أحكام القرآن

الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن عبد اللّه بن محمد بن احمد المعروف

بابن العربي

الفقيه المالكي

القاضي أحد حفاظ الأندلس من أهل اشبيلية

(ت ٥٤٣ هـ ١١٤٩ م)

_________________________________

مُقَدِّمَة الْكتاب

الْفَاتِحَةِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ

الْبَقَرَةِ وَفِيهَا تِسْعُونَ آيَةً

آلِ عِمْرَانَ فِيهَا سِتّ وَعِشْرُونَ آيَة

النِّسَاءِ فِيهَا إحْدَى وَسِتُّونَ آيَة

الْمَائِدَةِ فِيهَا أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً

الْأَنْعَامِ فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةً

الْأَعْرَافِ فِيهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً

الْأَنْفَالِ فِيهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ آيَةً

التَّوْبَةِ فِيهَا إحْدَى وَخَمْسُونَ آيَةً

يُونُسَ فِيهَا مِنْ الْآيَاتِ سِتٌّ

هُودٍ فِيهَا ثَمَانِي آيَاتٍ

يُوسُفَ فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ آيَةً

الرَّعْدِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ

إبْرَاهِيمَ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ

الْحِجْرِ فِيهَا عَشْرُ آيَاتٍ

النَّحْلِ فِيهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ آيَةً

الْإِسْرَاءِ فِيهَا عِشْرُونَ آيَةً

الْكَهْفِ فِيهَا عِشْرُونَ آيَةً

مَرْيَمَ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ

طَهَ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ

الْأَنْبِيَاء فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الْحَجِّ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ آيَةً

الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً

النُّورِ فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً

الْفُرْقَانِ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً

الشُّعَرَاءِ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ

النَّمْلِ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ آيَةً

الْقَصَصِ فِيهَا ثَمَانِ آيَاتٍ

الْعَنْكَبُوتِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ

الرُّومِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

لُقْمَانَ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ

السَّجْدَةِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الْأَحْزَابِ فِيهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً

سَبَأٍ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

فَاطِرٍ فِيهَا آيَتَانِ

يس فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ

الصَّافَّاتِ فِيهَا آيَتَانِ

ص فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً

الزُّمَرِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ

الْمُؤْمِن فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

فُصِّلَتْ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ

الشُّورَى فِيهَا ثَمَانِ آيَاتٍ

الزُّخْرُف فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ

الدُّخَان فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الْجَاثِيَةِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الْأَحْقَافِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

مُحَمَّدٍ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الْفَتْحِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ

الْحُجُرَاتِ فِيهَا سَبْعُ آيَاتٍ

ق فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ

الذَّارِيَاتِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الطُّورِ فِيهَا آيَتَانِ

النَّجْمِ

الرَّحْمَنِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ

الْوَاقِعَةِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ

الْحَدِيدِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ

الْمُجَادَلَةِ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ

الْحَشْرِ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً

الْمُمْتَحَنَةِ فِيهَا سَبْع آيَات

الصَّفِّ فِيهَا آيَتَانِ

الْجُمُعَةِ فِيهَا آيَتَانِ

الْمُنَافِقُونَ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

التَّغَابُنِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ

الطَّلَاقِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ

التَّحْرِيمِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الْمُلْكِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ

الْقَلَمِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الْمَعَارِجِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

نُوحٍ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الْجِنِّ فِيهَا آيَتَانِ

الْمُزَّمِّلِ فِيهَا تِسْعِ آيَاتٍ

الْمُدَّثِّرِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ

الْقِيَامَةِ فِيهَا أَرْبَع آيَات

الدَّهْرِ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ

الْمُرْسَلَاتِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

النَّبَأِ فِيهَا آيَتَانِ

عَبَسَ فِيهَا آيَتَانِ

الْمُطَفِّفِينَ فِيهَا آيَتَانِ

الِانْشِقَاقِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ

الْبُرُوجِ فِيهَا آيَتَانِ

الطَّارِقِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الْأَعْلَى فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ

الْغَاشِيَةِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ

الْفَجْرِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ

الْبَلَدِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الشَّمْسِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ

اللَّيْلِ فِيهَا آيَتَانِ

الضُّحَى فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الِانْشِرَاحِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

التِّينِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ

الْعَلَقِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ

الْقَدْرِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الْبَيِّنَةِ فِيهَا آيَتَانِ

الزَّلْزَلَةِ

الْعَادِيَاتِ

التَّكَاثُرِ فِيهَا آيَتَانِ

الْعَصْر فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ

الْفِيلِ

قُرَيْشٍ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ

الْمَاعُونِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ

الْكَوْثَرِ فِيهَا آيَتَانِ

النَّصْرِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ

تَبَّتْ

الْإِخْلَاصِ

الْفَلَقِ وَالنَّاسِ

المقدمة

مُقَدِّمَةُ الطَّبَرِيِّ شَيْخِ الدِّينِ فَجَاءَ فِيهِ بِالْعَجَبِ الْعُجَابِ، وَنَثَرَ فِيهِ أَلْبَابَ الْأَلْبَابِ، وَفَتَحَ فِيهِ لِكُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ إلَى مَعَارِفِهِ الْبَابَ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ غَرَفَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ إنَائِهِ، وَمَا نَقَصَتْ قَطْرَةٌ مِنْ مَائِهِ، وَأَعْظَمُ مَنْ انْتَقَى مِنْهُ الْأَحْكَامَ بَصِيرَةً: الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ، فَاسْتَخْرَجَ دُرَرَهَا، وَاسْتَحْلَبَ دِرَرَهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ غَيَّرَ أَسَانِيدَهَا لَقَدْ رَبَطَ مَعَاقِدَهَا، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَهُمَا مَنْ يَلْحَقُ بِهِمَا. وَلَمَّا مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِبْصَارِ فِي اسْتِثَارَةِ الْعُلُومِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ حَسْبَ مَا مَهَّدَتْهُ لَنَا الْمَشْيَخَةُ الَّذِينَ لَقِينَا، نَظَرْنَاهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَطْرَحِ، ثُمَّ عَرَضْنَاهَا عَلَى مَا جَلَبَهُ الْعُلَمَاءُ، وَسَبَرْنَاهَا بِعِيَارِ الْأَشْيَاخِ. فَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّظَرُ أَثْبَتْنَاهُ، وَمَا تَعَارَضَ فِيهِ شَجَرْنَاهُ، وَشَحَذْنَاهُ حَتَّى خَلُصَ نُضَارُهُ وَوَرِقَ عِرَارُهُ. فَنَذْكُرُ الْآيَةَ، ثُمَّ نَعْطِفُ عَلَى كَلِمَاتِهَا بَلْ حُرُوفِهَا، فَنَأْخُذُ بِمَعْرِفَتِهَا مُفْرَدَةً، ثُمَّ نُرَكِّبُهَا عَلَى أَخَوَاتِهَا مُضَافَةً، وَنَحْفَظُ فِي ذَلِكَ قِسْمَ الْبَلَاغَةِ، وَنَتَحَرَّزُ عَنْ الْمُنَاقَضَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمُعَارَضَةِ، وَنَحْتَاطُ عَلَى جَانِبِ اللُّغَةِ، وَنُقَابِلُهَا فِي الْقُرْآنِ بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَنَتَحَرَّى وَجْهَ الْجَمِيعِ؛ إذْ الْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -  لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ، وَنُعَقِّبُ عَلَى ذَلِكَ بِتَوَابِعَ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِهَا مِنْهَا، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ الْقَوْلُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْبَابِ فَنُحِيلَ عَلَيْهِ فِي مَوْضُوعِهِ مُجَانِبِينَ لِلتَّقْصِيرِ وَالْإِكْثَارِ، وَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ نَسْتَهْدِي، فَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ.

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

[فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ]

١

الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

المسألة الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَتْ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِآيَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ اسْتِفْتَاحٌ لِيُعْلَمَ بِهَا مُبْتَدَؤُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، قَوْلًا وَاحِدًا؛ وَهَلْ تَكُونُ آيَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ؟ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ مِنْ قِسْمِ التَّوْحِيدِ وَالنَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَطَرِيقِ إثْبَاتِهِ قُرْآنًا، وَوَجْهُ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَأَشَرْنَا إلَى بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَوَدِدْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ المسألة، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ لَهُ فَفِيهَا إشْكَالٌ عَظِيمٌ. وَنَرْجُو أَنَّ النَّاظِرَ فِي كَلَامِنَا فِيهَا سَيَمْحِي عَنْ قَلْبِهِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ سَدَلَ مِنْ إشْكَالٍ بِهِ. فَائِدَةُ الْخِلَافِ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ: إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، فَتَدْخُلُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ، أَوْ فِي الِاسْتِحْبَابِ كَذَلِكَ. وَيَكْفِيَك أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَالْقُرْآنُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، فَإِنَّ إنْكَارَ الْقُرْآنِ كُفْرٌ.

فَإِنْ قِيلَ: وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قُرْآنًا لَكَانَ مُدْخِلُهَا فِي الْقُرْآنِ كَافِرًا؛

قُلْنَا: الِاخْتِلَافُ فِيهَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ آيَةً، وَيَمْنَعُ مِنْ تَكْفِيرِ مَنْ يَعُدُّهَا مِنْ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ الْكُفْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي أَبْوَابِ الْعَقَائِدِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ؟

قُلْنَا: لَا تَجِبُ، فَإِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى {أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -  وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْرَأُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَنَحْوَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ. فَإِنْ قِيلَ: الصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ شَيْئًا قَبْلَ الْفَاتِحَةِ. قُلْنَا: وَهَذَا يَكُونُ تَأْوِيلًا لَا يَلِيقُ بِالشَّافِعِيِّ لِعَظِيمِ فِقْهِهِ، وَأَنَسٍ وَابْنِ مُغَفَّلٍ إنَّمَا قَالَا هَذَا رَدًّا عَلَى مَنْ يَرَى قِرَاءَةَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ قِرَاءَتَهَا، وَقَدْ تَوَلَّى الدَّارَقُطْنِيُّ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي جُزْءٍ صَحَّحَهُ.

قُلْنَا: لَسْنَا نُنْكِرُ الرِّوَايَةَ، لَكِنَّ مَذْهَبَنَا يَتَرَجَّحُ بِأَنَّ أَحَادِيثَنَا؛ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَإِنَّهَا أَصَحُّ، وَبِوَجْهٍ عَظِيمٍ وَهُوَ الْمَعْقُولُ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -  بِالْمَدِينَةِ انْقَضَتْ عَلَيْهِ الْعُصُورُ، وَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْأَزْمِنَةُ مِنْ لَدُنْ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -  إلَى زَمَانِ مَالِكٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ  قَطُّ  فِيهِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ. بَيْدَ أَنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَحَبُّوا قِرَاءَتَهَا فِي النَّفْلِ، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي قِرَاءَتِهَا.

المسألة الثَّانِيَةُ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -  أَنَّهُ قَالَ:

{قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ الْعَبْدُ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يَقُولُ اللَّهُ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ}. فَقَدْ تَوَلَّى سُبْحَانَهُ قِسْمَةَ الْقُرْآنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَهَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ، مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -  أَنَّهُ قَالَ:

{لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ}. وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:

{مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا غَيْرَ تَمَامٍ}.