تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة الحجرات

سورة الحجرات مدنية وآياتها ثماني عشرة

بسم اللّه الرحمَن الرحيم

١

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللّه وَرَسُولِهِ وَاتّقُواْ اللّه إِنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.

 يعني تعالى ذكره ب قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا: يا أيها الذين أقروا بوحدانية اللّه ، وبنبوّة نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّه وَرَسُولِهِ يقول: لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي اللّه لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر اللّه وأمر رسوله، محكيّ عن العرب فلان يقدّم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم بالبيان عن معناه ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٠٢ـ حدثنا عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، قوله: لا تُقَدّموا بينَ يَدَي اللّه وَرَسُولِهِ يقول: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.

٢٤٥٠٣ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، في قوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّه ورَسُولِهِ... الاَية قال: نُهُوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.

٢٤٥٠٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّه وَرَسُولِهِ قال: لا تفتاتوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشيء حتى يقضيه اللّه على لسانه.

٢٤٥٠٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة يا أيّها الّذينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّه وَرَسُولِهِ ذُكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا لوضع كذا وكذا، قال: فكره اللّه عزّ وجلّ ذلك، وقدم فيه.

٢٤٥٠٦ـ وقال: الحسن: أناس من المسلمين ذبحوا قبل صلاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يعيدوا ذبحا آخر.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّه وَرَسُولِهِ قال: إن أُناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، لو أنزل في كذا، وقال الحسن: هم قوم نحروا قبل أن يصلي النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فأمرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يعيدوا الذبح.

٢٤٥٠٧ـ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَيِ اللّه وَرَسُولِهِ يعني بذلك في القتال، وكان من أمورهم لا يصلح أن يُقْضَى إلا بأمره ما كان من شرائع دينهم.

٢٤٥٠٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله جلّ ثناؤه: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّه وَرَسُولِهِ قال: لا تقطعوا الأمر دون اللّه ورسوله.

٢٤٥٠٩ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّه وَرَسُولِهِ قال: لا تقضوا أمرا دون رسول اللّه ، وبضم التاء من قوله: لا تُقَدّمُوا قرأ قرّاء الأمصار، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القرّاء عليها، وقد حكي عن العرب قدّمت في كذا، وتقدّمت في كذا، فعلى هذه اللغة لو كان

قيل: (لا تَقَدّمُوا) بفتح التاء كان جائزا.

و قوله: وَاتّقُوا اللّه إنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول: وخافوا اللّه أيها الذين آمنوا في قولكم، أن تقولوا ما لم يأذن لكم به اللّه ولا رسوله، وفي غير ذلك من أموركم، وراقبوه، إن اللّه سميع لما تقولون، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم.

٢

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوَاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ...}.

يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول اللّه تتجهموه بالكلام، وتغلظون له في الخطاب وَلا تجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ يقول: ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمد، يا محمد، يا نبيّ اللّه ، يا نبي اللّه ، يا رسول اللّه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥١٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، قال لا تنادُوه نداء، ولكن قولاً لينا يا رسول اللّه .

٢٤٥١١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فوعظهم اللّه ، ونهاهم عن ذلك.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، كانوا يرفعون، ويجهرون عند النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فوعظوا، ونهوا عن ذلك.

٢٤٥١٢ـ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ... الاَية، هو ك قوله: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا نهاهم اللّه أن ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا وأمرهم أن يشرّفوه ويعظّموه، ويدعوه إذا دعوه باسم النبوّة.

٢٤٥١٣ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا زيد بن حباب، قال: حدثنا أبو ثابت بن ثابت قيس بن الشماس، قال: ثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن شماس، عن أبيه، قال: لما نزلت هذه الاَية لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ قال: قعد ثابت في الطريق يبكي، قال: فمرّ به عاصم بن عديّ من بني العَجلان، فقال: ما يُبكيك يا ثابت؟ قال: لهذه الاَية، أتخوّف أن تكون نزلت فيّ، وأنا صيّت رفيع الصوت قال: فمضى عاصم بن عديّ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال: وغلبه البكاء، قال: فأتى امرأته جميلة ابنة عبد اللّه بن أُبيّ ابن سلول، فقال لها: إذا دخلتُ بيت فرسي، فشدّى على الضبة بمسمار، فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال: لا أخرج حتى يتوفاني اللّه ، أو يرضى عني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: وأتى عاصم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره خبره، فقال: (اذْهَبْ فادْعُهُ لي) فجاء عاصم إلى المكان، فلم يجده، فجاء إلى أهله، فوجده في بيت الفرس، فقال له: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعوك، فقال: اكسر الضّبة، قال: فخرجا فأتيا نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ما يُبْكِيكَ يا ثابِتُ) ؟ فقال: أنا صيّت، وأتخوّف أن تكون هذه الاَية نزلت فيّ لا تَرْفَعوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلا تَجْهَرُوا لَهُ القَولِ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أما تَرْضَى أنْ تَعِيشَ حَميدا، وتَقْتَلَ شَهيدا، وَتَدْخُلَ الجَنّةَ) ؟ فقال: رضيت ببُشرى اللّه ورسوله، لا أرفع صوتي أبدا على رسول اللّه ، فأنزل اللّه إنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أصوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّه أُولَئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّه قُلُوبَهُمْ للتّقْوَى... الاَية.

٢٤٥١٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن حفص، عن شمر بن عطية، قال: جاء ثابت بن قيس بن الشماس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو محزون، فقال: (يا ثابت ما الذي أرى بك) ؟ فقال: آية قرأتها الليلة، فأخشى أن يكون قد حَبِط عملي يا أيّها الّذِين آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتٍ النبي وكان في أُذنه صمم، فقال: يا نبيّ اللّه أخشى أن أكون قد رفعت صوتي، وجهرت لك بالقول، وأن أكون قد حبط عملي، وأنا لا أشعر: فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (امْشِ على الأرْضِ نَشِيطا فإنّكَ مِنْ أهْلِ الجَنّةِ) .

٢٤٥١٥ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عليه، قال: حدثنا أيوب، عن عكرِمة، قال: لما نزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ... الاَية، قال ثابت بن قيس: فأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأجهر له بالقول، فأنا من أهل النار، فقعد في بيته، فتفقده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وسأل عنه، فقال رجل: إنه لجاري، ولئن شئت لأعلمنّ لك علمه، فقال: (نعم) ، فأتاه فقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد تفقدك، وسأل عنك، فقال: نزلت هذه الاَية يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ... الاَية وأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأجهر له بالقول، فأنا من أهل النار، فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره، فقال: (بَلْ هُوَ مِنْ أهْلِ الجَنّةِ) فلما كان يوم اليمامة انهزم الناس، فقال: (أفّ لهؤلاء وما يعبدون، وأفّ لهؤلاء وما يصنعون) ، يا معشر الأنصار خلوا لي بشيء لعلي أصلى بحرّها ساعة قال: ورجل قائم على ثلمة، فقتل وقُتِل.

٢٤٥١٦ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزّهريّ، أن ثابت بن قيس بن شماس، قال: لما نزلت لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي قال: يا نبيّ اللّه ، لقد خشيت أن أكون قد هلكت، نهانا اللّه أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وإني امرؤ جهير الصوت، ونهى اللّه المرء أن يحبّ أن يُحمد بما لم يفعل، فأجدني أحبّ أن أُحمد ونهى اللّه عن الخُيَلاء وأجدني أحبّ الجمال قال: فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يا ثابِتُ أما تَرْضَى أنْ تَعيشَ حَمِيدا، وَتُقْتَلَ شَهِيدا، وَتَدْخُلَ الجَنّةَ؟) فعاش حميدا، وقُتل شهيدا يوم مُسَيلمة.

٢٤٥١٧ـ حدثني عليّ بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا نافع بن عمر بن جُميْل الجمحي، قال: ثني أبن أبي مليكة، عن الزبير، قال: (قدم وفد أراه قال تميم، على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، منهم الأقرع بن حابس، فكلم أبو بكر النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يستعمله على قومه، قال: فقال عمر: لا تفعل يا رسول اللّه ، قال: فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما عند النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قال: فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك. قال: ونزل القرآن: يا أيّها الّذِينَ آمَنوا لا تَرْفَعوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ... إلى قوله: وأَجْرٌ عَظِيمٌ قال: فما حدّث عمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد ذلك، فَيُسْمِعَ النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قال: وما ذكر ابن الزبير جدّه، يعني أبا بكر.)

و قوله: أنْ تَحْبَطَ أعمالُكُمْ يقول: أن لا تحبط أعمالكم فتذهب باطلة لا ثواب لكم عليها، ولا جزاء برفعكم أصواتكم فوق صوت نبيكم، وجهركم له بالقول كجهر بعضكم لبعض.

وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك، فقال بعض نجوّيي الكوفة: معناه: لا تحبط أعمالكم. قال: وفيه الجزم والرفع إذا وضعت (لا) مكان (أن) . قال: وهي في قراءة عبد اللّه (فَتَحْبَطْ أعمالُكُمْ) وهو دليل على جواز الجزم، وقال بعض نحويي البصرة: قال: أن تحبط أعمالكم: أي مخافة أن تحبط أعمالكم وقد يقال: أسند الحائط أن يميل.

و قوله: وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ يقول: وأنتم لا تعلمونً ولا تدورن.

٣

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللّه ...}.

يقول تعالى ذكره: إن الذين يكفون رفع أصواتهم عند رسول اللّه ، وأصل الغضّ: الكفّ في لين. ومنه: غضّ البصر، وهو كفه عن النظر، كما قال جرير:

فَغُضّ الطّرْفَ إنّكَ مِنْ نُمَيْرٍفَلا كَعْبا بَلَغْتَ وَلا كِلابا

و قوله: أُولَئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّه قُلُوبَهُمْ للتّقْوى يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه ، هم الذين اختبر اللّه قلوبهم بامتحانه إياها، فاصطفاها وأخلصها للتقوى، يعني لاتقائه بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخلص جيدها، ويبطل خبثها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥١٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: امْتَحَنَ اللّه قُلُوبَهُمْ قال: أخلص.

٢٤٥١٩ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: امْتَحَنَ اللّه قُلُوبَهُمْ قال: أخلص اللّه قلوبهم فيما أحبّ.

و قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يقول: لهم من اللّه عفو عن ذنوبهم السالفة، وصفح منه عنها لهم وأَجْرٌ عَظِيمٌ يقول: وثواب جزيل، وهو الجنة.

٤

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إَنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : إن الذين ينادونك يا محمد من وراء حجراتكِ، والحجرات: جمع حجرة، والثلاث: حُجَر، ثم تجمع الحجر فيقال: حَجُرات وحُجْرات، وقد تجمع بعض العرب الحجر: حَجَرات بفتح الجيم، وكذلك كلّ جمع كان من ثلاثة إلى عشرة على فُعَلٍ يجمعونه على فعَلات بفتح ثانيه، والرفع أفصح وأجود ومنه قول الشاعر:

أما كانَ عَبّادٌ كَفِيئا لِدَارِمبَلى، وَلأبْياتٍ بِها الحُجُرَاتُ

يقول: بلى ولبني هاشم.

و قوله: وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون يقول: أكثرهم جهال بدين اللّه ، واللازم لهم من حقك وتعظيمك. وذُكر أن هذه الاَية والتي بعدها نزلت في قوم من الأعراب جاؤوا ينادون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من وراء حجراته: يا محمد اخرج إلينا. ذكر الرواية بذلك:

٢٤٥٢٠ـ حدثنا أبو عمار المروزي، والحسن بن الحارث، قالا: حدثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق، عن البراء في قوله: إنّ الّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَات قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: يا محمد إنْ حمدي زين، وإن ذمّي شين، فقال: (ذَاكَ اللّه تَبارَكَ وتَعَالى) .

حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الحسين، عن أبي إسحاق، عن البراء بمثله، إلا أنه قال: ذاكم اللّه عزّ وجلّ.

٢٤٥٢١ـ حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي، قال: سمعت داود الطّفاوي يقول: سمعت أبا مسلم البجلي يحدّث عن زيد بن أرقم، قال: جاء أناس من العرب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملِكا نعش في جناحه قال: فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبرته بذلك، قال: ثم جاؤوا إلى حجر النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فجعلوا ينادونه. يا محمد، فأنزل اللّه على نبيه صلى اللّه عليه وسلم : إنّ الّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون قال: فأخذ نبيّ اللّه بأذني فمدّها، فجعل يقول: (قَدْ صَدّقَ اللّه قَوْلَكَ يا زَيْدُ، قَدْ صَدّقَ اللّه قَوْلَكَ يا زَيْدُ) .

٢٤٥٢٢ـ حدثنا الحسن بن أبي يحيى المقدمي، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا وُهَيب، قال: حدثنا موسى بن عقبة، عن أبي سَلَمة، قال: ثني الأقرع بن حابس التميميّ أنه أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فناداه، فقال: يا محمد إنّ مدحي زَيْن، وإنّ شتمي شَيْن فخرج إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: (وَيْلَكَ ذلكَ اللّه ) فأنزل اللّه إنّ الّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَرَاء الحُجُرَاتِ... الاَية.

٢٤٥٢٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: إنّ الّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ: أعراب بني تميم.

٢٤٥٢٤ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة أن رجلاً جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فناداه من وراء الحُجَر، فقال: يا محمد إنْ مدحي زين، وإنّ شتمي شَيْن فخرج إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: (وَيْلَكَ ذلكَ اللّه ) فأنزل اللّه (إنّ الّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ.)

٢٤٥٢٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: إنّ الّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ... الاَية، ذُكر لنا أن رجلاً جعل ينادي يا نبيّ اللّه يا محمد، فخرج إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: (ما شأنُكَ) ؟ فقال: واللّه إنّ حمده لزين، وإنّ ذمّه لشَيْن، فقال نبيّ صلى اللّه عليه وسلم : (ذَاكُمُ اللّه ) ، فأدبر الرجل، وذُكر لنا أن الرجل كان شاعرا.

٢٤٥٢٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، قال: كان بشر بن غالب ولَبيد بن عُطارد، أو بشر بن عُطارد ولبيد بن غالب، وهما عند الحجاج جالسان، يقول بشر بن غالب للبيد بن عطارد نزلت في قومك بني تميم إنّ الّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ فذكرت ذلك لسعيد بن جُبَير، فقال: أما إنه لو علم بآخر الاَية، أجابه: يَمُنّون عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قالوا: أسلمنا، ولم يقاتلك بنو أسد.

٢٤٥٢٧ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: (أتى أعرابيّ إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم من وراء حجرته، فقال: يا محمد، يا محمد فخرج إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: (مالَكَ مالَكَ) ، فقال: تعلم أنْ مدحي لزين، وأن ذمّي لشين، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (ذَاكُمُ اللّه ) ، فنزلت يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوقَ صَوْتِ النبي ) .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ فقرأته قرّاء الأمصار بضمّ الحاء والجيم من الحُجُرات، سوى أبي جعفر القارىء، فإنه قرأ بضم الحاء وفتح الجيم على ما وصفت من جمع الحُجْرة حُجَر، ثم جمع الحُجَر: حُجَرات.

والصواب من القراءة عندنا الضم في الحرفين كليهما لما وصفت قبل.

٥

و قوله: وَلَوْ أنّهُمْ صَبَرُوا حتى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرا لهُمْ يقول تعالى ذكره: ولو أن هؤلاء الذين ينادونك يا محمد من وراء الحجرات صبروا فلم ينادوك حتى تخرج إليهم إذا خرجت، لكان خيرا لهم عند اللّه ، لأن اللّه قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك، فهم بتركهم نداءك تاركون ما قد نهاهم اللّه عنه، واللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره: اللّه ذو عفو عمن ناداك من وراء الحجاب، إن هو تاب من معصية اللّه بندائك كذلك، وراجع أمر اللّه في ذلك وفي غيره رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه.

٦

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوَاْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىَ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }.

يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ عن قوم فَتَبَيّنُوا.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: فَتَبَيّنُوا فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة (فَتَثَبّتُوا) بالثاء، وذُكر أنها في مصحف عبد اللّه منقوطة بالثاء. وقرأ ذلك بعض القرّاء فتبيّنوا بالباء، بمعنى: أمهلوا حتى تعرفوا صحته، لا تعجلوا بقبوله، وكذلك معنى (فَتَثَبّتُوا) .

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وذُكر أن هذه الاَية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط. ذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك:

٢٤٥٢٨ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا جعفر بن عون، عن موسى بن عبيدة، عن ثابت موْلى أمّ سلمة، عن أمّ سلمة، قالت: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق بعد الوقعة، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال: فحدّثه الشيطان أنهم يريدون قتله، قالت: فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم، فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون قال: فبلغ القوم رجوعه قال: فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر فقالوا: نعوذ باللّه من سخط اللّه وسخط رسوله بعثت إلينا رجلاً مصدّقا، فسررنا بذلك، وقرّت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من اللّه ومن رسوله، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال، وأذّن بصلاة العصر قال: ونزلت يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ.

٢٤٥٢٩ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ... الاَية، قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ثم أحد بني عمرو بن أمية، ثم أحد بني أبي معيط إلى بني المصطلق، ليأخذ منهم الصدقات، وإنه لما أتّاهم الخبر فرحوا، وخرجوا لِيَتَلقّوْا رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإنه لما حدّث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: يا رسول اللّه إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة، فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غضبا شديدا، فبينما هو يحدّث نفسه أن يغزوهم، إذ أتاه الوفد، فقالوا: يا رسول اللّه ، إنا حدّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن يكون إنما ردّه كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ باللّه من غضبه وغضب رسوله، فأنزل اللّه عذرهم في الكتاب، فقال يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبإٍ فَتَبَيّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ.

٢٤٥٣٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ قال: الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بني المصطلق، ليصدّقهم، فتلقوه بالهدية فرجع إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: إن بني المصطلق جمعت لتقاتلك.

٢٤٥٣١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ... حتى بلغ بِجَهالَةٍ وهو ابن أبي معيط الوليد بن عقبة، بعثه نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم مصدّقا إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه، فهابهم، فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبره أنهم قد ارتدّوا عن الإسلام، فبعث نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد، وأمره أن يتثبّت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد، فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبره الخبر، فأنزل اللّه عزّ وجلّ ما تسمعون، فكان نبيّ اللّه يقول: (التّبَيّنُ مِنَ اللّه ، والعَجَلَةُ مِنَ الشّيْطانِ) .

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فذكر نحوه.

٢٤٥٣٢ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن هلال الوزّان، عن ابن أبي ليلى، في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيّنُوا قال: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط.

حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن حُمَيد، عن هلال الأنصاري، عن عبد الرحمن ابن أبي لَيلى إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ قال: نزلت في الوليد بن عقبة حين أُرسل إلى بني المصطلق.

٢٤٥٣٣ـ قال: ثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم، الوليد بن أبي معيط فلما سمعوا به ركبوا إليه فلما سمع بهم خافهم فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأخبره أن القوم قد همّوا بقتله، ومنعوا ما قِبَلهم من صدقاتهم، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتى همّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن يغزوهم، فبينما هم في ذلك قَدِم وفدهم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا: يا رسول اللّه سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه، ولنؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاستمرّ راجعا، فبلغنا أنه يزعم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنا خرجنا إليه لنقاتله، وواللّه ما خرجنا لذلك فأنزل اللّه في الوليد بن عقبة وفيهم: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ... الاَية.

٢٤٥٣٤ـ قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلاً من أصحابه إلى قوم يصدقهم، فأتاهم الرجل، وكان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية فلما أتاهم رحبوا به، وأقرّوا بالزكاة، وأعطوا ما عليهم من الحقّ، فرجع الرجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: يا رسول اللّه ، منع بنو فلان الصدقة، ورَجعوا عن الإسلام، فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبعث إليهم فأتوْه فقال: (أمَنَعْتُمُ الزّكاةَ، وَطَرَدْتمْ رَسُولي؟) فقالوا: واللّه ما فعلنا، وإنا لنعلم أنك رسول اللّه ، ولا بدّ لنا، ولا منعنا حقّ اللّه في أموالنا، فلم يصدقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأنزل اللّه هذه الاَية، فعذرهم.

و قوله: أنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهالَةٍ يقول تعالى ذكره: فتبيّنوا لئلا تصيبوا قوما برآء مما قُذفوا به بجناية بجهالة منكم فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ يقول: فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها.

٧

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَآعْلَمُوَاْ أَنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّه لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مّنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ ...}.

يقول تعالى ذكره: لأصحاب نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم : واعلموا أيها المؤمنون باللّه ورسوله، أنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّه فاتقوا اللّه أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب، فإن اللّه يخبره أخباركم، ويعرّفه أنباءكم، ويقوّمه على الصواب في أموره.

و قوله: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ يقول تعالى ذكره: لو كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعمل في الأمور بآرائكم ويقبل منكم ما تقولون له فيطيعكم لَعَنِتّمْ يقول: لنالكم عنت، يعني الشدّة والمشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم لأنه كان يخطىء في أفعاله كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق: إنهم قد ارتدّوا، ومنعوا الصدقة، وجمعوا الجموع لغزو المسلمين، فغزاهم فقتل منهم، وأصاب من دمائهم وأموالهم كان قد قتل، وقتلتم من لا يحلّ له ولا لكم قتله، وأخذ وأخذتم من المال ما لا يحلّ له ولكم أخذه من أموال قوم مسلمين، فنالكم من اللّه بذلك عنت وَلَكِنّ اللّه حَبّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ باللّه ورسوله، فأنتم تطيعون رسول اللّه ، وتأتمون به فيقيكم اللّه بذلك من العنت ما لو لم تطيعوه وتتبعوه، وكان يطيعكم لنالكم وأصابكم.

و قوله: وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ يقول: وحسن الإيمان في قلوبكم فآمنتم وكَرّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ باللّه وَالفُسُوقَ يعني الكذب، والعِصْيانَ يعني ركوب ما نهى اللّه عنه في خلاف أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتضييع ما أمر اللّه به أُولَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ يقول: هؤلاء الذين حبّب اللّه إليهم الإيمان، وزيّنه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون السالكون طريق الحقّ.

و قوله: فَضْلاً مِنَ اللّه وَنِعْمَةً يقول: ولكن اللّه حبّب إليكم الإيمان، وأنعم عليكم هذه النعمة التي عدّها فضلاً منه، وإحسانا ونعمة منه أنعمها عليكم وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ يقول: واللّه ذو علم بالمحسن منكم من المسيء، ومن هو لنعم اللّه وفضله أهل، ومن هو لذلك غير أهل، وحكمةٍ في تدبيره خلقه، وصرفه إياهم فيما شاء من قضائه. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: وَاعْلَمُوا أنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّه لَوْ يُطِيعُكُم فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٣٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَاعْلَمُوا أنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّه ... حتى بلغ لَعَنِتّمْ هؤلاء أصحاب نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لو أطاعهم نبيّ اللّه في كثير من الأمر لعنتم، فأنتم واللّه أسخف رأيا، وأطيش عقولاً، اتهم رجل رأيه، وانتصح كتاب اللّه ، فإن كتاب اللّه ثقة لمن أخذ به، وانتهى إليه، وإن ما سوى كتاب اللّه تغرير.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، قال: قال معمر، تلا قتادة لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ قال: فأنتم أسخف رأيا وأطيش أحلاما، ، فاتهم رجل رأيه، وانتصح كتاب اللّه وكذلك كما قلنا أيضا في تأويل قوله: وَلَكِنّ اللّه حَبّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ قالوا. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٣٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: حَبّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ قال: حببه إليهم وحسّنه في قلوبهم. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله وكَرّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ وَالعِصْيانَ أولَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللّه وَنِعْمَةً قالوا أيضا. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٣٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وكَرّهَ الَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ قال: الكذب والعصيان قال: عصيان النبي صلى اللّه عليه وسلم أُولَئِكَ هُم الرّاشدونَ من أين كان هذا؟

٨

قال: فضل من اللّه ونعمة قال: والمنافقون سماهم اللّه أجمعين في القرآن الكاذبين قال: والفاسق: الكاذب في كتاب اللّه كله. وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ

٩

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ...}.

يقول تعالى ذكره: وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب اللّه ، والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما عَلى الأُخْرَى يقول: فإن أبَت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب اللّه له، وعليه وتعدّت ما جعل اللّه عدلاً بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما فَقاتِلُوا الّتِي تَبْغِي يقول: فقاتلوا التي تعتدي، وتأبى الإجابة إلى حكم اللّه حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّه يقول: حتى ترجع إلى حكم اللّه الذي حكم في كتابه بين خلقه فإنْ فاءَتْ فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالعَدْلِ يقول: فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم اللّه في كتابه، فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى التي قاتلتها بالعدل: يعني بالإنصاف بينهما، وذلك حكم اللّه في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٣٨ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، قوله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأصْلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَت إحْدَاهُما على الأُخُرَى فَقاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّه فإن اللّه سبحانه أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم اللّه ، وينصف بعضهم من بعض، فإن أجابوا حكم فيهم بكتاب اللّه ، حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغٍ، فحقّ على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم، حتى يفيئوا إلى أمر اللّه ، ويقرّوا بحكم اللّه .

٢٤٥٣٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا... إلى آخر الاَية، قال: هذا أمر من اللّه أمر به الوُلاة كهيئة ما تكون العصبة بين الناس، وأمرهم أن يصلحوا بينهما، فإن أبوْا قاتل الفئة الباغية، حتى ترجع إلى أمر اللّه ، فإذا رجعت أصلحوا بينهما، وأخبروهم أن المؤمنين إخوة، فأصلحوا بين أخويكم قال: ولا يقاتل الفئة الباغية إلا الإمام.

وذُكر أن هذه الاَية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه، مما سأذكره إن شاء اللّه تعالى. ذكر الرواية بذلك:

٢٤٥٤٠ـ حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس، قال: قيل للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم : لو أتيت عبد اللّه بن أُبيّ، قال: فانطلق إليه وركب حمارا، وانطلق المسلمون، وهي أرض سبخة فلما أتاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: إليك عني، فواللّه لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: واللّه لنتن حمار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أطيب ريحا منك، قال: فغضب لعبد اللّه بن أُبيّ رجل من قومه قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه نزلت فيهم وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما.

٢٤٥٤١ـ حدثني أبو حُصَين عبد اللّه بن أحمد بن يونس، قال: حدثنا عبثر، قال: ثني حصين، عن أبي مالك في قوله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنْ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا قال: رجلان اقتتلا فغضب لذا قومه، ولذا قومه، فاجتمعوا حتى اضّربوا بالنعال حتى كاد يكون بينهم قتال، فأنزل اللّه هذه الاَية.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، في قوله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال: كان بينهم قتال بغير سلاح.

٢٤٥٤٢ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، في قوله: وَإن طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قال: كانا حيين من أحياء الأنصار، كان بينهما تنازع بغير سلاح.

٢٤٥٤٣ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: أخبرنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس ، في قوله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قال: كان قتالهم بالنعال والعصيّ، فأمرهم أن يصلحوا بينهم.

٢٤٥٤٤ـ قال: ثنا مهران، قال: حدثنا المُبارك بن فَضَالة، عن الحسن وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِين اقْتَتَلُوا قال: كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعوهم إلى الحكم، فيأَبْون أن يجيبوا فأنزل اللّه : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِين اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما على الأُخْرَى فَقاتِلُوا الّتي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّه يقول: ادفعوهم إلى الحكم، فكان قتالهم الدفع.

٢٤٥٤٥ـ قال: ثنا مهران، قال: حدثنا سفيان، عن السديّ وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحوا بَيْنَهُما قال: كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد، تحت رجل، فكان بينها وبين زوجها شيء، فرقاها إلى علية، فقال لهم: احفظوا، فبلغ ذلك قومها، فجاؤوا وجاء قومه، فاقتتلوا بالأيدي والنعال فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فجاء ليصلح بينهم، فنزل القرآن وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَتْ إحْداهُما على الأُخْرَى قال: تبغي: لا ترضى بصلح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أو بقضاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .

٢٤٥٤٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال: الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصيّ بينهم.

٢٤٥٤٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا... الاَية، الاَية، ذُكر لنا أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حقّ بينهما، فقال أحدهما للاَخر: لاَخذنه عنوة لكثرة عشيرته، وأن الاَخر دعاه ليحاكمه إلى نبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر حتى تدافعوا، وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف، فأمر اللّه أن تُقاتل حتى تفيء إلى أمر اللّه ، كتاب اللّه ، وإلى حكم نبيه صلى اللّه عليه وسلم وليست كما تأوّلها أهل الشبهات، وأهل البدع، وأهل الفراء على اللّه وعلى كتابه، أنه المؤمن يحلّ لك قتله، فواللّه لقد عظّم اللّه حُرمة المؤمن حتى نهاك أن تظنّ بأخيك إلا خيرا، فقال: إنّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ... الاَية.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، أن قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي، فأنزل اللّه فيهم وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال قتادة : كان رجلان بينهما حقّ، فتدارآ فيه، فقال أحدهما: لاَخذنّه عنوة، لكثرة عشيرته وقال الاَخر: بيني وبينك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي.

٢٤٥٤٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال: ثني عبد اللّه بن عباس ، قال: قال زيد، في قول اللّه تعالى: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، وذلك الرجلان يقتتلان من أهل الإسلام، أو النفر والنفر، أو القبيل والقبيلة فأمر اللّه أئمة المسلمين أن يقضوا بينهم بالحقّ الذي أنزله في كتابه: إما القصاص والقود، وإمّا العقل والعير، وإمّا العفو، فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما على الأُخْرَى بعد ذلك كان المسلمون مع المظلوم على الظالم، حتى يفيء إلى أمر اللّه ، ويرضى به.

٢٤٥٤٩ـ حدثنا ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرنا ابن جُرَيج، قال: ثني ابن شهاب وغيره: يزيد في الحديث بعضهم على بعض، قال: جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مجلس فيه عبد اللّه بن رواحة، وعبد اللّه بن أُبيّ ابن سلول: فلما ذهب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول: لقد آذانا بول حماره، وسدّ علينا الروح، وكان بينه وبين ابن رواحة شيء حتى خرجوا بالسلاح، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأتاهم، فحجز بينهم، فلذلك يقول عبد اللّه بن أُبيّ:

مَتى ما يَكُنْ مَوْلاكَ خَصْمَكَ جاهداتُظَلّمْ وَيَصْرَعْكَ الّذِينَ تُصَارِعُ

قال: فأنزلت فيهم هذه الاَية وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا.

و قوله: وأَقْسِطُوا يقول تعالى ذكره: واعدلوا أيها المؤمنون في حكمكم بين من حكمتم بينهم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم اللّه وحكم رسوله إنّ اللّه يُحِبّ المُقْسِطِينَ يقول: إن اللّه يحبّ العادلين في أحكامهم، القاضين بين خلقه بالقسط.

١٠

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتّقُواْ اللّه لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ }.

يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به إنّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ في الدين فأَصْلِحُوا بَينَ أخَوَيْكُمْ إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم اللّه وحكم رسوله. ومعنى الأخوين في هذا الموضع: كل مقتتلين من أهل الإيمان، وبالتثنية قرأ ذلك قرّاء الأمصار. وذُكر عن ابن سيرين أنه قرأ (بين إخوانكم) بالنون على مذهب الجمع، وذلك من جهة العربية صحيح، غير أنه خلاف لما عليه قرّاء الأمصار، فلا أحبّ القراءة بها وَاتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ يقول تعالى ذكره: وخافوا اللّه أيها الناس بأداء فرائضه عليكم في الإصلاح بين المقتتلين من أهل الإيمان بالعدل، وفي غير ذلك من فرائضه، واجتناب معاصيه، ليرحمكم ربكم، فيصفح لكم عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه، واتبعتم أمره ونهيه، واتقيتموه بطاعته.

١١

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىَ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ ...}.

يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله، لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ يقول: المهزوء منهم خير من الهازئين وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ يقول: ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات، عسى المهزوء منهنّ أن يكنْ خيرا من الهازئات.

واختلف أهل التأويل في السخرية التي نهى اللّه عنها المؤمنين في هذه الاَية، فقال بعضهم: هي سخرية الغنيّ من الفقير، نُهِي أن يُسخر من الفقير لفقره. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٥٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ قال: لا يهزأ قوم بقوم أن يسأل رجل فقير غنيا، أو فقيرا، وإن تفضل رجل عليه بشيء فلا يستهزىء به.

وقال آخرون: بل ذلك نهي من اللّه من ستر عليه من أهل الإيمان أن يسخر ممن كشف في الدنيا ستره منهم ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٥١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَى أنْ يَكُنّ خَيْرا مِنْهُنّ قال: ربما عثر على المرء عند خطيئته عسى أن يكونوا خيرا منهم، وإن كان ظهر على عثرته هذه، وسترت أنت على عثرتك، لعلّ هذه التي ظهرت خير له في الاَخرة عند اللّه ، وهذه التي سترت أنت عليها شرّ لك، ما يدريك لعله ما يغفر لك قال: فنُهي الرجل عن ذلك، فقال: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ وقال في النساء مثل ذلك.

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن اللّه عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك.

و قوله: وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ يقول تعالى ذكره: ولا يغتب بعضكم بعضا أيها المؤمنون، ولا يطعن بعضكم على بعض وقال: لا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ فجعل اللامز أخاه لامزا نفسه، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من تحسين أمره، وطلب صلاحه، ومحبته الخير. ولذلك رُوي الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (المُؤْمِنُونَ كالجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سائِرُ جَسَدِهِ بالحُمّى والسّهَر) . وهذا نظير قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالِكُمْ بَيْنَكُمُ بالباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ بمعنى: ولا يقتل بعضكم بعضا. وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٥٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ قال: لا تطعنوا.

٢٤٥٥٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ يقول: ولا يطعن بعضكم على بعض.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، مثله.

٢٤٥٥٤ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله: وَلا تَلْمزُوا أنْفُسَكُمْ يقول: لا يطعن بعضكم على بعض.

 قوله: وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب يقول: ولا تداعوا بالألقاب والنبز واللقب بمعنى واحد، يُجمع النبز: أنبازا، واللقب: ألقابا.

واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى اللّه عن التنابز بها في هذه الاَية، فقال بعضهم: عنى بها الألقاب التي يكره النبز بها الملقّب، وقالوا: إنما نزلت هذه الاَية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا نهوا أن يدعو بعضهم بعضا بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٥٥ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا داود، عن عامر، قال: قال أبو جبيرة بن الضحاك : فينا نزلت هذه الاَية في بني سلمة، قدِم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وما منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا الرجل بالاسم، قلنا: يا رسول اللّه إنه يغضب من هذا، فنزلت هذه الاَية وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب... الاَية كلها.

حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عامر، عن أبي جُبَيرة بن الضحاك ، قال: كان أهل الجاهلية يسمون الرجل بالأسماء، فدعا النبي صلى اللّه عليه وسلم رجلاً باسم من تلك الأسماء، فقالوا: يا رسول اللّه إنه يغضب من هذا، فأنزل اللّه وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن عامر، قال: ثني أبو جُبَيرة بن الضحاك ، فذكر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، نحوه.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن عُليَة، قال: أخبرنا داود عن الشعبيّ، قال: ثني أبو جبيرة بن الضحاك ، قال: نزلت في بني سلمة وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال: قَدِم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان يدعو الرجل، فتقول أمه: إنه يغضب من هذا، قال: فنزلت وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ. وقال مرّة: كان إذا دعا باسم من هذا،

قيل: يا رسول اللّه إنه يغضب من هذا، فنزلت الاَية.

وقال آخرون: بل ذلك قول الرجل المسلم للرجل المسلم: يا فاسق، يا زاني. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٥٦ـ حدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، قال: سألت عكرِمة، عن قول اللّه وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال: هو قول الرجل للرجل: يا منافق، يا كافر.

حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عكرِمة، في قوله وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن حصين، عن عكرِمة وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال: يا فاسق، يا كافر.

٢٤٥٥٧ـ قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد أو عكرِمة وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال: يقول الرجل للرجل: يا فاسق، يا كافر.

٢٤٥٥٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ قال: دُعي رجل بالكفر وهو مسلم.

٢٤٥٥٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ يقول للرجل: لا تقل لأخيك المسلم: ذاك فاسق، ذاك منافق، نهى اللّه المسلم عن ذلك وقدّم فيه.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب يقول: لا يقولنّ لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق.

٢٤٥٦٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَلا تَنابَزُوا بالألقابِ قال: تسميته بالأعمال السيئة بعد الإسلام زان فاسق.

وقال آخرون: بل ذلك تسمية الرجل الرجل بالكفر بعد الإسلام، وبالفسوق والأعمال القبيحة بعد التوبة ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٦١ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ... الاَية، قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها، وراجع الحقّ، فنهى اللّه أن يُعيّر بما سلف من عمله.

٢٤٥٦٢ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن: كان اليهودي والنصرانيّ يسلم، فيلقب، فيقال له: يا يهوديّ، يا نصراني، فنهوا عن ذلك.

والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن اللّه تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب والتنابز بالألقاب: هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعمّ اللّه بنهيه ذلك، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه، أو صفة يكرهها. وإذا كان ذلك كذلك صحّت الأقوال التي قالها أهل التأويل في ذلك التي ذكرناها كلها، ولم يكن بعض ذلك أولى بالصواب من بعض، لأن كلّ ذلك مما نهى اللّه المسلمين أن ينبز بعضهم بعضا.

و قوله: بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وتقدّم على معصيتنا بعد إيمانه، فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن، ونبزه بالألقاب، فهو فاسق بِئْسَ الاِسْمْ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقا، بئس الاسم الفسوق، وترك ذكر ما وصفنا من الكلام، اكتفاء بدلالة قوله: بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ عليه.

وكان ابن زيديقول في ذلك ما:

٢٤٥٦٣ـ حدثنا به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وقرأ بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ قال: بئس الاسم الفسوق حين تسميه بالفسق بعد الإسلام، وهو على الإسلام. قال: وأهل هذا الرأي هم المعتزلة، قالوا: لا نكفره كما كفره أهل الأهواء، ولا نقول له مؤمن، كما قالت الجماعة، ولكنا نسميه باسمه إن كان سارقا فهو سارق، وإن كان خائنا سموه خائنا وإن كان زانيا سموه زانيا قال: فاعتزلوا الفريقين أهل الأهواء وأهل الجماعة، فلا بقول هؤلاء قالوا، ولا بقول هؤلاء، فسموا بذلك المعتزلة.

فوجه ابن زيد تأويل قوله: بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ إلى من دَعي فاسقا، وهو تائب من فسقه، فبئس الاسم ذلك له من أسمائه.. وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن اللّه تقدّم بالنهي عما تقدّم بالنهي عنه في أوّل هذه الاَية، فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدّم على بغيه، أو بقبيح ركوبه ما ركب مما نهى عنه، لا أن يخبر عن قُبح ما كان التائب أتاه قبل توبته، إذ كانت الاَية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح، فيختم آخرها بالوعيد عليه أو بالقبيح.

و قوله: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ يقول تعالى ذكره: ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى اللّه عن نبزه به من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخرتيه منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها عقاب اللّه بركوبهم ما نهاهم عنه.

وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:

٢٤٥٦٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ قال: ومن لم يتب من ذلك الفسوق فأولئك هم الظالمون.

١٢

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ ...}.

يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله، لا تقربوا كثيرا من الظنّ بالمؤمنين، وذلك أن تظنوا سوءا، فإن الظانّ غير محقّ، وقال جلّ ثناؤه: اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ ولم يقل: الظنّ كله، إذ كان قد أذِن للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير، فقال: لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ المُؤْمنُونَ وَالمُؤْمِناتَ بُأنْفُسِهِمْ خَيْرا وَقالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ فأذن اللّه جل ثناؤه للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير وأن يقولوه، وإن لم يكونوا من قيله فيهم على يقين. وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٦٥ـ حدثني عليّ، قال: ثني أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ يقول: نهى اللّه المؤمن أن يظنّ بالمؤمن شرّا.

و قوله: إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ يقول: إن ظنّ المؤمن بالمؤمن الشرّ لا الخير إثم، لأن اللّه قد نهاه عنه، ففعل ما نهى اللّه عنه إثم.

و قوله: وَلا تَجَسّسُوا يقول: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٦٦ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، قوله: وَلا تَجَسّسُوا يقول: نهى اللّه المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن.

٢٤٥٦٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وَلا تَجَسّسُوا قال: خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر اللّه .

٢٤٥٦٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ وَلا تَجَسّسُوا هل تدرون ما التجسس أو التجسيس؟ هو أن تتبع، أو تبتغي عيب أخيك لتطلع على سرّه.

٢٤٥٦٩ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان وَلا تَجَسّسُوا قال: البحث.

٢٤٥٧٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ وَلا تَجَسّسُوا قال: حتى أنظر في ذلك وأسأل عنه، حتى أعرف حقّ هو، أم باطل؟ قال: فسماه اللّه تجسسا، قال: يتجسس كما يتجسس الكلاب،

وقرأ قول اللّه : وَلا تَجَسّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضا

و قوله: ولا يغتب بعضكم بعضا يقول: ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه. وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك، والأثر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

٢٤٥٧١ـ حدثني يزيد بن مخلد الواسطيّ، قال: حدثنا خالد بن عبد اللّه الطحان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: سُئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الغيبة، فقال: (هُوَ أنْ تَقُولَ لأخِيكَ ما فِيهِ، فإنْ كُنْتَ صَادِقا فَقَدِ اغْتَبْتَه، وَإنْ كُنْتَ كاذِبا فَقَدْ بَهَتّهُ) .

حدثنا محمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، بنحوه.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت العلاء يحدّث، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (هَلْ تَدْرُونَ ما الْغيّبَةُ) ؟ قال: قالوا اللّه ورسوله أعلم قال: (ذِكْرُكَ أخاكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ) ، قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول له قال: (إنْ كان فِيهِ ما تَقُولُ فَقَد اغْتَبْتَهُ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتّهُ) .

٢٤٥٧٢ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا سعيد بن الربيع، قال: حدثنا شعبة، عن العباس ، عن رجل سمع ابن عمر يقول: إذا ذكرت الرجل بما فيه، فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بَهَتّه. وقال شعبة مرّة أخرى: وإذا ذكرته بما ليس فيه، فهي فِرْية قال أبو موسى: هو عباس الجَريريّ:

٢٤٥٧٣ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد اللّه بن مرّة، عن مسروق قال: إذا ذكرت الرجل بأسوإ ما فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بَهتَه.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: إذا قلت في الرجل أسوأ ما فيه فقد اغتبته، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بَهتَه.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا عمر بن عبيد، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال الغيبة: أن يقول للرجل أسوأ ما يعلم فيه، والبهتان: أن يقول ما ليس فيه.

٢٤٥٧٤ـ حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم، مولى معاوية، قال: سمعت ابن أمّ عبد يقول: ما التقم أحد لقمة أشرّ من اغتياب المؤمن، إن قال فيه ما يعلم فقد اغتابه، وإن قال فيه ما لا يعلم فقد بَهَتَه.

حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: إذا ذكرت الرجل بما فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان.

٢٤٥٧٥ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر، قال: سمعت يونس، عن الحسن أنه قال في الغيبة: أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوىء أعماله، فإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان.

٢٤٥٧٦ـ حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا سليمان الشيبانيّ، قال: حدثنا حسان بن المخارق أن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، أي أنها قصيرة، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (اغْتَبْتِيها) .

٢٤٥٧٧ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: لو مرّ بك أقطع، فقلت: ذاك الأقطع، كانت منك غيبة قال: وسمعت معاوية بن قرة يقول ذلك.

٢٤٥٧٨ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت معاوية بن قُرة يقول: لو مرّ بك رجل أقطع، فقلت له: إنه أقطع كنت قد اغتبته، قال: فذكرت ذلك لأبي إسحاق الهمداني فقال: صدق.

٢٤٥٧٩ـ حدثني جابر بن الكرديّ، قال: حدثنا ابن أبي أويس، قال: ثني أخي أبو بكر، عن حماد بن أبي حميد، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة أن رجلاً قام عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فرأوا في قيامه عجزا، فقالوا: يا رسول اللّه ما أعجز فلانا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أكَلْتُمْ أخاكُمْ وَاغْتَبْتُمُوه) .

٢٤٥٨٠ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا حبان بن علي العنزيّ عن مثنى بن صباح، عن عمرو بن شعيب، عن معاذ بن جبل، قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فذكر القوم رجلاً، فقالوا: ما يأكل إلا ما أطعم، وما يرحل إلا ما رحل له، وما أضعفه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (اغْتَبْتُمْ أخاكُمْ) ، فقالوا يا رسول اللّه وغيبته أن نحدّث بما فيه؟ قال: (بحَسْبِكُمْ أنْ تُحَدّثُوا عَنْ أخِيكُمْ ما فِيهِ) .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا خالد بن محمد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إذَا ذَكَرْتَ أخاكَ بِمَا يَكْرَهُ فإنْ كانَ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتّهُ) .

٢٤٥٨١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: كنا نحدّث أن الغيبة أن تذكر أخاك بما يشينه، وتعيبه بما فيه، وإن كذبت عليه فذلك البهتان.

وقوله أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ يقول تعالى ذكره للمؤمنين أيحبّ أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتا، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه، لأن اللّه حرّم ذلك عليكم، فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته، فاكرهوا غيبته حيا، كما كرهتم لحمه ميتا، فإن اللّه حرّم غيبته حيا، كما حرّم أكل لحمه ميتا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٨٢ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، قوله: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضا أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا قال: حرّم اللّه على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء، كما حرّم المَيْتة.

٢٤٥٨٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا قالوا: نكره ذلك، قال: فكذلك فاتقوا اللّه .

٢٤٥٨٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة : أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ يقول: كما أنت كاره لو وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها، فكذلك فاكره غِيبته وهو حيّ.

و قوله: وَاتّقُوا اللّه إنّ اللّه تَوّابٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره: فاتقوا اللّه أيها الناس، فخافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظنّ أحدكم بأخيه المؤمن ظنّ السوء، وتتبع عوراته، والتجسس عما ستر عنه من أمره، واغتيابه بما يكرهه، تريدون به شينه وعيبه، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم عنها ربكم إنّ اللّه تَوّابٌ رَحِيمٌ يقول: إن اللّه راجع لعبده إلى ما يحبه إذا رجع العبد لربه إلى ما يحبه منه، رحيم به بأن يعاقبه على ذنب أذنبه بعد توبته منه.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فقرأته عامة قرّاء المدينة بالتثقيل (مَيّتا) ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة مَيْتا بالتخفيف، وهما قراءتان عندنا معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.

١٣

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ ...}.

يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس إنا أنشأنا خلقكم من ماء ذكر من الرجال، وماء أنثى من النساء وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٨٥ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا عبيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: خلق اللّه الولد من ماء الرجل وماء المرأة، وقد قال تبارك وتعالى يا أيّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى.

حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، قال: حدثنا عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قوله: إنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى قال: ما خلق اللّه الولد إلا من نطفة الرجل والمرأة جميعا، لأن اللّه يقول خَلَقْناكمْ مِنْ ذكَرٍ وأُنْثَى.

و قوله: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا يقول: وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضا نسبا بعيدا، وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبا فالمناسب النسب البعيد من لم ينسبه أهل الشعوب، وذلك إذا قيل للرجل من العرب: من أيّ شعب أنت؟ قال: أنا من مضر، أو من ربيعة. وأما أهل المناسبة القريبة أهل القبائل، وهم كتميم من مضر، وبكر من ربيعة، وأقرب القبائل الأفخاذ وهما كشيبان من بكر ودارم من تميم، ونحو ذلك، ومن الشّعْب قول ابن أحمر الباهلي:

مِن شَعْبِ هَمْدانَ أوْ سَعْدِ العَشِيرَةِ أوْخَوْلانَ أوْ مَذْحِجٍ هاجُوا لَهُ طَرَبا

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٨٦ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا بكر بن عياش، قال: حدثنا أبو حُصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وَجَعلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الجُمّاع، والقبائل: البطون.

حدثنا خلاد بن أسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس ، في قوله: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الجُمّاع. قال خلاد، قال أبو بكر: القبائل العظام، مثل بني تميم، والقبائل: الأفخاذ.

٢٤٥٨٧ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبَير وَجَعلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الجمهور، والقبائل: الأفخاذ.

٢٤٥٨٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: شُعُوبا قال: النسب البعيد. وَقَبائِلَ دون ذلك.

٢٤٥٨٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ قال: الشعوب: النسب البعيد، والقبائل ك قوله: فلان من بني فلان، وفلان من بني فلان.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا قال: هو النسب البعيد. قال: والقبائل: كما تسمعه يقال: فلان من بني فلان.

٢٤٥٩٠ـ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا قال: أما الشعوب: فالنسب البعيد.

وقال بعضهم: الشعوب: الأفخاذ. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٩١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبير وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الأفخاذ، والقبائل: القبائل.

وقال آخرون: الشعوب: البطون، والقبائل: الأفخاذ. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٩٢ـ حدثني يحيى بن طلحة، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: البطون، والقبائل: الأفخاذ الكبار.

وقال آخرون: الشعوب: الأنساب. ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس : وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الأنساب.

و قوله: لِتَعارَفُوا يقول: ليعرف بعضكم بعضا في النسب، يقول تعالى ذكره: إنما جعلنا هذه الشعوب والقبائل لكم أيها الناس، ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلة لكم في ذلك، وقُربة تقرّبكم إلى اللّه ، بل أكرمكم عند اللّه أتقاكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٩٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا قال: جعلنا هذا لتعارفوا، فلان بن فلان من كذا وكذا.

و قوله: إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّه أتْقاكُمْ يقول تعالى ذكره: إن أكرمكم أيها الناس عند ربكم، أشدّكم اتقاء له بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتا ولا أكثركم عشيرة.

٢٤٥٩٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن عليّ بن رباح، عن عقبة بن عامر، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (النّاسُ لاَدَمَ وَحَوّاءَ كَطَفّ الصّاعِ لَمْ يَملأوه، إنّ اللّه لا يسألُكُمْ عَنْ أحْسابِكُمْ وَلا عَنْ أنْسابِكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ، إن أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّه أتْقاكُمْ) .

٢٤٥٩٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد عن عليّ بن رباح، عن عقبة بن عامر، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّ أنْسابَكُمْ هَذِه لَيْسَتْ بِمَسابّ عَلى أحَدٍ، وإنّمَا أنْتُمْ وَلَدُ آدَمَ طَفّ الصّاعِ لَمْ تملأوه، لَيْسَ لأَحَدٍ على أحَد فَضْلٌ إلاّ بِدَيْنٍ أوْ عَمَلٍ صالِحٍ حَسْبُ الرّجُل أنْ يَكُونَ فاحِشا بَذِيّا بَخِيلاً جَبانا) .

٢٤٥٩٦ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عطاء يقول: قال ابن عباس : ثلاث آيات جحدهنّ الناس: الإذن كله، وقال: إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّه أتْقاكُمْ وقال الناس أكرمكم: أعظمكم بيتا وقال عطاء: نسيت الثالثة.

و قوله: إنّ اللّه عَلِيمٌ خَبِيرٌ يقول تعالى ذكره: إن اللّه أيها الناس ذو علم بأتقاكم عند اللّه وأكرمكم عنده، ذو خبرة بكم وبمصالحكم، وغير ذلك من أموركم، لا تخفى عليه خافية.

١٤

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـَكِن قُولُوَاْ أَسْلَمْنَا ...}.

يقول تعالى ذكره: قالت الأعراب: صدّقنا باللّه ورسوله، فنحن مؤمنون، قال اللّه لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : قل يا محمد لهم لَمْ تُؤْمِنُوا ولستم مؤمنين وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا. وذُكر أن هذه الاَية نزلت في أعراب من بني أسد. ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٩٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: قالَتِ الأَعْرَابُ آمَنّا قال: أعراب بني أسد بن خُزيمة.

واختلفت أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم : قل لهؤلاء الأعراب: قولوا أسلمنا، ولا تقولوا آمنا، فقال بعضهم: إنما أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك، لأن القوم كانوا صدّقوا بألسنتهم، ولم يصدّقوا قولهم بفعلهم، فقيل لهم: قولوا أسلمنا، لأن الإسلام قول، والإيمان قول وعمل ذكر من قال ذلك:

٢٤٥٩٨ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري قالَتِ الأَعْرَاب آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا قال: إن الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل.

٢٤٥٩٩ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، وأخبرني الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: أعطى النبي صلى اللّه عليه وسلم رجالاً، ولم يعط رجلاً منهم شيئا، فقال سعد: يا رسول اللّه أعطيت فلانا وفلانا، ولم تُعط فلانا شيئا، وهو مؤمن، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (أوْ مُسْلِمٌ) ؟ حتى أعادها سعد ثلاثا، والنبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: (أوْ مُسْلِمٌ) ، ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم (إنّي أُعْطِي رِجالاً وأَدَعُ مَنْ هُوَ أحَبّ إليّ مِنْهُمْ، لا أُعْطِيهِ شَيْئا مَخافَةَ أنْ يُكَبّوا فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) .

٢٤٦٠٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: قَالتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا قال: لم يصدّقوا إيمانهم بأعمالهم، فردّ اللّه ذلك عليهم قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا، وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا باللّه ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه ، أولئك هم الصادقون، صدّقوا إيمانهم بأعمالهم فمن قال منهم: أنا مؤمن فقد صدق قال: وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب، وليس بصادق.

٢٤٦٠١ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مُغيرة، عن إبراهيم وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا قال: هو الإسلام.

وقال آخرون: إنما أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بقيل ذلك لهم، لأنهم أرادوا أن يتسموا بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا، فأعلمهم اللّه أن لهم أسماء الأعراب، لا أسماء المهاجرين. ذكر من قال ذلك:

٢٤٦٠٢ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله: قالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا... الاَية، وذلك أنهم أرادوا أن يتسَمّوا باسم الهجرة، ولا يتسَمّوا بأسمائهم التي سماهم اللّه ، وكان ذلك في أوّل الهجرة قبل أن تنزل المواريث لهم.

وقال آخرون: قيل لهم ذلك لأنهم منوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بإسلامهم، فقال اللّه لنبيه صلى اللّه عليه وسلم : قل لهم لم تؤمنوا، ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٦٠٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: قالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولعمري ما عمت هذه الاَية الأعراب، إن من الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الاَخر، ولكن إنما أُنزلت في حيّ من أحياء الأعراب امتنوا بإسلامهم على نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا: أسلمنا، ولم نقاتلك، كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال اللّه : لا تقولوا آمنا، ولكن قولوا أسلمنا حتى بلغ في قلوبكم.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا قال: لم تعمّ هذه الاَية الأعراب، إن من الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الاَخر، ويتخذ ما ينفق قربات عند اللّه ، ولكنها في طوائف من الأعراب.

٢٤٦٠٤ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن رَباح، عن أبي معروف، عن سعيد بن جُبَير قالَت الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا قال: استسلمنا لخوف السباء والقتل.

٢٤٦٠٥ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد قُولُوا أسْلَمْنا قال: استسلمنا.

٢٤٦٠٦ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وقرأ قول اللّه قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا استسلمنا: دخلنا في السلم، وتركنا المحاربة والقتال بقوله م: لا إله إلاّ اللّه ، وقال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ اللّه ، فإذا قالُوا لا إلَهَ إلاّ اللّه ، عَصَمُوا مِنّي دِماءَهُمْ وأمْوَالَهُمْ إلاّ بِحَقّها وَحِسابُهُمْ على اللّه ) .

وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن الزهريّ وهو أن اللّه تقدّم إلى هؤلاء الأعراب الذين دخلوا في الملة إقرارا منهم بالقول، ولم يحققوا قولهم بعملهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا دون تقييد قولهم بذلك بأن يقولوا آمنا باللّه ورسوله، ولكن أمرهم أن يقولوا القول الذي لا يشكل على سامعيه والذي قائله فيه محقّ، وهو أن يقولوا أسلمنا، بمعنى: دخلنا في الملة والأموال، والشهادة الحقّ.

 قوله: وَلمّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ يقول تعالى ذكره: ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان، وحقائق معانيه في قلوبكم.

و قوله: وَإنْ تُطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ أعمالِكُمْ شَيئا يقول تعالى ذكره: لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : قل لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، إن تطيعوا اللّه ورسوله أيها القوم، فتأتمروا لأمره وأمر رسوله، وتعملوا بما فرض عليكم، وتنتهوا عما نهاكم عنه، لا يَلِتْكُمْ مِنْ أعمالِكُمْ شَيْئا يقول: لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا ولا ينقصكم من ثوابها شيئا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٦٠٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: لا يَلِتْكُمْ لا ينقصكم.

٢٤٦٠٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله لا يَلِتْكُمْ مِنْ أعمالِكُمْ شَيْئا يقول: لن يظلمكم من أعمالكم شيئا.

٢٤٦٠٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في وَإنْ تُطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ قال: إن تصدقوا إيمانكم بأعمالكم يقبل ذلك منكم. وقرأت قرّاء الأمصار لا يَلِتْكُمْ مِنْ أعمالِكُم بغير همز ولا ألف، سوى أبي عمرو، فإنه قرأ ذلك (لا يأَلَتْكُمْ) بألف اعتبارا منه في ذلك ب قوله: وَما ألَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهمْ مِنْ شَيْءٍ فمن قال: ألت، قال: يألت. وأما الاَخرون فإنهم جعلوا ذلك من لات يليت، كما قال رُؤبةُ بن العجاج:

وَلَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاها لَيْتُ

والصواب من القراءة عندنا في ذلك، ما عليه قرّاء المدينة والكوفة لا يَلِتْكُمْ بغير ألف ولا همز، على لغة من قال: لات يليت، لعلتين: إحداهما: إجماع الحجة من القرّاء عليها. والثانية أنها في المصحف بغير ألف، ولا تسقط الهمزة في مثل هذا الموضع، لأنها ساكنة، والهمزة إذا سكنت ثبتت، كما يقال: تأمرون وتأكلون، وإنما تسقط إذا سكن ما قبلها، ولا يحمل حرف في القرآن إذا أتى بلغة على آخر جاء بلغة خلافها إذا كانت اللغتان معروفتين في كلام العرب. وقد ذكرنا أن ألت ولات لغتان معروفتان من كلامهم.

و قوله: إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره: إن اللّه ذو عفو أيها الأعراب لمن أطاعه، وتاب إليه من سالف ذنوبه، فأطيعوه، وانتهوا إلى أمره ونهيه، يغفر لكم ذنوبكم، رحيم بخلقه التائبين إليه أن يعاقبهم بعد توبتهم من ذنوبهم على ما تابوا منه، فتوبوا إليه يرحمكم. كما:

٢٤٦١٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور للذنوب الكثيرة أو الكبيرة، شكّ يزيد، رحيم بعباده.

١٥

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّه وَرَسُولِهِ ...}.

يقول تعالى ذكره للأعراب الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم: إنما المؤمنون أيها القوم الذين صدّقوا اللّه ورسوله، ثم لم يرتابوا، يقول: ثم لم يشكوا في وحدانية اللّه ، ولا في نبوّة نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، وألزم نفسه طاعة اللّه وطاعة رسوله، والعمل بما وجب عليه من فرائض اللّه بغير شكّ منه في وجوب ذلك عليه وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّه يقول: جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم، وبذل مُهَجِهم في جهادهم، على ما أمرهم اللّه به من جهادهم، وذلك سبيله لتكون كلمة اللّه العليا، وكلمة الذين كفروا السفَلى.

و قوله: أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ يقول: هؤلاء الذين يفعلون ذلك هم الصادقون في قولهم: إنا مؤمنون، لا من دخل في الملة خوف السيف ليحقن دمه وماله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٤٦١١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقونَ قال: صدّقوا إيمانهم بأعمالهم.

١٦

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللّه بِدِينِكُمْ وَاللّه يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّه بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم: أتُعَلّمُونَ اللّه أيها القوم بدينكم، يعني بطاعتكم ربكم وَاللّه يَعْلَمُ ما في السّمَوَاتِ ومَا فِي الأرْضِ يقول: واللّه الذي تعلّمونه أنكم مؤمنون، عَلاّم جميع ما في السموات السبع والأرضين السبع، لا يخفى عليه منه شيء، فكيف تعلمونه بدينكم، والذي أنتم عليه من الإيمان، وهو لا يخفى عليه خافية، في سماء ولا أرض، فيخفى عليه ما أنتم عليه من الدين وَاللّه بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول: واللّه بكلّ ما كان، وما هو كائن، وبما يكون ذو علم. وإنما هذا تقدّم من اللّه إلى هؤلاء الأعراب بالنهي، عن أن يكذّبوا ويقولوا غير الذي هم عليه في دينهم. يقول: اللّه محيط بكلّ شيء عالم به، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم، فينالكم عقوبته، فإنه لا يخفى عليه شيء.

١٧

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّه يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : يمنّ عليك هؤلاء الأعراب يا محمد أن أسلموا قُلْ لا تَمُنّوا عَليّ إسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّه يَمُنّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ يقول: بل اللّه يمن عليكم أيها القوم أن وفقكم للإيمان به وبرسوله إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يقول: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا، فإن اللّه هو الذي منّ عليكم بأن هداكم له، فلا تمنوا عليّ بإسلامكم.

وذُكر أن هؤلاء الأعراب من بني أسد، امتنوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا: آمنا من غير قتال، ولم نقاتلك كما قاتلك غيرنا، فأنزل اللّه فيهم هذه الاَيات: ذكر من قال ذلك:

٢٤٦١٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبَير في هذه الاَية يَمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أْسْلَمُوا أهم بنو أسد؟ قال: قد قيل ذلك.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا سهل بن يوسف، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: قلت لسعيد بن جُبَير يمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا أهم بنو أسد؟ قال: يزعمون ذاك.

٢٤٦١٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، قال: كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد، أو بشر بن عطارد، ولبيد بن غالب عند الحجاج جالسين، فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد: نزلت في قومك بني تميم إنّ الّذِينَ يُنادُنَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ فذكرت ذلك لسعيد بن جُبير، فقال: إنه لو علم بآخر الاَية أجابه يَمُنّونَ عَلْيَكَ أنْ أسْلَمُوا قالوا أسلمنا ولم نقاتلك بنو أسد.

٢٤٦١٤ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة لا تَمُنّوا أنا أسلمنا بغير قتال لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال اللّه لنبيه صلى اللّه عليه وسلم : قُلْ لهم لا تَمُنّوا عَليّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللّه يَمُنّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ.

٢٤٦١٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: يَمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنّوا عَليّ إسْلامَكُمْ قال: فهذه الاَيات نزلت في الأعراب.

١٨

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ اللّه يَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّه بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.

يقول تعالى ذكره: إن اللّه أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه، ومن الداخل فيه رهبة من رسولنا محمد صلى اللّه عليه وسلم وجنده، فلا تعلمونا دينكم وضمائر صدوركم، فإن اللّه يعلم ما تكنه ضمائر صدوركم، وتحدّثون به أنفسكم، ويعلم ما غاب عنكم، فاستسرّ في خبايا السموات والأرض، لا يخفى عليه شيء من ذلك واللّه بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يقول: واللّه ذو بصر بأعمالكم التي تعملونها، أجهرا تعملون أم سرّا، طاعة تعملون أو معصية؟ وهو مجازيكم على جميع ذلك، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ وكُفُؤه.

وإنْ في قوله: يَمُنّوا عَلَيْكَ أنْ أسْلَمْوا في موضع نصب بوقوع يمنون عليها، وذكر أن ذلك في قراءة عبد اللّه (يَمُنّونَ عَلَيْكَ إسْلامَهُمْ) ، وذلك دليل على صحة ما قلنا، ولو

قيل: هي نصب بمعنى: يمنون عليك لأن أسلموا، لكان وجها يتجه. وقال بعض أهل العربية: هي في موضع خفض. بمعنى: لأن أسلموا.

وأما أن التي في قوله: بَلِ اللّه يَمُنّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ فإنها في موضع نصب بسقوط الصلة لأن معنى الكلام: بل اللّه يمنّ عليكم بأن هداكم للإيمان.

﴿ ٠