تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة الضحى

سورة الضحى مكية وآياتها إحدى عشرة

بسم اللّه الرحمَن الرحيم

١

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَالضّحَىَ}

أقسم ربنا جل ثناؤه بالضحى، وهو النهار كله، وأحسب أنه من قولهم: ضَحِىَ فلان للشمس: إذا ظهر منه ومنه قوله: وَأنّكَ لا تَظْمأُ فِيها وَلا تَضْحَى: أي لا يصيبك فيها الشمس.

وقد ذكرت اختلاف أهل العلم في معناه، في قوله: والشّمْسِ وَضُحاها مع ذكري اختيارنا فيه. و

قيل: عُني به وقت الضحى. ذكر من قال ذلك:

٢٨٩٧٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة والضّحَى ساعة من ساعات النهار.

٢

و قوله: وَاللّيْلِ إذَا سَجَى اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: والليل إذا أقبل بظلامه. ذكر من قال ذلك:

٢٨٩٧٤ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس . وَاللّيلِ إذَا سَجَى يقول: والليل إذا أقبل.

٢٨٩٧٥ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، في قول اللّه : وَاللّيْلِ إذَا سَجَى قال: إذا لَبِس الناسَ، إذا جاء.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا ذهب. ذكر من قال ذلك:

٢٨٩٧٦ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس وَاللّيْلِ إذَا سَجَى يقول: إذا ذهب.

وقال آخرون: معناه: إذا استوى وسكن. ذكر من قال ذلك:

٢

٢٨٩٧٧ـ حدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا مِهْران وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع جميعا، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وَاللّيْلِ إذَا سَجَى قال: إذا استوى.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وَاللّيْلِ إذَا سَجَى قال: إذا استوى.

٢٨٩٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَاللّيْلِ إذَا سَجَى سكن بالخلق.

٢٨٩٧٩ـ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: وَاللّيْلِ إذَا سَجَى يعني : استقراره وسكونه.

٢٨٩٨٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَاللّيْلِ إذَا سَجَى قال: إذا سكن، قال: ذلك سَجْوه، كما يكون سكون البحر سجوه.

وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي في ذلك قول من قال معناه: والليل إذا سكن بأهله، وثبت بظلامه، كما يقال: بحر ساج: إذا كان ساكنا ومنه قول أعشى بني ثعلبة.

فَمَا ذَنْبُنا إنْ جاشع بَحْرُ ابنِ عَمّكُمْوَبَحْرُكَ ساجٍ ما يُوَارِي الدّعامِصَا

وقول الراجز:

يا حَبّذَا القَمْرَاءُ وَاللّيْلُ السّاجْوطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النّسّاجْ

٣

و قوله: ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى وهذا جواب القسم، ومعناه: ما تركك يا محمد ربك وما أبغضك. و

قيل: وَما قَلى ومعناه: وما قلاك، اكتفاء بفهم السامع لمعناه، إذ كان قد تقدّم ذلك قوله: ما وَدّعَكَ فعُرف بذلك أن المخاطب به نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٨٩٨١ـ حدثني عليّ، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ، في قوله: ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى يقول: ما تركك ربك، وما أبغضك.

٢٨٩٨٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى قال: ما قلاك ربك وما أبغضك قال: والقالي: المبغض.

وذُكر أن هذه السورة نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تكذيبا من اللّه قريشا في قيلهم لرسول اللّه ، لما أبطأ عليه الوحي: قد ودّع محمدا ربّه وقَلاه. ذكر الرواية بذلك:

٢٨٩٨٣ـ حدثني عليّ بن عبد اللّه الدهان، قال: حدثنا مفضل بن صالح، عن الأسود بن قيس العبديّ، عن ابن عبد اللّه ، قال: لما أبطأ جبريل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالت امرأة من أهله، أو من قومه: ودّع الشيطان محمدا، فأنزل اللّه عليه: وَالضّحَى... إلى قوله: ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى.

قال أبو جعفر: ابن عبد اللّه : هو جُندَب بن عبد اللّه البَجَلي.

حدثني محمد بن عيسى الدامغاني، ومحمد بن هارون القطان، قالا: حدثنا سفيان، عن الأسود بن قيس سمع جندبا البجليّ يقول: أبطأ جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى قال المشركون: ودّع محمدا ربّه، فأنزل اللّه : وَالضّحَى واللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، أنه سمع جندبا البَجَليّ قال: قالت امرأة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما أرى صاحبك إلا قد أبطأ عنك، فنزلت هذه الاَية: ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، قال: سمعت جندب بن عبد اللّه يقول: إن امرأة أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فنزلت: والضُحَى وَاللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى.

٢٨٩٨٤ـ حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا سليمان الشيبانيّ، عن عبد اللّه بن شدّاد أن خديجة قالت للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم : ما أرى ربك إلا قد قلاك، فأنزل اللّه : وَالضّحَى وَاللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى.

٢٨٩٨٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى قال: إن جبريل عليه السلام أبطأ عليه بالوحي، فقال ناس من الناس، وهم يومئذٍ بمكة، ما نرى صاحبك إلا قد قلاك فودّعك، فأنزل اللّه ما تسمع: ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلَى.

 

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى قال: أبطأ عليه جبريل، فقال المشركون: قد قلاه ربّه وودّعه، فأنزل اللّه : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى.

٢٨٩٨٦ـ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى مكث جبريل عن محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فقال المشركون: قد ودّعه ربه وقلاه، فأنزل اللّه هذه الاَية.

٢٨٩٨٧ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى قال: لما نزل عليه القرآن، أبطأ عنه جبريل أياما، فعُيّر بذلك، فقال المشركون: ودّعه ربه وقلاه، فأنزل اللّه : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى.

 

٢٨٩٨٨ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أبطأ جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فجزع جزعا شديدا، وقالت خديجة: أرى ربك قد قَلاك، مما نرى من جزعك، قال: فنزلت والضّحَى واللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى... إلى آخرها.

٤

و قوله: وَلّلاَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى يقول تعالى ذكره: وللدار الاَخرة، وما أعدّ اللّه لك فيها، خير لك من الدار الدنيا وما فيها يقول: فلا تخزن على ما فاتك منها، فإن الذي لك عند اللّه خير لك منها.

٥

و قوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَتَرْضَى يقول تعالى ذكره: ولسوف يعطيك يا محمد ربك في الاَخرة من فواضل نِعَمه، حتى ترضى. وقد اختلف أهل العلم في الذي وعده من العطاء، فقال بعضهم: هو ما:

٢٨٩٨٩ـ حدثني به موسى بن سهل الرمليّ، قال: حدثنا عمرو بن هاشم، قال: سمعت الأوزاعيّ يحدّث، عن إسماعيل بن عبيد اللّه بن أبي المهاجر المخزومي، عن عليّ بن عبد اللّه بن عباس ، عن أبيه، قال: عُرِض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده، كَفْرا كَفْرا، فسرّ بذلك، فأنزل اللّه وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَترْضَى فأعطاه في الجنة ألف قصر، في كلّ قصر، ما ينبغي من الأزواج والخدم.

حدثني محمد بن خلف العسقلانيّ، قال: ثني رَوّاد بن الجراح، عن الأوزاعيّ، عن إسماعيل بن عبيد اللّه ، عن عليّ بن عبد اللّه بن عباس ، في قوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَتَرْضَى قال: ألف قصر من لؤلؤ، ترابهنّ المسك، وفيهنّ ما يصلحهنّ.

٢٨٩٩٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَتْرَضَى، وذلك يوم القيامة. وقال آخرون في ذلك ما:

٢٨٩٩١ـ حدثني به عباد بن يعقوب، قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن السديّ، عن ابن عباس ، في قوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَترْضَى قال: من رضا محمد صلى اللّه عليه وسلم ألاّ يدخل أحد من أهل بيته النار.

٦

و قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما فآوَى يقول تعالى ذكره معدّدا على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم نِعَمه عنده، ومذكّره آلاءه قِبَلَه: ألم يجدك يا محمد ربك يتيما فآوى، يقول: فجعل لك مَأْوًى تأوي إليه، ومنزلاً تنزله وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ووجدك على غير الذي أنت عليه اليوم. وقال السديّ في ذلك ما:

٢٨٩٩٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مِهْران، عن السديّ وَوَجَدَكَ ضَالاً قال: كان على أمر قومه أربعين عاما. و

قيل: عُنِي بذلك: ووجدك في قوم ضُلاّل فهداك.

٧

و قوله: وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأغْنَى يقول: ووجدك فقيرا فأغناك، يقال منه: عال فلان يَعيل عَيْلَة، وذلك إذا افتقر ومنه قول الشاعر:

فَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غِناهوَما يَدْرِي الغَنِيّ مَتى يَعِيلُ

 يعني : متى يفتقر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨

٢٨٩٩٣ـ حدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا مِهْران، عن سفيان وَوَجَدَكَ عائِلاً فقيرا. وذُكر أنها في مصحف عبد اللّه : (وَوَجَدَكَ عَدِيما فآوَى) .

٢٨٩٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما فآوَى وَوَجَدَك ضَالاّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عائِلاً فأغْنَى قال: كانت هذه منازل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قبل أن يبعثه اللّه سبحانه وتعالى.

٩

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَأَمّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ}.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : فَأمّا الْيَتِيمَ يا محمد فَلا تَقْهَرْ يقول: فلا تظلمه، فتذهب بحقه، استضعافا منك له، كما:

٢٨٩٩٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَأمّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ: أي لا تظلم.

٢٨٩٩٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مِهْران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد فَأمّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ قال: تُغْمِصْه وَتَحْقِرْه. وذُكر أن ذلك في مصحف عبد اللّه : (فَلا تَكْهَرْ) .

١٠

و قوله: وَأمّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ يقول: وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته

١١

وَأمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ: يقول: فاذكره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٨٩٩٧ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد، في قوله: وَأمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ قال: بالنبوّة.

٢٨٩٩٨ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَية، قال: حدثنا سعيد بن إياس الجريريّ، عن أبي نضرة، قال: كان المسلمون يرون أن من شُكْرِ النعم أن يحدّثَ بها.

﴿ ٠