سُورَةُ طَه

بسم اللّه الرحمن الرحيم

٥

قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَ الْحَسَنُ: " اسْتَوَى بِلُطْفِهِ وَتَدْبِيرِهِ ".

وَقِيلَ: اسْتَوْلَى.

وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " السِّرُّ مَا حَدَّثَ بِهِ الْعَبْدُ غَيْرَهُ فِي خَفَى، وَأَخْفَى مِنْهُ مَا أَضْمَرَهُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ غَيْرَهُ ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: " السِّرُّ مَا أَضْمَرَهُ الْعَبْدُ فِي نَفْسِهِ، وَأَخْفَى مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَا أَضْمَرَهُ أَحَدٌ ". قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْك} قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: أَمَرَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ لِيُبَاشِرَ بِقَدَمِهِ بَرَكَةَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ.

 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ: {إنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} فَتَقْدِيرُهُ: اخْلَعْ نَعْلَيْك؛ لِأَنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ. وَقَالَ كَعْبٌ وَعِكْرِمَةُ: " كَانَتْ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَلِذَلِكَ أُمِرَ بِخَلْعِهَا ".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ فِي النَّعْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ إنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ فَالْمَعْنِيُّ فِيهِ مُبَاشَرَةُ الْوَادِي بِقَدَمِهِ تَبَرُّكًا بِهِ كَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلِهِ تَبَرُّكًا بِهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخَلْعِ النَّعْلِ مَقْصُورًا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فِي ذَلِكَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ هُوَ الثَّانِي فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ مَحْظُورًا لُبْسُ جِلْدِ الْحِمَارِ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ مَدْبُوغًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلّى اللّه عليه وسلّم قَالَ: {أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ}، وَقَدْ صلّى النَّبِيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم فِي نَعْلَيْهِ ثُمَّ خَلَعَهُمَا فِي الصَّلَاةِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: {مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ ؟ قَالُوا: خَلَعْت فَخَلَعْنَا، قَالَ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهَا قَذَرًا}، فَلَمْ يَكْرَهْ صلّى اللّه عليه وسلّم الصَّلَاةَ فِي النَّعْلِ، وَأَنْكَرَ عَلَى الْخَالِعِينَ خَلْعَهَا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا خَلَعَهَا؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ فِيهَا قَذَرًا وَهَذَا عِنْدَنَا. مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَجَاسَةً يَسِيرَةً؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً لَاسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ.

 قوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: " لِتَذْكُرَنِي فِيهَا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّعْظِيمِ ". وَقِيلَ فِيهِ: " لَأَنْ أَذْكُرَكَ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ ".

وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى اللّه عليه وسلّم نَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَالَ: {إنَّ اللّه تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}}.

وَرَوَى هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم قَالَ: {مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ وَتَلَا: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قَدْ أُرِيدَ بِهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ مُرَادًا بِالْآيَةِ لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأَوَّلَهَا عَلَيْهَا الْآخَرُونَ مُرَادَةً أَيْضًا؛ إذْ هِيَ غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَقِمْ الصَّلَاةَ إذَا ذَكَرْتَ الصَّلَاةَ الْمَنْسِيَّةَ لِتَذْكُرَنِي فِيهَا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّعْظِيمِ لَأَنْ أَذْكُرَكَ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، فَيَكُونُ جَمِيعُ هَذِهِ الْمَعَانِي مُرَادَةً بِالْآيَةِ.

 وَهَذَا الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ مِنْ إيجَابِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ عِنْدَ الذِّكْرِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهِ قَوْلٌ شَاذٌّ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ، فَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ سَعْدٍ قَالَ: " مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا وَلْيُصَلِّ مِثْلَهَا مِنْ الْغَدِ "

وَرَوَى الْجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: إذَا فَاتَتْ الرَّجُلَ الصَّلَاةُ صَلَّاهَا مِنْ الْغَدِ لِوَقْتِهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ: صَلِّهَا إذَا ذَكَرْتهَا. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَاذَّانِ، وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ خِلَافُ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم مِنْ أَمْرِهِ بِقَضَاءِ الْفَائِتَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ صَلَاةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا. وَتِلَاوَةُ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم قوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} عَقِيبَ ذِكْرِ الْفَائِتَةِ وَبَعْدَ قَوْلِهِ: {مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا} يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْآيَةِ قَضَاءَ الْفَائِتَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي الْفَوَائِتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِفِعْلِ الْفَائِتَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ فَهُوَ مَنْهِيٌّ لَا مَحَالَةَ عَنْ فِعْلِ صَلَاةِ الْوَقْتِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ فَسَادَ صَلَاةِ الْوَقْتِ إنْ قَدَّمَهَا عَلَى الْفَائِتَةِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَ

قَالَ أَصْحَابُنَا: " التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْوَقْتِ وَاجِبٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَمَا دُونَهُمَا إذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لِلْفَائِتَةِ وَلِصَلَاةِ الْوَقْتِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ " وَالنِّسْيَانُ يُسْقِطُ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُمْ، أَعْنِي نِسْيَانَ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ وَإِنْ نَسِيَ الْفَائِتَةَ، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: " إنْ كَانَتْ الْفَوَائِتُ كَثِيرَةً بَدَأَ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ ثُمَّ صلّى مَا كَانَ نَسِيَ، وَإِنْ كَانَتْ الْفَوَائِتُ خَمْسًا ثُمَّ ذَكَرَهُنَّ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّاهُنَّ قَبْلَ الصُّبْحِ وَإِنْ فَاتَ وَقْتُ الصُّبْحِ، وَإِنْ صلّى الصُّبْحَ ثُمَّ ذَكَرَ صَلَوَاتٍ صلّى مَا نَسِيَ، فَإِذَا فَرَغَ أَعَادَ الصُّبْحَ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ لَمْ يُعِدْ ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ صلّى رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صلّى الظُّهْرَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَنَّهُ يَشْفَعُ بِرَكْعَةٍ ثُمَّ يُسَلِّمُ فَيَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ.

وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَاهُمَا إسْقَاطُ التَّرْتِيبِ وَفِي الْأُخْرَى إيجَابُهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: " إذَا ذَكَرَهَا وَهُوَ فِي صَلَاةٍ وَقَدْ صلّى رَكْعَةً فَإِنْ كَانَ مَعَ إمَامٍ فَلْيُصَلِّ مَعَهُ حَتَّى إذَا سَلَّمَ صلّى الَّتِي نَسِيَ ثُمَّ أَعَادَ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَهُ ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: " إذَا صلّى صَلَوَاتٍ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ نَامَ عَنْهُنَّ قَضَى الْأُولَى فَالْأُولَى، فَإِنْ جَاءَ وَقْتُ صَلَاةٍ تَرَكَهَا وَصَلَّى مَا قَبْلَهَا وَإِنْ فَاتَهُ وَقْتُهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا ".

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " الِاخْتِيَارُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَائِتَةِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَبَدَأَ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ أَجْزَأَهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ".

 قَالَ أَبُو بَكْرٍ:

وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " مَنْ نَسِيَ صَلَاةً وَذَكَرَهَا وَهُوَ خَلْفَ إمَامٍ فَلْيُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِذَا فَرَغَ صلّى الَّتِي نَسِيَ ثُمَّ يُصَلِّي الْأُخْرَى ".

وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ قَالَ: " أَقْبَلْنَا حَتَّى دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ وَقَدْ غَابَتْ الشَّمْسُ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُؤَخِّرُونَ الْمَغْرِبَ، فَرَجَوْتُ أَنْ أُدْرِكَ مَعَهُمْ الصَّلَاةَ، فَأَتَيْتهمْ وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ وَأَنَا أَحْسَبُهَا الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا صلّى الْإِمَامُ قُمْتُ فَصَلَّيْتُ الْمَغْرِبَ ثُمَّ صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ سَأَلْتُ عَنْ الَّذِي فَعَلْتُ، فَكُلُّهُمْ أَخْبَرُونِي بِاَلَّذِي صَنَعْتُ، وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم بِهَا يَوْمئِذٍ مُتَوَافِرِينَ ". قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ. فَهَؤُلَاءِ السَّلَفُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ إيجَابُ التَّرْتِيبِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ خِلَافٌ فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ السَّلَفِ.

 وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْفَوَائِتِ مَا رَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللّه مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسَ أَنْ تَغِيبَ فَقَالَ رَسُولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {وَأَنَا وَاَللّه مَا صَلَّيْتُ بَعْدُ فَنَزَلَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ صلّى الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صلّى الْمَغْرِبَ بَعْدَمَا صلّى الْعَصْرَ.}

وَرُوِيَ عَنْهُ صلّى اللّه عليه وسلّم: {أَنَّهُ فَاتَتْهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ حَتَّى كَانَ هُوِيٌّ مِنْ اللَّيْلِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ ثُمَّ الْعِشَاءَ.} وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ صلّى اللّه عليه وسلّم :{ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي} فَلَمَّا صَلَّاهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ اقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَهُ.

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ فِي الْكِتَابِ، وَالتَّرْتِيبُ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَلَمَّا قَضَى الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ كَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْفَرْضِ الْمُجْمَلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ أَيْضًا أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ فَرْضَانِ قَدْ جَمَعَهُمَا وَقْتٌ وَاحِدٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَأَشْبَهَتَا صَلَاتَيْ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ التَّرْتِيبِ فِيهِمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الْفَوَائِتِ فِيمَا دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.

وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {إنِّي مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ}، فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ صلّى الْعَصْرَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ.

قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْك مَحَبَّةً مِنِّي} يَعْنِي أَنِّي جَعَلْتُ مَنْ رَآك أَحَبَّكَ حَتَّى أَحَبَّكَ فِرْعَوْنُ فَسَلِمْت مِنْ شَرِّهِ وَأَحَبَّتْكَ امْرَأَتُهُ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ فَتَبَنَّتْكَ. قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قَالَ قَتَادَةُ: " لِتُغَذَّى عَلَى مَحَبَّتِي وَإِرَادَتِي ".

وقوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} فَقَالَ: " اسْتَأْنِفْ لَهَا نَهَارًا يَا ابْنَ جُبَيْرٍ " ثُمَّ ذَكَرَ فِي مَعْنَاهُ وُقُوعَهُ فِي مِحْنَةٍ بَعْدَ مِحْنَةٍ خَلَّصَهُ اللّه مِنْهَا، أَوَّلُهَا أَنَّهَا حَمَلَتْهُ فِي السَّنَةِ الَّتِي كَانَ فِرْعَوْنُ يَذْبَحُ الْأَطْفَالَ، ثُمَّ إلْقَاؤُهُ فِي الْيَمِّ، ثُمَّ مَنْعُهُ الرَّضَاعَ إلَّا مِنْ ثَدْيِ أُمِّهِ، ثُمَّ جَرُّهُ لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ حَتَّى هَمَّ بِقَتْلِهِ، ثُمَّ تَنَاوُلُهُ الْجَمْرَةَ بَدَلَ الدُّرَّةِ فَدَرَأَ ذَلِكَ عَنْهُ قَتْلَ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ مَجِيءُ رِجْلٍ مِنْ شِيعَتِهِ يَسْعَى لِيُخْبِرَهُ عَمَّا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ قَتْلِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} مَعْنَاهُ: خَلَّصْنَاكَ خَلَاصًا.

وقوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} فَإِنَّ الِاصْطِنَاعَ الْإِخْلَاصُ بِالْأَلْطَافِ. وَمَعْنَى: {لِنَفْسِي} لِتُصْرَفَ عَلَى إرَادَتِي وَمَحَبَّتِي.

١٧

قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} قِيلَ فِي وَجْهِ سُؤَالِ مُوسَى عليه السلام عَمَّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ لَهُ عَلَى أَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ عَصًا لِيَقَعَ الْمُعْجِزُ لَهَا بَعْدَ التَّثَبُّتِ فِيهَا وَالتَّأَمُّلِ لَهَا، فَإِذًا أَجَابَ مُوسَى بِأَنَّهَا عَصًا يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْإِعْيَاءِ وَيَنْفُضُ بِهَا الْوَرَقَ لِغَنَمِهِ وَأَنَّ لَهُ فِيهَا مَنَافِعُ أُخْرَى فِيهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ إعْلَامَ اللّه تَعَالَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللّه تَعَالَى كَانَ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا اقْتَضَى السُّؤَالُ مِنْهُ جَوَابًا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ الْإِجَابَةِ بِذِكْرِ مَنَافِعِ الْعَصَا إقْرَارًا مِنْهُ بِالنِّعْمَةِ فِيهَا وَاعْتِدَادًا بِمَنَافِعِهَا وَالْتِزَامًا لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الشُّكْرِ لَهُ.

وَمِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ: إنَّمَا قَالَ اللّه لَهُ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِك يَا مُوسَى} فَإِنَّمَا وَقَعَتْ الْمَسْأَلَةُ عَنْ مَاهِيَّتِهَا وَلَمْ تَقَعْ عَنْ مَنَافِعِهَا وَمَا تَصْلُحُ لَهُ، فَلِمَ أَجَابَ عَمَّا لَمْ يُسْأَلْ مِنْهُ ؟ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا وَهُوَ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ بَدِيًّا بِقَوْلِهِ: هِيَ عَصَايَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَمَّا جَعَلَ اللّه تَعَالَى لَهُ مِنْ الْمَنَافِعِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَافِ بِالنِّعْمَةِ وَإِظْهَارِ الشُّكْرِ عَلَى مَا مَنَحَهُ اللّه مِنْهَا، وَكَذَلِكَ سَبِيلُ أَنْبِيَاءِ اللّه تَعَالَى وَالْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ مِثْلِهِ فِي الِاعْتِدَادِ بِالنِّعْمَةِ وَنَشْرِهَا وَإِظْهَارِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا،

وَقَالَ اللّه تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.

﴿ ٠