تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآنللإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبريإمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)_________________________________سورة الزخرفمكية وآياتها تسع وثمانون بسم اللّه الرحمَن الرحيـم ١القول في تأويل قوله تعالى: {حـمَ }. قد بيّنا فيما مضى قوله: حم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. و قوله: وَالكِتابِ المُبِينِ قسَم من اللّه تعالى أقسم بهذا الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم ٢فقال: وَالكِتابِ المُبِينِ لمن تدبّره وفكّر في عبره، وعظاته، هداه، ورشده، وأدلته على حقيته، وأنه تنزيل من حكيم حميد، لا اختلاق من محمد صلى اللّه عليه وسلم ولا افتراء من أحد إنّا جَعَلْناهُ قُرْآنا عَرَبِيّا يقول: إنا أنزلناه قرآنا عربيا بلسان العرب، إذ كنتم أيها المنذرُون به من رهط محمد صلى اللّه عليه وسلم عربا لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ يقول: لتعقلوا معانيه وما فيه من مواعظ، ولم ينزله بلسان العجم، فيجعله أعجميا، فتقولوا: نحن عرب، وهذا كلام أعجميّ لا نفقه معانيه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٦٣ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ حم. والكِتاب المُبِينِ هو هذا الكتاب المبين. ٢٣٧٦٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة حم. والكتاب المبين مبين واللّه بركته، وهداه ورشده. ٣القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ }. يقول تعالى ذكره: وإن هذا الكتاب أصل الكتاب الذي منه نسخ هذا الكتاب عندنا لعليّ: يقول: لذو علوّ ورفعة، حكيم: قد أحكمت آياته، ثم فصلت فهو ذو حكمة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٦٥ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي، عن القاسم بن أبي بزة، قال: حدثنا عروة بن عامر، أنه سمع ابن عباس يقول: أوّل ما خلق اللّه القلم، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق، قال: والكتاب عنده، قال: وإنه في أمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم. ٢٣٧٦٦ـ حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية بن سعد في قول اللّه تبارك ٤وتعالى: وإنّهُ في أمّ الكِتابِ لَدَيْنا لِعَلِيّ حَكِيمٌ يعني القرآن في أمّ الكتاب الذي عند اللّه منه نسخ. ٢٣٧٦٧ـ حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت مالكا يروي عن عمران، عن عكرمة وإنّهُ فِي أُمّ الكِتاب لَدَيْنا قال: أمّ الكتاب القرآن. ٢٣٧٦٨ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: وَإنّهُ في أمّ الكِتاب لَدَيْنا قال: أمّ الكتاب: أصل الكتاب وجملته. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَإنّهُ فِي أُمّ الكِتابِ: أي جملة الكتاب أي أصل الكتاب. ٢٣٧٦٩ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَإنّهُ فِي أُمّ الكِتابِ يقول: في الكتاب الذي عند اللّه في الأصل. و قوله: لَدَيْنا لَعَلِيّ حَكِيمٌ وقد ذكرنا معناه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٧٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لَدَيْنا لَعَلِيّ حَكِيمٌ يخبر عن منزلته وفضله وشرفه. ٥القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مّسْرِفِينَ }. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: أفنضرب عنكم ونترككم أيها المشركون فيما تحسبون، فلا نذكركم بعقابنا من أجل أنكم قوم مشركون. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٧١ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول اللّه عز وجل: أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا قال: تكذّبون بالقرآن ثم لا تعاقبون عليه. ٢٣٧٧٢ـ حدثني محمد بن عمارة، قال: حدثنا عبيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قوله: أفَنَضْربُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا قال: بالعذاب. ٢٣٧٧٣ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صفحا قال: أفنضرب عنكم العذاب. ٢٣٧٧٤ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله: أفَنَضْربُ عَنْكُمُ الذّكْرَ صَفْحا أنْ كُنْتُمْ قَوْما مُسْرِفِينَ يقول: أحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أُمرتم به. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أفنترك تذكيركم بهذا القرآن، ولا نذكركم به، لأن كنتم قوما مسرفين. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا أنْ كُنْتُمْ قَوْما مُسْرِفِينَ: أي مشركين، واللّه لو كان هذا القرآن رفع حين ردّه أوائل هذه الأمة لهلكوا، فدعاهم إليه عشرين سنة، أو ما شاء اللّه من ذلك. ٢٣٧٧٦ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا قال: لو أن هذه الأمة لم يؤمنوا لضرب عنهم الذكر صفحا، قال: الذكر ما أنزل عليهم مما أمرهم اللّه به ونهاهم صفحا، لا يذكر لكم منه شيئا. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوّله: أفنضرب عنكم العذاب فنترككم ونعرض عنكم، لأن كنتم قوما مسرفين لا تؤمنون بربكم. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاَية، لأن اللّه تبارك وتعالى أتبع ذلك خبره عن الأمم السالفة قبل الأمم التي توعدها بهذه الاَية في تكذيبها رسلها، وما أحلّ بها من نقمته، ففي ذلك دليل على أن قوله: أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا وعيد منه للمخاطبين به من أهل الشرك، إذ سلكوا في التكذيب بما جاءهم عن اللّه رسولهم مسلك الماضين قبلهم. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة (إنْ كُنْتُم) بكسر الألف من (إن) بمعنى: أفنضرب عنكم الذكر صفحا إذ كنتم قوما مسرفين. وقرأه بعض قرّاء أهل مكة والكوفة وعامة قرّاء البصرة (أن) بفتح الألف من (أن) ، بمعنى: لأن كنتم. واختلف أهل العربية في وجه فتح الألف من أن في هذا الموضع، فقال بعض نحويي البصرة: فتحت لأن معنى الكلام: لأن كنتم. وقال بعض نحويي الكوفة: من فتحها فكأنه أراد شيئا ماضيا، فقال: وأنت تقول في الكلام: أتيت أن حرمتني، تريد: إذ حرمتني، ويكسر إذا أردت: أتيت إن تحرمني. ومثله: لا يَجْرمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أنْ صَدّوكُمْ وإنْ صَدّوكُمْ بكسر وبفتح. فَلَعَلّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ على آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أسَفا قال: والعرب تنشد قول الفرزدق: أَتجْزَعُ أنْ أُذْنا قُتَيْبَةَ حُزّتاجِهارا ولَمْ تَجْزَعْ لقَتْلِ ابنِ حازِمِ قال: وينشد: أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخَلِيطُ المُوَدّعُوَحَبْلُ الصّفا مِنْ عَزّةَ المُتَقَطّعُ قال: وفي كل واحد من البيتين ما في صاحبه من الكسر والفتح. والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الكسر والفتح في الألف في هذا الموضع قراءتان مشهورتان في قَرَأة الأمصار صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، وذلك أن العرب إذا تقدم (أن) وهي بمعنى الجزاء فعل مستقبل كسروا ألفها أحيانا، فمحضوا لها الجزاء، فقالوا: أقوم إن قمت، وفتحوها أحيانا، وهم ينوون ذلك المعنى، فقالوا: أقوم أن قمت بتأول، لأن قمت، فإذا كان الذي تقدمها من الفعل ماضيا لم يتكلّموا إلا بفتح الألف من (أن) فقالوا: قمتُ أن قمتَ، وبذلك جاء التنزيل، وتتابع شعر الشعراء. ٦القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نّبِيّ فِي الأوّلِينَ }. يقول تعالى ذكره: وَكَمْ أرْسَلْنَا مِنَ نَبِيّ يا محمد في القرون الأوّلين الذين مضوا قبل قرنك الذي بعثت فيه كما أرسلناك في قومك من قريش ٧وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيَ إلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ يقول وما كان يأتي قرنا من أولئك القرون وأمة من أولئك الأمم الأوّلين لنا من نبيّ يدعوهم إلى الهدى وطريق الحق، إلاّ كان الذين يأتيهم ذلك من تلك الأمم نبيهم الذي أرسله إليهم يستهزئون سخرية منهم بهم كاستهزاء قومك بك يا محمد. يقول: فلا يعظمنّ عليك ما يفعل بك قومك، ولا يشقنّ عليك، فإنهم إنما سلكوا في استهزائهم بك مسلك أسلافهم، ومنهاج أئمتهم الماضين من أهل الكفر باللّه . ٨القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىَ مَثَلُ الأوّلِينَ }. يقول تعالى ذكره: فأهلكنا أشدّ من هؤلاء المستهزئين بأنبيائهم بطشا إذا بطشوا فلم يعجزونا بقواهم وشدّة بطشهم، ولم يقدروا على الامتناع من بأسنا إذ أتاهم، فالذين هم أضعف منهم قوّة أحرى أن لا يقدروا على الامتناع من نقمنا إذا حلّت بهم وَمَضَى مَثَلُ الأوّلِينَ يقول جلّ ثناؤه: ومضى لهؤلاء المشركين المستهزئين بك ولمن قبلهم من ضربائهم مثَلُنا لهم في أمثالهم من مكذّبي رسلنا الذين أهلكناهم، يقول: فليتوقع هؤلاء الذين يستهزئون بك يا محمد من عقوبتنا مثل الذي أحللناه بأولئك الذين أقاموا على تكذيبك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٧٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَمَضَى مَثَلُ الأولِينَ قال: عقوبة الأوّلين. ٢٣٧٧٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: مَثَلُ الأوّلِينَ قال: سُنتهم. ٩القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنّ خَلَقَهُنّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ }. يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك: من خلق السموات السبع والأرضين، فأحدثهنّ وأنشأهنّ؟ ليقولنّ: خلقهنّ العزيز في سلطانه وانتقامه من أعدائه، العليم بهنّ وما فيهنّ من الأشياء، لا يخفى عليه شيء الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدا ١٠يقول: الذي مهّد لكم الأرض، فجعلها لكم وطاء توطئونها بأقدامكم، وتمشون عليها بأرجلكم وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً يقول: وسهّل لكم فيها طرقا تتطرّقونها من بلدة إلى بلدة، لمعايشكم ومتاجركم. كما: ٢٣٧٧٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَجَعَلَ لَكُمُ فِيها سُبُلاً أي طرقا. ٢٣٧٨٠ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدا قال: بساطا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً قال: الطرق لَعَلّكُمْ تَهْتَدُون يقول: لكي تهتدوا بتلك السبل إلى حيث أردتم من البُلدان والقُرى والأمصار، لولا ذلك لم تطيقوا براح أفنيتكم ودوركم، ولكنها نعمة أنعم بها عليكم. ١١القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}. يقول تعالى ذكره: وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّماءِ ماءً بقَدَرٍ يعني : ما نزّل جلّ ثناؤه من الأمطار من السماء بقدر: يقول: بمقدار حاجتكم إليه، فلم يجعله كالطوفان، فيكون عذابا كالذي أنزل على قوم نوح، ولا جعله قليلاً، لا ينبت به النبات والزرع من قلّته، ولكنه جعله غيثا مغيثا، وَحَيا للأرض الميتة محييا فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتا يقول جلّ ثناؤه: فأحيينا به بلدة من بلادكم ميتا، يعني مجدبة لا نبات بها ولا زرع، قد درست من الجدوب، وتعفنت من القحوط كَذلكَ تُخْرَجُونَ يقول تعالى ذكره: كما أخرجنا بهذا الماء الذي نزّلناه من السماء من هذه البلدة الميتة بعد جدوبها وقحوطها النبات والزرع، كذلك أيها الناس تُخرجون من بعد فنائكم ومصيركم في الأرض رفاتا بالماء الذي أنزله إليها لإحيائكم من بعد مماتكم منها أحياء كهيئتكم التي بها قبل مماتكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٨١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّماءِ ماءً بقَدَرٍ... الاَية، كما أحيا اللّه هذه الأرض الميتة بهذا الماء كذلك تبعثون يوم القيامة و قيل: أنشرنا به، لأن معناه: أحيينا به، ولو وصفت الأرض بأنها أحييت، قيل: نشرت الأرض، كما قال الأعشى: حتى يَقُولَ النّاسُ مِمّا رأَوْايا عَجَبا للْمَيّتِ النّاشِرِ ١٢و قوله: وَالّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كلّها يقول تعالى ذكره: والذي خلق كلّ شيء فزوّجه، أي خلق الذكور من الإناث أزواجا، والإناث من الذكور أزواجا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ وهي السفن والأنْعامِ وهي البهائم ما تَرْكَبُونَ يقول: جعل لكم من السفن ما تركبونه في البحار إلى حيث قصدتم واعتمدتم في سيركم فيها لمعايشكم ومطالبكم، ومن الأنعام ما تركبونه في البرّ إلى حيث أردتم من البلدان، كالإبل والخيل والبغال والحمير. ١٣القول في تأويل قوله تعالى: لِتَسْتَوُواْ عَلَىَ ظُهُورِهِ ثُمّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ ... يقول تعالى ذكره: كي تستووا على ظهور ما تركبون. واختلف أهل العربية في وجه توحيد الهاء في قوله: على ظُهُورِهِ وتذكيرها، فقال بعض نحويّي البصرة: تذكيره يعود على ما تركبون، وما هو مذكر، كما يقال: عندي من النساء من يوافقك ويسرّك، وقد تذكّر الأنعام وتؤنث. وقد قال في موضع آخر: مِمّا في بُطُونِهِ وقال في موضع آخر: بُطُونِها. وقال بعض نحويّي الكوفة: أضيفت الظهور إلى الواحد، لأن ذلك الواحد في معنى جمع بمنزلة الجند والجيش. قال: فإن قيل: فهلا قلت: لتستووا على ظهره، فجعلت الظهر واحدا إذا أضفته إلى واحد. قلت: إن الواحد فيه معنى الجمع، فردّت الظهور إلى المعنى، ولم يقل ظهره، فيكون كالواحد الذي معناه ولفظه واحد. وكذلك تقول: قد كثر نساء الجند، وقلت: ورفع الجند أعينه ولم يقل عينه. قال: وكذلك كلّ ما أضفت إليه من الأسماء الموصوفة، فأخرجها على الجمع، وإذا أضفت إليه اسما في معنى فعل جاز جمعه وتوحيده، مثل قولك: رفع العسكر صوتَه، وأصواته أجود وجاز هذا لأن الفعل لا صورة له في الاثنين إلاّ الصورة في الواحد. وقال آخر منهم: قيل: لتستووا على ظهره، لأنه وصف للفلك، ولكنه وحد الهاء، لأن الفلك بتأويل جمع، فجمع الظهور ووحد الهاء، لأن أفعال كل واحد تأويله الجمع توحد وتجمع مثل: الجند منهزم ومنهزمون، فإذا جاءت الأسماء خرج على الأسماء لا غير، فقلت: الجند رجال، فلذلك جمعت الظهور ووحدت الهاء، ولو كان مثل الصوت وأشباهه جاز الجند رافع صوته وأصواته. قوله: ثُمّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبّكُمْ يقول تعالى ذكره: ثم تذكروا نعمة ربكم التي أنعمها عليكم بتسخيره ذلك لكم مراكب في البرّ والبحر إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ فتعظموه وتمجدوه، وتقولوا تنزيها للّه الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه من هذه الفلك والأنعام، مما يصفه به المشركون، وتشرك معه في العبادة من الأوثان والأصنام وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٨٢ـ حدثنا أبو كُرَيب وعبيد بن إسماعيل الهباري، قالا: حدثنا المحاربيّ، عن عاصم الأحول، عن أبي هاشم عن أبي مجلّز، قال: ركبت دابة، فقلت: سُبْحانَ الّذي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ، فسمعني رجل من أهل البيت قال أبو كُرَيب والهباريّ: قال المحاربيّ: فسمعت سفيان يقول: هو الحسن بن عليّ رضوان اللّه تعالى عليهما، فقال: أهكذا أمرت؟ قال: قلت: كيف أقول؟ قال: تقول الحمد للّه الذي هدانا الإسلام، الحمد للّه الذي منّ علينا بمحمد عليه الصلاة والسلام، الحمد للّه الذي جعلنا في خير أمة أُخرجت للناس، فإذا أنت قد ذكرت نعما عظاما، ثم تقول بعد ذلك سُبْحانَ الّذِي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإنّا إلى رَبّنا لَمُنْقَلِبُونَ. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن أبي مجلّز، أن الحسن بن عليّ رضي اللّه عنه، رأى رجلاً ركب دابة، فقال: الحمد للّه الذي سخر لنا هذا، ثم ذكر نحوه. ٢٣٧٨٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لِتَسْتَوُوا على ظُهُورِهِ ثُمّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ يعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك تقولون: بِسْمِ اللّه مَجْراها وَمُرْساها، إنّ رَبّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وإذا ركبتم الإبل قلتم: سُبْحانَ الّذِي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وإنّا إلى رَبنَا لمُنْقَلِبُونَ ويعلمكم ما تقولون إذا نزلتم من الفلك والأنعام جميعا تقولون: اللّه مّ أنزلنا منزلاً مباركا وأنت خير المنزلين. ٢٣٧٨٤ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه كان إذا ركب قال: اللّه مّ هذا من منّك وفضلك، ثم يقول: سُبْحانَ الّذِي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإنّا إلى رَبّنَا لمُنْقَلِبُونَ. و قوله: وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ وما كنا له مُطِيقين ولا ضابطين، من قولهم: قد أقرنت لهذا: إذا صرت له قرنا وأطقته، وفلان مقرن لفلان: أي ضابط له مُطِيق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٨٥ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ يقول: مُطِيقين. ٢٣٧٨٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول اللّه عز وجل: مُقْرِنِينَ قال: الإبل والخيل والبغال والحمير. ٢٣٧٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ: أي مطيقين، لا واللّه لا في الأيدي ولا في القوّة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ، قوله: وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال: في القوّة. ٢٣٧٨٨ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال: مطيقين. ٢٣٧٨٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول اللّه جلّ ثناؤه: سُبْحانَ الّذِي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال: لسنا له مطيقين، قال: لا نطيقها إلاّ بك، لولا أنت ما قوينا عليها ولا أطقناها. ١٤و قوله: وَإنّا إلى رَبّنا لَمُنْقَلِبُون يقول جلّ ثناؤه: وليقولوا أيضا: وإنا إلى ربنا من بعد مماتنا لصائرون إليه راجعون. ١٥القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مّبِينٌ}. يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون للّه من خلقه نصيبا، وذلك قولهم للملائكة: هم بنات اللّه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٩٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه عز وجل: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءا قال: ولدا وبنات من الملائكة. ٢٣٧٩١ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءا قال: البنات. وقال آخرون: عنى بالجزء هاهنا: العدل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٩٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءا: أي عِدلاً. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءا: أي عِدلاً ١٦وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، لأن اللّه جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: أمِ اتّخَذَ مِما يخْلُقُ بَناتٍ وأصْفاكُمْ بالبَنِينَ توبيخا لهم على قولهم ذلك، فكان معلوما أن توبيخه إياهم بذلك إنما هو عما أخبر عنهم من قيلهم ما قالوا في إضافة البنات إلى اللّه جلّ ثناؤه. و قوله: إنّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لذو جحد لنِعم ربه التي أنعمها عليه مبين: يقول: يبين كفرانه نعمه عليه، لمن تأمله بفكر قلبه، وتدبر حاله. و قوله: أمِ اتّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ يقول جل ثناؤه موبخا هؤلاء المشركين الذين وصفوه بأن الملائكة بناته: اتخذ ربكم أيها الجاهلون مما يخلق بنات، وأنتم لا ترضون لأنفسكم، وأصفاكم بالبنين: يقول: وأخلصكم بالبنين، فجعلهم لكم ١٧وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً يقول تعالى ذكره: وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين الجاعلين للّه من عباده جزءا بما ضرب للرحمن مثلاً: يقول: بما مثل للّه، فشبهه شبها، وذلك ما وصفه به من أن له بنات. كما: ٢٣٧٩٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: بِمَا ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً قال: ولدا. ٢٣٧٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: بِما ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً بما جعل للّه. و قوله: ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا يقول تعالى ذكره: ظلّ وجه هذا الذي بشّر بما ضرب للرحمن مثلاً من البنات مسودّا من سوء ما بشر به وَهُوَ كَظِيمٌ يقول: وهو حزين. كما: ٢٣٧٩٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَهُوَ كَظِيمٌ: أي حزين. ١٨القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَمَن يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ }. يقول تعالى ذكره: أو من ينبت في الحلية ويزين بها وَهُوَ فِي الخِصَامِ يقول: وهو في مخاصمة من خاصمه عند الخصام غير مبين، من خصمه ببرهان وحجة، لعجزه وضعفه، جعلتموه جزء اللّه من خلقه وزعمتم أنه نصيبه منهم، وفي الكلام متروك استغنى بدلالة ما ذكر منه وهو ما ذكرت. واختلف أهل التأويل في المعنيّ ب قوله: أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ، فقال بعضهم: عُنِي بذلك الجواري والنساء. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٩٦ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله: أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال: يعني المرأة. ٢٣٧٩٧ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة، عن مرثد، عن مجاهد، قال: رخص للنساء في الحرير والذهب، وقرأ أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيرَ مُبِينٍ قال: يعني المرأة. ٢٣٧٩٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيرُ مُبِينٍ قال: الجواري جعلتموهنّ للرحمن ولدا، كيف تحكمون. ٢٣٧٩٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال: الجواري يسفههنّ بذلك، غير مبين بضعفهنّ. ٢٣٨٠٠ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ يقول: جعلوا له البنات وهم إذا بشّر أحدهم بهنّ ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم. قال: وأما قوله: وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ يقول: قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلاّ تكلمت بالحجة عليها. ٢٣٨٠١ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال: النساء. وقال آخرون: عُنِي بذلك أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون اللّه . ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٠٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: أوْ مَنْ يُنَشّأ فِي الْحِلْيةِ... الاَية، قال: هذه تماثيلهم التي يضربونها من فضة وذهب يعبدونها هم الذين أنشأُوها، ضربوها من تلك الحلية، ثم عبدوها وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال: لا يتكلم، وقرأ فإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبينٌ. وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك الجواري والنساء، لأن ذلك عقيب خبر اللّه عن إضافة المشركين إليه ما يكرهونه لأنفسهم من البنات، وقلة معرفتهم بحقه، وتحليتهم إياه من الصفات والبخل، وهو خالقهم ومالكهم ورازقهم، والمنعم عليهم النعم التي عددها في أوّل هذه السورة ما لا يرضونه لأنفسهم، فاتباع ذلك من الكلام ما كان نظيرا له أشبه وأولى من اتباعه ما لم يجر له ذكر. واختلف القرّاء في قراءة قوله: أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض المكيين والكوفيين (أوْ مَنْ يَنْشَأُ) بفتح الياء والتخفيف من نشأ ينشأ. وقرأته عامة قرّاء الكوفة يُنَشّأُ بضم الياء وتشديد الشين من نُشّأته فهو ينَشّأ.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار، متقاربتا المعنى، لأن المنشّأ من الإنشاء ناشىء، والناشىء منشأ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد اللّه (أوْ مَنْ لا يُنَشّأُ إلاّ فِي الْحِلْيَةِ) ، وفي (من) وجوه من الإعراب الرفع على الاستئناف والنصب على إضمار يجعلون كأنه قيل: أو من ينشأ في الحلية يجعلون بنات اللّه . وقد يجوز النصب فيه أيضا على الردّ على قوله: أم اتخذ مما يخلق بنات أو من ينشأ في الحلية، فيردّ (من) على البنات، والخفض على الردّ على (ما) التي في قوله: وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً. ١٩القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرّحْمَـَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ }. يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون باللّه ملائكته الذين هم عباد الرحمن. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة (الّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرّحْمَنِ) بالنون، فكأنهم تأوّلوا في ذلك قول اللّه جلّ ثناؤه: إنّ الّذِينَ عِنْدَ رَبّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ فتأويل الكلام على هذه القراءة: وجعلوا ملائكة اللّه الذين هم عنده يسبحونه ويقدّسونه إناثا، فقالوا: هم بنات اللّه جهلاً منهم بحقّ اللّه ، وجرأة منهم على قيل الكذب والباطل. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة وَجَعَلوا المَلائِكَةَ الّذِينَ هُمْ عِبادُ الرّحْمَنِ إناثا بمعنى: جمع عبد. فمعنى الكلام على قراءة هؤلاء: وجعلوا ملائكة اللّه الذين هم خلقه وعباده بنات اللّه ، فأنثوهم بوصفهم إياهم بأنهم إناث. والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، وذلك أن الملائكة عباد اللّه وعنده. واختلفوا أيضا في قراءة قوله: أشَهِدُوا خَلْقَهُمْ فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة (أُشْهِدُوا خَلْقَهُمْ) بضم الألف، على وجه ما لم يسمّ فاعله، بمعنى: أأشهد اللّه هؤلاء المشركين الجاعلين ملائكة اللّه إناثا، خلق ملائكته الذين هم عنده، فعلموا ما هم، وأنهم إناث، فوصفوهم بذلك، لعلمهم بهم، وبرؤيتهم إياهم، ثم رُدّ ذلك إلى ما لم يسمّ فاعله. وقُرىء بفتح الألف، بمعنى: أَشهدوا هم ذلك فعلموه؟ والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. و قوله: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ يقول تعالى ذكره: ستكتب شهادة هؤلاء القائلين: الملائكة بنات اللّه في الدنيا، بما شهدوا به عليهم، ويُسألون عن شهادتهم تلك في الاَخرة أن يأتوا ببرهان على حقيقتها، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً. ٢٠القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرّحْمَـَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ}. يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون من قريش: لو شاء الرحمن ما عبدنا أوثاننا التي نعبدها من دونه، وإنما لم يحلّ بنا عقوبة على عبادتنا إياها لرضاه منا بعبادتناها. كما: ٢٣٨٠٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: لَوْ شاءَ الرّحْمَنُ ما عَبَدْناهُمْ للأوثان يقول اللّه عزّ وجلّ ما لَهُمْ بِذَلكَ مِنْ عِلْم يقول: ما لهم بحقيقة ما يقولون من ذلك من علم، وإنما يقولونه تخرّصا وتكذّبا، لأنهم لا خبر عندهم مني بذلك ولا بُرْهان. وإنما يقولونه ظنا وحسبانا إنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ يقول: ما هم إلاّ متخرّصون هذا القول الذي قالوه، وذلك قولهم لوْ شاءَ الرّحْمَنُ ما عَبَدْناهُمْ. وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك، ما: ٢٣٨٠٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنا الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: إنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ ما يعلمون قُدرة اللّه على ذلك. ٢١و قوله: أمْ آتَيْناهُمْ كِتابا مِنْ قَبْلِهِ يقول تعالى ذكره ما آتينا هؤلاء المتخرّصين القائلين لو شاء الرحمن ما عبدنا الاَلهة كتابا بحقيقة ما يقولون من ذلك، من قبل هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد فهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يقول: فهم بذلك الكتاب الذي جاءهم من عندي من قبل هذا القرآن، مستمسكون يعملون به، ويدينون بما فيه، ويحتجون به عليك. ٢٢القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ قَالُوَاْ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّهْتَدُونَ }. يقول تعالى ذكره: ما آتينا هؤلاء القائلين: لو شاء الرحمن ما عبدنا هؤلاء الأوثان بالأمر بعبادتها، كتابا من عندنا، ولكنهم قالوا: وجدنا آباءنا الذين كانوا قبلنا يعبدونها، فنحن نعبدها كما كانوا يعبدونها وعنى جل ثناؤه ب قوله: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ بل وجدنا آباءنا على دين وملة، وذلك هو عبادتهم الأوثان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٠٥ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: على أُمّةٍ: مِلّة. ٢٣٨٠٦ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله: إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ يقول: وجدنا آباءنا على دين. ٢٣٨٠٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ قال: قد قال ذلك مشركو قريش: إنا وجدنا آباءنا على دين. ٢٣٨٠٨ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط عن السديّ قالُوا إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ قال: على دين. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: على أُمّةٍ فقرأته عامة قرّاء الأمصار على أُمّةٍ بضم الألف بالمعنى الذي وصفت من الدين والملة والسنة. وذُكر عن مجاهد وعمر بن عبد العزيز أنهما قرآه (على إمّةٍ) بكسر الألف. وقد اختُلف في معناها إذا كُسرت ألفها، فكان بعضهم يوجه تأويلها إذا كُسرت على أنها الطريقة وأنها مصدر من قول القائل: أممت القوم فأنا أؤمهم إمّة. وذُكر عن العرب سماعا: ما أحسن عمته وإمته وجلسته إذا كان مصدرا. ووجهه بعضهم إذا كُسرت ألفها إلى أنها الإمة التي بمعنى النعيم والمُلك، كما قال عديّ ابن زيد: ثُمّ بَعْدَ الفَلاحِ وَالمُلْكِ والإمّة وَارَتّهُمْ هُناكَ القُبورُ وقال: أراد إمامة الملك ونعيمه. وقال بعضهم: (الأُمّة بالضم، والإمّة بالكسر بمعنى واحد) . والصواب من القراءة في ذلك الذي لا أستجيز غيره: الضمّ في الألف لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه. وأما الذين كسروها فإني لا أراهم قصدوا بكسرها إلاّ معنى الطريقة والمنهاج، على ما ذكرناه قبلُ، لا النعمة والملك، لأنه لا وجه لأن يقال: إنا وجدنا آباءنا على نعمة ونحن لهم متبعون في ذلك، لأن الاتباع إنما يكون في الملل والأديان وما أشبه ذلك لا في الملك والنعمة، لأن الاتباع في الملك ليس بالأمر الذي يصل إليه كلّ من أراده. و قوله: وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يقول: وإنا على آثار آبائنا فيما كانوا عليه من دينهم مهتدون، يعني : لهم متبعون على منهاجهم. كما: ٢٣٨٠٩ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يقول: وإنا على دينهم. ٢٣٨١٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يقول: وإنا متبعوهم على ذلك. ٢٣القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ ...}. يقول تعالى ذكره: وهكذا كما فعل هؤلاء المشركون من قريش فعل من قبلهم من أهل الكفر باللّه ، وقالوا مثل قولهم، لم نرسل مِن قبلك يا محمد في قرية، يعني إلى أهلها رسلاً تنذرهم عقابنا على كفرهم بنا فأنذروهم وحذّروهم سخطنا، وحلول عقوبتنا بهم إلاّ قال مُتْرَفوها، وهم رؤساؤهم وكبراؤهم. كما: ٢٣٨١١ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: إلاّ قالَ مُتْرَفُوها قال: رؤساؤهم وأشرافهم. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وكَذلكَ ما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلاّ قالَ مُتْرَفُوها قادتهم ورؤوسهم في الشرك. و قوله: إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ يقول: قالوا: إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين وَإنّا على آثارِهِمْ يعني : وإنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون بفعلهم نفعل كالذي فعلوا، ونعبد ما كانوا يعبدون يقول جل ثناؤه لمحمد صلى اللّه عليه وسلم : فإنما سلك مشركو قومك منهاج من قبلهم من إخوانهم من أهل الشرك باللّه في إجابتهم إياك بما أجابوك به، وردّهم ما ردّوا عليك من النصيحة، واحتجاجهم بما احتجوا به لمُقامهم على دينهم الباطل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨١٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وَإنّا على آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قال بفعلهم. ٢٣٨١٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَإنّا على آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ فاتبعوهم على ذلك. ٢٤القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىَ مِمّا وَجَدتّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوَاْ إِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، القائلين إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون أوَ لَوْ جِئْتُكُمْ أيها القوم من عند ربكم بأَهْدَى إلى طريق الحقّ، وأدلّ لكم على سبيل الرشاد مِمّا وَجَدْتُمْ أنتم عليه آباءكم من الدين والمِلّة، قالُوا إنّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ يقول: فقال ذلك لهم، فأجابوه بأن قالوا له كما قال الذين من قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها لأنبيائها: إنا بما أرسلتم به يا أيها القوم كافرون، يعني : جاحدون منكرون. وقرأ ذلك قرّاء الأمصار سوى أبي جعفر قُلْ أوَ لَوْ جِئْتُكُمْ بالتاء. وذُكر عن أبي جعفر القارىء أنه قرأه (قُلْ أوَ لَوْ جِئْناكُمْ) بالنون والألف. والقراءة عندنا ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة عليه. ٢٥القول في تأويل قوله تعالى: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ }. يقول تعالى ذكره: فانتقمنا من هؤلاء المكذّبة رسلها من الأمم الكافرة بربها، بإحلالنا العقوبة بهم، فانظر يا محمد كيف كان عقبى أمرهم، إذ كذّبوا بآيات اللّه . و يعني ب قوله: عاقِبَةُ المُكَذّبِينَ آخر أمر الذين كذّبوا رسل اللّه إلام صار، يقول: ألم نهلكهم فنجعلهم عبرة لغيرهم؟ كما: ٢٣٨١٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذّبِينَ قال: شرّ واللّه ، أخذهم بخسف وغرق، ثم أهلكهم فأدخلهم النار. ٢٦القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنّنِي بَرَآءٌ مّمّا تَعْبُدُونَ}. يقول تعالى ذكره: وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ الذين كانوا يعبدون ما يعبده مشركو قومك يا محمد إنّنِي بَرَاءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ من دون اللّه ، فكذّبوه، فانتقمنا منهم كما انتقمنا ممن قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها. و قيل: إنّنِي بَرَاءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ فوضع البراء وهو مصدر موضع النعت، والعرب لا تثني البراء ولا تجمع ولا تؤنث، فتقول: نحن البَرَاء والخلاء: لِما ذكرت أنه مصدر، وإذا قالوا: هو برىء منك ثنوا وجمعوا وأنّثوا، فقالوا: هما بريئان منك، وهم بريئون منك. وذُكر أنها في قراءة عبد اللّه : (إنّنِي بَرِىءٌ) بالياء، وقد يجمع برىء: بَرَاء وأبْراء إلاّ الّذِي فَطَرَنِي يقول: إني برىء مما تعبدون من شيء إلاّ من الذي فطرني، يعني الذي خلقني فإنّهُ سَيَهْدِينِ يقول: فإنه سيقوّمني للدين الحقّ، ويوفقني لاتباع سبيل الرشد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨١٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ لأبيه وقومِهِ... الاَية، قال: كايدهم، كانوا يقولون: إن اللّه ربّنا وَلَئِنْ سَألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السّمَوَاتِ، وَالأرْضَ لَيقُولُنّ اللّه ، فلم يبرأ من ربه. ٢٣٨١٦ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، قوله: إنّنِي بَرَاءٌ مِمّا تَعْبُدونَ يقول: إنني برىء مما تعبدون (إلاّ الّذِي خَلَقْنِي) . ٢٧٢٣٨١٧ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ إلاّ الّذِي فَطَرَنِي قال: خلقني. ٢٨و قوله: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ يقول تعالى ذكره: وجعل قوله: إنّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ إلاّ الّذِي فَطَرَنِي وهو قول: لا إله إلا اللّه ، كلمة باقية في عقبه، وهم ذرّيته، فلم يزل في ذرّيته من يقول ذلك من بعده. واختلف أهل التأويل في معنى الكلمة التي جعلها خليل الرحمن باقية في عقبه، فقال بعضهم: بنحو الذي قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨١٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ قال: لا إله إلا اللّه . ٢٣٨١٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً قال: شهادة أن لا إله إلا اللّه ، والتوحيد لم يزل في ذرّيته من يقولها من بعده. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ قال: التوحيد والإخلاص، ولا يزال في ذرّيته من يوحد اللّه ويعبده. ٢٣٨٢٠ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَجَعَلها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ قال: لا إله إلا اللّه . وقال آخرون: الكلمة التي جعلها اللّه في عقبه اسم الإسلام. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٢١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ فقرأ إذْ قالَ لَهُ رَبّهُ أسْلِمْ، قالَ أسْلَمْتُ لِرَبّ العَالَمِينَ قال: جعل هذه باقية في عقبه، قال: الإسلام، وقرأ هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ فقرأ وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لك. وبنحو ما قلنا في معنى العقب قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٢٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: فِي عَقِبِهِ قال: ولده. ٢٣٨٢٣ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ قال: يعني من خلَفه. ٢٣٨٢٤ـ حدثني محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ فِي عَقِبِهِ قال: في عقب إبراهيم آل محمد صلى اللّه عليه وسلم . ٢٣٨٢٥ـ حدثني محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، قال: حدثنا ابن أبي فديك، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب أنه كان يقول: العقب: الولد، وولد الولد. ٢٣٨٢٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فِي عَقِبِهِ قال: عقبه: ذرّيته. و قوله: لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول: ليرجعوا إلى طاعة ربهم، ويثوبوا إلى عبادته، ويتوبوا من كفرهم وذنوبهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٢٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ: أي يتوبون، أو يذّكرون. ٢٩القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ مَتّعْتُ هَـَؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ جَآءَهُمُ الْحَقّ وَرَسُولٌ مّبِينٌ }. يقول تعالى ذكره: بَلْ مَتّعْتُ يا محمد هَؤُلاءِ المشركين من قومك وآباءَهُمْ من قبلهم بالحياة، فلم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم حتى جاءَهُمُ الحَقّ يعني جل ثناؤه بالحقّ: هذا القرآن: يقول: لم أهلكهم بالعذاب حتى أنزلت عليهم الكتاب، وبعثت فيهم رسولاً مبينا. يعني ب قوله: وَرَسُولٌ مُبِينٌ: محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، والمبين: أنه يبين لهم بالحجج التي يحتجّ بها عليهم أنه للّه رسول محقّ فيما يقول ٣٠وَلَمّا جاءَهُمُ الحَقّ يقول جلّ ثناؤه: ولما جاء هؤلاء المشركين القرآنُ من عند اللّه ، ورسول من اللّه أرسله إليهم بالدعاء إليه قالُوا هَذَا سِحْرٌ يقول: هذا الذي جاءنا به هذا الرسول سحر يسحرنا به، ليس بوحي من اللّه وَإنّا بِهِ كافِرُونَ يقول: قالوا: وإنا به جاحدون، ننكر أن يكون هذا من اللّه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٢٨ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: وَلَمّا جاءَهُمُ الحَقّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإنّا بِهِ كافِرُونَ قال: هؤلاء قريش قالوا القرآن الذي جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم : هذا سحر. ٣١القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَـَذَا الْقُرْآنُ عَلَىَ رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }. يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون باللّه من قريش لما جاءهم القرآن من عند اللّه : هذا سحر، فإن كان حقا فهلا نزل على رجل عظيم من إحدى هاتين القريتين مكة أو الطائف. واختُلف في الرجل الذي وصفوه بأنه عظيم، فقالوا: هلاّ نزل عليه هذا القرآن، فقال بعضهم: هلاّ نزل على الوليد بن المُغيرة المخزومي من أهل مكة، أو حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من أهل الطائف؟. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٢٩ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله: لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنَ عَظِيمٍ قال: يعني بالعظيم: الوليد بن المغيرة القرشيّ، أو حبيب بن عمرو بن عُمير الثقفي، وبالقريتين: مكة والطائف. وقال آخرون: بل عُنِي به عُتْبةُ بن ربيعة من أهل مكة، وابن عبد يالِيل، من أهل الطائف. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٣٠ـ حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ قال عتبة بن ربيعة من أهل مكة، وابن عبد ياليل الثقفي من الطائف. وقال آخرون: بل عني به من أهل مكة: الوليد بن المُغيرة، ومن أهل الطائف: ابن مسعود. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٣١ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ قال: الرجل: الوليد بن المغيرة، قال: لو كان ما يقول محمد حقا أنزل علىّ هذا، أو على ابن مسعود الثقفي، والقريتان: الطائف ومكة، وابن مسعود الثقفي من الطائف اسمه عروة بن مسعود. ٢٣٨٣٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنُ على رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ والقريتان: مكة والطائف قال: قد قال ذلك مشركو قريش، قال: بلغنا أنه ليس فخذ من قريش إلا قد ادّعته، وقالوا: هو منا، فكنا نحدّث أن الرجلين: الوليد بن المغيرة، وعروة الثقفي أبو مسعود، يقولون: هلا كان أُنزل على أحد هذين الرجلين. ٢٣٨٣٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب: قال ابن زيد، في قوله: لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ قال: كان أحد العظيمين عروة بن مسعود الثقفي، كان عظيم أهل الطائف. وقال آخرون: بل عني به من أهل مكة: الوليد بن المغيرة، ومن أهل الطائف: كنانة بن عَبدِ بن عمرو. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٣٤ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَقالُوا لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْن عَظِيمٍ قال: الوليد بن المغيرة القرشي، وكنانة بن عبد بن عمرو بن عمير، عظيم أهل الطائف. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال جلّ ثناؤه، مخبرا عن هؤلاء المشركين وَقالُوا لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنَ على رَجُل مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ إذ كان جائزا أن يكون بعض هؤلاء، ولم يضع اللّه تبارك وتعالى لنا الدلالة على الذين عُنُوا منهم في كتابه، ولا على لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، والاختلاف فيه موجود على ما بيّنت. و قوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ يقول تعالى ذكره: أهؤلاء القائلون: لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم يا محمد، يقسمون رحمة ربك بين خلقه، فيجعلون كرامته لمن شاؤوا، وفضله لمن أرادوا، أم اللّه الذي يقسم ذلك، فيعطه من أحبّ، ويحرمه مَنْ شاء؟. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٣٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك عن ابن عباس ، قال: لما بعث اللّه محمدا رسولاً، أنكرت العرب ذلك، ومن أنكر منهم، فقالوا: اللّه أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد، قال: فأنزل اللّه عزّ وجلّ: أكانَ للنّاسِ عَجَبا أنْ أوْحَيْنا إلى رَجُل مِنْهُمْ أنْ أَنْذِر النّاسَ وقال وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهِمْ، فاسْئَلُوا أهْلَ الذّكْرِ يعني : أهل الكتب الماضية، أبشرا كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أتتكم، وإن كانوا بشرا فلا تنكرون أن يكون محمد رسولاً: قال: ثم قال: وَما أرْسَلَنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أهْلِ القُرَى: أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم قال: فلما كرّر اللّه عليهم الحجج قالوا، وإذ كان بشرا فغير محمد كان أحقّ بالرسالة فلَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنَ على رَجُل مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يقولون: أشرف من محمد صلى اللّه عليه وسلم ، يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان يسمى ريحانة قريش، هذا من مكة، ومسعود بن عمرو بن عبيد اللّه الثقفي من أهل الطائف، قال: يقول اللّه عزّ وجلّ ردّا عليهمأَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ أنا أفعل ما شئت. و قوله: نَحْن قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا يقول تعالى ذكره: بل نحن نقسم رحمتنا وكرامتنا بين من شئنا من خلقنا، فنجعل من شئنا رسولاً، ومن أردنا صدّيقا، ونتخذ من أردنا خليلاً، كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات، فجعلنا بعضهم فيها أرفع من بعض درجة، بل جعلنا هذا غنيا، وهذا فقيرا، وهذا ملكا، وهذا مملوكا لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٣٢٢٣٨٣٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: قال اللّه تبارك وتعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا فتلقاه ضعيف الحيلة، عيي اللسان، وهو مبسوط له في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة، سليط اللسان، وهو مقتور عليه، قال اللّه جلّ ثناؤه: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا كما قسم بينهم صورهم وأخلاقهم تبارك ربنا وتعالى. و قوله: لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا يقول: ليستسخر هذا هذا في خدمته إياه، وفي عود هذا على هذا بما في يديه من فضل، يقول: جعل تعالى ذكره بعضا لبعض سببا في المعاش في الدنيا. وقد اختلف أهل التأويل فيما عنى ب قوله: لِيتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا فقال بعضهم: معناه ما قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٣٧ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا قال: يستخدم بعضهم بعضا في السخرة. ٢٣٨٣٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا قال: هم بنو آدم جميعا، قال: وهذا عبد هذا، ورفع هذا على هذا درجة، فهو يسخره بالعمل، يستعمله به، كما يقال: سخر فلان فلانا. وقال بعضهم: بل عنى بذلك: ليملك بعضهم بعضا. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك ، في قوله: لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا يعني بذلك: العبيد والخدم سخر لهم. ٢٣٨٤٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا مِلْكة. و قوله: وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ يقول تعالى ذكره: ورحمة ربك يا محمد بإدخالهم الجنة خير لهم مما يجمعون من الأموال في الدنيا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ يعني الجنة. ٢٣٨٤١ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَرَحْمَةُ رَبّكَ يقول: الجنة خير مما يجمعون في الدنيا. ٣٣القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً ...}. يقول تعالى ذكره: وَلَوْلا أن يَكُونَ النّاسُ أُمّةً: جماعة واحدة. ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي لم يؤمن اجتماعهم عليه، لو فعل ما قال جلّ ثناؤه، وما به لم يفعله من أجله، فقال بعضهم: ذلك اجتماعهم على الكفر. وقال: معنى الكلام: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على الكفر، فيصيرَ جميعهم كفارا لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرّحمَنِ لبُيُوتِهِمْ سُقُفا مِنْ فِضّةٍ ذكر من قال ذلك. ٢٣٨٤٢ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، قوله: وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً يقول اللّه سبحانه: لولا أن أجعل الناس كلهم كفارا، لجعلت للكفار لبيوتهم سقفا من فضة. ٢٣٨٤٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا هوذة بن خليفة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن، في قوله: وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال: لولا أن يكون الناس كفارا أجمعون، يميلون إلى الدنيا، لجعل اللّه تبارك وتعالى الذي قال، ثم قال: واللّه لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها، وما فعل ذلك، فكيف لو فعله. ٢٣٨٤٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً: أي كفارا كلهم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال: لولا أن يكون الناس كفارا. ٢٣٨٤٥ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً يقول: كفارا على دين واحد. وقال آخرون: اجتماعهم على طلب الدنيا وترك طلب الاَخرة. وقال: معنى الكلام: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على طلب الدنيا ورفض الاَخرة. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٤٦ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال: لولا أن يختار الناس دنياهم على دينهم، لجعلنا هذا لأهل الكفر. و قوله: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرّحْمَن لِبُيُوتِهِمْ سُقْفا مِنْ فِضّةٍ يقول تعالى ذكره: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن في الدنيا سقفا، يعني أعالي بيوتهم، وهي السطوح فضة. كما: ٢٣٨٤٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لِبُيُوتهِمْ سُقُفا مِنْ فِضّةٍ السُقُف: أعلى البيوت. واختلف أهل العربية في تكرير اللام التي في قوله: لِمَنْ يَكْفُرُ، وفي قوله: لِبُيُوتهِمْ، فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنها أدخلت في البيوت على البدل. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلتها في لِبُيُوتهِمْ مكرّرة، كما في يَسْئَلُونَكَ عَن الشّهْرِ الحَرَام قِتالٍ فِيهِ، وإن شئت جعلت اللامين مختلفتين، كأن الثانية في معنى على، كأنه قال: جعلنا لهم على بيوتهم سقفا. قال: وتقول العرب للرجل في وجهه: جعلت لك لقومك الأعطية: أي جعلته من أجلك لهم. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (سَقْفا) فقرأته عامة قرّاء أهل مكة وبعض المدنيين وعامة البصريين سَقْفا بفتح السين وسكون القاف اعتبارا منهم ذلك ب قوله: فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وتوجيها منهم ذلك إلى أنه بلفظ واحد معناه الجمع. وقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة سُقُفا بضم السين والقاف، ووجّهوها إلى أنها جمع سقيفة أو سقوف. وإذا وجهت إلى أنها جمع سقوف كانت جمع الجمع، لأن السقوف: جمع سَقْف، ثم تجمع السقوف سُقُفا، فيكون ذلك نظير قراءة من قرأه فرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ بضم الراء والهاء، وهي الجمع، واحدها رهان ورهون، وواحد الرهون والرهان: رَهْن. وكذلك قراءة من قرأ كُلُوا مِنْ ثُمُرِهِ بضم الثاء والميم، ونظير قول الراجز: (حتى إذَا ابْتَلّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ ) وقد زعم بعضهم أن السّقُف بضم السين والقاف جمع سَقْف، والرّهُن بضم الراء والهاء جمع رَهْن، فأغفل وجه الصواب في ذلك، وذلك أنه غير موجود في كلام العرب اسم على تقدير فعل بفتح الفاء وسكون العين مجموعا على فُعُل، فيجعل السّقُف والرّهُن مثله. والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، معروفتان في قرأة الأمصار، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. و قوله: وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ يقول: ومراقي ودَرَجا عليها يصعدون، فيظهرون على السقف والمعارج: هي الدرج نفسها، كما قال المثنى بن جندل: (يا رَبّ البَيْتِ ذي المَعارِج ) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٤٨ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس وَمَعارِجَ قال: معارج من فضة، وهي درج. ٢٣٨٤٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ: أي دَرجا عليها يصعدون. ٢٣٨٥٠ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال: المعارج: المراقي. حدثنا محمد، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: وَمَعَارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال: دُرُج عليها يُرفعون. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن ابن عباس قوله: وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال: درج عليها يصعدون إلى الغرف. ٢٣٨٥١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ قال: المعارج: درج من فضة. ٣٤القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتّكِئُونَ }. يقول تعالى ذكره: وجعلنا لبيوتهم أبوابا من فضة، وسُرُرا من فضة. كما: ٢٣٨٥٢ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، وسُررا قال: سرر فضة. ٢٣٨٥٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَلِبُيُوتِهِمْ أبْوَابا وسرُرا عَلَيْها يَتّكِئُونَ قال: الأبواب من فضة، والسرر من فضة عليها يتكئون، يقول: على السرر يتكئون. ٣٥و قوله: وَزُخْرُفا يقول: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفا، وهو الذهب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٥٤ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس وَزُخْرُفا وهو الذهب. ٢٣٨٥٥ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: وَزُخْرُفا قال: الذهب. وقال الحسن: بيت من زُخرف، قال: ذهب. ٢٣٨٥٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَزُخْرُفا الزخرف: الذهب، قال: قد واللّه كانت تكره ثياب الشهرة. وذُكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (إيّاكُمْ والحُمْرَةَ فإنّها مِنْ أحَبّ الزّينَةِ إلى الشّيْطانِ) . ٢٣٨٥٧ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَزُخْرُفا قال: الذهب. حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَزُخْرُفا قال: الذهب. ٢٣٨٥٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَزُخْرُفا لجعلنا هذا لأهل الكفر، يعني لبيوتهم سقفا من فضة وما ذكر معها. والزخرف سمى هذا الذي سمى السقف، والمعارج والأبواب والسرر من الأثاث والفرش والمتاع. ٢٣٨٥٩ـ حُدثت عن الحسن، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَزُخْرُفا يقول: ذهبا. والزخرف على قول ابن زيد: هذا هو ما تتخذه الناس في منازلهم من الفرش والأمتعة والاَلات. وفي نصب الزخرف وجهان: أحدهما: أن يكون معناه: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف، فلما لم يكرّر عليه من نصب على إعمال الفعل فيه ذلك، والمعنى فيه: فكأنه قيل: وزخرفا يجعل ذلك لهم منه. والوجه الثاني: أن يكون معطوفا على السرر، فيكون معناه: لجعلنا لهم هذه الأشياء من فضة، وجعلنا لهم مع ذلك ذهبا يكون لهم غنى يستغنون بها، ولو كان التنزيل جاء بخفض الزخرف لكان: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف، فكان الزخرف يكون معطوفا على الفضة. وأما المعارج فإنها جُمعت على مفاعل، وواحدها معراج، على جمع مِعرج، كما يجمع المفتاح مفاتح على جمع مفتح، لأنهما لغتان: معرج، ومفتح، ولو جمع معاريج كان صوابا، كما يجمع المفتاح مفاتيح، إذ كان واحده معراج. و قوله: وَإنْ كُلّ ذلكَ لَمّا مَتاعُ الحَياةِ الدّنيْا يقول تعالى ذكره: وما كلّ هذه الأشياء التي ذكرت من السقف من الفضة والمعارج والأبواب والسرر من الفضة والزخرف، إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا وَالاَخِرَةُ عِنْدَ رَبّكَ لَلْمُتّقِينَ يقول تعالى ذكره: وزين الدار الاَخرة وبهاؤها عند ربك للمتقين، الذين اتقوا اللّه فخافوا عقابه، فجدّوا في طاعته، وحذروا معاصيه خاصة دون غيرهم من خلق اللّه . كما: ٢٣٨٦٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَالاَخِرَةُ عِنْدَ رَبّكَ لِلْمْتّقِينَ خصوصا. ٣٦القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرّحْمَـَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }. يقول تعالى ذكره: ومن يُعْرِض عن ذكر اللّه فلم يخف سطوته، ولم يَخْشَ عقابه نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يقول: نجعل له شيطانا يغويه فهو له قرين: يقول: فهو للشيطان قرين، أي يصير كذلك، وأصل العشو: النظر بغير ثبت لعلة في العين، يقال منه: عشا فلان يعشو عشوا وعشوّا: إذا ضعف بصره، وأظلمت عينه، كأن عليه غشاوة، كما قال الشاعر: مَتى تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِهِتَجِدْ حَطَبا جَزْلاً وَنارا تَأَجّجا يعني : متى تفتقر فتأته يعنك. وأما إذا ذهب البصر ولم يبصر، فإنه يقال فيه: عَشِيَ فلان يَعْشَى عَشًى منقوص، ومنه قول الأعشي: رأتْ رَجُلاً عائِبَ الوَافِدَيْنِمُخْتَلِفَ الخَلْقِ أعْشَى ضَرِيرَا يقال منه: رجل أعشى وامرأة عشواء. وإنما معنى الكلام: ومن لا ينظر في حجج اللّه بالإعراض منه عنه إلا نظرا ضعيفا، كنظر من قد عَشِي بصره نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٦١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا يقول: إذا أعرض عن ذكر اللّه نقيض له شيطانا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. ٢٣٨٦٢ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السدّي، في قوله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ قال: يعرض. وقد تأوّله بعضهم بمعنى: ومن يعمَ، ومن تأوّل ذلك كذلك، فيجب أن تكون قراءته وَمَنْ يَعْشَ بفتح الشين على ما بيّنت قبل. ذكر من تأوّله كذلك: ٢٣٨٦٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ قال: من يعمَ عن ذكر الرحمن ٣٧و قوله: وإنّهُمْ لَيَصُدّوَنهُمْ عَنِ السّبِيل يقول تعالى ذكره: وإن الشياطين ليصدّون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر اللّه ، عن سبيل الحقّ، فيزينون لهم الضلالة، ويكرّهون إليهم الإيمان باللّه ، والعمل بطاعته وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ مُهْتَدُونَ يقول: ويظنّ المشركون باللّه بتحسين الشياطين لهم ما هم عليه من الضلالة، أنهم على الحقّ والصواب، يخبر تعالى ذكره عنهم أنهم من الذي هم عليه من الشرك على شكّ وعلى غير بصيرة. وقال جلّ ثناؤه: وإنّهُمْ لَيَصُدّونَهُمْ عَنِ السّبِيلِ فأخرج ذكرهم مخرج ذكر الجميع، وإنما ذُكر قبل واحدا، فقال: نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا لأن الشيطان وإن كان لفظه واحدا، ففي معنى جمع. ٣٨القول في تأويل قوله تعالى: {حَتّىَ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ }. اختلفت القرّاء في قراءة قوله: حتى إذَا جاءَنا فقرأته عامة قرّاء الحجاز سوى ابن محيصن، وبعض الكوفيين وبعض الشاميين (حتى إذَا جاءانا) على التثنية بمعنى: حتى إذا جاءنا هذا الذي عَشِيَ عن ذكر الرحمن، وقرينه الذي قيض له من الشياطين. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة وابن محيصن: حتى إذَا جاءَنا على التوحيد، بمعنى: حتى إذا جاءنا هذا العاشي من بني آدم عن ذكر الرحمن. والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى وذلك أنّ في خبر اللّه تبارك وتعالى عن حال أحد الفريقين عند مقدمه عليه فيما أقرنا فيه في الدنيا، الكفاية للسامع عن خبر الاَخر، إذ كان الخبر عن حال أحدهما معلوما به خبر حال الاَخر، وهما مع ذلك قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٦٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة : حتى إذَا جاءَانا هو وقرينه جميعا. و قوله: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المُشْرقَيْنِ يقول تعالى ذكره: قال أحد هذين القرينين لصاحبه الاَخر: وددت أن بيني وبينك بعد المشرقين: أي بُعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب اسم أحدهما على الاَخر، كما قيل: شبه القمرين، وكما قال الشاعر: أخَذْنا بآفاقِ السّماءِ عَلَيْكُمُلنَا قَمَرَاهَا والنّجُومُ الطّوَالِعُ وكما قال الاَخر: فَبَصْرَةُ الأزْدِ مِنّا والعِرَاقُ لنَاوالمَوْصِلانِ وَمِنّا مِصْرُ والحَرَمُ يعني : الموصل والجزيرة، فقال: الموصلان، فغلب الموصل. وقد قيل: عنى بقوله بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ: مشرق الشتاء، ومشرق الصيف، وذلك أن الشمس تطلع في الشتاء من مشرق، وفي الصيف من مشرق غيره وكذلك المغرب تغرب في مغربين مختلفين، كما قال جلّ ثناؤه: رَبّ المَشْرِقَيْنِ وَرَبّ المَغْرِبَينِ. وذُكر أن هذا قول أحدهما لصاحبه عند لزوم كل واحد منهما صاحبه حتى يورده جهنم. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٦٥ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن سعيد الجريري، قال: بلغني أن الكافر إذا بُعث يوم القيامة من قبره، سفعَ بيده الشيطان، فلم يفارقه حتى يصيرهما اللّه إلى النار، فذلكم حين يقول: يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين، فبئس القرين. وأما المؤمن فيوكّل به مَلك فهو معه حتى قال: إما يفصل بين الناس، أو نصير إلى ما شاء اللّه . ٣٩و قوله: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ أيها العاشون عن ذكر اللّه في الدنيا إذْ ظَلَمْتُمْ أنّكُمْ فِي العَذَابِ مُشْترِكُونَ يقول: لن يخفف عنكم اليوم من عذاب اللّه اشتراككم فيه، لأن لكل واحد منكم نصيبه منه، و(أنّ) من قوله أنّكُمْ في موضع رفع لما ذكرت أن معناه: لن ينفعكم اشتراككم. ٤٠القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصّمّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ }. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : أفأنْتَ تُسْمِعُ الصّمّ: من قد سلبه اللّه استماع حججه التي احتجّ بها في هذا الكتاب فأصمه عنه، أو تهدي إلى طريق الهدى من أعمى اللّه قلبه عن إبصاره، واستحوذ عليه الشيطان، فزيّن له الرّدَى وَمَنْ كانَ في ضَلال مُبِينٍ يقول: أو تهدي من كان في جور عن قصد السبيل، سالك غير سبيل الحقّ، قد أبان ضلاله أنه عن الحقّ زائل، وعن قصد السبيل جائر: يقول جلّ ثناؤه: ليس ذلك إليك، إنما ذلك إلى اللّه الذي بيده صرف قلوب خلقه كيف شاء، وإنما أنت منذر، فبلغهم النذارة. ٤١و قوله: فإمّا نَذْهَبّنَ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ اختلف أهل التأويل في المعنيين بهذا الوعيد، فقال بعضهم: عُنِي به أهل الإسلام من أمة نبينا عليه الصلاة والسلام. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٦٦ـ حدثنا سوار بن عبد اللّه العنبري، قال: ثني أبي، عن أبي الأشهب، عن الحسن، في قوله: فإمّا نَذْهَبنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ قال: لقد كانت بعد نبيّ اللّه نقمة شديدة، فأكرم اللّه جل ثناؤه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يريه في أمته ما كان من النقمة بعده. ٢٣٨٦٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فإمّا نَذْهَبنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فذهب اللّه بنبيه صلى اللّه عليه وسلم ، ولم ير في أمته إلا الذي تقرّ به عينه، وأبقى اللّه النقمة بعده، وليس من نبيّ إلا وقد رأى في أمته العقوبة، أو قال ما لا يشتهي. ذُكر لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أُري الذي لقيت أمته بعده، فما زال منقبضا ما انبسط ضاحكا حتى لقي اللّه تبارك وتعالى. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، قال: تلا قتادة فإمّا نَذْهَبنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فقال: ذهب النبي صلى اللّه عليه وسلم وبقيت النقمة، ولم يُرِ اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم في أمته شيئا يكرهه حتى مضى، ولم يكن نبيّ قطّ إلا رأى العقوبة في أمته، إلا نبيكم صلى اللّه عليه وسلم . قال: وذُكر لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أُري ما يصيب أمته بعده، فما رُئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه اللّه . وقال آخرون: بل عنى به أهل الشرك من قريش، وقالوا: قد رأى اللّه نبيه عليه الصلاة والسلام فيهم. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٦٨ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: فإمّا نَذْهَبنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ كما انتقمنا من الأمم الماضية ٤٢أوْ نُرِيَنّكَ الّذِي وَعْدْناهُمْ فقد أراه اللّه ذلك وأظهره عليه وهذا القول الثاني أولى التأويلين في ذلك بالصواب وذلك أن ذلك في سياق خبر اللّه عن المشركين فلأن يكون ذلك تهديدا لهم أولى من أن يكون وعيدا لمن لم يجر له ذكر. فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك: فإن نذهب بك يا محمد من بين أظهر هؤلاء المشركين، فنخرجَك من بينهم فَإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، كما فعلنا ذلك بغيرهم من الأمم المكذّبة رسلها، أَوْ نُرِيَنّكَ الّذِي وَعَدْناهُمْ يا محمد من الظفر بهم، وإعلائك عليهم فَإنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ أن نظهرك عليهم، ونخزيهم بيدك وأيدي المؤمنين بك. ٤٣القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالّذِيَ أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنّكَ عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : فتمسك يا محمد بما يأمرك به هذا القرآن الذي أوحاه إليك ربك، إنّكَ عَلَى صِرِاطٍ مُسْتَقِيمٍ ومنهاج سديد، وذلك هو دين اللّه الذي أمر به، وهو الإسلام. كما: ٢٣٨٦٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فاسْتَمْسِكْ بالّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنّكَ على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: أي الإسلام. ٢٣٨٧٠ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ فاسْتَمْسِكْ بالّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنّكَ على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. و قوله: وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن الذي أوحي إليك يا محمد الذي أمرناك أن تستمسك به لشرف لك ولقومك من قريش وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ يقول: وسوف يسألك ربك وإياهم عما عملتم فيه، وهل عملتم بما أمركم ربكم فيه، وانتهيتم عما نهاكم عنه فيه؟. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٧١ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس : ٤٤قوله: وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ يقول: إن القرآن شرف لك. ٢٣٨٧٢ـ حدثني عمرو بن مالك، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: وَإنّهُ لَذَكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ قال: يقول للرجل: من أنت؟ فيقول: من العرب، فيقال: من أيّ العرب؟ فيقول: من قريش. ٢٣٨٧٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وهو هذا القرآن. ٢٣٨٧٤ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ قال: شرف لك ولقومك، يعني القرآن. ٢٣٨٧٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ قال: أو لم تكن النبوّة والقرآن الذي أنزل على نبيه صلى اللّه عليه وسلم ذكرا له ولقومه. ٤٥القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرّحْمَـَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ }. اختلف أهل التأويل في معنى قوله: واسأَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ومن الذين أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمسألتهم ذلك، فقال بعضهم الذين أُمر بمسألتهم ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، مؤمنو أهل الكتابين: التوراة، والإنجيل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٧٦ـ حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: في قراءة عبد اللّه بن مسعود (وَاسأَلِ الّذِينَ أرْسَلْنا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ رُسُلَنا) . ٢٣٨٧٧ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَاسْألِ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا إنها قراءة عبد اللّه : (سل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا) . ٢٣٨٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة واسأَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا يقول: سل أهل التوراة والإنجيل: هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد أن يوحدوا اللّه وحده؟ قال: وفي بعض القراءة: (واسأل الذين أرسلنا إليهم رسلنا قبلك) . أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَة يُعْبَدُونَ. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في بعض الحروف (واسألِ الّذِينَ أرْسَلْنا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) سل أهل الكتاب: أما كانت الرسل تأتيهم بالتوحيد؟ أما كانت تأتي بالإخلاص؟. ٢٣٨٧٩ـ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله: واسأَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا في قراءة ابن مسعود (سَلِ الّذينَ يَقْرَءُونَ الكِتاب مِنْ قَبْلِكَ) يعني : مؤمني أهل الكتاب. وقال آخرون: بل الذي أمر بمسألتهم ذلك الأنبياء الذين جُمعوا له ليلة أُسري به ببيت المقدس. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٨٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: واسْئَلِ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ... الاَية، قال: جمعوا له ليلة أُسري به ببيت المقدس، وصلى بهم، فقال اللّه له: سلهم، قال: فكان أشدّ إيمانا ويقينا باللّه وبما جاءه من اللّه أن يسألهم، وقرأ فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسأَل الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال: فلم يكن في شكّ، ولم يسأل الأنبياء، ولا الذين يقرأون الكتاب. قال: ونادى جبرائيل صلى اللّه عليه وسلم ، فقلت في نفسي: (الاَن يؤمنا أبونا إبراهيم) قال: (فدفع جبرائيل في ظهري) ، قال: تقدم يا محمد فصلّ، وقرأ سُبْحانَ الّذِي أَسْرَى بعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ... حتى بلغ لِنُرِيهُ مِنْ آياتِنا. وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: عنى به: سل مؤمني أهل الكتابين. فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يقال: سل الرسل، فيكون معناه: سل المؤمنين بهم وبكتابهم؟ قيل: جاز ذلك من أجل أن المؤمنين بهم وبكتبهم أهل بلاغ عنهم ما أتوهم به عن ربهم، فالخبر عنهم وعما جاؤوا به من ربهم إذا صحّ بمعنى خبرهم، والمسألة عما جاؤوا به بمعنى مسألتهم إذا كان المسؤول من أهل العلم بهم والصدق عليهم، وذلك نظير أمر اللّه جل ثناؤه إيانا بردّ ما تنازعنا فيه إلى اللّه وإلى الرسول، يقول: فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلى اللّه وَالرّسُولِ، ومعلوم أن معنى ذلك: فردّوه إلى كتاب اللّه وسنة رسوله، لأن الردّ إلى ذلك ردّ إلى اللّه والرسول. وكذلك قوله: وَاسْئَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا إنما معناه: فاسأل كتب الذين أرسلنا من قبلك من الرسل، فإنك تعلم صحة ذلك من قِبَلِنا، فاستغني بذكر الرسل من ذكر الكتب، إذ كان معلوما ما معناه. و قوله: أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ يقول: أمرناهم بعبادة الاَلهة من دون اللّه فيما جاؤوهم به، أو أتوهم بالأمر بذلك من عندنا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٨١ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟ أتتهم الرسل يأمرونهم بعبادة الاَلهة من دون اللّه ؟ و قيل: آلِهَةً يُعْبَدُونَ، فأخرج الخبر عن الاَلهة مخرج الخبر عن ذكور بني آدم، ولم يقل: تعبد، ولا يعبدن، فتؤنث وهي حجارة، أو بعض الجماد كما يفعل في الخبر عن بعض الجماد. وإنما فعل ذلك كذلك، إذ كانت تعبد وتعظم تعظيم الناس ملوكهم وسَرَاتهم، فأُجْرِي الخبر عنها مُجْرى الخبر عن الملوك والأشراف من بني آدم. ٤٦القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنّي رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ }. يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا يا محمد موسى بحججنا إلى فرعون وأشراف قومه، كما أرسلناك إلى هؤلاء المشركين من قومك، فقال لهم موسى: إني رسول ربّ العالمين، كما قلتَ أنت لقومك من قريش. إني رسول اللّه إليكم ٤٧، فَلَمّا جاءَهُمْ بآياتِنا إذَا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ يقول: فلما جاء موسى فرعونَ وملأه بحججنا وأدلتنا على صدق قوله، فيما يدعوهم إليه من توحيد اللّه والبراءة من عبادة الاَلهة، إذا فرعون وقومه مما جاءهم به موسى من الاَيات والعِبَر يضحكون كما أن قومك مما جئتهم به من الاَيات والعِبر يسخرون، وهذا تسلية من اللّه عزّ وجلّ نبيه صلى اللّه عليه وسلم عما كان يلقى من مشركي قومه، وإعلام منه له، أن قومه من أهل الشرك لن يَعْدُو أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر باللّه وتكذيب رسله، وندب منه نبيه صلى اللّه عليه وسلم إلى الاستنان في الصبر عليهم بسنن أولي العزم من الرسل، وإخبار منه له أن عقبى مردتهم إلى البوار والهلاك كسنته في المتمرّدين عليه قبلهم، وإظفاره بهم، وإعلائه أمره، كالذي فعل بموسى عليه السلام، وقومه الذين آمنوا به من إظهارهم على فرعون وملئه. ٤٨القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا نُرِيِهِم مّنْ آيَةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ }. يقول تعالى ذكره: وما نري فرعون وملأه آية، يعني : حجته لنا عليه بحقيقة ما يدعوه إليه رسولنا موسى إلاّ هِيَ أكْبَرُ مِنْ أُخْتِها يقول: إلا التي نريه من ذلك أعظم في الحجة عليهم وأوكد من التي مضت قبلها من الاَيات، وأدلّ على صحة ما يأمره به موسى من توحيد اللّه . و قوله: وأخَذْناهُمْ بالعَذابِ يقول: وأنزلنا بهم العذاب، وذلك كأخذه تعالى ذكره إياهم بالسنين، ونقص من الثمرات، وبالجراد، والقُمّل، والضفادع، والدم. و قوله: لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول: ليرجعوا عن كفرهم باللّه إلى توحيده وطاعته، والتوبة مما هم عليه مقيمون من معاصيهم. كما: ٢٣٨٨٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وأخَذْناهُمْ بالعَذَاب لَعَلّهُم يَرْجِعُونَ أي يتوبون، أو يذكرون. الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ [ص:٦٠٩] إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الزخرف: ٥٠] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ لِمُوسَى: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف: ٤٩] وَعَنَوْا بِقَوْلِهِمْ {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الأعراف: ١٣٤] : بِعَهْدِهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْكَ أَنَّا إِنْ آمَنَّا بِكَ وَاتَّبَعْنَاكَ، كُشِفَ عَنَّا الرِّجْزُ كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللّه عَزَّ وَجَلَّ {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الأعراف: ١٣٤] «قَالَ لَئِنْ آمَنَّا لَيُكْشَفَنَّ عَنَّا الْعَذَابُ» إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ قولِهِمْ يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ، وَكَيْفَ سَمَّوْهُ سَاحِرًا وَهُمْ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ رَبَّهُ لِيَكْشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ؟ قِيلَ: إِنَّ السَّاحِرَ كَانَ عِنْدَهُمْ مَعْنَاهُ: الْعَالِمُ، وَلَمْ يَكُنِ السِّحْرُ عِنْدَهُمْ ذَمًّا، وَإِنَّمَا دَعَوْهُ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ كَانَ: يَا أَيُّهَا الْعَالِمُ ٤٩وَقَوْلُهُ: {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} يَقُولُ: قَالُوا: إِنَّا لَمُتَّبِعُوكَ فَمُصَدِّقُوكَ فِيمَا جِئْتَنَا بِهِ، وَمُوَحِّدُو اللّه فَمُبْصِرُو سَبِيلِ الرَّشَادِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} قَالَ: " قَالُوا يَا مُوسَى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ [ص:٦١٠] لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ " ٥٠وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا رَفَعْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي أَنْزَلْنَا بِهِمْ، الَّذِي وَعَدُوا أَنَّهُمْ إِنْ كُشِفَ عَنْهُمُ اهْتَدَوْا لِسَبِيلِ الْحَقِّ، إِذَا هُمْ بَعْدَ كَشْفِنَا ذَلِكَ عَنْهُمْ يَنْكُثُونَ الْعَهْدَ الَّذِي عَاهَدُونَا: يَقُولُ: يَغْدِرُونَ وَيُصِرُّونَ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَيَتَمَادَوْنَ فِي غَيِّهِمْ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: ١٣٥] «أَيْ يَغْدِرُونَ» ٥١القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَادَىَ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيَ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }. يقول تعالى ذكره: وَنادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ من القبط، فقالَ يا قَوْم ألَيْسَ لي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي، أفَلا تُبْصِرُونَ يعني ب قوله: مِنْ تَحْتِي: من بين يديّ في الجنان. كما: ٢٣٨٨٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَهَذِهِ الأنهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي قال: كانت لهم جنات وأنهار ماء. و قوله: أفَلا تُبْصِرُونَ يقول: أفلا تبصرون أيها القوم ما أنا فيه من النعيم والخير، وما فيه موسى من الفقر وعيّ اللسان، افتخر بملكه مصر عدوّ اللّه ، وما قد مكّن له من الدنيا استدراجا من اللّه له، وحسب أن الذي هو فيه من ذلك ناله بيده وحوله، وأن موسى إنما لم يصل إلى الذي يصفه، فنسبه من أجل ذلك إلى المهانة محتجا على جهلة قومه بأن موسى عليه السلام لو كان محقا فيما يأتي به من الاَيات والعبر، ولم يكن ذلك سحرا، لأكسب نفسه من المُلك والنعمة، مثل الذي هو فيه من ذلك جهلاً باللّه واغترارا منه بإملائه إياه. ٥٢القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مّنْ هَـَذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ}. يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل فرعون لقومه بعد احتجاجه عليهم بملكه وسلطانه، وبيان لسانه وتمام خلقه، وفضل ما بينه وبين موسى بالصفات التي وصف بها نفسه وموسى: أنا خير أيها القوم، وصفتي هذه الصفة التي وصفت لكم، أمْ هَذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ لا شيء له من المُلك والأموال مع العلة التي في جسده، والاَفة التي بلسانه، فلا يكاد من أجلها يبين كلامه؟ وقد اختُلف في معنى قوله: أمْ في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناها: بل أنا خير، وقالوا: ذلك خبر، لا استفهام. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٨٧ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قوله: أمْ أنا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ قال: بل أنا خير من هذا. وبنحو ذلك كان يقول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة. وقال بعض نحويي الكوفة، هو من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله. قال: وإن شئت رددته على قوله: ألَيْسَ لي مُلْكُ مِصْرَ؟ وإذا وجه الكلام إلى أنه استفهام، وجب أن يكون في الكلام محذوف استغني بذكر ما ذكر مما ترك ذكره، ويكون معنى الكلام حينئذٍ: أنا خير أيها القوم من هذا الذي هو مهين، أم هو؟. وذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ ذلك (أما أنا خَيْرٌ) . ٢٣٨٨٨ـ حُدثت بذلك عن الفرّاء قال: أخبرني بعض المشيخة أنه بلغه أن بعض القرّاء قرأ كذلك، ولو كانت هذه القراءة قراءة مستفيضة في قَرَأة الأمصار لكانت صحيحة، وكان معناها حسنا، غير أنها خلاف ما عليه قرّاء الأمصار، فلا أستجيز القراءة بها، وعلى هذه القراءة لو صحّت لا كلفة له في معناها ولا مؤونة. والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار. وأولى التأويلات بالكلام إذ كان ذلك كذلك، تأويل من جعل: أمْ أنا خَيْرٌ؟ من الاستفهام الذي جعل بأم، لاتصاله بما قبله من الكلام، ووجهه إلى أنه بمعنى: أأنا خير من هذا الذي هو مهين؟ أم هو؟ ثم ترك ذكر أم هو، لما في الكلام من الدليل عليه. وعنى ب قوله: مِنْ هَذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ: من هذا الذي هو ضعيف لقلّة ماله، وأنه ليس له من الملك والسلطان ماله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٨٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أمْ أنا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الّذِي هُوَ مَهِين قال: ضعيف. ٢٣٨٩٠ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ مِنْ هَذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ قال: المهين: الضعيف. و قوله: وَلا يَكادُ يُبِينُ يقول: ولا يكاد يُبين الكلام من عِيّ لسانه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٩١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَلا يَكادُ يُبِينُ: أي عَيّ اللسان. ٢٣٨٩٢ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَلا يَكادُ يُبِينُ الكلام. ٥٣و قوله: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ يقول: فهلا أُلقي على موسى إن كان صادقا أنه رسول ربّ العالمين أسورة من ذهب، وهو جمع سوار، وهو القُلْب الذي يجعل في اليد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٩٣ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله: أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَب يقول: أقلبة من ذهب. ٢٣٨٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ: أي أقلبة من ذهب. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَساوِرَةٌ مِنْ ذَهَب) . وذُكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأه أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي ما عليه قَرَأة الأمصار، وإن كانت الأخرى صحيحة المعنى. واختلف أهل العربية في واحد الأساورة، والأسورة، فقال بعض نحويّي البصرة: الأسورة جمع إسوار قال: والأساورة جمع الأسورة وقال: ومن قرأ ذلك أساورة، فإنه أراد أساوير واللّه أعلم، فجعل الهاء عوضا من الياء، مثل الزنادقة صارت الهاء فيها عوضا من الياء التي في زناديق. وقال بعض نحويّي الكوفة: من قرأ أساورة جعل واحدها إسوار ومن قرأ أسورة جعل واحدها سوار وقال: قد تكون الأساورة جمع أسورة كما يقال في جمع الأسقية الأساقي، وفي جمع الأكرع الأكارع. وقال آخر منهم قد قيل في سوار اليد: يجوز فيه أُسْوار وإسْوار قال: فيجوز على هذه اللغة أن يكون أساورة جمعه. وحُكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: واحد الأساورة إسوار قال: وتصديقه في قراءة أبيّ بن كعب (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أساوِرَةٌ مِنْ ذَهَب) فإن كان ما حُكي من الرواية من أنه يجوز أن يقال في سوار اليد إسوار، فلا مؤونة في جمعه أساورة، ولست أعلم ذلك صحيحا عن العرب برواية عنها، وذلك أن المعروف في كلامهم من معنى الإسوار: الرجل الرامي، الحاذق بالرمي من رجال العجم. وأما الذي يُلبس في اليد، فإن المعروف من أسمائه عندهم سوارا. فإذَا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالأساورة أن يكون جمع أسورة على ما قاله الذي ذكرنا قوله في ذلك. و قوله: أوْ جاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ يقول: أو هلا إن كان صادقا جاء معه الملائكة مقترنين قد اقترن بعضهم ببعض، فتتابَعُوا يشهدون له بأنه للّه رسول إليهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة على تأويله، فقال بعضهم: يمشون معا. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٩٥ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ قال: يمشون معا. وقال آخرون: متتابعين. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٩٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أوْ جاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ: أي متتابعين. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، مثله. وقال آخرون: يقارن بعضهم بعضا. ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٩٧ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ أوْ جاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ قال: يقارن بعضهم بعضا. ٥٤القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}. يقول تعالى ذكره: فاستخفّ فرعون خلقا من قومه من القبط، بقوله الذي أخبر اللّه تبارك وتعالى عنه أنه قال لهم، فقبلوا ذلك منه فأطاعوه، وكذّبوا موسى، وقال اللّه : وإنما أطاعوا فاستجابوا لما دعاهم إليه عدوّ اللّه من تصديقه، وتكذيب موسى، لأنهم كانوا قوما عن طاعة اللّه خارجين بخذلانه إياهم، وطبعه على قلوبهم، يقول اللّه تبارك وتعالى: فَلَمّا آسَفُونا يعني ب قوله: آسفونا: أغضبونا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٥٥٢٣٨٩٨ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، قوله: فَلَمّا آسَفُونا يقول: أسخطونا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، فَلَمّا آسَفُونا يقول: لما أغضبونا. ٢٣٨٩٩ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد فَلَمّا آسَفُونا: أغضبونا. ٢٣٩٠٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فَلَمّا آسَفُونا قال: أغضبوا ربهم. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة فَلَمّا آسَفُونا قال: أغضبونا. ٢٣٩٠١ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ فَلَمّا آسَفُونا قال: أغضبونا، وهو على قول يعقوب: يا أسَفِي عَلى يُوسُفَ قال: يا حزَني على يوسف. ٢٣٩٠٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ قال: أغضبونا، و قوله: انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ يقول: انتقمنا منهم بعاجل العذاب الذي عجّلناه لهم، فأغرقناهم جميعا في البحر. ٥٦القول في تأويل قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لّلاَخِرِينَ }. اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة غير عاصم (فَجَعَلْناهُمْ سُلُفا) بضم السين واللام، توجيها ذلك منهم إلى جمع سليف من الناس، وهو المتقدّم أمام القوم. وحَكى الفراء أنه سمع القاسم بن معن يذكر أنه سمع العرب تقول: مضى سليف من الناس. وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وعاصم: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفا بفتح السين واللام. وإذا قُرىء كذلك احتمل أن يكون مرادا به الجماعة والواحد والذكر والأنثى، لأنه يُقال للقوم: أنتم لنا سلف، وقد يُجمع فيقال: هم أسلاف ومنه الخبر الذي رُوي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (يَذْهَب الصّالِحُونَ أَسْلافا) . وكان حُميد الأعرج يقرأ ذلك: (فَجَعَلْناهُمْ سُلَفا) بضم السين وفتح اللام، توجيها منه ذلك إلى جمع سلفة من الناس، مثل أمة منهم وقطعة. وأولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بفتح السين واللام، لأنها اللغة الجوداء، والكلام المعروف عند العرب، وأحقّ اللغات أن يُقرأ بها كتاب اللّه من لغات العرب أفصحها وأشهرها فيهم. فتأويل الكلام إذن: فجعلنا هؤلاء الذين أغرقناهم من قوم فرعون في البحر مقدّمة يتقدمون إلى النار، كفار قومك يا محمد من قريش، وكفار قومك لهم بالأثر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٠٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفا وَمَثَلاً للاَخرِين قال: قوم فرعون كفارهم سلفا لكفار أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم . ٢٣٩٠٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَجَعَلْناهُمْ سَلَفا في النار. ٢٣٩٠٥ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر: فَجَعلْناهُمْ سَلَفا قال: سلفا إلى النار. و قوله: وَمَثَلاً للاَخِرِينَ يقول: وعبرة وعظة يتعظ بهم مَنْ بعدهم من الأمم، فينتهوا عن الكفر باللّه . وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٠٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وَمَثَلاً للاَخِرِينَ قال: عبرة لمن بعدهم. ٢٣٩٠٧ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة وَمَثَلاً للاَخِرِينَ: أي عظة للاَخرين. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَمَثَلاً للاَخِرِينَ: أي عظة لمن بعدهم. ٢٣٩٠٨ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفا وَمَثَلاً قال: عبرة. ٥٧و قوله: وَلما ضُربَ ابْنُ مَرْيَم مَثَلاً يقول تعالى ذكره: ولما شبه اللّه عيسى في إحداثه وإنشائه إياه من غير فحل بآدم، فمثّله به بأنه خلقه من تراب من غير فحل، إذا قومك يا محمد من ذلك يضجون ويقولون: ما يريد محمد منا إلاّ أن نتخذه إلها نعبده، كما عبدت النصارى المسيح. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٠٩ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول اللّه عز وجل: إذَا قَوْمُكَ منْهُ يَصِدّونَ قال: يضجون قال: قالت قريش: إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى. ٢٣٩١٠ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، قال: لما ذُكر عيسى بن مريم جزعت قريش من ذلك، وقالوا: يا محمد ما ذكرت عيسى بن مريم، وقالوا: ما يريد محمد إلاّ أن نصنع به كما صنعت النصارى بعيسى بن مريم، فقال اللّه عزّ وجلّ: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: لما ذُكر عيسى في القرآن قال مشركو قريش: يا محمد ما أردت إلى ذكر عيسى؟ قال: وقالوا: إنما يريد أن نحبه كما أحبّت النصارى عيسى. وقال آخرون: بل عنى بذلك قول اللّه عزّ وجلّ إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنّمَ أنْتُمْ لَهَا وَارِدُون قِيلُ المشركين عند نزولها: قد رضينا بأن تكون آلهتنا مع عيسى وعُزَير والملائكة، لأن كل هؤلاء مما يُعبد من دون اللّه ، قال اللّه عزّ وجلّ: ولَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ وقالوا: أآلهتنا خير أم هو؟ ذكر من قال ذلك: ٢٣٩١١ـ حدثني محمد بن سعد قال، ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس : ولَمّا ضُربَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ قال: يعني قريشا لما قيل لهم إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنّمَ أنْتُمْ لَهَا وَارِدُون فقالت له قريش: فما ابن مريم؟ قال: ذاك عبد اللّه ورسوله، فقالوا: واللّه ما يريد هذا إلاّ أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربا، فقال اللّه عزّ وجلّ: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلاّ جَدَلاً، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: يَصِدّونَ، فقرأته عامة قرّاء المدينة، وجماعة من قرّاء الكوفة: (يَصُدّونَ) بضم الصاد. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة والبصرة يَصِدّونَ بكسر الصاد. واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين ذلك إذا قُرىء بضم الصاد، وإذا قُرىء بكسرها، فقال بعض نحويّي البصرة، ووافقه عليه بعض الكوفيين: هما لغتان بمعنى واحد، مثل يشُدّ ويشِدّ، ويَنُمّ ويَنِمّ من النميمة. وقال آخر: منهم من كسر الصاد فمجازها يضجون، ومن ضمها فمجازها يعدلون. وقال بعض من كسرها: فإنه أراد يضجون، ومن ضمها فإنه أراد الصدود عن الحقّ. ٢٣٩١٢ـ حُدثت عن الفرّاء قال: ثني أبو بكر بن عياش، أن عاصما ترك يصدّون من قراءة أبي عبد الرحمن، وقرأ يصدّون، قال: قال أبو بكر. حدثني عاصم، عن أبي رزين، عن أبي يحيى، أن ابن عباس لقي ابن أخي عبيد بن عمير، فقال: إن عمك لعربيّ، فما له يُلحِن في قوله: (إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدّونَ) ، وإنما هي يَصِدّونَ. والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، ولغتان مشهورتان بمعنى واحد، ولم نجد أهل التأويل فرّقوا بين معنى ذلك إذا قرىء بالضمّ والكسر، ولو كان مختلفا معناه، لقد كان الاختلاف في تأويله بين أهله موجودا وجود اختلاف القراءة فيه باختلاف اللغتين، ولكن لما لم يكن مختلف المعنى لم يختلفوا في أن تأويله: يضجون ويجزعون، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب. ذكر ما قلنا في تأويل ذلك: ٢٣٩١٣ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، قوله: إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ قال: يضجون. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ يقول: يضجون. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو حمزة، عن المُغيرة الضبيّ، عن الصعب بن عثمان قال: كان ابن عباس يقرأ إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ، وكان يفسرها يقول: يضجون. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ قال: يضجون. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة عن عاصم عن أبي رزين، عن ابن عباس بمثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قول اللّه عز وجل: إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ قال: يضجون. ٢٣٩١٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ: أي يجزعون ويضجون. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن عاصم بن أبي النّجود، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قرأها يَصِدّون: أي يضجون، وقرأ عليّ رضي اللّه عنه يَصِدّونَ. ٢٣٩١٥ـ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ قال: يضجون. ٢٣٩١٦ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ قال: يضجون. ٥٨القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوَاْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }. يقول تعالى ذكره: وقال مشركو قومك يا محمد: آلهتنا التي نعبدها خير؟ أم محمد فنعبد محمدا؟ ونترك آلهتنا؟. وذُكر أن ذلك في قراءة أُبيّ بن كعب: أآلِهَتُنا خَيْرٌ أمْ هَذَا. ذكر الرواية بذلك: ٢٣٩١٧ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور عن معمر، عن قتادة أن في حرف أبي بن كعب وَقَالُوا أآلهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هَذا يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم . وقال آخرون: بل عني بذلك: آلهتنا خير أم عيسى؟. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩١٨ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: وَقالُوا أآلِهَتُنا خَيْرٌ أمْ هُوَ؟ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلاّ جَدَلاً، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ قال: خاصموه، فقالوا: يزعم أن كلّ من عبد من دون اللّه في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعُزير والملائكة هؤلاء قد عُبدوا من دون اللّه ، قال: فأنزل اللّه براءة عيسى. ٢٣٩١٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: أآلِهَتُنا خَيْرٌ قال: عَبَدَ هؤلاء عيسى، ونحن نعبد الملائكة. و قوله: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ... إلى فِي الأرْض يخْلُفُونَ. وقوله تعالى ذكره: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلا جَدَلاً يقول تعالى ذكره: ما مثلوا لك هذا المثل يا محمد هؤلاء المشركين في محاجتهم إياك بما يحاجونك به طلب الحق بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ يلتمسون الخصومة بالباطل. وذُكر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ما ضَلّ قَوْمٌ عَنِ الحَقّ إلاّ أُوتُوا الجَدَلَ) . ذكر الرواية ذلك: ٢٣٩٢٠ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يعلى، قال: حدثنا الحجاج بن دينار، عن أبي غالب عن أبي أُمامة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ما ضَلّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كانُوا عَلَيْهِ إلاّ أُوتُوا الجَدَلَ، وقرأ: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلاّ جَدَلاً... الاَية) . حدثني موسى بن عبد الرحمن الكندي وأبو كُرَيب قالا: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا حجاج بن دينار، عن أبي غالب، عن أبي أُمامة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنحوه. حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، عن عباد بن عباد عن جعفر بن القاسم، عن أبي أُمامة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن، فغضب غضبا شديدا، حتى كأنما صبّ على وجهه الخلّ، ثم قال صلى اللّه عليه وسلم : (لا تَضْربُوا كِتابَ اللّه بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فإنّهُ ما ضَلّ قَوْمٌ قَطّ إلاّ أُوتُو الجَدَلَ) ، ثم تلا: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلاّ جَدَلاً بَل هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. ٥٩و قوله: إنْ هُوَ إلاّ عَبْدٌ أنْعَمْنا عَلَيْهِ يقول تعالى ذكره: فما عيسى إلا عبد من عبادنا، أنعمنا عليه بالتوفيق والإيمان، وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل، يقول: وجعلناه آية لبني إسرائيل، وحجة لنا عليهم بإرسالناه إليهم بالدعاء إلينا، وليس هو كما تقول النصارى من أنه ابن اللّه تعالى، تعالى اللّه عن ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٢١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة : إنْ هُوَ إلاّ عَبْدٌ أنْعَمْنَا عَلَيْهِ يعني بذلك عيسى ابن مريم، ما عدا ذلك عيسى ابن مريم، إن كان إلا عبدا أنعم اللّه عليه. وبنحو الذي قلنا أيضا في قوله: وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إسْرَائِيلَ قالوا. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٢٢ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن قتادة مَثَلاً لِبَنِي إسْرَائِيلَ أحسبه قال: آية لبني إسرائيل. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إسْرَائِيل أي آية. ٦٠قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ يقول تعالى ذكره: ولو نشاء معشر بني آدم أهلكناكم، فأفنينا جميعكم، وجعلنا بدلاً منكم في الأرض ملائكة يخلفونكم فيها يعبدونني وذلك نحو قوله تعالى ذكره: إنْ يَشأْ يُذْهِبْكُمْ أيّها النّاسُ وَيأْتِ بآخَرِينَ وكانَ اللّه على ذلكَ قَدِيرا وكما قال: إنْ يَشأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدكُمْ ما يَشاءُ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أن منهم من قال: معناه: يخلف بعضهم بعضا. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٢٣ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، قوله: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ يقول: يخلف بعضهم بعضا. ٢٣٩٢٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ قال: يعمرون الأرض بدلاً منكم. ٢٣٩٢٥ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: مَلائِكَةً فِي الأرْض يَخْلفُونَ قال: يخلف بعضهم بعضا، مكان بني آدم. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ لو شاء اللّه لجعل في الأرض ملائكة يخلف بعضهم بعضا. ٢٣٩٢٦ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ قال: خلفا منكم. ٦١القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنّهُ لَعِلْمٌ لّلسّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنّ بِهَا وَاتّبِعُونِ هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ }. اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله: وإنّهُ وما المعنيّ بها، ومن ذكر ما هي، فقال بعضهم: هي من ذكر عيسى، وهي عائدة عليه. وقالوا: معنى الكلام: وإن عيسى ظهوره علم يعلم به مجيء الساعة، لأن ظهوره من أشراطها ونزوله إلى الأرض دليل على فناء الدنيا، وإقبال الاَخرة. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٢٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن يحيى، عن ابن عباس ، (وَإنّهُ لَعَلَمٌ للِسّاعَةِ) قال: خروج عيسى بن مريم. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس بمثله، إلا أنه قال: نزول عيسى بن مريم. حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسيّ، قال: حدثنا غالب بن قائد، قال: حدثنا قيس، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ (وَإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَةِ) قال: نزول عيسى بن مريم. حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن عطية، عن فضيل بن مرزوق، عن جابر، قال: كان ابن عباس يقول: ما أدري علم الناس بتفسير هذه الاَية، أم لم يفطنوا لها؟ (وَإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَةِ) قال: نزول عيسى ابن مريم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس : (وَإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَةِ) قال: نزول عيسى ابن مريم. ٢٣٩٢٨ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك وعوف عن الحسن أنهما قالا في قوله: وَإنّهُ لَعِلْمٌ للسّاعَةِ قالا: نزول عيسى ابن مريم وقرأها أحدهما (وإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَةِ) . ٢٣٩٢٩ـ حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وَإنّهُ لَعِلْمٌ للسّاعَةِ قال: آية للساعة خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة. ٢٣٩٣٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة (وَإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَةِ) قال: نزول عيسى ابن مريم علم للساعة: القيامة. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: (وَإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَة) قال: نزول عيسى ابن مريم علم للساعة. ٢٣٩٣١ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَإنّهُ لَعِلْمٌ للسّاعَةِ قال: خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة. ٢٣٩٣٢ـ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَإنّهُ لَعِلْمٌ للسّاعَةِ يعني خروج عيسى ابن مريم ونزوله من السماء قبل يوم القيامة. ٢٣٩٣٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَإنّهُ لَعِلْمٌ للسّاعَة قال: نزول عيسى ابن مريم علم للساعة حين ينزل. وقال آخرون: الهاء التي في قوله: وَإنّهُ من ذكر القرآن، وقالوا: معنى الكلام: وإن هذا القرآن لعلم للساعة يعلمكم بقيامها، ويخبركم عنها وعن أهوالها. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٣٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: كان الحسن يقول: (وَإنّهُ لَعَلَمٌ للسّاعَةِ) هذا القرآن. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: كان ناس يقولون: القرآن علم للساعة. واجتمعت قرّاء الأمصار في قراءة قوله: وَإنّهُ لَعِلْمٌ للسّاعَةِ على كسر العين من العلم. ورُوي عن ابن عباس ما ذكرت عنه في فتحها، وعن قتادة والضحاك . والصواب من القراءة في ذلك: الكسر في العين، لإجماع الحجة من القرّاء عليه. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة أُبيّ، وإنه لذكر الساعة، فذلك مصحح قراءة الذين قرأوا بكسر العين من قوله: لَعِلْمٌ. و قوله: فَلا تَمْتَرُنّ بِها يقول: فلا تشكنّ فيها وفي مجيئها أيها الناس. كما: ٢٣٩٣٥ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ فَلا تَمْتَرُنّ بِها قال: تشكون فيها. و قوله: وَاتّبِعُونِ يقول تعالى ذكره: وأطيعون فاعملوا بما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه، وَهَذا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ يقول: اتباعكم إياي أيها الناس في أمري ونهيي صراط مستقيم، يقول: طريق لا اعوجاج فيه، بل هو قويم. ٦٢و قوله: وَلايَصُدّنّكُمُ الشّيْطانُ يقول جل ثناؤه: ولا يعدلنكم الشيطان عن طاعتي فيما آمركم وأنهاكم، فتخالفوه إلى غيره، وتجوروا عن الصراط المستقيم فتضلوا إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ يقول: إن الشيطان لكم عدوّ يدعوكم إلى ما فيه هلاككم، ويصدّكم عن قصد السبيل، ليوردكم المهالك، مبين قد أبان لكم عداوته، بامتناعه من السجود لأبيكم آدم، وإدلائه بالغرور حتى أخرجه من الجنة حسدا وبغيا. ٦٣القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمّا جَآءَ عِيسَىَ بِالْبَيّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلاُبَيّنَ ...}. يقول تعالى ذكره: ولما جاء عيسى بني إسرائيل بالبيّنات، يعني بالواضحات من الأدلة. و قيل: عُني بالبيّنات: الإنجيل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٣٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَلَمّا جاءَ عِيسَى بالبَيّناتِ أي بالإنجيل. و قوله: قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بالْحِكْمَةِ قيل: عُني بالحكمة في هذا الموضع: النبوّة. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٣٧ـ حدثني محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بالْحِكْمَةِ قال: النبوّة. وقد بيّنت معنى الحكمة فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده، وذكرت اختلاف المختلفين في تأويله، فأغنى ذلك عن إعادته. و قوله: وَلاِبَيّنَ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ يقول: ولأبين لكم معشر بني إسرائيل بعض الذي تختلفون فيه من أحكام التوراة. كما: ٢٣٩٣٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وَلأَبَيّنَ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قال: من تبديل التوراة. وقد قيل: معنى البعض في هذا الموضع بمعنى الكلّ، وجعلوا ذلك نظير قول لبيد: تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضهاأوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النّفُوسِ حِمامُها قالوا: الموت لا يعتلق بعض النفوس، وإنما المعنى: أو يعتلق النفوس حمامها، وليس لما قال هذا القائل كبير معنى، لأن عيسى إنما قال لهم: وَلاِبَيّنَ لَكُمْ بَعْض الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، لأنه قد كان بينهم اختلاف كثير في أسباب دينهم ودنياهم، فقال لهم: أبين لكم بعض ذلك، وهو أمر دينهم دون ما هم فيه مختلفون من أمر دنياهم، فلذلك خصّ ما أخبرهم أنه يبينه لهم. وأما قول لبيد: (أو يعتلق بعض النفوس) ، فإنه إنما قال ذلك أيضا كذلك، لأنه أراد: أو يعتلق نفسه حمامها، فنفسه من بين النفوس لا شكّ أنها بعض لا كلّ. و قوله: فاتّقُوا اللّه وأطِيعُونِ يقول: فاتقوا ربكم أيها الناس بطاعته، وخافوه باجتناب معاصيه، وأطيعون فيما أمرتكم به من اتقاء اللّه واتباع أمره، وقبول نصيحتي لكم. ٦٤و قوله: إنّ اللّه هُوَ رَبّي وَرَبّكُم فاعْبُدُوهُ يقول: إن اللّه الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له، ربي وربكم جميعا، فاعبدوه وحده، لا تشركوا معه في عبادته شيئا، فإنه لا يصلح، ولا ينبغي أن يُعبد شيء سواه. و قوله: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ يقول: هذا الذي أمرتكم به من اتقاء اللّه وطاعتي، وإفراد اللّه بالألوهة، هو الطريق المستقيم، وهو دين اللّه الذي لا يقبل من أحد من عباده غيره. ٦٥القول في تأويل قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ }. اختلف أهل التأويل في المعنيين بالأحزاب، الذين ذكرهم اللّه في هذا الموضع، فقال بعضهم: عنى بذلك: الجماعة التي تناظرت في أمر عيسى، واختلفت فيه. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٣٩ـ حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: فاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهمْ قال: هم الأربعة الذين أخرجهم بنو إسرائيل يقولون في عيسى. وقال آخرون: بل هم اليهود والنصارى. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٤٠ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: فاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قال: اليهود والنصارى. والصواب من القول في ذلك أن يقال: معنى ذلك: فاختلف الفِرَق المختلفون في عيسى بن مريم من بين من دعاهم عيسى إلى ما دعاهم إليه من اتقاء اللّه والعمل بطاعته، وهم اليهود والنصارى، ومن اختلف فيه من النصارى، لأن جميعهم كانوا أحزابا مبتسلين، مختلفي الأهواء مع بيانه لهم أمر نفسه، وقوله لهم: إنّ اللّه هُوَ رَبّي وَرَبّكُمْ فاعْبَدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. و قوله: فَوَيْلٌ لِلّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَاب يَوْم ألِيمٍ يقول تعالى ذكره فالوادي السائل من القيح والصديد في جهنم للذين كفروا باللّه ، الذين قالوا في عيسى بن مريم بخلاف ما وصف عيسى به نفسه في هذه الاَية مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ ألِيمٍ يقول: من عذاب يوم مؤلم، ووصف اليوم بالإيلام، إذ كان العذاب الذي يؤلمهم فيه، وذلك يوم القيامة. كما: ٢٣٩٤١ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ ألِيمٍ قال: من عذاب يوم القيامة. ٦٦و قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً يقول: هل ينظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في عيسى بن مريم، القائلون فيه الباطل من القول، إلاّ الساعة التي فيها تقوم القيامة فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يقول: وهم لا يعلمون بمجيئها. ٦٧القول في تأويل قوله تعالى: {الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ }. يقول تعالى ذكره: المتخالّون يوم القيامة على معاصي اللّه في الدنيا، بعضهم لبعض عدوّ، يتبرأ بعضهم من بعض، إلاّ الذين كانوا تخالّوا فيها على تقوى اللّه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٤٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: الأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إلاّ المُتّقِينَ فكلّ خلة على معصية اللّه في الدنيا متعادون. ٢٣٩٤٣ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، قوله: الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إلاّ المُتّقِينَ فكل خُلّة هي عداوة إلاّ خُلّة المتقين. ٢٣٩٤٤ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، أن عليا رضي اللّه عنه قال: خليلان مؤمنان، وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنَين فقال: يا ربّ إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير، وينهاني عن الشرّ ويخبرني أني ملاقيك يا ربّ فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول: ليثن أحدكما على صاحبه فيقول: يا ربّ إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير، وينهاني عن الشرّ، ويخبرني أني ملاقيك، فيقول: نعم الخليل، ونعم الأخ، ونعم الصاحب قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا ربّ إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشرّ، وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، فيقول: بئس الأخ، وبئس الخليل، وبئس الصاحب. ٦٨و قوله: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ وفي هذا الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذكر عليه. ومعنى الكلام: الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدوّ إلاّ المتقين، فإنهم يقال لهم: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم من عقابي، فإني قد أمنتكم منه برضاي عنكم، ولا أنتم تحزنون على فراق الدنيا فإن الذي قدمتم عليه خير لكم مما فارقتموه منها. وذُكر أن الناس ينادون هذا النداء يوم القيامة، فيطمع فيها من ليس من أهلها حتى يسمع قوله: الّذِينَ آمَنُوا بآياتِنا وكانُوا مُسْلِمِينَ فييأس منها عند ذلك. ٢٣٩٤٥ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه، قال سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلاّ فزع، فينادي منادٍ: يا عباد اللّه لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، فيرجوها الناس كلهم، قال: فيتبعها الّذِينَ آمَنُوا بآياتِنا وكانُوا مُسْلِمِينَ قال: فييأس الناس منها غير المسلمين. ٦٩القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ }. و قوله: الّذِينَ آمَنُوا بآياتِنا يقول تعالى ذكره: يا عبادي الذين آمنوا وهم الذين صدّقوا بكتاب اللّه ورسله، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم، وكانوا مسلمين، يقول: وكانوا أهل خضوع للّه بقلوبهم، وقبول منهم لما جاءتهم به رسلهم عن ربهم على دين إبراهيم خليل الرحمن صلى اللّه عليه وسلم ، حنفاء لا يهود ولا نصارى، ولا أهل أوثان. ٧٠و قوله: ادْخُلُوا الجَنّةَ أنْتُمْ وأزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يقول جلّ ثناؤه: ادخلوا الجنة أنتم أيها المؤمنون وأزواجكم مغبوطين بكرامة اللّه ، مسرورين بما أعطاكم اليوم ربكم. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: تُحْبَرُونَ وقد ذكرنا ما قد قيل في ذلك فيما مضى، وبيّنا الصحيح من القول فيه عندنا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، غير أنا نذكر بعض ما لم يُذكر هنالك من أقوال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٤٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ادْخُلُوا الجَنّةَ أنْتُمْ وأزْوَاجُكُم تُحْبَرُونَ: أي تَنْعَمون. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، قوله: تُحْبَرُونَ قال: تنعمون. ٢٣٩٤٧ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: تُحْبَرُونَ قال: تكرمون. ٢٣٩٤٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: أنْتُمْ وأزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ قال: تنعمون. ٧١القول في تأويل قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }. يقول تعالى ذكره: يُطاف على هؤلاء الذين آمنوا بآياته في الدنيا إذا دخلوا الجنة في الاَخرة بصحاف من ذهب، وهي جمع للكثير من الصّحْفة، والصّحْفة: القصعة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٤٩ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ قال: القِصاع. ٢٣٩٥٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر، عن شعبة، قال: (إنّ أدنى أهل الجنة منزلة، من له قصر فيه سبعون ألف خادم، في يد كل خادم صحفة سوى ما في يد صاحبها، لو فتح بابه فضافه أهل الدنيا لأوسعهم) . ٢٣٩٥١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القميّ، عن جعفر، عن سعيد، قال: (إن أخسّ أهل الجنة منزلاً من له سبعون ألف خادم، مع كل خادم صحفة من ذهب، لو نزل به جميع أهل الأرض لأوسعهم، لا يستعين عليهم بشيء من غيره، وذلك في قول اللّه تبارك وتعالى: لَهُمْ ما يَشاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنا مَزيدٌ ولهم فِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ، وَتَلَذّ الاْءَعْينُ) . ٢٣٩٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن أبي أيوب الأزديّ، عن عبد اللّه بن عمرو، قال: (ما أحد من أهل الجنة إلاّ يسعى عليه ألف غلام، كلّ غلام على عمل ما عليه صاحبه) . و قوله: وأكْوَابٍ وهي جمع كوب، والكوب: الإبريق المستدير الرأس، الذي لا أذن له ولا خرطوم، وإياه عنى الأعشى ب قوله: صَرِيفَيّةٌ طَيّبٌ طَعْمُهالَهَا زَبَدٌ بينَ كُوب وَدَنّ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٥٣ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وأكْوَابٍ قال: الأكواب التي ليست لها آذان. ومعنى الكلام: يطاف عليهم فيها بالطعام في صِحاف من ذهب، وبالشراب في أكواب من ذهب، فاستغنى بذكر الصّحاف والأكواب من ذكر الطعام والشراب، الذي يكون فيها لمعرفة السامعين بمعناه (وَفِيها ما تَشْتَهي الأَنْفُسُ وَتَلَذّ الأَعْيُنُ) يقول تعالى ذكره: لكم في الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها المؤمنون، وتلذّ أعينكم وأنْتُمْ فِيها خالِدُونَ يقول: وأنتم فيها ماكثون، لا تخرجون منها أبدا. كما: ٢٣٩٥٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن سابط أن رجلاً قال: يا رسول اللّه إني أُحبّ الخيل، فهل في الجنة خيل؟ فقال: (إنْ يُدْخِلْكَ الجَنّةَ إنْ شاءَ، فَلا تَشاءُ أنْ تَرْكَبَ فَرَسا مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ تَطِيرُ بِكَ فِي أيّ الجَنّةِ شِئْتَ إلاّ فَعَلَتْ) ، فقال أعرابيّ: يا رسول اللّه إني أحبّ الإبل، فهل في الجنة إبل؟ فقال: (يا أعرابيّ إنْ يُدْخِلْكَ اللّه الجَنّةَ إن شاءَ اللّه ، فَفِيها ما اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذّت عَيْناكَ) . ٢٣٩٥٥ـ حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار، عن محمد بن سعد الأنصاري، عن أبي ظبية السلفي، قال: إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة، قال: فتقول: ما أُمْطِرُكُمْ؟ قال: فما يدعو داعٍ من القوم بشيء إلاّ أمطرتهم، حتى إن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أترابا. ٢٣٩٥٦ـ حدثنا ابن عرفة، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن عليّ بن أبي الوليد، قال: قيل لمجاهد في الجنة سماع؟ قال: إن فيها لشجرا يقال له العيص، له سماع لم يسمع السامعون إلى مثله. ٢٣٩٥٧ـ حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا زيد بن حباب، قال: أخبرنا معاوية بن صالح، قال: ثني سليمان بن عامر، قال: سمعت أبا أُمامة، يقول: إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير، فيقع متفلقا نضيجا في كفه، فيأكل منه حتى تنتهي نفسه، ثم يطير، ويشتهي الشراب، فيقع الإبريق في يده، ويشرب منه ما يريد، ثم يرجع إلى مكانه. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ فقرأته عامة قرّاء المدينة والشام: ما تَشْتَهِيهِ بزيادة هاء، وكذلك ذلك في مصاحفهم. وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق (تَشْتَهِي) بغير هاء، وكذلك هو في مصاحفهم. والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. ٧٢انظر تفسير الآية:٧٣ ٧٣القول في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ }. يقول تعالى ذكره: يقال لهم: وهذه الجنة التي أورثكموها اللّه عن أهل النار الذين أدخلهم جهنم بما كنتم في الدنيا تعملون من الخيرات لَكُمْ فِيها يقول: لكم في الجنة فاكهة كثيرة من كلّ نوع مِنْها تَأْكُلُونَ يقول: من الفاكهة تأكلون ما اشتهيتم. ٧٤القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنّمَ خَالِدُونَ }. يقول تعالى ذكره إنّ المُجْرِمِينَ وهم الذين اجترموا في الدنيا الكفر باللّه ، فاجترموا به في الاَخرة فِي عَذَابِ جَهَنّمَ خالِدُونَ يقول: هم فيه ماكثون، ٧٥لا يُفتّر عنهم، يقول: لا يخفف عنهم العذاب وأصل الفتور: الضعف وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ يقول: وهم في عذاب جهنم مبلسون، والهاء في فيه من ذكر العذاب. ويُذكر أن ذلك في قراءة عبداللّه : (وَهُمْ فِيها مُبْلِسُونَ) والمعنى: وهم في جهنم مبلسون، والمبلس في هذا الموضع: هو الاَيس من النجاة الذي قد قنط فاستسلم للعذاب والبلاء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٥٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ: أي مستسلمون. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، قوله: وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ قال: آيسون. وقال آخرون بما: ٢٣٩٥٩ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ وَهُمْ فِيهِ مُبْلسونَ متغير حالهم. وقد بيّنا فيما مضى معنى الإبلاس بشواهده، وذكر المختلفين فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ٧٦و قوله: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ يقول تعالى ذكره: وما ظلمنا هؤلاء المجرمين بفعلنا بهم ما أخبرناكم أيها الناس أنا فعلنا بهم من التعذيب بعذاب جهنم وَلَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ بعبادتهم في الدنيا غير من كان عليهم عبادته، وكفرهم باللّه ، وجحودهم توحيده. ٧٧القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَادَوْاْ يَمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّكَ قَالَ إِنّكُمْ مّاكِثُونَ }. يقول تعالى ذكره: ونادى هؤلاء المجرمون بعد ما أدخلهم اللّه جهنم، فنالهم فيها من البلاء ما نالهم، مالكا خازن جهنم يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ قال: ليمتنا ربك، فيفرغ من إماتتنا، فذكر أن مالكا لا يجيبهم في وقت قيلهم له ذلك، ويدعهم ألف عام بعد ذلك، ثم يجيبهم، فيقول لهم: إنّكُمْ ماكِثُونَ. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٦٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي الحسن، عن ابن عباس وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ، فأجابهم بعد ألف سنة إنّكُمْ ماكِثونَ. ٢٣٩٦١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن رجل من جيرانه يقال له الحسن، عن نوف في قوله: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ قال: يتركهم مئة سنة مما تعدّون، ثم يناديهم فيقول: يا أهل النار إنكم ماكثون. ٢٣٩٦٢ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة ، عن عبد اللّه بن عمرو، قال: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْض عَلَيْنَا رَبّكَ قال: فخلى عنهم أربعين عاما لا يجيبهم، ثم أجابهم: إنّكمْ ماكِثُونَ: قالُوا رَبّنا أخْرِجْنا مِنْها فإنْ عُدْنا فإنّا ظالِمُونَ فخلى عنهم مثلي الدنيا، ثم أجابهم: اخْسَئُوا فِيها وَلا تُكَلّمُونِ قال: فواللّه ما نبس القوم بعد الكلمة، إن كان إلا الزفيرُ والشهيق. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد اللّه بن عمرو، قال: إن أهل جهنم يدعون مالكا أربعين عاما فلا يجيبهم، ثم يقول: إنّكُمْ ماكِثُونَ، ثم ينادون ربهم رَبّنا أخْرِجْنا مِنْها فإنْ عُدْنا فإنّا ظالِمُونَ فيدعهم أو يخلي عنهم مثل الدنيا، ثم يردّ عليهم اخْسَئُوا فِيها وَلا تُكَلّمُون قال: فما نبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفيرُ والشهيق في نار جهنم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن الحسن، عن نوف وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ قال: يتركهم مئة سنة مما تعدّون، ثم ناداهم فاستجابوا له، فقال: إنكم ماكثون. ٢٣٩٦٣ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط عن السديّ، في قوله: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ قال: مالك خازن النار، قال: فمكثوا ألف سنة مما تعدّون، قال: فأجابهم بعد ألف عام: إنكم ماكثون. ٢٣٩٦٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول اللّه تعالى ذكره: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبّكَ قال: يميتنا، القضاء ههنا الموت، فأجابهم إِنّكُمْ مَاكِثُونَ. ٧٨و قوله: لَقَدْ جِئْناكُمْ بالحَقّ يقول: لقد أرسلنا إليكم يا معشر قريش رسولنا محمدا بالحق. كما: ٢٣٩٦٥ـ حدثني محمد، قال: حدثنا أحمد، حدثنا أسباط، عن السديّ، لَقَدْ جِئْناكُمْ بالْحَقّ، قال: الذي جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم وَلَكِنّ أكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كارِهُونَ يقول تعالى ذكره: ولكن أكثرهم لما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم من الحقّ كارهون. ٧٩القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوَاْ أَمْراً فَإِنّا مُبْرِمُونَ}. يقول تعالى ذكره: أم أبرم هؤلاء المشركون من قريش أمرا فأحكموه، يكيدون به الحقّ الذي جئناهم به، فإنا محكمون لهم ما يخزيهم، ويذلهم من النكال. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٦٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: أمْ أبْرَمُوا أمْرا فإنّا مُبْرِمُونَ قال: مجمعون: إن كادوا شرّا كدنا مثله. ٢٣٩٦٧ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: أمْ أَبْرَمُوا أمْرا فإنّا مُبْرِمُونَ قال: أم أجمعوا أمرا فإنا مجمعون. ٢٣٩٦٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: أمْ أَبْرَمُوا أمْرا فإنّا مُبْرِمُونَ قال: أم أحكموا أمرا فإنا محكمون لأمرنا. ٨٠و قوله: أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرّهُمْ وَنجْوَاهُمْ يقول: أم يظنّ هؤلاء المشركون باللّه أنا لا نسمع ما أخفوا عن الناس من منطقهم، وتشاوروا بينهم وتناجوا به دون غيرهم، فلا نعاقبهم عليه لخفائه علينا. و قوله: بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ يقول تعالى ذكره: بل نحن نعلم ما تناجوا به بينهم، وأخفوه عن الناس من سرّ كلامهم، وحفظتنا لديهم، يعني عندهم يكتبون ما نطقوا به من منطق، وتكلموا به من كلامهم. وذُكر أن هذه الاَية نزلت في نفر ثلاثة تدارأُوا في سماع اللّه تبارك وتعالى كلام عباده. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٦٩ـ حدثني عمرو بن سعيد بن يسار القرشيّ، قال: حدثنا أبو قتيبة، قال: حدثنا عاصم بن محمد العمريّ، عن محمد بن كعب القرظي، قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها، قرشيان وثقفيّ، أو ثقفيان وقرشيّ، فقال واحد من الثلاثة: أترون اللّه يسمع كلامنا؟ فقال الأوّل: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، قال الثاني: إن كان يسمع إذا أعلنتم، فإنه يسمع إذا أسررتم، قال: فنزلت أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرّهُمْ وَنجْوَاهُمْ، بَلى وَرسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٧٠ـ حدثني محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قال: الحفظَة. ٢٣٩٧١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد. عن قتادة بلى وَرُسُلنا لَدَيهِمْ يَكْتُبُونَ: أي عندهم. ٨١القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرّحْمَـَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ }. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: قُلْ إنْ كانّ للرّحْمَنِ وَلَدٌ فَأنا أوّلُ العابِدِينَ فقال بعضهم: في معنى ذلك: قل يا محمد إن كان للرحمن ولد في قولكم وزعمكم أيها المشركون، فأنا أوّل المؤمنين باللّه في تكذيبكم، والجاحدين ما قلتم من أن له ولدا. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٧٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قُلْ إنْ كانَ للرّحمَنِ وَلَدٌ كما تقولون فَأنا أوّلُ العابِدِينَ المؤمنين باللّه ، فقولوا ما شئتم. ٢٣٩٧٣ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: فأنا أوّلُ العابِدِينَ قال: قل إن كان للّه ولد في قولكم، فأنا أوّل من عبد اللّه ووحده وكذّبكم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل ما كان للرحمن ولد، فأنا أوّل العابدين له بذلك. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٧٤ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، قوله: قُلْ إنْ كانَ للرّحْمَن وَلَدٌ فَأنا أوّلُ العابِدِينَ يقول: لم يكن للرحمن ولد فأنا أوّل الشاهدين. وقال آخرون: بل معنى ذلك نفي، ومعنى إن الجحد، وتأويل ذلك ما كان ذلك، ولا ينبغي أن يكون. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: قُلْ إنْ كانَ للرّحْمَنِ وَلَدٌ فَأنا أوّلُ العابِدِينَ قال قتادة : وهذه كلمة من كلام العرب إنْ كان للرّحْمن وَلَدٌ: أي إن ذلك لم يكن، ولا ينبغي. ٢٣٩٧٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: قُلْ إنْ كانَ للرّحْمَنِ وَلَدٌ فَأنا أوّلُ العابِدِينَ قال: هذا الإنكاف ما كان للرحمن ولد، نكف اللّه أن يكون له ولد، وإن مثل (ما) إنما هي: ما كان للرحمن ولد، ليس للرحمن ولد، مثل قوله: وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ إنما هي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، فالذي أنزل اللّه من كتابه وقضاه من قضائه أثبت من الجبال، و(إن) هي (ما) إن كان ما كان تقول العرب: إن كان، وما كان الذي تقول. وفي قوله: فَأنا أوّلُ العابِدِينَ أوّل من يعبد اللّه بالإيمان والتصديق أنه ليس للرحمن ولد على هذا أعبد اللّه . ٢٣٩٧٧ـ حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سألت ابن محمد، عن قول اللّه : إنْ كانَ للرّحْمَنِ وَلَدٌ قال: ما كان. ٢٣٩٧٨ـ حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا عمرو، قال: سألت زيد بن أسلم، عن قول اللّه : قُلْ إنْ كانَ للرّحْمَنِ وَلَدٌ قال: هذا قول العرب معروف، إن كان: ما كان، إن كان هذا الأمر قط، ثم قال: و قوله: وإن كان: ما كان. وقال آخرون: معنى (إن) في هذا الموضع معنى المجازاة، قالوا: وتأويل الكلام: لو كان للرحمن ولد، كنت أوّل من عبده بذلك. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٧٩ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ قُلْ إنْ كانَ للرّحْمَنِ وَلَدٌ فَأنا أوّلُ العابِدِينَ قال: لو كان له ولد كنت أوّل من عبده بأن له ولدا، ولكن لا ولد له. وقال آخرون: معنى ذلك: قل إن كان للرحمن ولد، فأنا أوّل الاَنفين ذلك، ووجهوا معنى العابدين إلى المنكرين الاَبين، من قول العرب: قد عبِد فلان من هذا الأمر إذا أنِف منه وغضب وأباه، فهو يعبَد عَبدا، كما قال الشاعر: ألا هَوِيَتْ أُمّ الوَلِيدِ وأصْبَحَتْلِمَا أبْصَرَتْ فِي الرأس مِنّي تَعَبّدُ وكما قال الاَخر: مَتى ما يَشأْ ذُو الوُدّ يَصْرِمْ خَلِيلَهُوَيَعْبَدْ عَلَيْهِ لا مَحَالةَ ظالِمَا ٢٣٩٨٠ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ثني: ابن أبي ذئب، عن أبي قسيط، عن بعجة بن زيد الجهني، أن امرأة منهم دخلت على زوجها، وهو رجل منهم أيضا، فولدت له في ستة أشهر، فذكر ذلك لعثمان بن عفان رضي اللّه عنه، فأمر بها أن تُرجم، فدخل عليه عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فقال: إن اللّه تبارك وتعالى يقول في كتابه: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا. وقال: وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ قال: فواللّه ما عبدِ عثمان أن بعث إليها تردّ. قال يونس، قال ابن وهب: عبد: استنكف. وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معنى: إنْ الشرط الذي يقتضي الجزاء على ما ذكرناه عن السديّ، وذلك أن (إن) لا تعدو في هذا الموضع أحد معنيين: إما أن يكون الحرف الذي هو بمعنى الشرط الذي يطلب الجزاء، أو تكون بمعنى الجحد، وهب إذا وجهت إلى الجحد لم يكن للكلام كبير معنى، لأنه يصير بمعنى: قل ما كان للرحمن ولد، وإذا صار بذلك المعنى أوهم أهل الجهل من أهل الشرك باللّه أنه إنما نفي بذلك عن اللّه عزّ وجلّ أن يكون له ولد قبل بعض الأوقات، ثم أحدث له الولد بعد أن لم يكن، مع أنه لو كان ذلك معناه لقدر الذين أمر اللّه نبيّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم أن يقول لهم: ما كان للرحمن ولد، فأنا أوّل العابدين أن يقولوا له صدقت، وهو كما قلت، ونحن لم نزعم أنه لم يزل له ولد. وإنما قلنا: لم يكن له ولد، ثم خلق الجنّ فصاهرهم، فحدث له منهم ولد، كما أخبر اللّه عنهم أنهم كانوا يقولونه، ولم يكن اللّه تعالى ذكره ليحتجّ لنبيه صلى اللّه عليه وسلم وعلى مكذّبيه من الحجة بما يقدرون على الطعن فيه، وإذ كان في توجيهنا (إن) إلى معنى الجحد ما ذكرنا، فالذي هو أشبه المعنيين بها الشرط. وإذ كان ذلك كذلك، فبينة صحة ما نقول من أن معنى الكلام: قل يا محمد لمشركي قومك الزاعمين أن الملائكة بنات اللّه : إن كان للرحمن ولد فأنا أوّل عابديه بذلك منكم، ولكنه لا ولد له، فأنا أعبده بأنه لا ولد له، ولا ينبغي أن يكون له. وإذا وجه الكلام إلى ما قلنا من هذا الوجه لم يكن على وجه الشكّ، ولكن على وجه الإلطاف في الكلام وحُسن الخطاب، كما قال جل ثناؤه قُلِ اللّه ، وأنا أوْ إيّاكُمْ لَعَلى هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وقد علم أن الحقّ معه، وأن مخالفيه في الضلال المبين. ٨٢و قوله: سُبْحانَ رَبّ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ يقول تعالى ذكره تبرئة وتنزيها لمالك السموات والأرض ومالك العرش المحيط بذلك كله، وما في ذلك من خلق مما يصفه به هؤلاء المشركون من الكذب، ويضيفون إليه من الولد وغير ذلك من الأشياء التي لا ينبغي أن تضاف إليه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٨١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: رَبّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ: أي يكذّبون. ٨٣القول في تأويل قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ }. يقول تعالى ذكره: فذر يا محمد هؤلاء المفترين على اللّه ، الواصفيه بأن له ولدا يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم حتى يُلاقوا يَوْمَهُمْ الّذِي يُوعَدُونَ وذلك يوم يصليهم اللّه بفريتهم عليه جهنم، وهو يوم القيامة. كما: ٢٣٩٨٢ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ حتى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدونَ قال: يوم القيامة. ٨٤و قوله: وَهُوَ الّذِي فِي السّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَه يقول تعالى ذكره: واللّه الذي له الألوهة في السماء معبود، وفي الأرض معبود كما هو في السماء معبود، لا شيء سواه تصلح عبادته يقول تعالى ذكره: فأفردوا لمن هذه صفته العبادة، ولا تشركوا به شيئا غيره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٨٣ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: وَهُوَ الّذِي فِي السّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ قال: يُعبد في السماء، ويُعبد في الأرض. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، في قوله: وَهُوَ الّذِي فِي السّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ: أي يعبد في السماء وفي الأرض. و قوله: وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ يقول: وهو الحكيم في تدبير خلقه، وتسخيرهم لما يشاء، العليم بمصالحهم. ٨٥القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَبَارَكَ الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }. يقول تعالى ذكره، وتبارك الذي له سلطان السموات السبع والأرض، وما بينهما من الأشياء كلها، جارٍ على جميع ذلك حكمه، ماضٍ فيهم قضاؤه. يقول: فكيف يكون له شريكا من كان في سلطانه وحكمه فيه نافد وَعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ يقول: وعنده علم الساعة التي تقوم فيها القيامة، ويُحشر فيها الخلق من قبورهم لموقف الحساب. قوله: وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ يقول: وإليه أيها الناس تردّون من بعد مماتكم، فتصيرون إليه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. ٨٦القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولا يملك عيسى وعزير والملائكة الذين يعبدهم هؤلاء المشركون بالساعة، الشفاعة عند اللّه لأحد، إلا من شهد بالحقّ، فوحد اللّه وأطاعه، بتوحيد علم منه وصحة بما جاءت به رسله. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٨٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وَلا يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونه الشّفاعَةَ قال: عيسى، وعُزير، والملائكة. قوله: إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحَقّ قال: كلمة الإخلاص، وهم يعلمون أن اللّه حقّ، وعيسى وعُزير والملائكة يقول: لا يشفع عيسى وعُزير والملائكة إلاّ من شهد بالحقّ، وهو يعلم الحق. وقال آخرون: عني بذلك: ولا تملك الاَلهة التي يدعوها المشركون ويعبدونها من دون اللّه الشفاعة إلاّ عيسى وعُزير وذووهما، والملائكة الذين شهدوا بالحقّ، فأقرّوا به وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به. ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٨٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَلا يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دونِهِ الشّفاعَةَ إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ: الملائكة وعيسى وعُزير، قد عُبِدوا من دون اللّه ولهم شفاعة عند اللّه ومنزلة. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحَقّ قال: الملائكة وعيسى ابن مريم وعُزير، فإن لهم عند اللّه شهادة. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن اللّه تعالى ذكره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون اللّه الشفاعة عنده لأحد، إلاّ من شهد بالحقّ، وشهادته بالحقّ: هو إقراره بتوحيد اللّه ، يعني بذلك: إلاّ من آمن باللّه ، وهم يعلمون حقيقة توحيده، ولم يخصص بأن الذي لا يملك ملك الشفاعة منهم بعض من كان يعبد من دون اللّه ، فذلك على جميع من كان تعبد قريش من دون اللّه يوم نزلت هذه الاَية وغيرهم، وقد كان فيهم من يعبد من دون اللّه الاَلهة، وكان فيهم من يعبد من دونه الملائكة وغيرهم، فجميع أولئك داخلون في قوله: ولا يملك الذين يدعو قريش وسائر العرب من دون اللّه الشفاعة عند اللّه . ثم استثنى جل ثناؤه ب قوله: إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحَقّ وَهُم يَعْلَمُونَ وهم الذين يشهدون شهادة الحقّ فيوحدون اللّه ، ويخلصون له الوحدانية، على علم منهم ويقين بذلك، أنهم يملكون الشفاعة عنده بإذنه لهم بها، كما قال جلّ ثناؤه: وَلا يَشْفَعُونَ إلا لِمَن ارْتَضَى فأثبت جل ثناؤه للملائكة وعيسى وعُزير ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الاَلهة والأوثان باستثنائه الذي استثناه. ٨٧القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّه فَأَنّىَ يُؤْفَكُونَ }. يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين باللّه من قومك: من خلقهم؟ ليقولنّ: اللّه خلقنا فَأنّى يُؤْفَكُونَ فأيّ وجه يصرفون عن عبادة الذي خلقهم، ويحرمون إصابة الحقّ في عبادته. ٨٨و قوله: وَقِيِله: يا رَبّ إن هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاّ يُؤمِنُونَ اختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَقِيلِهِ فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة والبصرة (وَقِيلَهُ) بالنصب. وإذا قرىء ذلك كذلك، كان له وجهان في التأويل: أحدهما العطف على قوله: أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرّهُمْ ونَجْوَاهُمْ، ونسمع قيله يا ربّ. والثاني: أن يضمر له ناصب، فيكون معناه حينئذٍ: وقال قوله: يا رَبّ إنّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يَؤْمِنُونَ وشكا محمد شكواه إلى ربه. وقرأته عامة قرّاء الكوفة وَقِيلِهِ بالخفض على معنى: وعنده علم الساعة، وعلم قيله. والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار صحيحتا المعنى فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. فتأويل الكلام إذن: وقال محمد قيله شاكيا إلى ربه تبارك وتعالى قومه الذين كذّبوه، وما يلقى منهم: يا ربّ إن هؤلاء الذين أمرتني بإنذارهم وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك، قوم لا يؤمنون. كما: ٢٣٩٨٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: وَقِيلِهِ يا رَبّ إنّ هَؤُلاء قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ قال: فأبرّ اللّه عزّ وجلّ قول محمد صلى اللّه عليه وسلم . ٢٣٩٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَقِيلِهِ يا رَبّ إنّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ قال: هذا قول نبيكم عليه الصلاة والسلام يشكو قومه إلى ربه. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة وَقِيلِهِ يا رَبّ قال: هو قول النبي صلى اللّه عليه وسلم إنّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ. ٨٩القول في تأويل قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم ، جوابا له عن دعائه إياه إذ قال: (يا ربّ إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) فاصْفَحْ عَنْهُمْ يا محمد، وأعرض عن أذاهم وَقُلْ لهم سَلامٌ عليكم ورفع سلام بضمير عليكم أو لكم. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة (فَسَوْفَ تَعْلَمونَ) بالتاء على وجه الخطاب، بمعنى: أمر اللّه عزّ وجلّ نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقول ذلك للمشركين، مع قوله: سَلامٌ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة وبعض قرّاء مكة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ بالياء على وجه الخبر، وأنه وعيد من اللّه للمشركين، فتأويله على هذه القراءة: فاصْفَحْ عَنْهُمْ يا محمد وقُلْ سَلامٌ. ثم ابتدأ تعالى ذكره الوعيدَ لهم، فقال فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ما يلقون من البلاء والنكال والعذاب على كفرهم، ثم نسخ اللّه جل ثناؤه هذه الاَية، وأمر نبيّه صلى اللّه عليه وسلم بقتالهم. كما: ٢٣٩٨٨ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة فاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ قال: اصفح عنهم، ثم أمره بقتالهم. ٢٣٩٨٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال اللّه تبارك وتعالى يعزّي نبيه صلى اللّه عليه وسلم فاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. |
﴿ ٠ ﴾