٤٣

 قَالَ اللّه تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرَيْ سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}.

 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْ السُّكْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: " السُّكْرُ مِنْ الشَّرَابِ ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: " نَسَخَهَا تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: " الْمُرَادُ بِهِ سُكْرُ النَّوْمِ خَاصَّةً ".

 فَإِنْ قِيلَ: : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى السَّكْرَانُ فِي حَالِ سُكْرِهِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الصَّبِيِّ فِي نَقْصِ عَقْلِهِ ؟

قِيلَ لَهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ السَّكْرَانَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ نُقْصَانُ عَقْلِهِ إلَى حَدٍّ يَزُولُ التَّكْلِيفُ مَعَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا نُهُوا عَنْ التَّعَرُّضِ لِلسُّكْرِ إذَا كَانَ عَلَيْهِمْ فَرْضُ الصَّلَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوهَا فِي حَالِ الصَّحْوِ إذَا فَعَلُوهَا فِي حَالِ السُّكْرِ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُرَادَةً بِالْآيَةِ فِي حَالِ نُزُولِهَا

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا سَاغَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى السَّكْرَانِ الَّذِي لَمْ يُزَلْ عَنْهُ التَّكْلِيفُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ ؟

قِيلَ لَهُ: قَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَيَحْتَمِلُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا إلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ مَعَ الرَّسُولِ صلّى اللّه عليه وسلّم أَوْ فِي جَمَاعَةٍ.

 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالصَّحِيحُ مِنْ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى السُّكْرِ أَنَّهُ السُّكْرُ مِنْ الشَّرَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: أَنَّ النَّائِمَ وَمَنْ خَالَطَ عَيْنَهُ النَّوْمُ لَا يُسَمَّى سَكْرَانَ، وَمَنْ سَكِرَ مِنْ الشَّرَابِ يُسَمَّى سَكْرَانَ حَقِيقَةً، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ عَنْهَا إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ.

وَالثَّانِي: مَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " دَعَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ قَوْمًا فَشَرِبُوا مِنْ الْخَمْرِ، فَتَقَدَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَرَأَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللّه تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}.

وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ الْمُؤَدِّبِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ثُمَّ نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ} الْآيَةَ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللّه بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ} قَالَ:

وقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} قَالَ: " كَانُوا لَا يَشْرَبُونَهَا عِنْدَ الصَّلَاةِ فَإِذَا صَلَّوْا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا ". قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: اللّهمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ فَنَزَلَتْ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: " شُرِبَتْ الْخَمْرُ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَاَلَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَكَانُوا يَشْرَبُونَهَا حَتَّى تَحْضُرَ الصَّلَاةُ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ تَرَكُوهَا، ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي الْمَائِدَةِ ".

 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَخْبَرَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ السُّكْرُ مِنْ الشَّرَابِ، وَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو رَزِينٍ أَنَّهُمْ تَرَكُوا شُرْبَهَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَشَرِبُوهَا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ؛ فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَقَلُوا مِنْ قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} النَّهْيَ عَنْ شُرْبِهَا فِي الْحَالِ الَّتِي يَكُونُونَ فِيهَا سُكَارَى عِنْدَ لُزُومِ فَرْضِ الصَّلَاةِ

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} إنَّمَا أَفَادَ النَّهْيَ عَنْ شُرْبِهَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَكَانَ مَعْنَاهُ: لَا يَكُنْ مِنْكُمْ شُرْبٌ تَصِيرُونَ بِهِ إلَى حَالِ السُّكْرِ عِنْدَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَتُصَلُّوا وَأَنْتُمْ سُكَارَى وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُتَعَبِّدِينَ بِفِعْلِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا مَنْهِيِّينَ عَنْ تَرْكِهَا، قَالَ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، وَقَدْ عِلْمنَا أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ بِذَلِكَ فَرْضُ الصَّلَاةِ، كَانَ فِي مَضْمُونِ هَذَا اللَّفْظِ النَّهْيُ عَمَّا يُوجِبُ السُّكْرَ عِنْدَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا نُهِينَا عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ لقوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، وَقَالَ النَّبِيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {لَا يَقْبَلُ اللّه صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ}. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، كَانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنْ تَرْكِ الطَّهَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ نَهْيًا عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ. وَلَمْ يُوجِبْ كَوْنُ الْإِنْسَانِ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا سُقُوطَ فَرْضِ الصَّلَاةِ؛ وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ فِعْلِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ مَعَ ذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ لَهَا؛ كَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ إنَّمَا دَلَّ عَلَى حَظْرِ شُرْبٍ يُوجِبُ السُّكْرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَفَرْضُ الصَّلَاةِ قَائِمٌ عَلَيْهِ.

 فَهَذَا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي رَزِينٍ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَفَحْوَاهَا يَقْتَضِي ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يُنَافِي مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْ السَّلَفِ فِي حَظْرِ الصَّلَاةِ عِنْدَ السُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا نُهُوا عَنْ شُرْبٍ يَقْتَضِي كَوْنَهُ سَكْرَانَ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَظْرًا قَائِمًا، فَإِنْ اتَّفَقَ أَنْ يَشْرَبَ حَتَّى أَنَّهُ كَانَ سَكْرَانَ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ فِعْلِهَا مَأْمُورًا بِإِعَادَتِهَا فِي حَالِ الصَّحْوِ، أَوْ يَكُونُ النَّهْيُ مَقْصُورًا عَلَى فِعْلِهَا مَعَ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم أَوْ فِي جَمَاعَةٍ؛ وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ الْآيَةِ.

وقوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّكْرَانَ الَّذِي مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ هُوَ الَّذِي قَدْ بَلَغَ بِهِ السُّكْرُ إلَى حَالٍ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَأَنَّ السَّكْرَانَ الَّذِي يَدْرِي مَا يَقُولُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّهْيُ عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ؛ وَهَذَا يَشْهَدُ لِلتَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا انْصَرَفَ إلَى الشُّرْبِ لَا إلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ السَّكْرَانَ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، وَاَلَّذِي يَعْقِلُ مَا يَقُولُ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَيْهِ النَّهْيُ؛ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ إبَاحَةَ فِعْلِ الصَّلَاةِ إذَا عَلِمَ مَا يَقُولُ؛

 وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا حَظَرَتْ عَلَيْهِ الشُّرْبَ لَا فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ فِيهِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَكْلِيفُ السَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ.

 وَهِيَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ السُّكْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ صَاحِبُهُ مَا يَقُولُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السُّكْرِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ " أَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ فِيهِ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ " وَمَنْ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ

وقوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} يَدُلُّ عَلَى فَرْضِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ عَدَمِ إقَامَةِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، فَلَوْلَا أَنَّهَا مِنْ أَرْكَانِهَا وَفُرُوضِهَا لَمَا مَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ لِأَجْلِهَا.

 فَإِنْ قِيلَ: : لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِرَاءَةَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ نَفْيَ الْعِلْمِ بِمَا يَقُولُ، وَهَذَا عَلَى سَائِرِ الْأَقْوَالِ وَالْكَلَامِ، وَمَنْ صَارَ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ السُّكْرِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ إحْضَارُ نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَلَا فِعْلُ سَائِرِ أَرْكَانِهَا، فَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ وَلَا سَائِرُ أَفْعَالِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُحْدِثٍ.

قِيلَ لَهُ: هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْت فِي أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ  فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ شَرَائِطِهَا، إلَّا أَنَّ اخْتِصَاصَهُ الْقَوْلِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أُمُورِ الصَّلَاةِ وَأَحْوَالِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَوْلٌ مَفْعُولٌ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ مِنْ السُّكْرِ عَلَى حَالٍ لَمْ يُمْكِنْهُ إقَامَةُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ لَهُ فِعْلُهَا لِأَجْلِ عَدَمِ الْقِرَاءَةِ، وَأَنَّ وُجُودَ الْقِرَاءَةِ فِيهَا مِنْ فُرُوضِهَا وَشَرَائِطِهَا، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فِي إفَادَتِهِ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ قِيَامًا مَفْرُوضًا، وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} فِي دَلَالَتِهِ عَلَى فَرْضِ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ تَنَازَعُوا تَأْوِيلَهُ، فَرَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زِرٍّ عَنْ عَلِيٍّ رضي اللّه عنه فِي قَوْلِهِ: {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}: " إلَّا أَنْ تَكُونُوا مُسَافِرِينَ وَلَا تَجِدُونَ مَا تَتَيَمَّمُونَ بِهِ وَتُصَلُّونَ ".

وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ.

وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " هُوَ الْمَمَرُّ فِي الْمَسْجِدِ ".

وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ.

وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ، فَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ مُجْتَازًا وَهُوَ جُنُبٌ ". وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: " كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم تُصِيبُهُمْ الْجَنَابَةُ فَيَتَوَضَّئُونَ ثُمَّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: " الْجُنُبُ لَا يَجْلِسُ فِي الْمَجْلِسِ وَيُجْتَازُ " وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ.

وَمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللّه فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِيهِ مَا تَأَوَّلَهُ شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} قَالَ: " الْجُنُبُ يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا يَجْلِسُ "، وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللّه؛ وَيُقَالُ إنَّ أَحَدًا لَمْ يَرْفَعْهُ إلَى عَبْدِ اللّه غَيْرَ مَعْمَرٍ وَسَائِرُ النَّاسِ وَقَفُوهُ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: " لَا يَدْخُلُهُ إلَّا طَاهِرًا سَوَاءٌ أَرَادَ الْقُعُودَ فِيهِ أَوْ الِاجْتِيَازَ "، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالثَّوْرِيّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: " لَا يَمُرُّ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَابُهُ إلَى الْمَسْجِدِ ".

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَمُرُّ فِيهِ وَلَا يَقْعُدُ ". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ فِي الْمَسْجِدِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ:

حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَفْلَتُ بْنُ خَلِيفَةٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي جَسْرَةُ بِنْتُ دَجَاجَةٍ قَالَتْ: سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي اللّه عنها تَقُولُ :{جَاءَ رَسُولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يَصْنَعْ، الْقَوْمُ شَيْئًا رَجَاءَ أَنْ تَنْزِلَ لَهُمْ رُخْصَةٌ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ بَعْدُ فَقَالَ: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ} وَلَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الِاجْتِيَازِ وَبَيْنَ الْقُعُودِ، فَهُوَ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِتَوْجِيهِ الْبُيُوتِ الشَّارِعَةِ لِئَلَّا يَجْتَازُوا فِي الْمَسْجِدِ إذَا أَصَابَتْهُمْ جَنَابَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْقُعُودَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: {وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ} مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْقُعُودَ مِنْهُمْ بَعْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِكَوْنِ الْبُيُوتُ شَارِعَةً إلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِتَوْجِيهِ الْبُيُوتِ لِئَلَّا يُضْطَرُّوا عِنْدَ الْجَنَابَةِ إلَى الِاجْتِيَازِ فِي الْمَسْجِدِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابٌ غَيْرُ مَا هِيَ شَارِعَةٌ إلَى الْمَسْجِدِ.

وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ حَمْزَةَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْمُطَّلِبِ: " أَنَّ {رَسُولَ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا يَجْلِسَ فِيهِ وَهُوَ جُنُبٌ، إلَّا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْخُلُهُ جُنُبًا وَيَمُرُّ فِيهِ؛ لِأَنَّ بَيْتَهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ} فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِحَظْرِ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم الِاجْتِيَازَ كَمَا حَظَرَ عَلَيْهِمْ الْقُعُودَ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ خُصُوصِيَّةِ عَلِيٍّ رضي اللّه عنه فَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَوْلُ الرَّاوِي: " لِأَنَّهُ كَانَ بَيْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ " ظَنًّا مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلّى اللّه عليه وسلّم قَدْ أَمَرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِتَوْجِيهِ الْبُيُوتِ الشَّارِعَةِ إلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ الْمُرُورَ لِأَجْلِ كَوْنِ بُيُوتِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْخُصُوصِيَّةُ فِيهِ لِعَلِيٍّ رضي اللّه عنه دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا خُصَّ جَعْفَرُ بِأَنَّ لَهُ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ دُونَ سَائِرِ الشُّهَدَاءِ، وَكَمَا خُصَّ حَنْظَلَةُ بِغَسْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ حِينَ قُتِلَ جُنُبًا، وَخُصُّ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ بِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى صُورَتِهِ، وَخُصَّ الزُّبَيْرُ بِإِبَاحَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لَمَّا شَكَا مِنْ أَذَى الْقَمْلِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ النَّاسِ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ مُجْتَازِينَ وَغَيْرَ مُجْتَازِينَ.

وَأَمَّا مَا رَوَى جَابِرٌ: " كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ مُجْتَازًا وَهُوَ جُنُبٌ " فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى اللّه عليه وسلّم عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ

وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: " كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تُصِيبُهُمْ الْجَنَابَةُ فَيَتَوَضَّئُونَ ثُمَّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ " لَا دَلَالَةَ فِيهِ لِلْمُخَالِفِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى اللّه عليه وسلّم أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ مِنْهُمْ وَلِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم قَبْلَ أَنْ يَحْظُرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ؛ وَلَوْ ثَبَتَ جَمِيعُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم ثُمَّ رُوِيَ مَا وَصَفْنَا لَكَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ طَارِئٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا مَحَالَةَ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهَا وَلَمَّا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ حَظْرُ الْقُعُودِ فِيهِ لِأَجْلِ الْجَنَابَةِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الِاجْتِيَازِ تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ؛ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي حَظْرِ الْقُعُودِ فِيهِ هُوَ الْكَوْنُ فِيهِ جُنُبًا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الِاجْتِيَازِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ الْقُعُودُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ حُكْمُ الِاجْتِيَازِ فِيهِ حُكْمَ الْقُعُودِ فَكَانَ الِاجْتِيَازُ بِمَنْزِلَةِ الْقُعُودِ، كَذَلِكَ الْقُعُودُ فِي الْمَسْجِدِ لَمَّا كَانَ مَحْظُورًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ الِاجْتِيَازُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا؛ وَالْعِلَّةُ فِي الْجَمِيعِ حَظْرُ الْكَوْنِ فِيهِ.

وَأَمَّا قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِيَازِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُسَافِرُ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ، أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الِاجْتِيَازِ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} نَهْيٌ عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا عِنْدَ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَمَفْهُومُ الْخِطَابِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَسْجِدِ عُدُولٌ بِالْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى الْمَجَازِ بِأَنْ تَجْعَلَ الصَّلَاةَ عِبَارَةً عَنْ مَوْضِعِهَا، كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ لِلْمُجَاوَرَةِ أَوْ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ مِنْهُ، كَقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} يَعْنِي بِهِ مَوَاضِعَ الصَّلَوَاتِ. وَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ عَنْهَا إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَلَا دَلَالَةَ تُوجِبُ صَرْفَ ذَلِكَ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَفِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةً الصَّلَاةُ، وَهُوَ قوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وَلَيْسَ لِلْمَسْجِدِ قَوْلٌ مَشْرُوطٌ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ لِتَعَذُّرِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ السُّكْرِ، وَفِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةٌ مَشْرُوطَةٌ، فَمَنَعَ مِنْ أَجْلِ الْعُذْرِ عَنْ إقَامَتِهَا عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَيْهَا مُوَافِقًا لِظَاهِرِهَا وَحَقِيقَتِهَا.

وقوله تعالى: {إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْمُسَافِرَ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يُسَمَّى عَابِرَ سَبِيلٍ، وَلَوْلَا أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ؛ لَمَا تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُسَافِرُ عَابِرَ سَبِيلٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، كَمَا يُسَمَّى ابْنَ السَّبِيلِ؛ فَأَبَاحَ اللّه تَعَالَى لَهُ فِي حَالِ السَّفَرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: جَازَ التَّيَمُّمُ لِلْجُنُبِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَالصَّلَاةُ بِهِ،

وَالثَّانِي: أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ جُنُبًا مَعَ كَوْنِهِ مُتَيَمِّمًا؛ فَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الِاجْتِيَازِ فِي الْمَسْجِدِ.

وقوله تعالى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} غَايَةٌ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْغَايَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَاخِلَةٌ فِي الْحَظْرِ إلَى أَنْ يَسْتَوْعِبَهَا بِوُجُودِ الِاغْتِسَالِ، وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ غُسْلِهِ شَيْءٌ فِي حَالِ وُجُودِ الْمَاءِ وَإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَخَافُهُ؛ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ تَدْخُلُ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا؛

وَقَالَ اللّه تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} وَالْغَايَةُ خَارِجَةٌ مِنْ الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ بِدُخُولِ أَوَّلِ اللَّيْلِ يَخْرُجُ مِنْ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ " إلَى " غَايَةٌ كَمَا أَنَّ " حَتَّى " غَايَةٌ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ يَجُوزُ دُخُولُهَا فِي الْكَلَامِ تَارَةً وَخُرُوجُهَا أُخْرَى، وَحُكْمُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلَالَةِ فِي دُخُولِهَا أَوْ خُرُوجِهَا. وَسَنَذْكُرُ أَحْكَامَ الْجَنَابَةِ وَمَعْنَاهَا وَحُكْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إذَا انْتَهَيْنَا إلَيْهَا إنْ شَاءَ اللّه تَعَالَى.

قوله تعالى: {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ، أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ قَدِمَ فُلَانٌ أَوْ لَمْ يَقْدُمْ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا لَا تُطْلَقُ حَتَّى يَقْدُمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ إنَّهُ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ وَمَا قَدِمَ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَ أَصْحَابُنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ

﴿ ٤٣