١٤٤-١٥٠

{ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ...}

١) الصلاة (القبلة)

قرأت فى كتاب المختصر الكبير - فيما رواه أبو إبراهيم المُزَنِىُّ، عن الشافعى (رحمه اللّه) أنه قال، أنزل اللّه عز وجل على رسوله (صلى اللّه عليه وسلم) فَرْضَ القبلة بمكة، فكان يصلى فى ناحية يستقبل منها البيت الحرام، وبيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة، استقبل بيت المقدس، موليا عن البيت الحرام؛ سنة عشر شهرا -: وهو يحب: لو قضى اللّه إِليه باستقبال البيت الحرام.لأن فيه مقام أبيه إبراهيم، وإسماعيل؛ وهو: المثَابة للناس والأمْنُ، وإليه الحج؛ وهو: المأمور به: أن يطهر للطائفين، والعاكفين، والركَّعِ السجود. مع كراهية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لِما وافق اليهود فقال لجبريل عليه السلام: لَوِددْتُ أن ربى صرفنى عن قبلة اليهود إِلى غيرها؛ فأنزل اللّه عز وجل: {وَللّه ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللّه}  - يعنى (واللّه أعلم)، فثمَّ الوجه الذى وجَّهكم اللّه إِليه فقال جبريل عليه السلام للنبى (صلى اللّه عليه وسلم) يا محمد أنا عبد مأمور مثلك، لا أملك شيئاً؛ فسل اللّه. فسأل النبى (صلى اللّه عليه وسلم) ربه: أن يوجهه إلى البيت الحرام؛ وصعِدَ جبريل (عليه السلام) إلى السماء؛ فجعل النبى (صلى اللّه عليه وسلم) يُدِيم طَرْفَهُ إلى السماء: رجاءَ أن يأتيه جبريل (عليه السلام) بما سأل. فأنزل اللّه عز وجل: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} إلى قوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي} ..فىقوله: {وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} ، ي

قال: يجدون - فيما نزل عليهم -: أن النبىّ الأمىّ -: من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام: - يخْرج من الحرم، وتعود قبلته وصلاته مَخْرَجه. يعنى: الحرم.

وفى قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ؛ قيل فى ذلك (واللّه أعلم): لا تستقبلوا المسجد الحرام من المدينة، إلا وأنتم مستدبرون بيت المقدس؛ وإن جئتم من جهة نجد اليمن - فكنتم تستقبلون البيت الحرام، وبيت المقدس -: إستقبلتم المسجد الحرام. لا: أنّ إرادتكم: بيتُ المقدس؛ وإن استقبلتموه باستقبال المسجد الحرام. و لأنتم كذلك: تستقبلون ما دونه ووراءه؛ لا إرادةَ أن يكون قبلةً، ولكنه جهة قبلة..وقيل: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}: فى استقبال قبلة غيركم..وقيل: فى تحويلكم عن قبلتكم التى كنتم عليها، إلى غيرها.وهذا أشبهُ ما قيل فيها (واللّه أعلم) -: لقول اللّه عز جل: {سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا}، إلى قوله تعالى: {مُّسْتَقِيمٍ} . فأعلم اللّه نبيه (صلى اللّه عليه وسلم): أن لا حجةَ عليهم فى التحيول؛ يعنى: لا يتكلم فى ذلك أحد بشىء، يريد الحجة؛ إلا الذين ظلموا منهم. لا: أنَّ لهم حجةً؛ لأن عليهم؛ أن ينصرفوا عن قبلتهم، إلى القبلة التى أُمروا بها.وفى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ} ؛ لقوله إلا لنعلم أن قد علمهم من يتبع الرسول؛ وعِلْمُ اللّه كان - قبل اتباعهم وبعده - سواء..وقد قال المسلمون: فكيف بما مضى من صلاتنا، ومن مضي منا؟. فأعلمهم اللّه (عز وجل): أنَّ صلاتهم إيمان؛ ف

قال: {وَمَا كَانَ ٱللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية .وي

قال: إنَّ اليهود قالت: البِرُّ فى استقبال المغرب، وقالت النصارى: البرُّ فى استقبال المشرق بكل حال. فأنزل اللّه (عز وجل) فيهم:{لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ} . يعنى (واللّه أعلم): وأنتم مشركون؛ لأن البرَّ لا يكتب لمشرك.فلما حوَّلَ اللّه رسوله (صلى اللّه عليه وسلم) إلى المسجد الحرام -: صلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أكثر صلاته، مما يلى الباب: من وجه الكعبة؛ وقد صلى من ورائها والناس معه: مطيفين بالكعبة، مستقبليها كلها، مستدبرين ما وراءها: من المسجد الحرام.

قال: وقوله عزوجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} ، فَشَطرُه وتلقاؤه وجهَتُهُ: واحد فى كلام العرب.. واستدل عليه ببعض ما فى كتاب الرسالة.

أخبرنا أبو عبداللّه الحافظ، نا أبو العباس، أنا الربيع، أنا الشافعى (رحمه اللّه)،

قال: قال اللّه تبارك وتعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} .فَفَرَضَ عليهم حيثُ ما كانوا: أن يولوا وُجُوهَهُم شَطْرَهُ. وشطرُهُ: جهتُهُ؛ فى كلام العرب. إذا قلت: أقصد شطر كذا: معروفٌ أنك تقول: أقصد قَصْدَ عين كذا؛ يعنى: قَصْدَ نفس كذا. وكذلك: تلقاءَهُ وجهته، أى: أستقبل تلقاءه وجهته. وكلها بمعنى واحد: وإن كانت بألفاظ مختلفة قال خُفَافُ بن نُدْبَةَ:

* أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَمْراً رَسُولاً * وَمَا تُغْنِى الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو*

وقالَ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّةَ:

* أَقُولُ لأُمِّ زِنْبَاعٍ: أَقِيمِى * صُدُورَ الْعِيْسِ، شَطْرَ بَنِى تَمِيمِ *

وقال لَقِيطٌ الإيادىُّ:

* وَقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ * هَوْلٌ لَهُ ظُلْمٌ تَغْشَاكُمُ قِطَعَا *

وقال الشاعر:

* إنَّ الْعَسِيبَ بهَا دَاءٌ مُخَامِرُهَا * فَشَطْرَهَا بَصَرُ الْعَيْنَيْنِ مَسْحُورُ *

قال الشافعىّ (رحمه اللّه): يريد: تِلْقَاءَهَا بصرُ العينين ونحوها -: تلقاءَ جهتها.. وهكذا كله - مع غيره من أشعارهم - يُبَيِّنُ:أنَّ شَطر الشيء: قَصْدُ عين الشىء: إذا كان مُعايَنا: فبالصواب؛ وإن كان مُغَيَّباً: فبالاجتهاد والتوجُّه إليه. وذلك: أكثرُ ما يمكنه فيه.وقالَ اللّه تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ} ؛

قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} .

فخلق اللّه لهم العلامَاتِ، وَنَصَبَ لهم المسجد الحرامَ؛ وأمرَهم: أن أن يتوجَّهوا إِليه. وإنما تَوَجُّهُهُمْ إليه: بالعلامات التى خَلَقَ لهم، والعقول التى ركبَهَا فيهم: التى استدلوا بها على معرفة العلامات. وكلُّ هذا: بيانٌ ونعمةٌ منهُ جلَّ ثناؤه.

قال الشافعى: ووجَّهَ اللّه رسوله (صلى اللّه عليه وسلم) - إلى القبلة فى الصلاة - إلى بيت المقدس؛ فكانت القبلةَ التى لا يحلّ - قبل نسخها - استقبالُ غيرها. ثمَّ نسخَ اللّه قبلةَ بيت المقدس، و وَجَّهه إلى البيت. فلا يحلُّ لأحدٍ استقبالُ بيت المقدس أبداً لمكتوبة، ولا يحلّ أن يَستقبلَ غير البيت الحرام. وكلٌّ كانَ حقا فى وقتهِ. وأطالَ الكلامَ فيه.

﴿ ١٤٤