٧

{صراط الذين } اسم موصول والأفصح كونه بالياء في أحواله الثلاثة وبعض العرب يجعله بالواو في حالة الرفع واستعماله بحذف النون جائز وخص بعضهم ذلك بالضرورة إلا أن كان لغير تخصيص فيجوز في غيرها وسمع حذف أل منه فقالوا : الذين وفيما تعرف به خلاف ذكر في النحو ويخص العقلاء بخلاف الذي فإنه ينطلق على ذي العلم وغيره .

{أنعمت } النعمة : لين العيش وخفضه ولذلك قيل للجنوب النعامي للين هبوبها وسميت النعامة للين سهمها : نعم إذا كان في نعمة وأنعمت عينه أي سررتها وأنعم عليه بالغ في التفضيل عليه أي والهمزة في أنعم بجعل الشيء صاحب ما صيغ منه إلا أنه ضمن معنى التفضل فعدى بعلى وأصله التعدية بنفسه . أنعمته أي جعلته صاحب نعمة وهذا أحد المعاني التي لأفعل وهي أربعة وعشرون معنى هذا أحدها . والتعدية والكثرة والصيرورة والإغاثة والتعريض والسلب وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه وبلوغ عدد أو زمان أو مكان وموافقة ثلاثي وإغناء عنه ومطاوعة فعل وفعل والهجوم ونفي الغريزة والتسمية والدعاء والاستحقاق والوصول والاستقبال والمجيء بالشيء والتفرقة مثل ذلك أدنيته وأعجبني المكان وأغد البعير وأحليت فلانا وأقبلت فلانا واشتكيت الرجل وأحمدت فلانا وأعشرت الدراهم وأصبحنا وأشأم القوم وأحزنه بمعنى حزنه وأرقل وأقشع السحاب مطاوع قشع الريح السحاب وأفطر مطاوع فطرته وأطلعت عليهم وأستريح وأخطيته سميته مخطئا وأسقيته وأحصد الزرع وأغفلته وصلت غفلتي اليه وأففته استقبلته بأف هكذا مثل هذا . وذكر بعضهم أن أفعل فعل ومثل الاستقبال أيضا بقولهم : أسقيته أي استقبلته بقولك سقيا لك وكثرت جئت بالكثير وأشرقت الشمس أضاءت وشرقت طلعت . التاء المتصلة بأنعم ضمير المخاطب المذكر المفرد وهي حرف في أنت والضميران فهو مركب .

{عليهم } على :

حرف جر عند الأكثرين إلا إذا جرت بمن أو كانت في نحو هون عليك . ومذهب سيبويه أنها إذا جرت اسم ظرف ولذلك لم يعدها في حروف الجر ووافقه جماعة من متأخري أصحابنا ومعناها الاستعلاء حقيقة أو مجازا وزيد أن تكون بمعنى عن وبمعنى الباء وبمعنى في وللمصاحبة وللتعليل وبمعنى من وزائدة مثل ذلك { كل من عليها فان الرحمن }{ فضلنا بعضهم على بعض البقرة } بعد على كذا حقيق علي أن لا أقول على الأعراف {على ملك سليمان} البقرة {وأتى المال على حبه البقرة }{ ولتكبروا اللّه على ما هداكم البقرة }{ حافظون إلا على أزواجهم المعارج} أبى اللّه إلا أن سرحة مالك

على كل أفنان العضاه تروق

أي تروق كل أفنان العضاة . هم ضمير جمع غائب مذكر عاقل ويكون في موضع رفع ونصب وجر .

وحكى اللغويون في عليهم عشر لغات ضم الهاء وإسكان الميم وهي قراة حمزة . وكسرها وإسكان الميم وهي قراءة الجمهور . وكسر الهاء والميم وياء بعدها وهي قراءة الحسن . وزاد ابن مجاهد أنها قراءة عمر بن فائد وكذلك بغير ياء وهي قراءة عمرو بن فائد . وكسر الهاء وضم الميم وواو بعدها وهي قراءة ابن كثير و قالون بخلاف عنه . وكسر الهاء وضم الميم بغير واو وضم الهاء والميم وواو بعدها وهي قراءة الأعرج و الخفاف

عن أبي عمرو . وكذلك بدون واو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها . كذلك بغير ياء . وقرىء بهما وتوضيح هذه القراءآت بالخط والشكل : عليهم عليهم عليهموا عليهم عليهمي عليهم عليهم عليهمي عليهم عليهموا . وملخصها ضم الهاء مع سكون الميم أو ضمها بإشباع أو دونه أو كسرها بإشباع أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم أو كسرها بإشباع أو دونه أو ضمها بإشباع أو دونه وتوجيه هذه القراءآت ذكر في النحو . اهدنا صورته صورة الأمر ومعناه الطلب والرغبة وقد ذكر الأصوليون لنحو هذه الصيغة خمسة عشر محملا وأصل هذه الصيغة أن تدل على الطلب لا على فور ولا تكرار ولا تحتم وهل معنى اهدنا ارشدنا أو وفقنا أو قدمنا أو ألهمنا أو بين لنا أو ثبتنا ؟ أقوال أكثرها عن ابن عباس وآخرها عن علي وأبي .

وقرأ ثابت البناني بصرنا الصراط ومعنى الصراط القرآن قاله علي وابن عباس : وذكر المهدوي أنه روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه فسره بكتاب اللّه أو الإيمان وتوابعه أو الإسلام وشرائعه أو السبيل المعتدل أو طريق النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر قاله أبو العالية و الحسن أو طريق الحج قاله فضيل بن عياض أو السنن قاله عثمان أو طريق الجنة قاله سعيد بن جبير أو طريق السنة والجماعة قاله القشيري أو طريق الخوف والرجاء قاله الترمذي أو جسر جهنم قاله عمرو بن عبيد .

وروي عن المتصوفة فيقوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } أقوال منها : قول بعضهم :{ اهدنا الصراط المستقيم } بالغيبوبة عن الصراط لئلا يكون مربوطا بالصراط وقول الجنيد أن سؤال الهداية عند

الحيرة من أشهار الصفات الأزلية فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية لئلا يستغرقوا في الصفات الأزلية . وهذه الأقوال ينبو عنها اللفظ ولهم فيما يذكرون ذوق وإدراك لم نصل نحن إليه بعد . وقد شحنت التفاسير بأقوالهم ونحن نلم بشيء منها لئلا يظن أنا إنما تركنا ذكرها لكوننا لم نطلع عليها . وقد رد الفخر الرازي على من قال إن الصراط المستقيم هو القرآن أو الإسلام وشرائعه قال : لأن المراد صراط الذين أنعمت عليهم من المتقدمين ولم يكن لهم القرآن ولا الإسلام يعني بالإسلام هذه الملة الإسلامية المختصة بتكاليف لم تكن تقدمتها وهذه الرد لا يتأتى له إلا إذا صح أن الذين أنعم اللّه عليهم هم متقدمون وستأتي الأقاويل في تفسير الذين أنعم اللّه عليهم واتصال نا باهد مناسب لنعبد ونستعين لأنه لما أخبر المتكلم أنه هو ومن معه يعبدون اللّه ويستعينونه سأل له ولهم الهداية إلى الطريق الواضح لأنهم بالهداية إليه تصح منهم العبادة . ألا ترى أن من لم يهتد إلى السبيل الموصلة لمقصوده لا يصح له بلوغ مقصوده ؟

وقرأ الحسن والضحاك : صراطا مستقيما دون تعريف .

وقرأ جعفر الصادق : صراط مستقيم بالإضافة أي الدين المستقيم . فعلى قراءة الحسن و الضحاك يكون صراط الذين بدل معرفة من نكره كقوله تعالى : { وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم صراط اللّه الشورى } وعلى قراءة الصادق وقراءآت الجمهور تكون بدل معرفة من معرفة صراط الذين بدل شيء من شيء وهما بعين واحدة وجيء بها للبيان لأنه لما ذكر قبل { اهدنا الصراط المستقيم } كان فيه بعض إبهام فعينه بقوله :{ صراط الذين } ليكون المسؤول الهداية إليه قد جرى ذكره مرتين وصار بذلك البدل فيه حوالة على طريق من أنعم اللّه عليهم فيكون ذلك أثبت وأوكد وهذه هي فائدة نحو هذا البدل ولأنه على تكرار العامل فيصير في التقدير جملتين ولا يخفى ما في الجملتين من التأكيد فكأنهم كرروا طلب الهداية .

ومن غريب النقول أن الصراط الثاني ليس الأول بل هو غيره وكأنه قرىء فيه حرف العطف وفي تعيين ذلك اختلاف . قيل هو العلم باللّه والفهم عنه قاله جعفر بن محمد

وقيل التزام الفرائض واتباع السنن

وقيل هو موافقه الباطن للظاهر في إسباغ النعمة .

قال تعالى :{ وأسبغ عليكم نعمت ظاهرة وباطنة لقمان }

وقرأ : صراط من أنعمت عليهم ابن مسعود و عمر و ابن الزبير وزيد بن علي . والمنعم عليهم هنا الأنبياء أو الملائكة أو أمة موسى وعيسى الذين لم يغيروا أو النبي صلى اللّه عليه وسلم أو النبيون والصديقون والشهداء والصالحون أو المؤمنون قاله ابن عباس . أو الأنبياء والمؤمنون أو المسلمون قاله وكيع أقوال وعزا كثيرا منها إلى قائلها ابن عطية فقال : قال ابن عباس : والجمهور أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين انتزعوا ذلك من آية النساء .

وقال ابن عباس أيضا : هم المؤمنون . وقال الحسن : أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقالت فرقة : مؤمنو بني إسرائيل .

وقال ابن عباس : أصحاب موسى قبل أن يبدلوا . وقال قتادة : الأنبياء خاصة . وقال أبو العالية : محمد صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر انتهى . ملخصا ولم يقيد الأنعام ليعم جميع الأنعام أعني عوم البدل .

وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة

وقيل بأن نجاهم من الهلكة

وقيل بالهداية واتباع

الرسول وروي عن المتصوفة تقييدات كثيرة غير هذه وليس في اللفظ ما يدل على تعيين قيد . واختلف هل للّه نعمة على الكافر ؟ فأثبتها المعتزلة ونفاها غيرهم . وموضع عليهم نصب وكذا كل حرف جر تعلق بفعل أو ما جرى مجراه غير مبني للمفعول . وبناء أنعمت للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية وتحصيلها أي طلبنا منك الهداية إذ سبق إنعامك فمن إنعامك إجابة سؤالنا ورغبتنا كمثل أن تسأل من شخص قضاء حاجة وتذكره بأن من عادته الإحسان بقضاء الحوائج فيكون ذلك آكد في اقتضائها وأدعى إلى قضائها . وانقلاب الفاعل مع المضمر هي اللغة الشهرى ويجوز إقرارها معه على لغة ومضمون هذه الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم اللّه عليهم لأن من صدر منه حمد اللّه وأخبر بأنه يعبده ويستعينه فقد حصلت له الهداية لكن يسأل دوامها واستمرارها.

{غير } مفرد مذكر دائما وإذا أريد به المؤنث جاز تذكير الفعل حملا على اللفظ وتأنيثه حملا على المعنى ومدلوله المخالفة بوجه ما وأصله الوصف ويستثنى به ويلزم الإضافة لفظا أو معنى وإدخال أل عليه خطأ ولا يتعرف وإن أضيف إلى معرفة . ومذهب ابن السراج أنه إذا كان المغاير واحدا تعرف بإضافته إليه وتقدم عن سيبويه أن كل ما إضافته غير محضة قد يقصد بها التعريف فتصير محضة فتتعرف إذ ذاك غير بما تضاف إليه إذا كان معرفة وتقرير هذا كله في كتب النحو . وزعم البيانيون أن غير أو مثلا في باب الإسناد إليهما مما يكاد يلزم تقديمه قالوا نحو قولك غيرك يخشى ظلمه ومثلك يكون للمكرمات ونحو ذلك مما لا يقصد فيه بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه ولكنهم يعنون أن كل من كان مثله في الصفة كان من مقتضى القياس وموجب العرف أن يفعل ما ذكر وقوله :

غيري بأكثر هذا الناس ينخدع

غرضه أنه ليس ممن ينخدع ويغتر وهذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدما نحو : يكون للمكرمات مثلك وينخدع بأكثر هذا الناس غيري فأنت ترى الكلام مقلوبا على جهته .

{المغضوب عليهم } الغضب : تغير الطبع لمكروه وقد يطلق على الإعراض لأنه من ثمرته . لا حرف يكون للنفي وللطلب وزائدا ولا يكون إسما خلافا للكوفيين .{ ولا الضالين } والضلال : الهلاك والخفاء ضل اللبن في الماء

وقيل أصله الغيبوبة في كتاب لا يضل ربي طه وضللت الشيء جهلت المكان الذي وضعته فيه وأضللت الشيء ضيعته وأضل أعمالهم محمد وضل غفل ونسي وأنا من الضالين الشعراء { أن تضل إحداهما البقرة } والضلال سلوك سبيل غير القصد ضل عن الطريق سلك غير جادتها والضلال الحيرة والتردد ومنه قيل لحجر أملس يردده الماء في الوادي ضلضلة وقد فسر الضلال في القرآن بعدم العلم بتفصيل الأمور وبالمحبة وسيأتي ذلك في مواضعه والجر في غير قراءة الجمهور . وروى الخليل عن ابن كثير النصب وهي قراءة عمر وابن مسعود و علي و عبد اللّه بن الزبير . فالجر على البدل من الذين عن أبي علي أو من الضمير في عليهم وكلاهما ضعيف لأن غير أصل وضعه الوصف والبدل بالوصف ضعيف أو على النعت عن سيبويه ويكون إذ ذاك غير تعرفت بما أضيفت إليه إذ هو معرفة على ما نقله سيبويه في أن كل ما أضافته غير محضة قد تتمحض فيتعرف إلا في الصفة المشبهة أو على ما ذهب إليه ابن السراج إذ وقعت غير على مخصوص لا شائع أو على أن الذين أريد بهم الجنس لا قوم بأعيانهم . قالوا كما وصفوا المعرف بال الجنسية بالجملة

وهذا هدم لما اعتزموا عليه من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ولا أختار هذا المذهب وتقرير فساده في النحو والنصب على الحال من الضمير في عليهم وهو الوجه أو من الذين قاله المهدوي وغيره وهو خطأ لأن الحال من المضاف إليه الذي لا موضع له لا يجوز أو على الاستثناء قاله الأخفش و الزجاج وغيرهما وهو استثناء منقطع إذ لم يتناوله اللفظ السابق ومنعه الفراء من أجل لا في قوله { ولا الضالين } ولم يسوغ في النصب غير الحال قال لأن لا تزاد إلا إذا تقدم النفي نحو قول الشاعر : ما كان يرضى رسول اللّه فعلهم

والطيبان أبو بكر ولا عمر

ومن ذهب إلى الاستثناء جعل لا صلة أي زائدة مثلها في قوله تعالى :{ ما منعك أن لا تسجد الأعراف } وقول الراجز :

فما ألوم البيض ألا تسخرا

وقول الأحوص : ويلجئني في اللّهو أن لا أحبه

واللّهو داع دائب غير غافل

قال الطبري أي أن تسخر وأن أحبه وقال غيره معناه إرادة أن لا أحبه فلا فيه متمكنة يعني في كونها نافية لا زائدة واستدلوا أيضا على زيادتها ببيت أنشده المفسرون وهو : أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

وزعموا أن لا زائدة والبخل مفعول بأبي أي أبى جوده البخل ولا دليل في ذلك بل الأظهر أن لا مفعول بأبي وأن لفظة لا لا تتعلق بها وصار إسنادا لفظيا ولذلك قال : واستعجلت به نعم فجعل نعم فاعلة بقوله استعجلت وهو إسناد لفظي والبخل بدل من لا أو مفعول من أجله

وقيل انتصب غير بإضمار أعني وعزى إلى الخليل وهذا تقدير سهل وعليهم في موضع رفع بالمغضوب على أنه مفعول لم يسم فاعله وفي إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل إذا حذف خلاف ذكر في النحو . ومن دقائق مسائلة مسألة يغني فيها عن خبر المبتدأ ذكرت في النحو و لافي قوله : { ولا الضالين } لتأكيد معنى النفي لأن غير فيه النفي كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين وعين دخولها العطف على قوله المغضوب عليهم لمناسبة غير ولئلا يتوهم بتركها عطف الضالين على الذين .

وقرأ عمر وأبي وغير الضالين وروي عنهما في الراء في الحرفين النصب والخفض ويدل على أن المغضوب عليهم هم غير الضالين والتأكيد فيها أبعد والتأكيد في لا أقرب ولتقارب معنى غير من معنى لا أتى الزمخشري بمسألة ليبين بها تقاربهما فقال : وتقول أنا زيدا غير ضارب مع امتناع قولك أنا زيدا مثل ضارب لأنه بمنزلة قولك أنا زيدا لا ضارب يريد أن العامل إذا كان مجرورا بالإضافة فمعموله لا يجوز أن يتقدم عليه ولا على المضاف لكنهم تسمحوا في العامل المضاف إليه غير فأجازوا تقديم معموله على غير إجراء لغير مجرى لا فكما أنه لا يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها فكذلك غير . وأوردها الزمخشري على أنها مسألة مقررة مفروغ منها ليقوي بها التناسب بين غير ولا إذ لم يذكر فيها خلافا . وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري مذهب ضعيف جدا بناه على جواز أنا زيدا لا ضارب وفي تقديم معمول ما بعد لا عليها ثلاثة مذاهب ذكرت في النحو وكون اللفظ يقارب اللفظ في المعنى لا يقضى له بأن يجري أحكامه عليه ولا يثبت تركيب إلا بسماع من العرب ولم يسمع أنا زيدا غير ضارب وقد ذكر أصحابنا قول من ذهب إلى جواز ذلك وردوه وقدر بعضهم في غير المغضوب محذوفا قال التقدير غير صراط المغضوب عليهم وأطلق هذا

التقدير فلم يقيده بجر غير ولا نصبه ، وهذا لا يتأتى إلا بنصب غير ، فيكون صفة لقوله الصراط ، وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف ، والأصل العكس ، أو صفة للبدل ، وهو صراط الذين ، أو بدلاً من الصراط ، أو من صراط الذين ، وفيه تكرار الإبدال ، وهي مسألة لم أقف على كلام أحد فيها ، إلا أنهم ذكروا ذلك في بدل النداء ، أو حالاً من الصراط الأول أو الثاني .

وقرأ أيوب السختياني : ولا الضألين ، بإبدال الألف همزة فراراً من التقاء الساكنين .

وحكى أبو زيد دأبة وشأبة في كتاب الهمز ، وجاءت منه ألفاظ ، ومع ذلك فلا ينقاس هذا الإبدال لأنه لم يكثر كثرة توجب القياس ، نص على أنه لا ينقاس النحويون ، قال أبو زيد : سمعت عمرو بن عبيد يقرأ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن ، فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة . قال أبو الفتح : وعلى هذه اللغة قول كثير :

إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت

وقول الآخر : وللأرض إما سودها فتجلت

بياضاً

وإما بيضها فادهأمت

وعلى ما قال أبو الفتح إنها لغة ، ينبغي أن ينقاس ذلك ، وجعل الإنعام في صلة الذين ، والغضب في صلة أل ، لأن صلة الذين تكون فعلاً فيتعين زمانه ، وصلة أل تكون اسماً فينبهم زمانه ، والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام اللّه عليه وتحقق ذلك ، وكذلك أتى بالفعل ماضياً وأتى بالإسم في صلة أن ليشمل سائر الأزمان ، وبناه للمفعول ، لأن من طلب منه الهداية ونسب الأنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه ، لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان ، فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام ، وليكون المغضوب توطئة لختم السورة بالضالين لعطف موصول على موصول مثله لتوافق آخر الآي . والمراد بالإنعام ، الإنعام الديني ، والمغضوب عليهم والضالين عام في كل من غضب عليه وضل .

وقيل المغضوب عليهم : اليهود ، والضالّون النصارى ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وابن زيد . وروي هذا عن عدي بن حاتم ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإذا صح هذا وجب المصير إليه ،

وقيل اليهود والمشركون ،

وقيل غير ذلك . وقد روي في كتب التفسير في الغضب والضلال قيود من المتصوفة لا يدل اللفظ عليها ، كقول بعضهم غير المغضوب عليهم ، بترك حسن الأدب في أوقات القيام بخدمته ، ولا الضالين ، برؤية ذلك ،

وقيل غير هذا . والغضب من اللّه تعالى إرادة الانتقام من العاصي لأنه عالم بالعبد قبل خلقه وقبل صدور المعصية منه ، فيكون من صفات الذات أو إحلال العقوبة به ، فيكون من صفات الأفعال ، وقدم الغضب على الضلال ، وإن كان الغضب من نتيجة الضلال ضل عن الحق فغضب عليه لمجاورة الأنعام ، ومناسبة ذكره قرينة ، لأن الإنعام يقابل بالانتقام ، ولا يقابل الضلال الإنعام فالإنعام إيصال الخير إلى المنعم عليه ، والانتقام إيصال الشر إلى المغضوب عليه ، فبينهما تطابق معنوي ، وفيه أيضاً تناسب التسجيع ، لأن قوله ولا الضالين ، تمام السورة ، فناسب أواخر الآي ، ولو تأخر الغضب ، ومتعلقه لما ناسب أواخر الآي . وكان العطف بالواو الجامعة التي لا دلالة فيها على التقديم والتأخير لحصول هذا المعنى من مغايرة جمع الوصفين ، الغضب عليه ، والضلال لمن أنعم اللّه عليه ، وإن فسر اليهود والنصارى . فالتقديم إما للزمان أو لشدة العداوة ، لأن اليهود أقدم وأشد عداوة من النصارى .

وقد أنجر في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلا من كان توغل في فهم لسان العرب ، ورزق الحظ الوافر من علم الأدب ، وكان عالماً بافتنان الكلام ، قادراً على إنشاء النثار البديع والنظام .

وأما من لا اطلاع له على كلام العرب ، وجسا طبعه حتى عن الفقرة الواحدة من الأدب ، فسمعه عن هذا الفن مسدود ، وذهنه بمعزل عن هذا المقصود . قالوا : وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع : .

النوع

الأول : حسن الافتتاح وبراعة المطلع ، فإن كان أولها بسم اللّه الرحمن الرحيم ، على قول من عدها منها ، فناهيك بذلك حسناً إذ كان مطلعها ، مفتتحاً باسم اللّه ، وإن كان أولها الحمد للّه ، فحمد اللّه والثناء عليه بما هو أهله ، ووصفه بماله من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام ، وقدم بين يدي النثر والنظام ، وقد تكرر الافتتاح بالحمد في كثير من السور ، والمطالع تنقسم إلى حسن وقبيح ، والحسن إلى ظاهر وخفي على ما قسم في علم البديع . النوع

الثاني : المبالغة في الثناء ، وذلك لعموم أل في الحمد على التفسير الذي مر . النوع

الثالث : تلوين الخطاب على قول بعضهم ، فإنه ذكر أن الحمد للّه صيغته صيغة الخبر ، ومعناه الأمر ،كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ومعناه النهي . النوع

الرابع : الاختصاص باللام التي في للّه ، إذ دلت على أن جميع المحامد مختصة به ، إذ هو مستحق لها وبالإضافة في ملك يوم الدين لزوال الأملاك والممالك عن سواه في ذلك اليوم ، وتفرده فيه بالملك والملك ،

قال تعالى :{ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } ، ولأنه لا مجازى في ذلك اليوم على الأعمال سواه . النوع

الخامس : الحذف ، وهو على قراءة من نصب الحمد ظاهر ، وتقدم ، هل يقدر من لفظ الحمد أو من غير لفظه ؟ قال بعضهم ؟ ومنه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد ، وهو الذي يقدر بكائن أو مستقر ، قال : ومنه حذف صراط من قوله غير المغضوب ، التقدير غير صراط المغضوب عليهم ، وغير صراط الضالين ، وحذف سورة إن قدرنا العامل في الحمد إذا نصبناه ، إذكروا أو اقرؤا ، فتقديره اقرؤوا سورة الحمد ،

وأما من قيد الرحمن ، والرحيم ، ونعبد ، ونستعين ، وأنعمت ، والمغضوب عليهم ، والضالين ، فيكون عنده في سورة محذوفات كثيرة .

النوع

السادس : التقديم والتأخير ، وهو في قوله نعبد ، ونستعين ، والمغضوب عليهم ، والضالين ، وتقدم الكلام على ذلك . النوع

السابع : التفسير ، ويسمى التصريح بعد الإبهام ، وذلك في بدل صراط الذين من الصراط المستقيم . النوع

الثامن : الالتفات ، وهو في إياك نعبد وإياك نستعين ، اهدنا . النوع

التاسع : طلب الشيء ، وليس المراد حصوله بل دوامه ، وذلك في اهدنا . النوع

العاشر : سرد الصفات لبيان خصوصية في الموصوف أو مدح أو ذم . النوع الحادي عشر : التسجيع ، وفي هذه السورة من التسجيع المتوازي ، وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والروي ، قوله تعالى : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ،

وقوله تعالى :{ نَسْتَعِينُ وَلاَ الضَّالّينَ } ، انقضى كلامنا على تفسير الفاتحة .

وكره الحسن أن يقال لها أم الكتاب ، وكره ابن سيرين أن يقال لها أم القرآن ، وجوزه الجمهور . والإجماع على أنها سبع آيات إلا ما شذ فيه من لا يعتبر خلافه . عند الجمهور المكيون والكوفيون { بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } آية ، ولم يعدوا { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، وسائر العادين ، ومنهم كثير من قراء مكة والكوفة لم يعدوها آية ، وعدوا { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية ، وشذ عمرو بن عبيد ، فجعل آية { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، فهي على عدة ثمان آيات ، وشذ حسين الجعفي ، فزعم أنها ست آيات .

قال ابن عطية : وقول اللّه تعالى :{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي } هو الفصل في ذلك . ولم يختلفوا في أن البسملة في أول كل سورة ليست آية ، وشذ ابن المبارك فقال : إنها آية في كل سورة ، ولا أدري ما الملحوظ في مقدار الآية حتى نعرف الآية من غير الآية .

وذكر المفسرون عدد حروف الفاتحة ، وذكروا سبب نزولها ما لا يعد سبب نزول . وذكروا أحاديث في فضل بسم اللّه الرحمن الرحيم ، اللّه أعلم بها ، وذكروا للتسمية أيضاً نزول ما لا يعد سبباً ، وذكروا أن الفاتحة تسمى الحمد ، وفاتحة الكتاب ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني ، والواقية ، والكافية ، والشفاء ، والشافية ، والرقية ، والكنز ، والأساس ، والنور ، وسورة الصلاة ، وسورة تعليم المسألة ، وسورة المناجاة ، وسورة التفويض . وذكروا أن ما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة ، والكلام على هذا كله من باب التذييلات ، لا أن ذلك من علم التفسير إلا ما كان من تعيين مبهم أو سبب نزول أو نسخ بما صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فذلك يضطر إليه علم التفسير . وكذلك تكلموا على آمين ولغاتها ، والاختلاف في مدلولها ، وحكمها في الصلاة ، وليست من القرآن ، فلذلك أضربنا عن الكلام عليها صفحاً ، كما تركنا الكلام على الاستعاذة في أول الكتاب ، وقد أطال المفسرون كتبهم بأشياء خارجة عن علم التفسير حذفناها من كتابنا هذا ، إذا كان مقصودنا ما أشرنا إليه في الخطبة ، واللّه تعالى أعلم .

﴿ ٧