تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآنللإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبريإمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)_________________________________سورة الإنفطارسورة الانفطار مكيّة وآياتها تسع عشرة بسم اللّه الرحمَن الرحيـم ١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِذَا السّمَآءُ انفَطَرَتْ }. يقول تعالى ذكره: إذَا السّماءُ انْفَطَرَتْ: انشقّت، ٢وإذا كواكبها انتثرت منها فتساقطت، ٣وَإذَا الْبِحارُ فُجّرَتْ يقول: فجّر اللّه بعضها في بعض، فملأ جميعها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في بعض ذلك. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٦٦ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، في قوله: وَإذَا الْبِحارُ فُجّرَتْ يقول: بعضها في بعض. ٢٨٢٦٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَإذَا الْبِحارُ فُجّرَتْ فُجر عذبها في مالحها، ومالحها في عذبها. ٢٨٢٦٨ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن وَإذَا الْبِحارُ فُجّرَتْ قال: فجّر بعضها في بعض، فذهب ماؤها. وقال الكلبي: ملئت. ٤و قوله: وَإذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ يقول: وإذا القبور أُثيرت، فاستخرج من فيها من الموتى أحياء. يقال: بعثر فلان حوض فلان: إذا جعل أسفله أعلاه، يقال: بعثره وبحثره: لغتان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٦٩ـ حدثني علي، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، في قوله: وَإذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ يقول: بُحثت. ٥و قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ وأخّرَتْ يقول تعالى ذكره: علمت كلّ نفس ما قدّمت لذلك اليوم من عمل صالح ينفعه، وأخرت وراءه من شيء سنّه فعمل به. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٧٠ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: ثني عن القُرَظِيّ، أنه قال في: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ وَأخّرَتْ قال: ما قدّمت مما عملت، وأما ما أخّرت فالسنة يَسُنّها الرجل، يعمل بها من بعده. وقال آخرون: عُنِي بذلك: ما قدّمت من الفرائض التي أدتها، وما أخرّت من الفرائض التي ضيعتها. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٧١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن أبيه، عن سعيد بن مسروق، عن عكرِمة عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ قال: ما افترض عليها وَما أخّرَتْ قال: مما افترض عليها. ٢٨٢٧٢ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ وَأخّرَتْ قال: تعلم ما قدّمت من طاعة اللّه ، وما أخرت مما أُمِرَت به من حقّ للّه عليه لم تعمل به. ٢٨٢٧٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: عَلمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ وأخّرَتْ قال: ما قدّمت من خير، وأخّرت من حق اللّه عليها لم تعمل به. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، ما قَدّمَتْ وأخّرَتْ قال: ما قدمت من طاعة اللّه وما أخرت من حق اللّه . ٢٨٢٧٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ وأخّرَتْ قال: ما قدّمت: عملت، وما أخرت: تركت وضيّعت، وأخرت من العمل الصالح الذي دعاها اللّه إليه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما قدّمت من خير أو شرّ، وأخّرت من خير أو شرّ. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٧٥ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام، عن إبراهيم التيميّ، قال: ذكروا عنده هذه الاَية عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ وَأخّرَتْ قال: أنا مما أخّر الحَجاج. وإنما اخترنا القول الذي ذكرناه، لأن كلّ ما عمل العبد من خير أو شرّ فهو مما قدّمه، وأن ما ضيّع من حقّ اللّه عليه وفرّط فيه فلم يعمله، فهو مما قد قدّم من شرّ، وليس ذلك مما أخّر من العمل، لأن العمل هو ما عمله، فأما ما لم يعمله فإنما هو سيئة قدّمها، فلذلك قلنا: ما أخر: هو ما سنه من سنة حسنة وسيئة، مما إذا عمل به العامل كان له مثل أجر العامل بها أو وزره. ٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الإِنسَانُ مَا غَرّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ }. يقول تعالى ذكره: يا أيها الإنسان الكافر، أيّ شيء غرّك بربك الكريم، غرّ الإنسانَ به عدوّه المسلّط عليه، كما: ٢٨٢٧٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ما غَرّكَ بِرَبّكَ الكَرِيم شيء مّا غرّ ابنَ آدم هذا العدوّ الشيطان. ٧و قوله: الّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ يقول: الذي خلقك أيها الإنسان فسوّى خلقك فَعَدَلكَ. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة والشام والبصرة: (فَعَدّلكَ) بتشديد الدال، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بتخفيفها وكأن من قرأ ذلك بالتشديد، وجّه معنى الكلام إلى أنه جعلك معتدلاً معدّل الخلق مقوّما، وكأنّ الذين قرؤوه بالتخفيف، وجّهوا معنى الكلام إلى صرفك، وأمالك إلى أيّ صورة شاء، إما إلى صورة حسنة، وإما إلى صورة قبيحة، أو إلى صورة بعض قراباته. وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قَرَأة الأمصار، صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، غير أن أعجبهما إليّ أن أقرأ به، قراءة من قرأ ذلك بالتشديد، لأن دخول (في) للتعديل أحسن في العربية من دخولها للعدل، ألا ترى أنك تقول: عدّلتك في كذا، وصرفتك إليه، ولا تكاد تقول: عدلتك إلى كذا وصرفتك فيه، فلذلك اخترت التشديد. ٨وبنحو الذي قلنا في ذلك وذكرنا أن قارئي ذلك تأوّلوه، جاءت الرواية عن أهل التأويل أنهم قالوه. ذكر الرواية بذلك: ٢٨٢٧٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول اللّه : فِي أيّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكّبَكَ قال: في أيّ شبه أب أو أم أو خال أو عمّ. ٢٨٢٧٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن إسماعيل، في قوله: ما شاءَ رَكّبَكَ قال: إن شاء في صورة كلب، وإن شاء في صورة حمار. ٢٨٢٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح فِي أيّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكّبَكَ قال: خنزيرا أو حمارا. ٢٨٢٨٠ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن عكرِمة، في قوله: فِي أيّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكّبَكَ قال: إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. ٢٨٢٨١ـ حدثني محمد بن سنان القزّاز، قال: حدثنا مطهر بن الهيثم، قال: حدثنا موسى بن عليّ بن أبي رباح اللّخمي، قال: ثني أبي، عن جدي، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له: (ما وُلِدَ لَكَ؟) قال: يا رسول اللّه ، ما عسى أن يولد لي، إما غلام، وإما جارية، قال: (فَمَنْ يُشْبِهُ؟) قال: يا رسول اللّه من عسى أن يشبه؟ إما أباه، وإما أمه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم عندها: (مَهْ، لا تَقُولَنّ هَكَذَا، إنّ النّطْفَةَ إذا اسْتَقَرّتْ فِي الرّحِمِ أحْضَرَ اللّه كُلّ نَسَبٍ بَيْنَها وَبَينَ آدَمَ، أما قَرأْتَ هَذِهِ الاَيَةَ فِي كِتابِ اللّه فِي أيّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكّبَكَ قال: سَلَكَكَ) . ٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {كَلاّ بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ }. يقول تعالى ذكره: ليس الأمر أيّها الكافرون كما تقولون، من أنكم على الحقّ في عبادتكم غير اللّه ، ولكنكم تكذّبون بالثواب والعقاب والجزاء والحساب. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٨٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ قال: بالحساب. حدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: تُكَذّبُونَ بِالدّينِ قال: بيوم الحساب. ٢٨٢٨٣ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، قوله: بَلْ تُكَذّبُونَ بالدّينِ قال: يوم شدّة، يوم يدين اللّه العباد بأعمالهم. ١٠و قوله: وَإنّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ يقول: وإن عليكم رُقَباء حافظين يحفظون أعمالكم، ويُحْصونها عليكم ١١كِرَاما كاتِبِينَ يقول: كراما على اللّه كاتبين، يكتبون أعمالكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٨٤ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: قال بعض أصحابنا، عن أيوب، في قوله: وَإنّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِرَاما كاتِبِينَ قال: يكتبون ما تقولون وما تَعْنُون. ١٢و قوله: يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ يقول: يعلم هؤلاء الحافظون ما تفعلون من خير أو شرّ، يحصون ذلك عليكم. ١٣و قوله: إنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ يقول جلّ ثناؤه: إن الذين برّوا بأداء فرائض اللّه ، واجتناب معاصيه لفي نعيم الجنان ينعمون فيها. ١٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِنّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ }. يقول تعالى ذكره: وَإنّ الفُجّارَ الذين كفروا بربهم لَفِي جَحِيمٍ. ١٥و قوله: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدّينِ يقول جلّ ثناؤه: يَصْلَى هؤلاء الفجار الجحيم يوم القيامة، يوم يُدان العباد بالأعمال، فيُجازَوْنَ بها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٨٥ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، قوله: يَوْمَ الدّينِ من أسماء يوم القيامة، عظّمه اللّه ، وحذّره عباده. ١٦و قوله: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ يقول تعالى ذكره: وما هؤلاء الفجار من الجحيم بخارجين أبدا فغائبين عنها، ولكنهم فيها مخلّدون ماكثون، وكذلك الأبرار في النعيم، وذلك نح و قوله: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ. ١٧و قوله: وَما أدْرَاكَ ما يَوْمُ الدّينِ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : وما أدراك يا محمد، أي وما أشْعرك ما يوم الدين؟ يقول: أيّ شيء يومُ الحساب والمجازاة، معظما شأنه جلّ ذكره، بقيله ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٨٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَما أدْرَاكَ ما يَوْم الدينِ تعظيما ليوم القيامة، يوم تدان فيه الناس بأعمالهم. ١٨و قوله: ثُمّ ما أدْرَاكَ ما يَوْمُ الدّينِ؟ يقول: ثم أيّ شيء أشعرك أيّ شيء يوم المجازاة والحساب يا محمد، تعظيما لأمره ١٩ثم فسّر جلّ ثناؤه بعض شأنه فقال: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئا: يقول: ذلك اليوم، يوم لا تملك نفس، يقول: يوم لا تُغني نفس عن نفس شيئا، فتدفع عنها بليّة نزلت بها، ولا تنفعها بنافعة، وقد كانت في الدنيا تحميها، وتدفع عنها من بغاها سوءا، فبطل ذلك يومئذٍ، لأن الأمر صار للّه الذي لا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر، واضمحلت هنالك الممالك، وذهبت الرياسات، وحصل الملك للملك الجبار، وذلك قوله: وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للّه يقول: والأمر كله يومئذٍ، يعني الدين للّه دون سائر خلقه، ليس لأحد من خلقه معه يومئذٍ أمر ولا نهي. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٨٧ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ للّه قال: ليس ثم أحد يومئذٍ يقضي شيئا، ولا يصنع شيئا إلاّ ربّ العالمين. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ للّه والأمر واللّه اليوم للّه، ولكنه يومئذٍ لا ينازعه أحد. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة بنصب يَوْمَ إذ كانت إضافته غير محضة. وقرأه بعض قرّاء البصرة بضم (يَوْمُ) ورفعه ردّا على اليوم الأوّل، والرفع فيه أفصح في كلام العرب، وذلك أن اليوم مضاف إلى يفعل، والعرب إذا أضافت اليوم إلى تفعل أو يفعل أو أفعل رفعوه فقالوا: هذا يوم أفعل كذا، وإذا أضافته إلى فعل ماضٍ نصبوه ومنه قول الشاعر: عَلى حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ عَلى الصّبا وقُلْتُ ألَمّا تَصْحُ والشّيْبُ وَازِعُ؟ |
﴿ ٠ ﴾