تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة القدر

سورة القدر مكية وآياتها خمس

بسم اللّه الرحمَن الرحيم

١

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }.

يقول تعالى ذكره: إنا أنزلنا هذا القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القَدْر، وهي ليلة الحُكْم التي يقضي اللّه فيها قضاء السنة وهو مصدر من قولهم: قَدَر اللّه عليّ هذا الأمْرَ، فهو يَقْدُر قَدْرا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٩١١٦ـ حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس ، قال: نزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا، فكان اللّه إذا أراد أن يُحدث في الأرض شيئا أنزله منه حتى جمعه.

٢٩١١٧ـ حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس ، قال: أنزل اللّه القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، وكان اللّه إذا أراد أن يوحى منه شيئا أوحاه، فه

و قوله: إنّا أنْزلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عِكرِمة، عن ابن عباس ، فذكر نحوه، وزاد فيه. وكان بين أوّله وآخره عشرون سنة.

٢٩١١٨ـ قال: ثنا عمرو بن عاصم الكلابيّ، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان التيميّ، قال: حدثنا عمران أبو العوّام، قال: حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، أنه قال في قول اللّه : إنّا أنْزلْناهُ في لَيْلَة الْقَدْرِ قال: نزل أوّلُ القرآن في ليلة القدر.

٢٩١١٩ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حُصَين، عن حكيم بن جُبير، عن ابن عباس ، قال: نزل القرآن في ليلة من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فُرّق في السنين وتلا ابن عباس هذه الاَية: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النّجُومِ قال: نزل متفرّقا.

٢٩١٢٠ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَية، عن داود، عن الشعبيّ، في قوله: إنّا أنْزلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال: بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا.

٢٩١٢١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم، عن سعيد بن جُبير: أنزل القرآن جملة واحدة، ثم أنزل ربنا في ليلة القدر: فِيها يُفْرَقُ كُلّ أمْرٍ حَكِيم.

٢٩١٢٢ـ قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس ، في قوله إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر، إلى السماء الدنيا، فكان بموقع النجوم، فكان اللّه ينزله على رسوله، بعضُه في إثر بعض، ثم قرأ: وَقَالُوا لَوْلا نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْناهُ تَرْتِيلاً وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٩١٢٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ليلة القدر: ليلة الحكم.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال: ليلة الحُكْم.

٢٩١٢٤ـ قال: ثنا وكيع. عن سفيان، عن محمد بن سْوقَة، عن سعيد بن جُبير: يؤذن للحجاج في ليلة القدر، فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا يغادر منهم أحد، ولا يُزاد فيهم، ولا ينقص منهم.

٢٩١٢٥ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَية، قال: حدثنا ربيعة بن كلثوم، قال: قال رجل للحسن وأنا أسمع: رأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللّه الذي لا إله إلا هو إنها لفى كلّ رمضان، وإنها لليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللّه كلّ أجل وعمل ورزق، إلى مثلها.

٢٩١٢٦ـ حدثنا أبو كُرَيب. قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عمر. قال: ليلة القدر في كلّ رمضان.

٢

و قوله: وَمَا أدْرَاكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ يقول: وما أشعرك يا محمد أيّ شيء ليلة القدر خير من ألف شهر.

٣

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: العمل في ليلة القدر بما يرضي اللّه ، خير من العمل في غيرها ألفَ شهر. ذكر من قال ذلك:

٢٩١٢٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، قال: بلغني عن مجاهد لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ قال: عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر.

٢٩١٢٨ـ قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس الملائي، قوله: خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ قال: عملٌ فيها خير من عمل ألف شهر.

وقال آخرون: معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر. ذكر من قال ذلك:

٢٩١٢٩ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ليس فيها ليلة القدر.

وقال آخرون في ذلك ما:

٢٩١٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكّام بن سلم، عن المُثَنّى بن الصّبّاح، عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتي يُمْسي، ففعل ذلك ألف شهر، فأنزل اللّه هذه الاَية: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ قيام تلك الليلة خير من عمر ذلك الرجل.

وقال آخرون في ذلك ما:

٢٩١٣١ـ حدثني أبو الخطاب الجاروديّ سُهيل، قال: حدثنا سَلْم بن قُتيبة، قال: حدثنا القاسم بن الفضل، عن عيسى بن مازن، قال: قلت للحسن بن عليّ رضي اللّه عنه: يا مسوّد وجوه المؤمنين، عمدت إلى هذا الرجل، فبايعت له، يعني معاوية بن أبي سفيان فقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أُرِي في منامه بني أميّة يَعْلُون منبره خليفة خليفة، فشقّ ذلك عليه، فأنزل اللّه : إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ و إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أدْرَاكَ ما لَيْلَةُ الْقَدرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ يعني مُلْكَ بني أمية قال القاسم: فحسبنا مُلْكَ بني أمية، فإذا هو ألف شهر.

وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزليل قول من قال: عمل في ليلة القَدْر خير من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القَدْر. وأما الأقوال الأخر، فدعاوَى معانٍ باطلة، لا دلالة عليها من خبر ولا عقل، ولا هي موجودة في التنزيل.

٤

و قوله: تَنَزّلُ المَلائِكَةُ وَالرّوحُ فِيها بإذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلّ أمْرٍ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: تنزل الملائكة وجبريل معهم، وهو الروح، في ليلة القدر بإذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلّ أمْرٍ يعني بإذن ربهم، من كلّ أمر قضاه اللّه في تلك السنة، من رزق وأجل وغير ذلك. ذكر من قال ذلك:

٢٩١٣٢ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: مِنْ كُلّ أمْرٍ قال: يُقْضى فيها ما يكون في السنة إلى مثلها.

فعلى هذا القول منتهى الخبر، وموضع الوقف من كلّ أمر.

وقال آخرون: تَنَزّلُ المَلائِكَةُ وَالرّوحُ فِيها بإذْنِ رَبّهِمْ لا يلْقَون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلّموا عليه. ذكر من قال ذلك:

٢٩١٣٣ـ حُدّثت عن يحيى بن زياد الفرّاء، قال: ثني أبو بكر بن عياش، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس : أنه كان يقرأ: (مِنْ كُلّ امْرِىءٍ سَلامٌ) وهذه القراءة من قرأ بها وجّه معنى مِن كلّ امرىء: من كلّ مَلَك كَانَ معناه عنده: تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ مَلَك يُسلّم على المؤمنين والمؤمنات ولا أرى القراءة بها جائزة، لإجماع الحجة من القرّاء على خلافها، وأنها خلاف لما في مصاحف المسلمين، وذلك أنه ليس في مصحف من مصاحف المسلمين في قوله (أمر) ياء، وإذا قُرئت: (مِنْ كُلّ امْرىءٍ) لحقتها همزة، تصير في الخطّ ياء.

والصواب من القول في ذلك: القول الأوّل الذي ذكرناه قبل، على ما تأوّله قتادة .

٥

و قوله: سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ سلام ليلة القدر من الشرّ كله من أوّلها إلى طلوع الفجر من ليلتها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٩١٣٤ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة سَلامٌ هِيَ قال: خير حَتى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة مِنْ كُل أمْرٍ سَلامٌ هِيَ أي هي خير كلها إلى مطلع الفجر.

٢٩١٣٥ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ قال: من كلّ أمرٍ سلام.

٢٩١٣٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول اللّه : سَلامٌ هِيَ قال: ليس فيها شيء، هي خير كلها حتى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.

٢٩١٣٧ـ حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ، قال: حدثنا عبد الحميد الحِمّانيّ، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الرحمن بن أبي لَيَلى، في قوله: مِنْ كُلّ أمْرٍ سَلامٌ هِيَ قال: لا يحدث فيها أمر.

وعُنِي ب قوله: حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ: إلى مطلع الفجر.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار، سوى يحيى بن وثاب والأعمش والكسائيّ مَطْلَعِ الْفَجْرِ بفتح اللام، بمعنى: حتى طلوع الفجر تقول العرب: طلعت الشمس طلوعا ومَطْلَعا. وقرأ ذلك يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي: (حَتّى مَطْلِعِ الْفَجْرِ) بكسر اللام، توجيها منهم ذلك إلى الاكتفاء بالاسم من المصدر، وهم ينوون بذلك المصدر.

والصواب من القراءة في ذلك عندنا: فتح اللام لصحة معناه في العربية، وذلك أن المطلَع بالفتح هو الطلوع، والمطلِع بالكسر: هو الموضع الذي تَطْلُع منه، ولا معنى للموضع الذي تطلع منه في هذا الموضع.

﴿ ٠