سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ

١

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا} رَوَى زرارة بْنُ أَوْفَى عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: قُلْت لِعَائِشَةَ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللّه، قَالَتْ: أَمَا تَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا} قُلْت: بَلَى قَالَتْ: " فَإِنَّ اللّه افْتَرَضَ الْقِيَامَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ اللّه تَعَالَى خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ أَنْزَلَ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ ".

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " لَمَّا نَزَلَتْ أَوَّلُ الْمُزَّمِّلِ كَانُوا يَقُومُونَ نَحْوَ قِيَامِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَزَلَ آخِرُهَا، وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا نَحْوَ سَنَةٍ ".

٤

وَ قوله تعالى: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " بَيِّنْهُ تَبْيِينًا " وَقَالَ طَاوُسٌ: " بَيِّنْهُ حَتَّى تَفْهَمَهُ "

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} قَالَ: " وَالِ بَعْضَهُ عَلَى إثْرِ بَعْضٍ عَلَى تُؤَدَةٍ ".

 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَسْخِ فَرْضِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مُرَغَّبٌ فِيهِ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَيْهِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم قَالَ: {أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى اللّه صَلَاةُ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إلَى اللّه صِيَامُ دَاوُد كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا}

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: " أَنَّ النَّبِيَّ صلّى اللّه عليه وسلّم {كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، حَتَّى إذَا انْفَجَرَ عَمُودُ الصُّبْحِ أَوْتَرَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ ثُمَّ سَبَّحَ وَكَبَّرَ، حَتَّى إذَا انْفَجَرَ الْفَجْرُ صلّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ} وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ {النَّبِيَّ صلّى اللّه عليه وسلّم كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً}

٦

وقوله تعالى: {إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: " إذَا نَشَأْت قَائِمًا فَهِيَ نَاشِئَةُ اللَّيْلِ كُلِّهِ "

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: " اللَّيْلُ كُلُّهُ إذَا قَامَ يُصَلِّي فَهُوَ نَاشِئَةٌ وَمَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَهُوَ نَاشِئَةٌ "؛ وَعَنْ الْحَسَنِ مِثْلُهُ، وَقَالَ فِي قوله تعالى: {أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} قَالَ: " أَجَهْدُ لِلْبَدَنِ وَأَثْبَتُ فِي الْخَيْرِ "

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَأَقْوَمُ قِيلًا} قَالَ: " أَثْبَتُ قِرَاءَةً ".

٨

وَ قوله تعالى: {وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّك وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: " أَخْلِصْ إلَيْهِ إخْلَاصًا " وَقَالَ قَتَادَةُ: " أَخْلِصْ إلَيْهِ الدُّعَاءَ وَالْعِبَادَةَ "

وَقِيلَ: " الِانْقِطَاعُ إلَى اللّه وَتَأْمِيلُ الْخَيْرِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ " وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي بَيَانِ الصَّلَاةِ، فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِافْتِتَاحِ بِسَائِرِ أَسْمَاءِ اللّه تَعَالَى.

وَ قوله تعالى: {سَبْحًا طَوِيلًا}، قَالَ قَتَادَةُ: " فَرَاغًا طَوِيلًا ".

وَقوله تعالى: " هِيَ أَشَدُّ وِطَاءً " قَالَ مُجَاهِدٌ: وَاطَأَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ مُوَاطَأَةً وَوِطَاءً " وَمَنْ قَرَأَ " وَطْئًا " قَالَ: مَعْنَاهُ هِيَ أَشَدُّ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ.

٢٠

وقوله تعالى: {إنَّ رَبَّك يَعْلَمُ أَنَّك تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} إلَى قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ}.

 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَانِيَ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَسَخَ بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ الْمَفْرُوضَ كَانَ بَدِيًّا.

وَالثَّانِي: دَلَالَتُهَا عَلَى لُزُومِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ بِقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ}.

وَالثَّالِثُ: دَلَالَتُهَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِقَلِيلِ الْقِرَاءَةِ.

وَالرَّابِعُ أَنَّهُ مَنْ تَرَكَ قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَرَأَ غَيْرَهَا أَجْزَأَهُ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ.

فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا نَزَلَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ

قِيلَ لَهُ: إنَّمَا نَسَخَ فَرْضَهَا وَلَمْ يَنْسَخْ شَرَائِطَهَا وَسَائِرَ أَحْكَامِهَا

وَأَيْضًا فَقَدْ أَمَرَنَا بِالْقِرَاءَةِ بَعْدَ ذِكْرِ التَّسْبِيحِ بِقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ

قِيلَ لَهُ: إذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي التَّطَوُّعِ فَالْفَرْضُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا

وَأَيْضًا فَإِنَّ قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} يَقْتَضِي الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَا مَوْضِعَ يُلْزِمُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ إلَّا فِي الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ.

فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَالصَّلَاةُ نَفْسُهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَكَيْفَ يَدُلُّ عَلَى فَرْضِ الْقِرَاءَةِ ؟

قِيلَ لَهُ: إنَّ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا فَإِنَّ عَلَيْهِ إذَا صَلَّاهَا أَنْ لَا يُصَلِّيَهَا إلَّا بِقِرَاءَةٍ، وَمَتَى دَخَلَ فِيهَا صَارَتْ الْقِرَاءَةُ فَرْضًا، كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءَ شَرَائِطِهَا مِنْ الطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ عَلَيْهِ عَقْدُ السَّلَمِ وَسَائِرُ عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَمَتَى مَا قَصَدَ إلَى عَقْدِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْقِدَهَا إلَّا عَلَى مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عليه السلام: {مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ} وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْدُ السَّلَمِ ؟ وَلَكِنَّهُ مَتَى قَصَدَ إلَى عَقْدِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْقِدَهُ بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ.

 فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا الْمُرَادُ بِقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} الصَّلَاةُ نَفْسُهَا، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا

قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ إلَى الْمَجَازِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ؛ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ لَك مَا ادَّعَيْت كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً عَلَى فَرْضِ الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَبِّرْ عَنْ الصَّلَاةِ بِالْقِرَاءَةِ إلَّا وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِهِ الصَّلَاةَ؛ وَقَالَ: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} وَالْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ، فَعَبَّرَ عَنْ الصَّلَاةِ بِالرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَرْكَانِهَا. آخِرُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ.

سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ

قوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: " لَا تُعْطِ عَطِيَّةً لِتُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهَا ".

وَقَالَ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: " لَا تَمْنُنْ حَسَنَاتِك عَلَى اللّه مُسْتَكْثِرًا لَهَا فَيُنْقِصَك ذَلِكَ عِنْدَ اللّه ".

وَقَالَ آخَرُونَ: " لَا تَمْنُنْ بِمَا أَعْطَاك اللّه مِنْ النُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ مُسْتَكْثِرًا بِهِ الْأَجْرَ مِنْ النَّاسِ ". وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: " لَا تَضْعُفْ فِي عَمَلِك مُسْتَكْثِرًا لِطَاعَتِك ".

 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُرَادًا بِهِ، فَالْوَجْهُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ.

وقوله تعالى: {وَثِيَابَك فَطَهِّرْ} يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنْ النَّجَاسَاتِ لِلصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَهَا لَا يَجِبُ إلَّا لِلصَّلَاةِ.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم {أَنَّهُ رَأَى عَمَّارًا يَغْسِلُ ثَوْبَهُ، فَقَالَ: مِمَّ تَغْسِلُ ثَوْبَك ؟ فَقَالَ: مِنْ نُخَامَةٍ فَقَالَ: إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الدَّمِ وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ}. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: {أَمَرَنِي رَسُولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بِغَسْلِ الْمَنِيِّ مِنْ الثَّوْبِ إذَا كَانَ رَطْبًا}.

وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: " عَمَلُك أَصْلِحْهُ ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: {وَثِيَابَك فَطَهِّرْ} مِنْ الْإِثْمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَمَرَهُ أَنْ لَا يَلْبَسَ ثِيَابَهُ عَلَى عَذِرَةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مَجَازٌ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَلَامِ إلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ؛ وَاحْتَجَّ هَذَا الرَّجُلُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى اللّه عليه وسلّم كَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤْمَرَ بِغَسْلِ ثِيَابِهِ مِنْ الْبَوْلِ وَمَا أَشْبَهَهُ.

 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا كَلَامٌ شَدِيدُ الِاخْتِلَالِ وَالْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ أُمِرَ النَّبِيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم بِهَجْرِ الْأَوْثَانِ بِقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صلّى اللّه عليه وسلّم كَانَ هَاجِرًا لِلْأَوْثَانِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا وَكَانَ مُجْتَنِبًا لِلْآثَامِ وَالْعَذِرَاتِ فِي الْحَالَيْنِ، فَإِذَا جَازَ خِطَابُهُ بِتَرْكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ قَبْلَ ذَلِكَ تَارِكًا لَهَا فَتَطْهِيرُ الثِّيَابِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ مِثْلُهُ؛ وَقَالَ اللّه تَعَالَى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللّه إلَهًا آخَرَ} وَالنَّبِيُّ صلّى اللّه عليه وسلّم لَمْ يَدْعُ مَعَ اللّه إلَهًا قَطُّ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَنَاقُضِ قَوْلِ هَذَا الرَّجُلِ وَفَسَادِهِ.

وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ مِنْ وُضُوءٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الطَّهَارَةُ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ وَشِرْكِهَا وَالْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ، وَقَدْ نَقَضَ بِهَذَا مَا ذَكَرَهُ بَدِيًّا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤْمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنْ النَّجَاسَةِ، أَفَتَرَاهُ ظَنَّ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُوصَى بِتَرْكِ الْأَوْثَانِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَارِكًا لَهَا وَقَدْ أَجَازَ أَنْ يُخَاطَبَ بِتَرْكِهَا، فَكَذَلِكَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ، فَمَا فِي ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ أَمْرَهُ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ لَصَلَاةٍ يَفْرِضُهَا عَلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ}. آخِرُ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ.

﴿ ٠