تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة البينة

سورة البينة مدنيّة وآياتها ثمانٍ

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ}.

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُوا منْ أهل الْكِتابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكّينَ حتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ فقال بعضهم: معنى ذلك: لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل، والمشركون من عَبدة الأوثان منفكين يقول: منتهين، حتى يأتيهم هذا القرآن. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٩١٣٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : مُنْفَكّينَ قال: لم يكونوا ليَنتهوا حتى يتبين لهم الحقّ.

٢٩١٣٩ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ، في قوله: مُنْفَكّينَ قال: منتهين عما هم فيه.

٢٩١٤٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله مُنْفَكّينَ حَتَى تأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ: أي هذا القرآن.

٢٩١٤١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول اللّه : وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكّينَ قال: لم يكونوا منتهين حتى يأتيهم ذلك المنفَكّ.

وقال آخرون: بل معنى ذلك أن أهل الكتاب وهم المشركون، لم يكونوا تاركين صفة محمد في كتابهم، حتى بُعث، فلما بُعث تفرّقوا فيه.

٢

وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: معنى ذلك: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد، حتى تأتيهم البيّنة، وهي إرسال اللّه إياه رسولاً إلى خلقه، رسول من اللّه .

و قوله: مُنْفَكّينَ في هذا الموضع عندي من انفكاك الشيئين أحدهما من الاَخر، ولذلك صَلُح بغير خبر ولو كان بمعنى ما زال، احتاج إلى خبر يكون تماما له، واستؤنف قوله رَسُولٌ مِنَ اللّه وهي نكرة على البيّنة، وهي معرفة، كما

قيل: ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ فَعّالٌ فقال: حتى يأتيهم بيان أمر محمد أنه رسول اللّه ، ببعثه اللّه إياه إليهم، ثم ترجم عن البيّنة، فقال: تلك البينة رَسُولٌ مِنَ اللّه يَتْلُو صُحُفا مُطَهّرَةً يقول: يقرأ صحفا مطهرة من الباطل فِيها كُتُبٌ قَيّمَةٌ

٣

يقول: في الصحف المطهرة كتب من اللّه قيمة عادلة مستقيمة، ليس فيها خطأ، لأنها من عند اللّه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٩١٤٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة رَسُولٌ مِنَ اللّه يَتْلُو صُحُفا مُطَهّرَةً يذكر القرآن بأحسن الذكر، ويثني عليه بأحسن الثناء.

٤

و قوله: وَما تَفَرّقَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيّنَةُ يقول: وما تفرّق اليهود والنصارى في أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فكذّبوا به، إلا من بعد ما جاءتهم البينة، يعني : من بعد ما جاءت هؤلاء اليهود والنصارى البيّنةُ يعني : بيان أمر محمد، أنه رسول بإرسال اللّه إياه إلى خلقه يقول: فلما بعثه اللّه تفرّقوا فيه، فكذّب به بعضهم، وآمن بعضهم، وقد كانوا قبل أن يُبعث غير مفترقين فيه أنه نبيّ.

٥

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ }.

يقول تعالى ذكره: وما أمر اللّه هؤلاء اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب إلا أن يعبدوا اللّه مخلصين له الدين يقول: مفردين له الطاعة، لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك، فأشركت اليهود بربها بقوله م إن عُزَيرا ابن اللّه ، والنصارى بقوله م في المسيح مثل ذلك، وجحودهم نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم .

و قوله: حُنَفاءَ قد مضى بياننا في معنى الحنيفية قبل، بشواهده المُغنية عن إعادتها، غير أنا نذكر بعض ما لم نذكر قبل من الأخبار في ذلك. ذكر من قال ذلك:

٢٩١٤٣ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، في قوله: مخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفاءَ يقول: حجاجا مسلمين غير مشركين، يقول: وَيُقِيمُوا الصّلاةَ وَيُؤْتُوا الزّكَاة ويَحُجّوا وذَلكَ دِينُ الْقَيّمَةِ.

٢٩١٤٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَما أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصينَ له الدّينَ حُنَفاءَ والحنيفية: الختان، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات، والخالات، والمناسك.

و قوله: وَيُقِيمُوا الصّلاةَ وَيُؤْتُوا الزّكاةَ يقول: وليقيموا الصلاة، وليؤتوا الزكاة.

و قوله: وَذَلكَ دِينُ الْقَيّمَةِ يعني أن هذا الذي ذكر أنه أمر به هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، هو الدين القيّمة، و يعني بالقيّمة: المستقيمة العادلة، وأضيف الدين إلى القيّمة، والدين هو القَيّم، وهو من نعته لاختلاف لفظيهما. وهي في قراءة عبد اللّه فيما أرى فيما ذُكر لنا: (وَذَلكَ الدّينُ الْقَيّمَةِ) وأُنّثت القيّمة، لأنها جعلت صفة للملة، كأنه

قيل: وذلك الملة القيّمة، دون اليهودية والنصرانية. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٩١٤٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله وَذَلكَ دِينُ الْقَيّمَةِ هو الدين الذي بعث اللّه به رسوله، وشرع لنفسه، ورضي به.

٢٩١٤٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: كُتُبٌ قَيّمَةٌ وَذَلكَ دِينُ الْقَيّمَةِ قال: هو واحد قيّمة: مستقيمة معتدلة.

٦

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـَئِكَ هُمْ شَرّ الْبَرِيّةِ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلَـَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ }.

يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا باللّه ورسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فجحدوا نبوّته، من اليهود والنصارى والمشركين جميعهم فِي نارِ جَهَنّمَ خالِدِينَ فيها يقول: ماكثين، لابثين فيها أبَدا لا يخرجون منها، ولا يموتون فيها أُولَئكَ هُمْ شَرّ البَرِيّةِ

يقول جلّ ثناؤه: هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، هم شرّ من بَرأَه اللّه وخلقه والعرب لا تهمز البرية، وبترك الهمز فيها قَرَأتها قرّاء الأمصار، غير شيء يُذكر عن نافع بن أبي نعيم، فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها، وذهب بها إلى قول اللّه : مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرأَها وأنها فعيلة من ذلك. وأما الذين لم يهمزوها، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين: أحدهما أن يكونوا تركوا الهمز فيها، كما تركوه من المَلَك، وهو مفعل من ألك أو لأك، ومن يرى، وترى، ونرى، وهو يفعل من رأيت. والاَخر: أن يكونوا وجّهوها إلى أنها فعيلة من البَرَى وهو التراب. حُكي عن العرب سماعا: بفيك البَرَى، يعني به: التراب.

٧

و قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيّةِ يقول تعالى ذكره: إن الذين آمنوا باللّه ورسوله محمد، وعبدوا اللّه مخلصين له الدين حنفاء، وأقاموا الصلاة، وآتُوا الزكاة، وأطاعوا اللّه فيما أمر ونهى أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيّةِ يقول: من فعل ذلك من الناس فهم خير البرية. وقد:

٢٩١٤٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا عيسى بن فرقد، عن أبي الجارود، عن محمد بن عليّ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البٌرِيّةِ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (أنْتَ يا عَليّ وَشِيعَتُكَ) .

٨

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رّضِىَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبّهُ }.

يقول تعالى ذكره: ثواب هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم يوم القيامة جَنّاتُ عَدْنٍ: يعني بساتين إقامَة لاظَعْن فيها، تجري من تحت أشجارها الأنهار خالِدِينَ فِيها أبَدا يقول: ماكثين فيها أبدا، لا يخرجون عنها، ولا يموتون فيها رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ بما أطاعوه في الدنيا، وعملوا لخلاصهم من عقابه في ذلك وَرَضُوا عَنْهُ بما أعطاهم من الثواب يومئذٍ، على طاعتهم ربهم في الدنيا، وجزاهم عليها من الكرامة.

و قوله: ذَلكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبّهُ يقول تعالى ذكره: هذا الخير الذي وصفته، ووعدته الذين آمنوا وعملوا الصالحات يوم القيامة، لمن خشي ربه يقول: لمن خاف اللّه في الدنيا في سرّه وعلانيته، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وباللّه التوفيق.

﴿ ٠