تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآنللإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبريإمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)_________________________________سورة الحشرمدنية وآياتها أربع وعشرون بسم اللّه الرحمن الرحيم ١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {سَبّحَ للّه مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }. يعني بقوله جل ثناؤه سبح للّه صلى للّه وسجد له ما في السموات وما في الأرض من خلقه وهو العزيز الحكيم يقول وهو العزيز في انتقامه ممن انتقم من خلقه على معصيتهم إياه الحكيم في تدبيره إياهم. ٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {هُوَ الّذِيَ أَخْرَجَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ...}. يعني تعالى ذكره ب قوله: هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ اللّه الذي أخرج الذين جحدوا نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم من أهل الكتاب، وهم يهود بني النضير من ديارهم، وذلك خروجهم عن منازلهم ودورهم، حين صالحوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أن يؤمنهم على دمائهم ونسائهم وذراريهم، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من أموالهم، ويخلو له دورهم، وسائر أموالهم، فأجابهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى ذلك، فخرجوا من ديارهم، فمنهم من خرج إلى الشام، ومنهم من خرج إلى خيبر، فذلك قول اللّه عزّ وجلّ هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارهِمْ لأوّل الْحَشْر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٦٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول اللّه عز وجل: هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ قال: النضير حتى قوله وَلِيُخْزيَ الفاسِقِينَ. ذكر ما بين ذلك كله فيهم: ٢٦١٦٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ قيل: الشام، وهم بنو النضير حيّ من اليهود، فأجلاهم نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، مَرْجِعَه من أحد. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري مِنْ دِيارِهِمْ لأَوّل الْحَشْرِ قال: هم بنو النضير قاتلهم النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى صالحهم على الجلاء، فأجلاهم إلى الشام، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من شيء إلا الحلقة، والحلقة: السلاح، كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى، وكان اللّه عزّ وجلّ قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك عذبهم في الدنيا بالقتل والسباء. ٢٦١٦٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ قال: هؤلاء النضير حين أجلاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . ٢٦١٦٩ـ حدثنا ابن حَميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان، قال: نزلت في بني النضير سورة الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم اللّه عزّ وجل به من نقمته، وما سلط عليهم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما عمل به فيهم، فقال: هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ... الاَيات. و قوله: لأَوّلِ الْحَشْرِ يقول تعالى ذكره: لأوّل الجمع في الدنيا، وذلك حشرهم إلى أرض الشام. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٧٠ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، قوله لأَوّلِ الْحَشْرِ قال: كان جلاؤهم أوّل الحشر في الدنيا إلى الشام. ٢٦١٧١ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة : تجيء نار من مَشرِق الأرض، تَحْشُر الناس إلى مغاربها، فتبيت معهم حيث باتُوا، وتَقِيل معهم حيث قالوا، وتأكل من تَخَلّف. ٢٦١٧٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن عوف، عن الحسن، قال: بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أجلى بني النضير، قال: (امْضوا فَهَذَا أوّل الحَشْرِ، وَإنّا عَلى الأثَرِ) . ٢٦١٧٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لأَوّلِ الحَشْرِ قال: الشام حين ردّهم إلى الشام، وقرأ قول اللّه عزّ وجلّ: يا أيّها الّذِينَ أوتُوا الكِتابَ آمَنُوا بِمَا نَزّلْنا مَصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنرُدّها على أدْبارِها قال: من حيث جاءت، أدبارها أن رجعت إلى الشام، من حيث جاءت ردّوا إليه. و قوله: ما ظَنَنْتُمْ أنْ يخْرُجُوا يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما ظننتم أن يخرج هؤلاء الذين أخرجهم اللّه من ديارهم من أهل الكتاب من مساكنهم ومنازلهم، وَظَنّوا أنّهُمْ ما نِعَتُهُمْ حُصُونُهمْ مِنَ اللّه وإنما ظنّ القوم فيما ذكر أن عبد اللّه بن أُبي وجماعة من المنافقين بعثوا إليهم لما حصرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمرونهم بالثبات في حصونهم، ويعدونهم النصر، كما: ٢٦١٧٤ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان، أن رهطا من بني عوف ابن الخزرج منهم عبد اللّه بن أُبي ابن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس، بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنّعوا، فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وكانوا قد تحصنوا في الحصون من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين نزل بهم. و قوله: فأتاهُمُ اللّه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا يقول تعالى ذكره: فأتاهم أمر اللّه من حيث لم يحتسبوا أنه يأتيهم، وذلك الأمر الذي أتاهم من اللّه حيث لم يحتسبوا، قذف في قلوبهم الرعب بنزول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بهم في أصحابه، يقول جلّ ثناؤه: وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرّعُبَ. و قوله: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُوءْمِنِينَ يعني جل ثناؤه ب قوله: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بني النضير من اليهود، وأنهم يخربون مساكنهم، وذلك أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة فيما ذُكر في منازلهم مما يستحسنونه، أو العمود أو الباب، فينزعون ذلك منها بأيديهم وأيدي المؤمنين. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُوءْمِنِينَ جعلوا يخربونها من أجوافها، وجعل المؤمنون يخربون من ظاهرها. ٢٦١٧٦ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزّهريّ، قال: لما صالحوا النبي صلى اللّه عليه وسلم كانوا لا يعجبهم خشبة إلا أخذوها، فكان ذلك خرابها. وقال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها، وتخربها اليهود من داخلها. ٢٦١٧٧ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان، قال: احتملوا من أموالهم، يعني بني النضير، ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، قال: فذلك قوله: يُخْربُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُوءْمِنِينَ وذلك هدمهم بيوتهم عن نُجف أبوابهم إذا احتملوها. ٢٦١٧٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول اللّه عز وجل: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُوءْمِنِينَ قال: هؤلاء النضير، صالحهم النبي صلى اللّه عليه وسلم على ما حملت الإبل، فجعلوا يقلعوا الأوتاد يخربون بيوتهم. وقال آخرون: إنما قيل ذلك كذلك، لأنهم كانوا يخربون بيوتهم ليبنوا بنقضها ما هدم المسلمون من حصونهم. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٧٩ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُوءْمِنِينَ فاعْتَبِرُوا يا أُولي الأبْصَارِ قال: يعني بني النضير، جعل المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم جعلوا ينقضون بيوتهم ويخربونها، ثم يبنون ما يخرب المسلمون، فذلك هلاكهم. ٢٦١٨٠ـ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُوءْمِنِينَ يعني أهل النضير جعل المسلمون كلما هدموا من حصنهم جعلوا ينقضون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، ثم يبنون ما خرّب المسلمون. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والعراق سوى أبي عمرو: يُخْرِبُونَ بتخفيف الراء، بمعنى يخرجون منها ويتركونها معطلة خرابا، وكان أبو عمرو يقرأ ذلك (يخرّبون) بالتشديد في الراء بمعنى يهدّمون بيوتهم. وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك نحو قراءة أبي عمرو. وكان أبو عمرو فيما ذكر عنه يزعم أنه إنما اختار التشديد في الراء لما ذكرت من أن الإخراب: إنما هو ترك ذلك خرابا بغير ساكن، وإن بني النضير لم يتركوا منازلهم، فيرتحلواعنها، ولكنهم خربّوبها بالنقض والهدم، وذلك لا يكون فيما قال إلا بالتشديد. و قوله: فاعْتَبرُا يا أولي الأبصارِ يقول تعالى ذكره: فاتعظوا يا معشر ذوي الأفهام بما أحلّ اللّه بهؤلاء اليهود الذين قذف اللّه في قلوبهم الرعب، وهم في حصونهم من نقمته، واعلموا أن اللّه ولّى من والاه، وناصر رسوله على كلّ من ناوأه، ومحلّ من نقمته به نظير الذي أحلّ ببني النضير. وإنما عنى بالأبصار في هذا الموضع أبصار القلوب، وذلك أن الاعتبار بها يكون دون الإبصار بالعيون. ٣ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار القول في تأويل قوله تعالى: {ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار} يقول تعالى ذكره: ولولا أن اللّه قضى وكتب على هؤلاء اليهود من بني النضير في أم الكتاب الجلاء، وهو الانتقال من موضع إلى موضع، وبلدة إلى أخرى.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٠٢ - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء} خروج الناس من البلد إلى البلد. ٢٦٢٠٣ - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس {ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء} والجلاء: إخراجهم، من أرضهم إلى أرض أخرى قال: ويقال الجلاء: الفرار يقال منه: جلا القوم من منازلهم، وأجليتهم أنا..قوله: {لعذبهم في الدنيا} يقول تعالى ذكره: {ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء} من أرضهم وديارهم، لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، ولكنه رفع العذاب عنهم في الدنيا بالقتل، وجعل عذابهم في الدنيا والجلاء {ولهم في الآخرة عذاب النار} مع ما حل بهم من الخزي في الدنيا بالجلاء عن أرضهم ودورهم.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٠٤ - حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، قال: كان النضير من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى، وكان اللّه قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي. ٢٦٢٠٥ - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان {ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء} وكان لهم من اللّه نقمة {لعذبهم في الدنيا} أي بالسيف {ولهم في الآخرة عذاب النار} مع ذلك. ٢٦٢٠٦ - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار} قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، ويسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء. ٢٦٢٠٧ - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء} أهل النضير، حاصرهم نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوا نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أراد، ثم ذكر نحوه وزاد فيه: فهذا الجلاء. ٤ذلك بأنهم شاقوا اللّه ورسوله ومن يشاق اللّه فإن اللّه شديد العقاب قوله: {ذلك بأنهم شاقوا اللّه ورسوله} يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعل اللّه بهؤلاء اليهود ما فعل بهم من إخراجهم من ديارهم، وقذف الرعب في قلوبهم من المؤمنين، وجعل لهم في الآخرة عذاب النار بما فعلوا هم في الدنيا من مخالفتهم اللّه ورسوله في أمره ونهيه، وعصيانهم ربهم فيما أمرهم به من اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلميقول تعالى ذكره: ومن يخالف اللّه في أمره ونهيه، فإن اللّه شديد العقاب. ٥ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن اللّه وليخزي الفاسقين القول في تأويل قوله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها} يقول تعالى ذكره: ما قطعتم من ألوان النخل، أو تركتموها قائمة على أصولها.اختلف أهل التأويل في معنى اللينة، فقال بعضهم: هي جميع أنواع النخل سوى العجوة. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٠٨ - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة: {ما قطعتم من لينة} قال: النخلة. ٢٦٢٠٩ - حدثنا ابن المثني، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها} قال: اللينة: ما دون العجوة من النخل. ٢٦٢١٠ - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان، في قوله: {ما قطعتم من لينة} قال: اللينة: ما خالف العجوة من التمر.وحدثنا به مرة أخرى فقال: من النخل. ٢٦٢١١ - حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة، في قوله: {ما قطعتم من لينة} قال: النخل كله ما خلا العجوة.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله {ما قطعتم من لينة} واللينة: ما خلا العجوة من النخل. ٢٦٢١٢ - حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري {ما قطعتم من لينة} ألوان النخل كلها إلا العجوة. ٢٦٢١٣ - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس {ما قطعتم من لينة} قال: النخلة دون العجوة.وقال آخرون: النخل كله لينة، العجوة منه وغير العجوة. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢١٤ - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد {ما قطعتم من لينة} قال: النخلة.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {ما قطعتم من لينة} قال: نخلة. قال: نهى بعض المهاجرين بعضا عن قطع النخل، وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين، ونزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه. ٢٦٢١٥ - حدثنا ابن المثني، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون {ما قطعتم من لينة} قال: النخلة. ٢٦٢١٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: {ما قطعتم من لينة} قال: اللينة: النخلة، عجوة كانت أو غيرها، قال اللّه : {ما قطعتم من لينة} قال: الذي قطعوا من نخل النضير حين غدرت النضير.وقال آخرون: هي لون من النخل. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢١٧ - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {ما قطعتم من لينة} قال: اللينة: لون من النخل. وقال، آخرون: هي كرام النخل. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢١٨ - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان في {ما قطعتم من لينة} قال: من كرام نخلهم.والصواب من القول في ذلك قول من قال: اللينة: النخلة، وهن من ألوان النخل ما لم تكن عجوة، وإياها عنى ذو الرمة بقوله:طراق الخوافي واقع فوق لينة ندى ليله في ريشه يترقرقوكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: اللينة من اللون، والليان في الجماعة واحدها اللينة. قال: وإنما سميت لينة لأنه فعلة من فعل، وهو اللون، وهو ضرب من النخل، ولكن لما انكسر ما قبلها انقلبت إلى الياء. وكان بعضهم ينكر هذا القول ويقول: لو كان كما قال لجمعوه: اللوان لا الليان. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: جمع اللينة لين، وإنما أنزلت هذه الآية فيما ذكر من أجل أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما قطع نخل بني النضير وحرقها، قالت بنو النضير لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إنك كنت تنهى عن الفساد وتعيبه، فما بالك تقطع نخلنا وتحرقها؟ فأنزل اللّه هذه الآية، فأخبرهم أن ما قطع من ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو ترك، فعن أمر اللّه فعل.وقال آخرون: بل نزل ذلك لاختلاف كان من المسلمين في قطعها وتركها. ذكر من قال: نزل ذلك لقول اليهود للمسلمين ما قالوا: ٢٦٢١٩ - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثنا يزيد بن رومان، قال: لما نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بهم يعني ببني النضير تحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقطع النخل، والتحريق فيها، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فأنزل اللّه عز وجل {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن اللّه وليخزي الفاسقين} .ذكر من قال: نزل ذلك لاختلاف كان بين المسلمين في أمرها: ٢٦٢٢٠ - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها} ... الآية، أي ليعظهم، فقطع المسلمون يومئذ النخل، وأمسك آخرون كراهية أن يكون إفسادا، فقالت اليهود: اللّه أذن لكم في الفساد؟ فأنزل اللّه {ما قطعتم من لينة} . ٢٦٢٢١ - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها} قال: نهى بعض المهاجرين بعضا عن قطع النخل، وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين، ونزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه. ٢٦٢٢٢ - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد البرقي، قال ابن المبارك، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قطع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نخل بني النضير، وفي ذلك نزلت {ما قطعتم من لينة} ... الآية، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير.قوله: {فبإذن اللّه } يقول: فبأمر اللّه قطعتم ما قطعتم، وتركتم ما تركتم، وليغيظ بذلك أعداءه، ولم يكن فسادا.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٢٣ - حدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان {فبإذن اللّه } أي فبأمر اللّه قطعت، ولم يكن فسادا، ولكن نقمة من اللّه ، وليخزي الفاسقين..قوله: {وليخزي الفاسقين} وليذل الخارجين عن طاعة اللّه عز وجل، المخالفين أمره ونهيه، وهم يهود بني النضير. ٦وما أفاء اللّه على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن اللّه يسلط رسله على من يشاء واللّه على كل شيء قدير القول في تأويل قوله تعالى: {وما أفاء اللّه على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} يقول تعالى ذكره: والذي رده اللّه على رسوله منهم، يعني من أموال بني النضير.يقال منه: فاء الشيء على فلان: إذا رجع إليه، و أفأته أنا عليه: إذا رددته عليه. وقد قيل: إنه عنى بذلك أموال قريظة {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} يقول: فما أوضعتم فيه من خيل ولا في إبل وهي الركاب. وإنما وصف جل ثناؤه الذي أفاءه على رسوله منهم بأنه لم يوجف عليه بخيل من أجل أن المسلمين لم يلقوا في ذلك حربا، ولا كلفوا فيه مئونة، وإنما كان القوم معهم، وفي بلدهم، فلم يكن فيه إيجاف خيل ولا ركاب.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٢٤ - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله {وما أفاء اللّه على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} . الآية، يقول: ما قطعتم إليها واديا، ولا سرتم إليها سيرا، وإنما كان حوائط لبني النضير طعمة أطعمها اللّه رسوله.ذكر لنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: "أيما قرية أعطت اللّه ورسولا، فهي للّه ولرسوله، وأيما قرية فتحها المسلمون عنوة فإن للّه خمسه ولرسوله وما بقي غنيمة لمن قاتل عليها " . ٢٦٢٢٥ - حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، في قوله {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} قال: صالح النبي صلى اللّه عليه وسلم أهل فدك وقرى قد سماها لا أحفظها، وهو محاصر قوما آخرين، فأرسلوا إليه بالصلح، قال: {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} يقول: بغير قتال. قال الزهري: فكانت بنو النضير للنبي صلى اللّه عليه وسلم خالصة لم يفتحوها عنوة، بل على صلح، فقسمها النبي صلى اللّه عليه وسلم بين المهاجرين لم يعط الأنصار منها شيئا، إلا رجلين كانت بهما حاجة. ٢٦٢٢٦ - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان {وما أفاء اللّه على رسوله منهم} يعني بني النضير {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن اللّه يسلط رسله على من يشاء واللّه على كل شيء قدير} . ٢٦٢٢٧ - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} قال: يذكر ربهم أنه نصرهم، وكفاهم بغير كراع، ولا عدة في قريظة وخيبر، ما أفاء اللّه على رسوله من قريظة، جعلها لمهاجرة قريش. ٢٦٢٢٨ - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله {وما أفاء اللّه على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن اللّه يسلط رسله على من يشاء واللّه على كل شيء قدير} قال: أمر اللّه عز وجل نبيه بالسير إلى قريظة والنضير وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب فجعل ما أصاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحكم فيه ما أراد، ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها. قال: والإيجاف: أن يوضعوا السير وهي لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فكان من ذلك خيبر وفدك وقرى عربية، وأمر اللّه رسوله أن يعد لينبع، فأتاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فاحتواها كلها، فقال ناس: هلا قسمها، فأنزل اللّه عز وجل عذره، فقال: {ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} ثم قال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ... الآية. ٢٦٢٢٩ - حدثنا عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} يعني يوم قريظة..قوله: {ولكن اللّه يسلط رسله على من يشاء} أعلمك أنه كما سلط محمدا صلى اللّه عليه وسلم على بني النضير، يخبر بذلك جل ثناؤه أن ما أفاء اللّه عليه من أموال لم يوحف المسلمون بالخيل والركاب، من الأعداء مما صالحوه عليه له خاصة يعمل فيه بما يرى. يقول: فمحمد صلى اللّه عليه وسلم إنما صار إليه أموال بني النضير بالصلح إلا عنوة، فتقع فيها القسمة.يقول: واللّه على كل شيء أراده ذو قدرة لا يعجزه شيء، وبقدرته على ما يشاء سلط نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم على ما سلط عليه من أموال بني النضير، فحازه عليهم. ٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {مّآ أَفَآءَ اللّه عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىَ فَللّه وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىَ ...}. يعني بقوله جلّ ثناؤه: ما أفاءَ اللّه على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى الذي ردّ اللّه عزّ وجلّ على رسوله من أموال مشركي القرى. واختلف أهل العلم في الذي عني بهذه الآية من الألوان، فقال بعضهم: عني بذلك الجزية والخراج. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٨٥ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ حتى بلغ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قال: وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأنّ للّه خُمْسَهُ وللرّسُول وَلِذِي القُرْبَى... الآية، ثم قال: هذه الآية لهؤلاء، ثم قرأ: ما أفاءَ اللّه على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى حتى بلغ للْفُقَراءِ والّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ والّذِينَ جاءوا مِنْ بَعْدِهُمْ ثم قال: استوعبت هذه الآية المسلمين عامة، فليس أحد إلا له حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو يسير حُمُرَه نصيبُه، لم يعرق فيها جبينه. ٢٦١٨٦ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، قال: حدثنا معمر في قوله: ما أفاءَ اللّه على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى حتى بلغني أنها الجزية، والخراج: خَراج أهل القرى. وقال آخرون: عني بذلك الغنيمة التي يصيبها المسلمون من عدوّهم من أهل الحرب بالقتال عنوة. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٨٧ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان ما أفاءَ اللّه على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى فَللّه وَلِلرّسُولِ ما يوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب، وفتح بالحرب عنوة، فَللّه وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى والْيَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ كَيْلا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرّسُولَ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْه فانْتَهُوا قال: هذا قسم آخر فِيما أصيب بالحرب بين المسلمين على ما وضعه اللّه عليه. وقال آخرون: عني بذلك الغنيمة التي أوجف عليها المسلمون بالخيل والركاب، وأخذت بالغلبة، وقالوا كانت الغنائم في بدوّ الإسلام لهؤلاء الذين سماهم اللّه في هذه الاَيات دون المرجفين عليها، ثم نسخ ذلك بالآية التي في سورة الأنفال. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٨٨ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، في قوله: ما أفاءَ اللّه على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى فَللّه وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى والْيَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ قال: كان الفيء في هؤلاء، ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال، فقال: وَاعْلَمُوا أنّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأنّ للّه خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى والْيَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ فنسخت هذه ما كان قبلها في سورة الأنفال، وجعل الخمس لمن كان له الفيء في سورة الحشر، وكانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس، فأربعة أخماس لمن قاتل عليها، ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس، فخمس للّه وللرسول، وخمس لقرابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حياته، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، وخمس لابن السبيل فلما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجه أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما هذين السهمين: سهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وسهم قرابته، فحملا عليه في سبيل اللّه صدقة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . وقال آخرون: عني بذلك: ما صالح عليه أهل الحرب المسلمين من أموالهم، وقالوا قوله ما أفاءَ اللّه على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى فَللّه وللرّسُولِ... الاَيات، بيان قسم المال الذي ذكره اللّه في الآية التي قبل هذه الآية، وذلك قوله: ما أفاءَ اللّه على رَسُولِه مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكاب وهذا قول كان يقوله بعض المتفقهة من المتأخرين. والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الآية حكمها غير حكم الآية التي قبلها، وذلك أن الآية التي قبلها مال جعله اللّه عزّ وجلّ لرسوله صلى اللّه عليه وسلم خاصة دون غيره، لم يجعل فيه لأحد نصيبا، وبذلك جاء الأثر عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه. ٢٦١٨٩ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: أرسل إليّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فدخلت عليه، فقال: إنه قد حضر أهل أبيات من قومك وإنا قد أمرنا لهم برضخ، فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين مر بذلك غيري، قال: اقبضه أيها المرء فبينا أنا كذلك، إذ جاء يرفأ مولاه، فقال: عبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان، وسعد يستأذنون، فقال: ائذن لهم ثم مكث ساعة، ثم جاء فقال: هذا عليّ والعباس يستأذنان، فقال: ائذن لهما فلما دخل العباس قال: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الغادر الخائن الفاجر، وهما جاءا يختصمان فيما أفاء اللّه على رسوله من أعمال بني النضير، فقال القوم: اقض بينهما يا أمير المؤمنين، وأرح كلّ واحد منهما من صاحبه، فقد طالت خصومتهما، فقال: أنشدكم اللّه الذي بإذنه تقوم السموات والأرض، أتعلمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا نُورَثُ ما تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ) قالوا: قد قال ذلك ثم قال لهما: أتعلمان أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذلك؟ قالا: نعم قال: فسأخبركم بهذا الفيء إن اللّه خصّ نبيه صلى اللّه عليه وسلم بشيء لم يعطه غيره، فقال: وَما أفاءَ اللّه على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكاب فكانت هذه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة، فواللّه ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها دونكم، ولقد قسمها عليكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينفق على أهله منه سنتهم، ثم يجعل ما بقي في مال اللّه . فإذَا كانت هذه الآية التي قبلها مضت، وذكر المال الذي خصّ اللّه به رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يجعل لأحد معه شيئا، وكانت هذه الآية خبرا عن المال الذي جعله اللّه لأصناف شتى، كان معلوما بذلك أن المال الذي جعله لأصناف من خلقه غير المال الذي جعله للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم خاصة، ولم يجعل له شريكا. و قوله: وَلِذي القُرْبى يقول: ولذي قرابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب واليتامى، وهم أهل الحاجة من أطفال المسلمين الذين لا مال لهم والمساكين: وهم الجامعون فاقة وذلّ المسئلة وابن السبيل: وهم المنقطع بهم من المسافرين في غير معصية اللّه عزّ وجلّ. وقد ذكرنا الرواية التي جاءت عن أهل التأويل بتأويل ذلك فيما مضى من كتابنا. و قوله: كَيْلا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ يقول جلّ ثناؤه. وجعلنا ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى لهذه الأصناف، كيلا يكون ذلك الفيء دُولة يتداوله الأغنياء منكم بينهم، يصرفه هذا مرّة في حاجات نفسه، وهذا مرّة في أبواب البرّ وسُبُل الخير، فيجعلون ذلك حيث شاءوا، ولكننا سننا فيه سنة لا تُغير ولا تُبدّل. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى أبي جعفر القارىء كَيْلا يَكُونَ دُولَةً نصبا على ما وصفت من المعنى، وأن في يكون ذكر الفيء. و قوله: دُولَةً نصب خبر يكون، وقر ذلك أبو جعفر القارىء: (كَيْلا يَكُونَ دُولَةٌ) على رفع الدولة مرفوعة بيكون، والخبر قوله: بين الأغنياء منكم وبضمّ الدال من دُولة قرأ جميع قرّاء الأمصار، غير أنه حُكي عن أبي عبد الرحمن الفتح فيها. وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك، إذا ضمت الدال أو فُتحت، فقال بعض الكوفيين: معنى ذلك: إذا فتحت الدولة وتكون للجيش يهزم هذا هذا، ثم يهزم الهازم، فيقال: قد رجعت الدولة على هؤلاء قال: والدولة برفع الدال في الملك والسنين التي تغير وتبدّل على الدهر، فتلك الدولة والدول. وقال بعضهم: فرق ما بين الضمّ والفتح أن الدولة: هي اسم الشيء الذي يتداول بعينه، والدولة الفعل. والقراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك: كَيْلا يَكْونَ بالياء دُولَةً بضم الدال ونصب الدولة على المعنى الذي ذكرت في ذلك لإجماع الحجة عليه، والفرق بين الدّولة والدّولة بضم الدال وفتحها ما ذكرت عن الكوفيّ في ذلك. و قوله: وَما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ يقول تعالى ذكره: وما أعطاكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما أفاء عليه من أهل القرى فخذوه وَما نهاكُمْ عَنْهُ من الغَلول وغيره من الأمور فانْتَهُوا وكان بعض أهل العلم يقول نحو قولنا في ذلك غير أنه كان يوجه معنى قوله وَمَا آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ إلى ما آتاكم من الغنائم. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٩٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن عوف، عن الحسن، في قوله: وَمَا آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا قال: يؤتيهم الغنائم ويمنعهم الغلول. و قوله: وَاتّقُوا اللّه يقول: وخافوا اللّه ، واحذروا عقابه في خلافكم على رسوله بالتقدّم على ما نهاكم عنه، ومعصيتكم إياه إنّ اللّه شَدِيدُ العِقابِ يقول: إن اللّه شديد عقابه لمن عاقبه من أهل معصيته لرسوله صلى اللّه عليه وسلم . ٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ...}. يقول تعالى ذكره: كيلا يكون ما أفاء اللّه على رسوله دُولة بين الأغنياء منكم، ولكن يكون للفقراء المهاجرين. و قيل: عُني بالمهاجرين: مهاجرة قريش. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٩١ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ما أفاءَ اللّه على رَسُولِهِ من قريظة جعلها لمهاجرة قريش. ٢٦١٩٢ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَير، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، قالا: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو، فنسبهم اللّه إلى أنهم فقراء، وجعل لهم سهما في الزكاة. ٢٦١٩٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله للْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ الّذِينَ أُخُرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ... إلى قوله أولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ قال: هؤلاء المهاجرون تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر، خرجوا حبا للّه ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما فيه من الشدّة، حتى لقد ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ماله دثار غيرها. و قوله: الّذِينَ أخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وأمْوَالِهِمْ، و قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللّه وَرِضْوَانا موضع يبتغون نصب، لأنه في موضع الحال و قوله: وَيَنْصُرُونَ اللّه وَرَسُولَهُ يقول: وينصرون دين اللّه الذي بعث به رسوله محمدا صلى اللّه عليه وسلم . و قوله: أولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ يقول: هؤلاء الذين وصف صفتهم من الفقراء المهاجرين هم الصادقون فيما يقولون. ٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ...}. يقول تعالى ذكره: وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ والإيمَانَ يقول: اتخذوا المدينة مدينة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فابتنوها منازل، وَالإيمَانَ باللّه ورسوله مِنْ قَبْلِهِمْ يعني : من قبل المهاجرين، يُحِبّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ: يحبون من ترك منزله، وانتقل إليهم من غيرهم، وعُنِي بذلك الأنصار يحبون المهاجرين. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٩٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال: الأنصار نعت. قال محمد بن عمرو: سفاطة أنفسهم. وقال الحارث: سخاوة أنفسهم عند ما روى عنهم من ذلك، وإيثارهم إياهم ولم يصب الأنصار من ذلك الفيء شيء. ٢٦١٩٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مِنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا يقول: مما أعطوا إخوانهم هذا الحيّ من الأنصار، أسلموا في ديارهم، فابتنوا المساجد والمسجد، قبل قدوم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فأحسن اللّه عليهم الثناء في ذلك وهاتان الطائفتان الأوّلتان من هذه الآية، أخذتا بفضلهما، ومضتا على مَهَلهما، وأثبت اللّه حظهما في الفيء. ٢٦١٩٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله اللّه عزّ وجلّ: وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ قال: هؤلاء الأنصار يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين. و قوله: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا يقول جلّ ثناؤه: ولا يجد الذين تبوّءوا الدار من قبلهم، وهم الأنصار في صدورهم حاجة، يعني حسدا مما أوتوا، يعني مما أوتي المهاجرين من الفيء، وذلك لما ذُكر لنا من أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأوّلين دون الأنصار، إلا رجلين من الأنصار، أعطاهما لفقرهما، وإنما فعل ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٩٧ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن عبد اللّه بن أبي بكر، أنه حدّث أنّ بني النضير خَلّوا الأموال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فكانت النضير لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حُنَيف وأبا دُجانة سِماك بن خَرَشة ذكرا فقرا، فأعطاهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . ٢٦١٩٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُتُوا المهاجرون. قال، وتكلم في ذلك يعني أموالَ بني النضير بعضُ من تكلّم من الأنصار، فعاتبهم اللّه عزّ وجلّ في ذلك فقال: وَما أفاءَ اللّه على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ اللّه يُسَلّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللّه على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهم: (إنّ إخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الأمْوَالَ والأولاد وَخَرَجُوا إلَيْكُمْ) فقالوا: أموالنا بينهم قطائع، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟) قالوا: وما ذلك يا رسول اللّه ؟ قال: (هُمْ قَوْمٌ لا يَعْرِفُونَ العَمَلَ فَتَكْفُونهُمْ وَتُقاسِمُونَهُمْ الثّمَرَ) ، فقالوا: نعم يا رسول اللّه . وبنحو الذي قلنا في قوله وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٩٩ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا سليمان أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أوتُوا قال: الحسد. قال: ثنا عبد الصمد، قال: حدثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن حاجَةً فِي صُدُورِهِمْ قال: حسدا في صدورهم. حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أبو رجاء عن الحسن، مثله. و قوله: وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ يقول تعالى ذكر: وهو يصف الأنصار الذين تبوّءُوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهمْ يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثارا لهم بها على أنفسهم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم. والخَصاصة مصدر، وهي أيضا اسم، وهو كلّ ما تخلّلته ببصرك كالكوّة والفرجة في الحائط، تجمع خَصاصات وخِصاص، كمال قال الراجز: قَدْ عَلِمَ المَقاتِلاتُ هَجّا والنّاظراتُ مِنْ خَصَاصٍ لَمْجا لأَوْرِيَنْها دُلَجا أوْ مُنْجَا وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٠٠ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ليضيفه، فلم يكن عنده ما يضيفه، فقال: (ألا رجلٌ يضيفُ هذا رَحِمَهُ اللّه ؟) فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيفَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، نوّمي الصبية، وأطفئي المصباح وأريه بأنك تأكلين معه واتركيه لضيف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ففعلت فنزلت وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا وكيع، عن فضيل، عن غزوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف، فلم يكن عند إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نَوّمي الصّبْية وأطفئي المصباح، وقرّبي للضيف ما عندك، قال: فنزلت هذه الآية وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ. يقول تعالى ذكره: من وقاه اللّه شحّ نفسه فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ المخلّدُونَ في الجنة. والشحّ في كلام العرب: البخل، ومنع الفضل من المال ومنه قول عمرو بن كلثوم: تَرَى اللّحِزَ الشّحيحَ إذَا أُمِرّتْعَلَيْهِ لِمَالِهِ فِيها مُهينا يعني بالشحيح: البخيل، يقال: إنه لشحيح بين الشحّ والشحّ، وفيه شحة شديدة وشحاحة. وأما العلماء فإنهم يرون أن الشحّ في هذا الموضع إنما هو أكل أموال الناس بغير حقّ. ٢٦٢٠١ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا المسعودي، عن أشعث، عن أبي الشعثاء، عن أبيه، قال: أتى رجل ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: أسمع اللّه يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، قال: ليس ذاك بالشحّ الذي ذكر اللّه في القرآن، إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك ظلما، ذلك البخل، وبئس الشيء البخل. ٢٦٢٠٢ـ حدثني يحيى بن إبراهيم، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن جامع، عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد اللّه بن مسعود، فقال يا أبا عبد الرحمن، إني أخشى أن تكون أصابتني هذه الآية وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ واللّه ما أعطي شيئا أستطيع منعه، قال: ليس ذلك بالشحّ، إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك بغير حقه، ولكن ذلك البخل. ٢٦٢٠٣ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا: حدثنا سفيان، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جُبَير، عن أبي الهياج الأسدي، قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلاً يقول: اللّه مّ قني شحّ نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: إني إذا وقيت شحّ نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل شيئا، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. ٢٦٢٠٤ـ حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري، عن عمه يزيد بن جارية الأنصاري، عن أنس بن مالك، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (بَرِىءَ مِنَ الشّحّ مَنْ أدّى الزّكاةَ، وَقَرَى الضّيْفَ، وأعْطَى في النّائِبَةِ) . ٢٦٢٠٥ـ حدثني محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، قال: حدثنا زياد بن يونس أبو سلامة، عن نافع بن عمر المكي، عن ابن أبي مليكة، عن عبد اللّه بن عمر، قال: إن نجوت من ثلاث طمعت أن أنجو. قال عبد اللّه بن صفوان ما هنّ أنبيك فيهنّ، قال: أخرج المال العظيم، فأخرجه ضرارا، ثم أقول: أقرض ربي هذه الليلة، ثم تعود نفسي فيه حتى أعيده من حيث أخرجته، وإن نجوت من شأن عثمان، قال ابن صفوان: أما عثمان فقُتل يوم قُتل، وأنت تحبّ قتله وترضاه، فأنت ممن قتله وأما أنت فرجل لم يقك اللّه شحّ نفسك، قال: صدقت. ٢٦٢٠٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول اللّه عز وجل: وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ قال: من وقى شحّ نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئا، ولم يقربه، ولم يدعه الشحّ أن يحبس من الحلال شيئا، فهو من المفلحين، كما قال اللّه عزّ وجلّ. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ قال: من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه اللّه عزّ وجلّ عنه، ولم يدعه الشحّ على أن يمنع شيئا من شيء أمره اللّه به، فقد وقاه اللّه شحّ نفسه، فهو من المفلحين. ١٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَالّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا ...}. يقول تعالى ذكره: والذين جاءوا من بعد الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين الأوّلين يَقُولُونَ رَبّنا اغْفِرْ لَنا ولإِخْوَانِنا الّذِينَ سَبَقُونا بالإيمَان مِنَ الأنصار. وعنى بالذين جاءوا من بعدهم المهاجرون أنهم يستغفرون لإخوانهم من الأنصار. و قوله: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غَلاّ للّذِينَ آمَنُوا يعني غمرا وضغنا. و قيل: عني بالذين جاءوا من بعدهم: الذين أسلموا من بعد الذين تبوّءوا الدار. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٠٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: والّذِينَ جاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ قال: الذين أسلموا نعتوا أيضا. ٢٦٢٠٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: ثم ذكر اللّه الطائفة الثالثة، فقال: والّذِينَ جاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنا اغْفِرْ لَنا وَلإخْوَانِنا حتى بلغ إنّكَ رَحِيمٌ إنما أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ولم يؤمروا بسببهم. وذُكر لنا أن غلاما لحاطب بن أبي بلتعة جاء نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا نبيّ اللّه ليدخلنّ حاطب في حيّ النار، قال: (كذبت إنه شهد بدرا والحُديبية) وذُكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أغلظ لرجل من أهل بدر، فقال نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (وَما يُدْريكَ يا عُمَرُ لَعَلّهُ قَدْ شَهِدَ مَشْهَدا اطّلَعَ اللّه فِيهِ إلى أهْلِهِ، فأشْهَدَ مَلائِكَتَهُ إنُي قَدْ رَضِيتُ عَنْ عِبادي هَؤلاء، فَلْيَعْلَمُوا ما شاءُوا) فما زال بعضُنا منقبضا من أهل بدر، هائبا لهم، وكان عمر رضي اللّه عنه يقول: وإلى أهل بدر تهالك المتهالكون، وهذا الحيّ من الأنصار، أحسن اللّه عليهم الثناء. ٢٦٢٠٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول اللّه : وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غلاّ لِلّذِينَ آمَنُوا قال: لا تورث قلوبنا غلاً لأحد من أهل دينك. ٢٦٢١٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن ابن أبي ليلى، قال: كان الناس على ثلاث منازل: المهاجرون الأوّلون وَالّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ وَالّذِينَ جاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنا اغْفِرْ لَنا ولإخْوَانِنا الّذِينَ سَبَقُونا بالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاّ لِلّذِينَ آمَنُوا رَبّنا إنّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ يقول جل ثناؤه مخبرا عن قيل الذين جاءوا من بعد الذين تبوّءوا الدار والإيمان أنهم قالوا: لا تجعل في قلوبنا غلاً لأحد من أهل الإيمان بك يا ربنا. قوله: إنّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ يقول: إنك ذو رأفة بخلقك، وذو رحمة بمن تاب واستغفر من ذنوبه. ١١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ...}. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : ألم تنظر بعين قلبك يا محمد، فترى إلى الذين نافقوا وهم فيما ذُكر عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول، ووديعة، ومالك ابنا نوفل وسُوَيد وداعس بَعَثوا إلى بني النضير حين نزل بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للحرب أن اثبتُوا وتمنّعوا، فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم، خرجنا معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف اللّه في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يجليهم، ويكفّ عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة. ٢٦٢١١ـ حدثنا بذلك ابن حُمَيد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رُومان. وقال مجاهد في ذلك ما: ٢٦٢١٢ـ حدثني به محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ نافَقُوا قال: عبد اللّه بن أُبيّ ابن سلول، ورفاعة أو رافعة بن تابوت. وقال الحارث: رفاعة بن تابوت، ولم يشكّ فيه، وعبد اللّه بن نَبْتل، وأوس بن قَيْظِيّ. ٢٦٢١٣ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس ، قوله ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ نافَقُوا يعني عبد اللّه بن أُبيّ ابن سلول وأصحابه، ومن كان منهم على مثل أمرهم. و قوله: يَقُولُون لإخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتابِ يعني بني النضير، كما: ٢٦٢١٤ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتابِ يعني : بني النضير. و قوله: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنّ مَعَكُمْ يقول: لئن أخرجتم من دياركم ومنازلكم، وأُجْليتم عنها لنخرُجَنّ معكم، فنُجلى عن منازلنا وديارنا معكم. و قوله: وَلا نُطِيعُ فِيُكُمْ أحَدا أبَدا يقول: ولا نطيع أحدا سألنا خذلانكم، وترك نصرتكم، ولكنا نكون معكم وَلَئِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنّكُمْ يقول: وإن قاتلكم محمد صلى اللّه عليه وسلم ومن معه لننصرنّكم معشرَ النضير عليهم. و قوله: واللّه يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكاذِبُونَ يقول: واللّه يشهد إن هؤلاء المنافقين الذين وعدوا بني النضير النصرة على محمد صلى اللّه عليه وسلم لَكَاذِبُونَ في وعدهم إياهم مَا وَعَدُوهم من ذلك. ١٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نّصَرُوهُمْ لَيُوَلّنّ الأدْبَارَ ثُمّ لاَ يُنصَرُونَ }. يقول تعالى ذكره: لئن أُخرج بنو النضير من ديارهم، فأَجْلوا عنها لا يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم الخروج من ديارهم، ولئن قاتلهم محمد صلى اللّه عليه وسلم لا ينصرهم المنافقون الذين وعدوهم النصر، ولئن نصر المنافقون بني النضير ليولّنّ الأدبار منهزمين عن محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه هاربين منهم، قد خذلوهم ثُمّ لا يُنْصَرُونَ يقول: ثم لا ينصر اللّه بني النضير على محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأصحابه بل يخذلهم. ١٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لأنتُمْ أَشَدّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مّنَ اللّه ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَفْقَهُونَ }. يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لأنتم أيها المؤمنون أشدّ رهبة في صدور اليهود من بني النضير من اللّه : يقول: هم يرهبونهم أشدّ من رهبتهم من اللّه ذَلكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ يقول تعالى ذكره: هذه الرهبة التي لكم في صدور هؤلاء اليهود التي هي أشد من رهبتهم من اللّه من أجل أنهم قوم لا يفقهون، قدر عظمة اللّه ، فهم لذلك يستخفّون بمعاصيه، ولا يرهبون عقابه قدر رهبته منكم. ١٤و قوله: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعا إلاّ فِي قُرًى مُحَصّنَةٍ يقول جلّ ثناؤه: لا يقاتلكم هؤلاء اليهود بني النضير مجتمعين إلا في قرى محصنة بالحصون، لا يبرزون لكم بالبراز، أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ يقول: أو من خلف حيطان. واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة والمدينة أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ على الجماع بمعنى الحيطان. وقرأه بعض قرّاء مكة والبصرة: (مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ) على التوحيد بمعنى الحائط. والصواب من القول عندي في ذلك أنهما قراءاتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. و قوله: بأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يقول جلّ ثناؤه: عداوة بعض هؤلاء الكفار من اليهود بعضا شديدة تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا يعني المنافقين وأهل الكتاب، يقول: تظنهم مؤتلفين مجتمعة كلمتهم، وَقُلُوبُهُمْ شَتّى يقول: وقلوبهم مختلفة لمعاداة بعضهم بعضا. و قوله: ذَلِكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ يقول جلّ ثناؤه: هذا الذي وصفت لكم من أمر هؤلاء اليهود والمنافقين، وذلك تشتيت أهوائهم، ومعاداة بعضهم بعضا من أجل أنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظّ لهم مما فيه عليهم البخس والنقص. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢١٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعا إلاّ فِي قُرًى مُحَصّنَةٍ أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ذَلكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ قال: تجد أهل الباطل مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ. ٢٦٢١٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى قال: المنافقون يخالف دينهم دين النضير. ٢٦٢١٧ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى قال: هم المنافقون وأهل الكتاب. ٢٦٢١٨ـ قال: ثنا مهران، عن سفيان، مثل ذلك. حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى قال: المشركون وأهل الكتاب. وذُكر أنها في قراءة عبد اللّه : (وَقُلُوبُهُمْ أشَتّ) بمعنى: أشدّ تشتتا: أي أشدّ اختلافا. ١٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {كَمَثَلِ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }. يقول تعالى ذكره: مثل هؤلاء اليهود من بني النضير والمنافقين فيما اللّه صانع بهم من إحلال عقوبته بهم كَمَثلِ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول: كشبههم. واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بالذين من قبلهم، فقال بعضم: عني بذلك بنو قَيْنُقاع. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢١٩ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس ، قوله كَمَثَلِ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبا ذَاقُوا وَبالَ أمْرِهِمْ وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يعني بني قَيْنُقاع. وقال آخرون: عُني بذلك مشركو قريش ببدر. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٢٠ـ حدثني محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ١٦في قوله: كَمَثَلِ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبا ذَاقُوا وَبالَ أمْرِهِمْ قال: كفار قريش. وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: إن اللّه عزّ وجلّ مثل هؤلاء الكفار من أهل الكتاب مما هو مذيقهم من نكاله بالذين من قبلهم من مكذّبي رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، الذين أهلكهم بسخطه، وأمر بني قينقاعٍ ووقعة بدر، كانا قبل جلاء بني النضير، وكلّ أولئك قد ذاقوا وبال أمرهم، ولم يخصص اللّه عزّ وجلّ منهم بعضا في تمثيل هؤلاء بهم دون بعض، وكلّ ذائق وبال أمره، فمن قربت مدته منهم قبلهم، فهم ممثلون بهم فيما عُنُوا به من المثل. و قوله: ذَاقُو وَبالَ أمْرِهِمْ يقول: نالهم عقاب اللّه على كفرهم به. و قوله: وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول: ولهم في الاَخرة مع ما نالهم في الدنيا من الخزي عذاب أليم، يعني : موجع. و قوله: كَمَثلِ الشّيْطانِ إذْ قالَ للإنْسانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قال إنّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنّي أخافُ اللّه رَبّ العَالمِينَ يقول تعالى ذكره: مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من النضيرة النضرة، إن قوتلوا، أو الخروج معهم إن أُخرجوا، ومثل النضير في غرورهم إياهم بإخلافهم الوعد، وإسلامهم إياهم عند شدّة حاجتهم إليهم، وإلى نُصرتهم إياهم، كمثل الشيطان الذي غرّ إنْسانا، ووعده على اتباعه وكفره باللّه ، النصرة عند الحاجة إليه، فكفر باللّه واتبعه وأطاعه، فلما احتاج إلى نُصرته أسلمه وتبرأ منه، وقال له: إني أخاف اللّه ربّ العالمين في نُصرتك. وقد اختلف أهل التأويل في الإنسان الذي قال اللّه جل ثناؤه إذْ قالَ للإنْسانِ اكْفُرْ هو إنسان بعينه، أم أريد به المثل لمن فعل الشيطان ذلك به، فقال بعضهم: عُنِي بذلك إنسان بعينه. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٢١ـ حدثنا خلاد بن أسلم، قال: حدثنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت عبد اللّه بن نهيك، قال: سمعت عليا رضي اللّه عنه يقول: إن راهبا تعبّد ستين سنة، وإن الشيطان أرداه فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنها، ولها إخوة، فقال لإخوتها: عليكم بهذا القسّ فيداويها، فجاءوا بها، قال: فداواها، وكانت عنده، فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته، فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت بك هذا فأطعني أنجك مما صنعتُ بك، اسجد لي سجدة، فسجد له فلما سجد له قال: إني بريء منك إني أخاف اللّه ربّ العالمين فذلك قوله: كمَثَلِ الشّيْطَانِ إذْ قالَ للإنْسانِ اكُفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قالَ إنّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنّي أخافُ اللّه رَبّ العالَمِينَ. ٢٦٢٢٢ـ حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن زيد، عن عبد اللّه بن مسعود في هذه الآية كمَثَلِ الشّيْطَانِ إذْ قالَ للإنْسانِ اكُفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قالَ إنّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنّي أخافُ اللّه رَبّ العالَمِينَ قال: كانت امرأة ترعى الغنم، وكان لها أربعة إخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب، قال: فنزل الراهب ففجر بها، فحملت، فأتاه الشيطان، فقال له اقتلها ثم ادفعها، فإنك رجل مصدّق يسمع كلامك، فقتلها ثم دفنها قال: فأتى الشيطان إخوتها في المنام، فقال لهم: إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم فلما أحبلها قتلها، ثم دفنها في مكان كذا وكذا، فلما أصبحوا قال رجل منهم: واللّه لقد رأيت البارحة رؤيا وما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا: لا، بل قُصّها علينا قال: فقصها، فقال الاَخر: وأنا واللّه لقد رأيت ذلك قالوا: فما هذا إلا لشيء، فانطلقوا فاستعدَوْا مَلِكَهُم على ذلك الراهب، فأتَوه فأنزلوه، ثم انطلقوا به، فلقيه الشيطان فقال: إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري فاسجد لي سجدة واحدة وأنا أنجيك مما أوقعتك فيه قال: فسجد له فلما أَتَوا به ملكَهم تبرأ منه، وأُخِذ فقتل. ٢٦٢٢٣ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، قوله: كمَثَلِ الشّيْطَانِ إذْ قالَ للإنْسانِ اكُفُرْ... إلى وَذَلكَ جزاءُ الظّالِمِينَ قال عبد اللّه بن عباس : كان راهب من بني إسرائيل يعبد اللّه فيحسن عبادته، وكان يُؤتى من كلّ أرض فيُسئل عن الفقه، وكان عالما، وإن ثلاثة إخوة كانت لهم أخت حسنة من أحسن الناس، وإنهم أرادوا أن يسافروا، فكبر عليهم أن يخلفوها ضائعة، فجعلوا يأتمرون ما يفعلون بها فقال أحدهم: أدلكم على من تتركونها عنده؟ قالوا: من هو؟ قال: راهب بني إسرائيل، إن ماتت قام عليها. وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليه فعمدوا إليه فقالوا: إنا نريد السفر، ولا نجد أحدا أوثق في أنفسنا، ولا أحفظ لما وُلّيَ منك لما جعل عندك، فإن رأيت أن نجعل أختنا عندك فإنها ضائعة شديدة الوجع، فإن ماتت فقم عليها، وإن عاشت فأصلح إليها حتى نرجع، فقال: أكفيكم إن شاء اللّه فانطلقوا فقام عليها فداواها حتى بَرَأت، وعاد إليها حسنها، فاطلع إليها فوجدها متصنعة، فلم يزل به الشيطان يزين له أن يقع عليها حتى وقع عليها، فحملت، ثم ندمه الشيطان فزين له قتلها قال: إن لم تقتلها افتضحت وعرف شبهك في الولد، فلم يكن لك معذرة، فلم يزل به حتى قتلها، فلما قدم إخوتها سألوه ما فعلت؟ قال: ماتت فدفنتها، قالوا: قد أحسنت، ثم جعلوا يرون في المنام، ويخبرون أن الراهب هو قتلها، وأنها تحت شجرة كذا وكذا، فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها تحتها قد قتلت، فعمدوا إليه فأخذوه، فقال له الشيطان: أنا زيّنت لك الزنا وقتلها بعد الزنا، فهل لك أن أنجيك؟ قال: نعم، قال: أفتط يعني ؟ قال: نعم قال: فاسجد لي سجدة واحدة، فسجد له ثم قتل، فذلك قوله كمَثَلِ الشّيْطَانِ إذْ قالَ للإنْسانِ اكُفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قالَ إنّي بَرِيءٌ مِنْكَ الآية. ٢٦٢٢٤ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كان رجل من بني إسرائيل عابدا، وكان ربما داوى المجانين، فكانت امرأة جميلة، فأخذها الجنون، فجيء بها إليه، فتركت عنده، فأعجبته، فوقع عليها فحملت، فجاءه الشيطان فقال: إن عُلم بهذا افتضحت، فاقتلها وادفنها في بيتك، فقتلها ودفنها، فجاء أهلها بعد ذلك بزمان يسألونه، فقال: ماتت، فلم يتهموه لصلاحه فيهم، فجاءهم الشيطان فقال: إنها لم تمت، ولكنه وقع عليها فقتلها ودفنها في بيته في مكان كذا وكذا، فجاء أهلها، فقالوا: ما نتهمك، فأخبرنا أين دفنتها، ومن كان معك، فوجدوها حيث دفنها، فأُخذ وسُجن، فجاءه الشيطان فقال: إن كنت تريد أن أخرجك مما أنت فيه فتخرج منه، فاكفر باللّه ، فأطاع الشيطان، وكفر باللّه ، فأُخذ وقتل، فتبرأ الشيطان منه حينئذ. قال: فما أعلم هذه الآية إلا نزلت فيه كمَثَلِ الشّيْطَانِ إذْ قالَ للإنْسانِ اكُفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قالَ إنّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنّي أخافُ اللّه رَبّ العالَمِينَ. وقال آخرون: بل عُنِي بذلك الناس كلهم، وقالوا: إنما هذا مثل ضُرِب للنضير في غرور المنافقين إياهم. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٢٥ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد كَمَثَلِ الشّيْطَانِ إذْ قالَ للإنْسانِ اكْفُرُ عامّة الناس. ١٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنّهُمَا فِي النّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظّالِمِينَ }. يقول تعالى ذكره: فكان عُقبى أمر الشيطان والإنسان الذي أطاعه، فكفر باللّه أنهما خالدان في النار ماكثان فيها أبدا وَذَلكَ جَزَاءُ الظّالِمِينَ يقول: وذلك ثواب اليهود من النضير والمنافقين الذين وعدوهم النصرة، وكلّ كافر باللّه ظالم لنفسه على كفره به أنهم في النار مخلّدون. واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله: خالِدَيْنِ فِيها فقال بعض نحويي البصرة: نصب على الحال، وفي النار خبر قال: ولو كان في الكلام لكان الرفع أجود في (خالدين) قال: وليس قولهم: إذا جئت مرّتين فهو نصب لشيء، إنما فيها توكيد جئت بها أو لم تجىء بها فهو سواء، إلا أن العرب كثيرا ما تجعله حالاً إذا كان فيها للتوكيد وما أشبهه في غير مكان قال: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنّمَ خالِدِينَ فِيها. وقال بعض نحويي الكوفة: في قراءة عبد اللّه بن مسعود: (فَكَانَ عاقِبَتَهُمَا أنّهُما في النّارِ خالِدَيْنِ في النّارِ) قال: وفي أنهما في النار خالدين فيها نصب قال: ولا أشتهي الرفع وإن كان يجوز، فإذا رأيت الفعل بين صفتين قد عادت إحداهما على موضع الأخرى نصبت، فهذا من ذلك قال: ومثله في الكلام قولك: مررت برجل على نابِه متحملاً به ومثله قول الشاعر: والزّعْفَرَانُ عَلى تَرائِبهاشَرِقا بِهِ اللّبّاتُ والنّحْرُ لأن الترائب هي اللبات ها هنا، فعادت الصفة باسمها الذي وقعت عليه، فإذا اختلفت الصفتان جاز الرفع والنصب على حُسْن، من ذلك قولك: عبد اللّه في الدار راغب فيك، ألا ترى أن (في) التي في الدار مخالفة لفي التي تكون في الرغبة قال: والحجة ما يُعرف به النصف من الرفع أن لا ترى الصفة الاَخرة تتقدم قبل الأولى ألا ترى أنك تقول: هذا أخوك في يده درهم قابضا عليه، فلو قلت: هذا أخوك قابضا عليه في يده درهم لم يجز، إلا ترى أنك تقول: هذا رجل قائم إلى زيد في يده درهم، فهذا يدل على أن المنصوب إذا امتنع تقديم الاَخر، ويدل على الرفع إذا سهل تقديم الاَخر. ١٨وقوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ووحدوه، اتقوا اللّه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. وقوله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ لِغَدٍ يقول: ولينظر أحدكم ما قدّم ليوم القيامة من الأعمال، أمن الصالحات التي تنجيه أم من السيئات التي توبقه؟. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٢٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: اتّقُوا اللّه وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ لِغَدٍ: ما زال ربكم يقرّب الساعة حتى جعلها كغد، وغدٌ يوم القيامة. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ما قَدّمتْ لِغَدٍ يعني يوم القيامة. ٢٦٢٢٧ـ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ما قَدّمتْ لِغَد يعني يوم القيامة. ٢٦٢٢٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وقرأ قول اللّه عزّ وجلّ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ لِغَدٍ يعني يوم القيامة الخير والشرّ قال: والأمس في الدنيا، وغدٌ في الاَخرة، وقرأ: كأنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ قال: كأن لم تكن في الدنيا. و قوله: وَاتّقُوا اللّه يقول: وخافوا اللّه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه إنّ اللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْلَمُونَ يقول: إن اللّه ذو خبرة وعلم بأعمالكم خيرها وشرّها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميعها. ١٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّه فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }. يقول تعالى ذكره: ولا تكونوا كالذين تركوا أداء حقّ اللّه الذي أوجبه عليهم فأنْساهُمْ أنْفُسَهُمْ يقول: فأنساهم اللّه حظوظ أنفسهم من الخيرات. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٢٩ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان نَسُوا اللّه فأنْساهُمْ أنْفُسَهُمْ قال: نَسُوا حقّ اللّه ، فأنساهم أنفسهم قال: حظّ أنفسهم. و قوله: أُولَئكَ هُمُ الفاسقون يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين نسوا اللّه ، هم الفاسقون، يعني الخارجون من طاعة اللّه إلى معصيته. ٢٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِيَ أَصْحَابُ النّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ }. يقول تعالى ذكره: لا يعتدل أهل النار وأهل الجنة، أهل الجنة هم الفائزون، يعني أنهم المُدرِكون ما طلبوا وأرادوا، الناجون مما حذروا. ٢١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَـَذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّه ...}. و قوله: لَوْ أنْزَلْنا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَل لرأيْتَهُ خاشِعا مُتَصَدّعا مِن خَشْيَةِ اللّه يقول جلّ ثناؤه: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل، وهو حجر، لرأيته يا محمد خاشعا يقول: متذللاً، متصدعا من خشية اللّه على قساوته، حذرا من أن لا يؤدّي حقّ اللّه المفترض عليه في تعظيم القرآن، وقد أنزل على ابن آدم وهو بحقه مستخفٌ، وعنه، عما فيه من العِبَر والذكر، مُعْرض، كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وَقْرا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٣٠ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: لَوْ أنْزَلْنا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ لرأيْتَهُ خاشِعا مُتَصَدّعا مِن خَشْيَةِ اللّه ... إلى قوله: لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ قال: يقول: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه تصدع وخشع من ثقله ومن خشية اللّه ، فأمر اللّه عز وجل الناس إذا نزل عليهم القرآن، أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع، قال: كذَلِكَ يَضْرِبُ اللّه الأمْثَال للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ. ٢٦٢٣١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: لَوْ أنْزَلْنا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَل لرأيْتَهُ خاشِعا مُتَصَدّعا مِن خَشْيَةِ اللّه ... الآية، يعذر اللّه الجبل الأصمّ، ولم يعذر شقيّ ابن آدم، هل رأيتم أحدا قطّ تصدّعت جوانحه من خشية اللّه ؟. وَتِلكَ الأمْثالُ نَضْرُبها للنّاسِ يقول تعالى ذكره: وهذه الأشياء نشبهها للناس، وذلك تعريفه جل ثناؤه إياهم أن الجبال أشدّ تعظيما لحقه منهم مع قساوتها وصلابتها. و قوله: لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ يقول: يضرب اللّه لهم هذه الأمثال ليتفكروا فيها، فينيبوا، وينقادوا للحق. ٢٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {هُوَ اللّه الّذِي لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ هُوَ الرّحْمَـَنُ الرّحِيمُ }. يقول تعالى ذكره: الذي يتصدع من خشيته الجبل أيها الناس، هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له، عالم غيب السموات والأرض، وشاهد ما فيهما مما يرى ويحسّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ يقول: هو رحمن الدنيا والاَخرة، رحيم بأهل الإيمان به. ٢٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {هُوَ اللّه الّذِي لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدّوسُ السّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبّرُ سُبْحَانَ اللّه عَمّا يُشْرِكُونَ }. يقول تعالى ذكره: هو المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، الملك الذي لا ملك فوقه، ولا شيء إلا دونه، القدّوس، قيل: هو المبارك. وقد بيّنت فيما مضى قبل معنى التقديس بشواهده، وذكرت اختلاف المختلفين فيه بما أغنى عن إعادته. ذكر من قال: عُنِي به المبارك: ٢٦٢٣٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة القُدّوسُ: أي المبارك. و قوله: السلامُ يقول: هو الذي يسلم خلقه من ظلمه، وهو اسم من أسمائه، كما: ٢٦٢٣٣ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة السّلامُ: اللّه السلام. ٢٦٢٣٤ـ حدثنا ابن حُمَيْد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبيد اللّه ، يعني العَتَكي، عن جابر بن زيد قوله: السّلامُ قال: هو اللّه . وقد ذكرت الرواية فيما مضى، وبيّنت معناه بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته. و قوله: المُوءْمِنُ يعني بالمؤمن: الذي يؤمن خلقه من ظلمه. وكان قتادة يقول في ذلك ما: ٢٦٢٣٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة المُوءْمِنُ أمن بقوله أنه حقّ. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة المُوءْمِنُ أمن بقوله أنه حقّ. ٢٦٢٣٦ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن جُوَيبر عن الضحاك المُوءْمِنُ قال: المصدق. ٢٦٢٣٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله المُوءْمِنُ قال: المؤمن: المصدّق الموقن، آمن الناس بربهم فسماهم مؤمنين، وآمن الربّ الكريم لهم بإيمانهم صدّقهم أن يسمى بذلك الاسم. و قوله: المُهَيْمِنُ اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: المهيمن: الشهيد. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٣٨ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، في قوله: المُهَيْمَنُ قال: الشهيد، وقال مرّة أخرى: الأمين. ٢٦٢٣٩ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: المُهَيْمِنُ قال: الشهيد. ٢٦٢٤٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: المُهَيْمِنُ قال: أنزل اللّه عزّ وجلّ كتابا فشهد عليه. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة المُهَيْمِنُ قال: الشهيد عليه. وقال آخرون: المهيمن: الأمين. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٤١ـ حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن جُويبر، عن الضحاك المُهَيْمِنُ: الأمين. وقال آخرون: المُهَيْمِنُ: المصدّق. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٤٢ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: المُهَيْمِنُ قال: المصدّق لكلّ ما حدّث، وقرأ: وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال: فالقرآن مصدّق على ما قبله من الكتب، واللّه مصدّق في كلّ ما حدّث عما مضى من الدنيا، وما بقي، وما حدّث عن الاَخرة. وقد بيّنت أولى هذه الأقوال بالصواب فيما مضى قبل في سورة المائدة بالعلل الدالة على صحته، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. و قوله: العَزِيزُ: الشديد في انتقامه ممن انتقم من أعدائه، كما: ٢٦٢٤٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة العَزِيزُ أي في نقمته إذا انتقم. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة العَزِيزُ في نقمته إذا انتقم. و قوله: الجَبّارُ يعني : المصلح أمور خلقه، المصرفهم فيما فيه صلاحهم. وكان قتادة يقول: جبر خلقه على ما يشاء من أمره. ٢٦٢٤٤ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة الجَبّارُ قال: جَبَرَ خلقه على ما يشاء. و قوله: المُتَكَبّرُ قيل: عُنِي به أنه تكبر عن كلّ شرّ. ذكر من قال ذلك: ٢٦٢٤٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة المُتَكَبّرُ قال: تكبر عن كلّ شر. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، مثله. ٢٦٢٤٦ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أبو رجاء، قال: ثني رجل، عن جابر بن زيد، قال: إن اسم اللّه الأعظم هو اللّه ، ألم تسمع يقول: هُوَ اللّه الّذِي لا إلَهَ إلاّ هُوَ عالِمُ الغَيْب والشّهادَةِ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ هُوَ اللّه الّذِي لا إلَهَ إلاّ هُوَ المَلِكُ القُدّوس السّلامُ المُوءْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المتكبرُ سُبْحانَ اللّه عَمّا يُشْرِكُونَ يقول: تنزيها للّه وتبرئة له عن شرك المشركين به. ٢٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {هُوَ اللّه الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوّرُ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ يُسَبّحُ لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }. يقول تعالى ذكره: هو المعبود الخالق، الذي لا معبود تصلح له العبادة غيره، ولا خالق سواه، البارىء الذي برأ الخلق، فأوجدهم بقدرته، المصوّر خلقه كيف شاء، وكيف يشاء. و قوله: لَهُ الأسْماءُ الْحُسْنَى يقول تعالى ذكره: للّه الأسماء الحسنى، وهي هذه الأسماء التي سمى اللّه بها نفسه، التي ذكرها في هاتين الاَيتين يُسَبّحُ لَهُ ما في السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول: يسبح له جميع ما في السموات والأرض، ويسجد له طوعا وكرها وَهُوَ العَزِيزُ يقول: وهو الشديد الانتقام من أعدائه الْحَكِيمُ في تدبيره خلقه، وصرفهم فيما فيه صلاحهم. |
﴿ ٠ ﴾