا الصّراطَ قال: الصراط، الطريق.

و قوله: فَأنّى يُبْصِرُونَ يقول: فأيّ وجه يبصرون أن يسلكوه من الطرق، وقد طمسنا علـى أعينهم، كما:

٢٢٣٦٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: فَأنّى يُبْصِرُون وقد طمسنا علـى أعينهم.

وقال الذين وجهوا تأويـل قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا علـى أعْيُنِهِمْ إلـى أنه معنـيّ به العَمَى عن الهدى، تأويـل قوله: فَأنّى يُبْصِرُونَ: فأنى يهتدون للـحقّ. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٦٩ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس فَأتّـى يُبْصِرُونَ يقول: فكيف يهتدون.

٢٢٣٧٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس فَأنّى يُبْصِرُونَ يقول: لا يبصرون الـحقّ.

و قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَـمَسَخْناهُمْ علـى مَكانَتِهمْ

يقول تعالـى ذكره: ولو نشاء لأقعدنا هؤلاء الـمشركين من أرجلهم فـي منازلهم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيّا وَلا يَرْجِعُونَ يقول: فلا يستطيعون أن يـمضوا أمامهم، ولا أن يرجعوا وراءهم.

وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم نـحو الذي قلنا فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٧١ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَـية، عن أبـي رجاء، عن الـحسن وَلَوْ نَشاءُ لَـمَسَخْناهُمْ عَلـى مَكانَتِهِمْ قال: لو نشاء لأقعدناهُمْ.

٢٢٣٧٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة وَلَوْ نَشاءُ لَـمَسَخْناهُمْ عَلـى مَكانَتِهِمْ: أي لأقعدناهم علـى أرجلهم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيّا وَلا يَرْجِعُونَ فلـم يستطيعوا أن يتقدّموا ولا يتأخروا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولو نشاء لأهلكناهم فـي منازلهم. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَـمَسَخْناهُمْ عَلـى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيّا وَلا يَرْجِعُونَ يقول: ولو نشاء أهلكناهم فـي مساكنهم.

والـمكانة والـمكان بـمعنى واحد. وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى قبل.

٦٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّـسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: وَمَنْ نُعَمّرْهُ فنـمُدّ له فـي العمر نُنَكّسْهُ فِـي الـخَـلْقِ نردّه إلـى مثل حاله فـي الصبـا من الهرم والكبر، وذلك هو النكس فـي الـخـلق، فـيصير لا يعلـم شيئا بعد العلـم الذي كان يعلـمه. وبـالذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٧٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَمَنْ نُعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِـي الـخَـلْقِ يقول: من نَـمُدّ له فـي العمر ننكسه فـي الـخـلق، لكيلا يعلـم بعد علـم شيئا، يعني الهَرَم.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: نُنَكّسْهُ فقرأه عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: (نَنْكِسْهُ) بفتـح النون الأولـى وتسكين الثانـية، وقرأته عامة قرّاء الكوفة: نُنَكّسْهُ بضم النون الأولـى وفتـح الثانـية وتشديد الكاف.

والصواب من القول فـي ذلك أنهما قراءتان مشهورتان فـي قرّاء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، غير أن التـي علـيها عامة قرّاء الكوفـيـين أعجبُ إلـيّ، لأن التنكيس من اللّه فـي الـخـلق إنـما هو حال بعد حال، وشيء بعد شيء، فذلك تأيـيد للتشديد.

وكذلك اختلفوا فـي قراءة قوله: أفَلا يَعْقِلُونَ فقرأته قراء الـمدينة: (أفَلا تَعْقِلُونَ) بـالتاء علـى وجه الـخطاب. وقرأته قرّاء الكوفة بـالـياء علـى الـخبر، وقراءة ذلك بـالـياء أشبه بظاهر التنزيـل، لأن احتـجاج من اللّه علـى الـمشركين الذين قال فـيهم وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلـى أعْيُنِهِمْ فإخراج ذلك خبرا علـى نـحو ما خرج قوله: لَطَمَسْنا علـى أعْيُنِهِمْ أعجب إلـيّ، وإن كان الاَخر غير مدفوع.

و يعني تعالـى ذكره ب قوله: أفَلا يَعْقِلُونَ: أفلا يعقل هؤلاء الـمشركون قُدْرة اللّه علـى ما يشاء بـمعاينتهم ما يعاينون من تصريفه خـلقه فـيـما شاء وأحبّ من صغر إلـى كبر، ومن تنكيس بعد كبر فـي هرم.

٦٩

و قوله: وَما عَلّـمْناهُ الشّعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ

يقول تعالـى ذكره: وما علّـمنا مـحمدا الشعر، وما ينبغي له أن يكون شاعرا. كما:

٢٢٣٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَما عَلّـمْناهُ الشّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ قال: قـيـل لعائشة: هل كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتـمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كانت أَبغض الـحديث إلـيه، غير أنه كان يتـمثّل ببـيت أخي بنـي قـيس، فـيجعل آخره أوّله، وأوّله آخره، فقال له أبو بكر: إنه لـيس هكذا، فقال نبـيّ اللّه : (إنّـي وَاللّه ما أنا بِشاعِرٍ، وَلا يَنْبَغِي لـي) .

و قوله: إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ

يقول تعالـى ذكره: ما هو إلا ذكر، يعني ب قوله: إنْ هُوَ: أي مـحمد إلا ذكر لكم أيها الناس، ذكركم اللّه بإرساله إياه إلـيكم، وَنّبهكم به علـى حظكم وَقُرآنٌ مُبِـينٌ يقول: وهذا الذي جاءكم به مـحمد قرآن مبـين، يقول: يَبِـين لـمن تدبّره بعقل ولبّ، أنه تنزيـل من اللّه أنزله إلـى مـحمد، وأنه لـيس بشعر ولا مع كاهن، كما:

٢٢٣٧٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وقُرآنٌ مُبِـينٌ قال: هذا القرآن.

٧٠

و قوله: لِـيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيّا يقول: إن مـحمد إلا ذكر لكم لـينذر منكم أيها الناس من كان حيّ القلب، يعقل ما يقال له، ويفهم ما يُبـيّن له، غير ميت الفؤاد بلـيد. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٧٧ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن رجل، عن أبـي رَوْق، عن الضحاك ، فـي قوله: لِـيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيّا قال: من كان عاقلاً.

٢٢٣٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لِـيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيّا: حيّ القلب، حيّ البصر.

 قوله: وَيَحِقّ القَوْلُ علـى الكافِرِينَ يقول: ويحقّ العذاب علـى أهل الكفر بـاللّه ، الـمولّـين عن اتبـاعه، الـمعرضين عما أتاهم به من عند اللّه . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٧٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَيحِقّ القَوْلُ علـى الكافِرِينَ بأعمالهم.

٧١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا خَلَقْنَا لَهُم مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: أوَ لَـمْ يَرَ هؤلاء الـمشركون بـاللّه الاَلهة والأوثانَ أنّا خَـلَقْنا لَهُمْ مِـمّا عَمِلَتْ أيْدِينا يقول: مـما خـلقنا من الـخـلق أنْعاما وهي الـمواشي التـي خـلقها اللّه لبنـي آدم، فسخّرها لهم من الإبل والبقر والغنـم فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ يقول: فهم لها مصرّفون كيف شاءوا بـالقهر منهم لها والضبط، كما:

٢٢٣٨٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فَهَمُ لَهَا مالِكُونَ: أي ضابطون.

٢٢٣٨١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: أوَ لَـمْ يَرَوْا أنّا خَـلَقْنا لَهُمْ مِـمّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعاما فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ ف

قـيـل له: أهي الإبل؟ فقال: نعم، قال: والبقر من الأنعام، ولـيست بداخـلة فـي هذه الاَية، قال: والإبل والبقر والغنـم من الأنعام، وقرأ: ثَمانِـيَةَ أزْوَاجٍ قال: والبقر والإبل هي النعم، ولـيست تدخـل الشاء فـي النعم.

٧٢

و قوله: وَذَلّلْناها لَهُمْ يقول: وذللنا لهم هذه الأنعام فَمِنْها رَكُوبُهُمْ يقول: فمنها ما يركبون كالإبل يسافرون علـيها يقال: هذه دابة ركوب، والرّكوب بـالضمّ: هو الفعل وَمِنْها يأْكُلونَ لـحومها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٨٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَذَلّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوُبُهُمْ: يركبونها يسافرون علـيها وَمِنْها يأْكُلُونَ لـحومها.

٧٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: ولهم فـي هذه الأنعام منافع، وذلك منافع فـي أصوافها وأوبـارها وأشعارها بـاتـخاذهم من ذلك أثاثا ومتاعا، ومن جلودها أكنانا، ومشارب يشربون ألبـانها، كما:

٢٢٣٨٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ولَهُمْ فِـيها مَنافِعُ يَـلْبسون أصوافها وَمَشارِبُ يشربون ألبـانها.

و قوله: أفَلا يَشْكُرُونَ يقول: أفلا يشكرون نعمتـي هذه، وإحسانـي إلـيهم بطاعتـي، وإفراد الألوهية والعبـادة، وترك طاعة الشيطان وعبـادة الأصنام.

٧٤

 قوله: واتّـخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً يقول: واتـخذ هؤلاء الـمشركون من دون اللّه آلهة يعبدونها لَعَلّهُمْ يُنْصَرُونَ يقول: طمعا أن تنصرهم تلك الاَلهة من عقاب اللّه وعذابه.

٧٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مّحْضَرُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: لا تستطيع هذه الاَلهة نصرهم من اللّه إن أراد بهم سوءا، ولا تدفع عنهم ضرّا.

و قوله: وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُـحْضَرُونَ يقول: وهؤلاء الـمشركون لاَلهتهم جند مـحضَرون.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: مُـحْضَرُونَ وأين حضورهم إياهم، فقال بعضهم: عُنـي بذلك: وهم لهم جند مـحضرون عند الـحساب. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُـحْضَرُونَ قال: عند الـحساب.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهم لهم جند مـحضَرون فـي الدنـيا يغضبون لهم. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٨٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ الاَلهة وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُـحْضَرُونَ والـمشركون يغضَبون للاَلهة فـي الدنـيا، وهي لا تسوق إلـيهم خيرا، ولا تدفع عنهم سوءا، إنـما هي أصنام.

وهذا الذي قاله قتادة أولـى القولـين عندنا بـالصواب فـي تأويـل ذلك، لأن الـمشركين عند الـحساب تتبرأ منهم الأصنام، وما كانوا يعبدونه، فكيف يكونون لها جندا حينئذٍ، ولكنهم فـي الدنـيا لهم جند يغضبون لهم، ويقاتلون دونهم.

٧٦

وقوله تعالـى: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : فلاَ يحْزُنْك يا مـحمد قول هؤلاء الـمشركين بـاللّه من قومك لك: إنك شاعر، وما جئتنا به شعر، ولا تكذيبهم بآيات اللّه وجحودهم نبوّتك.

و قوله: إنّا نَعْلَـمُ ما يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ

يقول تعالـى ذكره: إنا نعلـم أن الذي يدعوهم إلـى قـيـل ذلك الـحسد، وهم يعلـمون أن الذي جئتهم به لـيس بشعر، ولا يشبه الشعر، وأنك لست بكذّاب، فنعلـم ما يسرّون من معرفتهم بحقـيقة ما تدعوهم إلـيه، وما يعلنون من جحودهم ذلك بألسنتهم علانـية.

٧٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ }.

يقول تعالـى ذكره: أوَ لَـمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَـلَقْناهُ. واختُلف فـي الإنسان الذي عُنـي ب قوله: أوَ لَـمْ يَرَ الإنْسانُ فقال بعضهم: عُنـي به أُبّـي بن خـلف. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٨٦ـ حدثنـي مـحمد بن عُمارة، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى عن مـجاهد ، فـي قوله: مَنْ يُحْيِـي العِظامَ وَهِيَ رَمِيـمٌ قال: أُبـيّ بن خَـلَف أتـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعَظْم.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وَضَرَبَ لنَا مَثَلاً أُبـيّ بن خـلف.

٢٢٣٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: قالَ مَنْ يُحْيِـي العِظامَ وَهِيَ رَمِيـمٌ: ذُكر لنا أن أُبـيّ بن خـلف، أتـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعظْم حائل، ففتّه، ثم ذرّاه فـي الريح، ثم قال: يا مـحمد من يحيـي هذا وهو رميـم؟ قال: (اللّه يحيـيه، ثم يـميته، ثم يُدخـلك النار) قال: فقتله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد.

وقال آخرون: بل عُنـي به: العاص بن وائل السّهميّ. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٨٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبـير، قال: جاء العاص بن وائل السهميّ إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعظّم حائل، ففتّه بـين يديه، فقال: يا مـحمد أيبعث اللّه هذا حيا بعد ما أرمّ؟ قال: (نَعَمْ يَبْعَثُ اللّه هَذَا، ثُمّ يُـمِتُكَ ثُمّ يُحْيِـيكَ، ثُم يُدْخِـلُكَ نارَ جَهَنّـم) قال: ونزلت الاَيات: (أوَ لَـمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَـلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فإذَا هُوَ خَصِيـمٌ مُبِـينٌ...) إلـى آخر الاَية.

وقال آخرون: بل عُنِـي به: عبد اللّه بن أُبـيّ. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٨٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس أوَ لَـمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَـلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ... إلـى قوله: وَهِيَ رَمِيـمٌ قال: جاء عبد اللّه بن أُبـيّ إلـى النبي صلى اللّه عليه وسلم بعظْم حائل فكسره بـيده، ثم قال: يا مـحمد كيف يبعث اللّه هذا وهو رميـم؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يَبْعَثُ اللّه هَذَا، ويُـمِيتُكَ ثُمّ يُدْخِـلُكَ جَهَنّـمَ) ، فقال اللّه : قُلْ يُحْيِـيها الّذِي أنشأها أوّلَ مَرّةٍ وَهُو بِكُلّ خَـلْقٍ عَلِـيـمٌ.

فتأويـل الكلام إذن: أو لـم ير هذا الإنسان الذي يقول: مَنْ يُحْيِـي العِظامَ وَهِيَ رَمِيـمٌ أنا خـلقناه من نطفة فسوّيناه خـلقا سَوِيّا فإذَا هوَ خَصِيـمٌ يقول: فإذا هو ذو خصومة لربه، يخاصمه فـيـما قال له ربه إنـي فـاعل، وذلك إخبـار للّه إياه أنه مُـحْيـي خـلقه بعد مـماتهم، فـيقول: مَنْ يحيـي هذه العظام وهي رميـم؟ إنكارا منه لقُدرة اللّه علـى إحيائها.

و قوله: مُبِـينٌ يقول: يبـين لـمن سمع خُصومته وقـيـله ذلك أنه مخاصم ربه الذي

٧٨

خـلقه.

و قوله: وَضَرَبَ لنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَـلْقَهُ يقول: ومثّل لنا شبها ب قوله: مَنْ يُحْيِـي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيـمٌ إذ كان لا يقدر علـى إحياء ذلك أحد، يقول: فجعلنا كمن لا يقدر علـى إحياء ذلك من الـخـلق وَنَسِيَ خَـلْقَهُ يقول: ونسي خـلْقنَا إياه كيف خـلقناه، وأنه لـم يكن إلا نطفة، فجعلناها خـلقا سَوِيّا ناطقا، يقول: فلـم يفكر فـي خـلقناه، فـيعلـم أن من خـلقه من نطفه حتـى صار بشرا سويا ناطقا متصرّفـا، لا يعْجِز أن يعيد الأموات أحياء، والعظام الرّميـم بشَرا كهيئتهم التـي كانوا بها قبل الفناء يقول اللّه لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم :

٧٩

قُلْ لهذا الـمشرك القائل لك: من يُحيـي العظام وهي رميـم يُحْيِـيها الّذِي أنشأَها أوّلَ مَرّةٍ يقول: يحيـيها الذي ابتدع خـلْقها أوّل مرّة ولـم تكن شيئا وَهُوَ بِكُلّ خَـلْقٍ عَلِـيـمٌ يقول: وهو بجميع خـلقه ذو علـم كيف يـميت، وكيف يحيـي، وكيف يبدىء، وكيف يعيد، لا يخفـى علـيه شيء من أمر خـلقه.

٨٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِي جَعَلَ لَكُم مّنَ الشّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ }.

يقول تعالـى ذكره: قل يحيـيها الذي أنشأها أوّل مرّة الّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشّجَرِ الأخْضَر نارا يقول: الذي أخرج لكم من الشجر الأخضر نارا تُـحْرق الشجر، لا يـمتنع علـيه فعل ما أراد، ولا يعجز عن إحياء العظام التـي قد رَمّت، وإعادتها بشَرا سويا، وخـلقا جديدا، كما بدأها أوّل مرّة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٣٩٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة الّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشّجَرِ الأخْضَرِ نارا يقول: الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر أن يبعثه.

 قوله: فإذَا أنْتُـمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ يقول: فإذا أنتـم من الشجر توقدون النار وقال: مِنْهُ والهاء من ذكر الشجر، ولـم يقل: منها، والشجر جمع شجرة، لأنه خرج مخرج الثمر والـحصَى، ولو قـيـل: منها كان صوابـا أيضا، لأن العرب تذكّر مثل هذا وتؤنّثه.

٨١

و قوله: أوَ لَـيْسَ الّذِي خَـلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلـى أنْ يَخْـلُقَ مِثْلَهُمْ

يقول تعالـى ذكره منبها هذا الكافر الذي قال: مَنْ يُحْيـي العِظامَ وَهيَ رَميـمٌ علـى خطأ قوله، وعظيـم جهله أوَ لَـيْسَ الّذِي خَـلَقَ السّمَوَات السبع والأرْضَ بقادِرٍ عَلـى أنْ يَخْـلُقَ مثلكم، فإن خـلق مثلكم من العظام الرميـم لـيس بأعظم من خـلق السموات والأرض. يقول: فمن لـم يتعذّر علـيه خـلق ما هو أعظم من خـلقكم، فكيف يتعذّر علـيه إحياء العظام بعد ما قد رمّت وبَلِـيَت؟

و قوله: بلَـى وَهُوَ الـخَلاّقُ العَلـيـمُ يقول: بلـى هو قادر علـى أن يخـلق مثلهم وهو الـخلاق لـما يشاء، الفعّال لـما يريد، العلـيـم بكلّ ما خـلق ويخـلق لا يخفـى علـيه خافـية.

٨٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إِنّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ

يقول تعالـى ذكره: إنّـمَا أمْرهُ إذَا أرَادّ شَيْئا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ. وكان قتادة يقول فـي ذلك ما:

٢٢٣٩١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أوَ لَـيْسَ الّذِي خَـلَقَ السَمَوَاتِ والأرْضَ بقادِرٍ عَلـى أنْ يَخْـلُقَ مِثْلَهُمْ بَلـى وَهُوَ الـخَلاّقُ العَلِـيـمُ قال: هذا مثل إنـما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فـيكون، قال: لـيس من كلام العرب شيء هو أخفّ من ذلك، ولا أهون، فأمر اللّه كذلك.

٨٣

و قوله: فَسُبْحانَ الّذِي بِـيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ

يقول تعالـى ذكره: فتنزيه الذي بـيده ملك كلّ شيء وخزائنه.

و قوله: وَإلَـيْهِ تُرْجَعُونَ يقول: وإلـيه تردّون وتصيرون بعد مـماتكم.

آخر تفسير سورة يس

﴿ ٠