١٠٠

قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّه يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}؛ قِيلَ فِي الْمُرَاغَمِ إنَّهُ أَرَادَ مُتَّسَعًا لِهِجْرَتِهِ؛ لِأَنَّ الرَّغْمَ أَصْلُهُ الذُّلُّ، تَقُولُ: فَعَلْت ذَلِكَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ فُلَانٍ، أَيْ فَعَلْته عَلَى الذُّلِّ وَالْكُرْهِ. وَالرَّغَامُ التُّرَابُ؛ لِأَنَّهُ يَتَيَسَّرُ لِمَنْ رَامَهُ مَعَ احْتِقَارِهِ وَأَرْغَمَ اللّه أَنْفَهُ أَيْ أَلْصَقْهُ بِالتُّرَابِ إذْلَالًا لَهُ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّه يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} أَيْ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُتَّسَعًا سَهْلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}. فَمُرَاغَمٌ وَذَلُولٌ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى. وَقِيلَ فِي الْمُرَاغَمِ إنَّهُ مَا يُرْغَمُ بِهِ مَنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْهِجْرَةِ.

وَأَمَّا قوله تعالى: {وَسَعَةً}، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُ السَّعَةُ فِي الرِّزْقِ.

وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ السَّعَةُ فِي إظْهَارِ الدِّينِ لِمَا كَانَ يَلْحَقُهُمْ مِنْ تَضْيِيقِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ حَتَّى يَمْنَعُوهُمْ مِنْ إظْهَارِهِ.

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّه} فِيهِ إخْبَارٌ بِوُجُوبِ أَجْرِ مَنْ هَاجَرَ إلَى اللّه وَرَسُولِهِ وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ هِجْرَتُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ مُتَوَجِّهًا لِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْبِ أَنَّ اللّه يُجَازِيهِ بِقَدْرِ نِيَّتِهِ وَسَعْيِهِ وَإِنْ اُقْتُطِعَ دُونَهُ، كَمَا أَوْجَبَ اللّه أَجْرَ مَنْ خَرَجَ مُهَاجِرًا وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ هِجْرَتُهُ. وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِيمَنْ خَرَجَ يُرِيدُ الْحَجَّ ثُمَّ مَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْحَاجُّ عَنْ الْمَيِّتِ أَوْ عَمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ الَّذِي قَصَدَ لِلْحَجِّ؛ لِأَنَّ اللّه قَدْ كَتَبَ لَهُ بِمِقْدَارِ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ وَالنَّفَقَةِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَسَبًا لِلْأَوَّلِ كَانَ الَّذِي وَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُ مَا بَقِيَ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: " إنْ خَرَجْت مِنْ دَارِي إلَّا إلَى الصَّلَاةِ أَوْ إلَى الْحَجِّ فَعَبْدِي حُرٌّ " فَخَرَجَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ أَوْ الْحَجَّ ثُمَّ لَمْ يَصِلْ وَلَمْ يَحُجَّ وَتَوَجَّهَ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ بَدِيًّا كَانَ لِلصَّلَاةِ أَوَلِلْحَجِّ لِمُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لَهُ، كَمَا كَانَ خُرُوجُ مَنْ خَرَجَ مُهَاجِرًا قُرْبَةً وَهِجْرَةً لِمُقَارَنَةِ النِّيَّةِ وَاقْتِطَاعِ الْمَوْتِ لَهُ عَنْ الْوُصُولِ إلَى دَارِ الْهِجْرَةِ لَمْ يُبْطِلْ حُكْمَ الْخُرُوجِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وُجِدَ بَدِيًّا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللّه وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللّه وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ} فَأَخْبَرَ أَنَّ أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالنِّيَّاتِ، فَإِذَا كَانَ خُرُوجُهُ عَلَى نِيَّةِ الْهِجْرَةِ كَانَ مُهَاجِرًا، وَإِذَا كَانَ عَلَى نِيَّةِ الْغَزْوِ كَانَ غَازِيًا. وَاسْتَدَلَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْغَازِيَ إذَا مَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَجَبَ سَهْمُهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ لِوَرَثَتِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا غَنِيمَةً مُتَعَلِّقٌ بِحِيَازَتِهَا؛ إذْ لَا تَكُون غَنِيمَةً إلَّا بَعْدَ الْحِيَازَةِ؛

وَقَالَ اللّه تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ}، فَمَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَغْنَمَ فَهُوَ لَمْ يَغْنَمْ شَيْئًا فَلَا سَهْمَ لَهُ؛ وقوله تعالى {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّه} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُوبِ سَهْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ غَازِيًا مِنْ بَيْتِهِ فَمَاتَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ أَنَّهُ لَا سَهْمَ لَهُ، وَقَدْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللّه كَمَا وَجَبَ أَجْرُ الَّذِي خَرَجَ مُهَاجِرًا وَمَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهِ دَارَ هِجْرَتِهِ وَاَللّه أَعْلَمُ.

بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ

﴿ ١٠٠