٢{ذالِكَ } ، ذا : إسم إشارة ثنائي الوضع لفظاً ، ثلاثي الأصل ، لا أحادي الوضع ، وألفه ليست زائدة ، خلافاً للكوفيين والسهيلي ، بل ألفه منقبلة عن ياء ، ولامه خلافاً لبعض البصريين في زعمه أنها منقلبة من واو من باب طويت وهو مبني . ويقال فيه : ذا وذائه وهو يدل على القرب ، فإذا دخلت الكاف فقلت : ذاك دل على التوسط ، فإذا أدخلت اللام فقلت : ذلك دل على البعد ، وبعض النحويين رتبة المشار إليه عنده قرب وبعد فمتى كان مجرداً من اللام والكاف كان للقرب ، ومتى كانتا فيه أو إحداهما كان للبعد ، والكاف حرف خطاب تبين أحوال المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث كما تبينها إذا كان ضميراً ، وقالوا : ألك في معنى ذلك ؟ ولاسم الإشارة أحكام ذكرت في النحو .{ الْكِتَابِ } ، يطلق بإزاء معان العقد المعروف بين العبد وسيده على مال مؤجل منجم للعتق { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، وعلى الفرض { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُواْ اللّه قِيَاماً وَقُعُوداً } ، كتب عليكم القصاص }{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ } وعلى الحكم ، قاله الجوهري لأقضين بينكما بكتاب اللّه كتاب اللّه أحق وعلى القدر : يا ابنة عمي كتاب اللّه أخرجني عنكم وهل أمنعن اللّه ما فعلا أي قدر اللّه وعلى مصدر كتبت تقول : كتبت كتاباً وكتباً ، ومنه كتاب اللّه عليكم ، وعلى المكتوب كالحساب بمعنى المحسوب ، قال : بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجاج يتلى كتابها {لا } نافية ، والنفي أحد أقسامها ، وقد تقدمت .{ رَيْبَ } ، الريب : الشك بتهمة راب حقق التهمة قال : ليس في الحق يا أمية ريب إنما الريب ما يقول الكذوب وحقيقة الريب قلق النفس : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة ومنه : أنه مر بظني خافق فقال لا يربه أحد بشيء ، وريب الدهر : صرفه وخطبه .{ فِيهِ } : في للوعاء حقيقة أو مجاز ، أو زيد للمصاحبة ، وللتعليل ، وللمقايسة ، وللوافقة على ، والباء مثل ذلك زيد في المسجد { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ }{ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ }{ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ } ،{ فِي الْحَيواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَةِ }{ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ }{ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } ،أي يكثركم به . الهاء المتصلة بفي من فيه ضمير غائب مذكر مفرد ، وقد يوصل بياء ، وهي قراءة ابن كثير ، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة والإسكان والاختلاس والإشباع في كتب النحو .{ هُدًى } ، الهدى : مصدر هدي ، وتقدم معنى الهداية ، والهدي مذكر وبنو أسد يؤنثونه ، يقولون : هذه هدي حسنة ، قاله الفراء في كتاب المذكر والمؤنث . و قال ابن عطية : الهدي لفظ مؤنث ، وقال اللحياني : هو مذكر . انتهى كلامه . قال ابن سيده : والهدي اسم من أسماء النهار ، قال ابن مقبل : حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة يخضعن في الآل غلفاً أو يصلينا وهو على وزن فعلى ، كالسرى والبكى . وزعم بعض أكابر نحاتنا أنه لم يجيء من فعلى مصدر سوى هذه الثلاثة ، وليس بصحيح ، فقد ذكر لي شيخنا اللغوي الإمام في ذلك رضي الدين أبو عبد اللّه محمد بن علي بن يوسف الشاطبي أن العرب قالت : لقيته لقى وأنشدنا لبعض العرب : وقد زعموا حلماً لقاك ولم أزد بحمد الذي أعطاك حلماً ولا عقلا وقد ذكر ذلك غيره من اللغويين وفعل يكون جمعاً معدولاً وغير معدول ، ومفرداً وعلماً معدولاً وغير معدول ، واسم جنس لشخص ولمعنى وصفة معدولة وغير معدولة ، مثل ذلك : جمع وغرف وعمر وأدد ونغر وهدى وفسق وحطم . { لّلْمُتَّقِينَ } المتقي اسم فاعل من اتقى ، وهو افتعل من وقى بمعنى حفظ وحرس ، وافتعل هنا : للاتخاذ أي اتخذ وقاية ، وهو أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت لها افتعل ، وهو : الاتخاذ ، والتسبب ، وفعل الفاعل بنفسه ، والتخير ، والخطفة ، ومطاوعة أفعل ، وفعل ، وموافقة تفاعل ، وتفعل ، واستفعل ، والمجرد ، والإغناء عنه ، مثل ذلك : اطبخ ، واعتمل واضطرب ، وانتخب ، واستلب ، وانتصف مطاوع أنصف ، واغتم مطاوع غممته ، واجتور : وابتسم ، واعتصم ، واقتدر ، واستلم الحجر . وإبدال الواو في اتقى تاء وحذفها مع همزة الوصل قبلها فيبقى تقى مذكور في علم التصريف . فأما هذه الحروف المقطعة أوائل السور ، فجمهور المفسرين على أنها حروف مركبة ومفردة ، وغيرهم يذهب إلى أنها أسماء عبر بها عن حروف المعجم التي ينطق بالألف واللام منها في نحو : قال ، والميم في نحو : ملك ، وبعضهم يقول : إنها أسماء السور ، قاله زيد بن أسلم . وقال قوم : إنها فواتح للتنبيه والاستئناف ليعلم أن الكلام الأول قد انقضى . قال مجاهد : هي في فواتح السور كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد . بل ولا بل نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش . وقال الحسن : هي أسماء السور وفواتحها ، وقوم : إنها أسماء اللّه أقسام أقسم اللّه بها لشرفها وفضلها . وروي عن ابن عباس وقوم : هي حروف متفرقة دلت على معان مختلفة ، وهؤلاء اختلفوا في هذه المعاني فقال قوم : يتألف منها اسم اللّه الأعظم ، قاله علي وابن عباس ، إلا أنّا لا نعرف تأليفه منها ، أو اسم ملك من ملائكته ، أو نبي من أنبيائه ، لكن جهلنا طريق التأليف . وقال سعيد بن جبير : هي أسماء اللّه تعالى مقطعة ، لو أحسن الناس تأليفها تعلموا اسم اللّه الأعظم . وقال قتادة : هي أسماء القرآن كالفرقان . وقال أبو العالية : ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسماء اللّه تعالى . وقيل : هي حروف تدل على مدة الملة ، وهي حساب أبي جاد ، كما ورد في حديث حيي بن أخطب . وروى هذا عن أبي العالية وغيره . وقيل : مدة الأمم السالفة وقيل : مدة الدنيا . وقال أبو العالية أيضاً : ليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين ، وقيل : هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه قال للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم . وقال قطرب وغيره : هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم فقوله : { الم } بمنزلة : أ ب ت ث ، ليدل بها على التسعة وعشرين حرفاً . وقال قوم : هي تنبيه كما في النداء . وقال قوم : إن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيستمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة . وقيل : هي أمارة لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم كتاب في أول سور منه حروف مقطعة ، وقيل : حروف تدل على ثناء أثنى اللّه به على نفسه . وقال ابن عباس :{ الم } أنا اللّه أعلم ، والمراد أنا اللّه أرى . و { المص } أنا اللّه أفصل . وروي عن سعيد بن جبير مثل ذلك . وروي عن ابن عباس الألف : من اللّه ، واللام : من جبريل ، والميم : من محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال الأخفش : هي مبادىء كتب اللّه المنزلة بالألسن المختلفة ومبان من أسماء اللّه الحسنى وصفاته العلى وأصول كلام الأمم . وقال الربيع بن أنس : ما منها حرف إلا يتضمن أموراً كثيرة دارت فيها الألسن ، وليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو في الأبد وللأبد ، وليس منها حرف إلا في مدة قوم وآجالهم . وقال قوم : معانيها معلومة عند المتكلم بها لا يعلمها إلا هو ، ولهذا قال الصديق رضي اللّه عنه : في كتاب اللّه سر ، وسر اللّه في القرآن في الحروف التي في أوائل السور . وبه قال الشعب . وقال سلمة بن القاسم : ما قام الوجود كله إلا بأسماء اللّه الباطنة والظاهرة ، وأسماء اللّه المعجمة الباطنة أصل لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة ، وهي خزانة سرّه ومكنون علمه ، ومنها تتفرع أسماء اللّه كلها ، وهي التي قضى بها الأمور وأودعها أم الكتاب ، وعلى هذا حوّم جماعة من القائلين بعلوم الحروف ، وممن تكلم في ذلك : أبو الحكم بن برجان ، وله تفسير للقرآن ، والبوني ، وفسر القرآن والطائي بن العربي ، والجلالي ، وابن حمويه ، وغيرهم ، وبينهم اختلاف في ذلك . وسئل محمد بن الحنفية عن { كهيعص } فقال للسائل : لو أُخبرت بتفسيرها لمشيت على الماء لا يواري قدميك . وقال قوم : معانيها معلومة ويأتي بيان كل حرف في موضعه . وقال قوم : اختص اللّه بعلمها نبيه صلى اللّه عليه وسلم. وقد أنكر جماعة من المتكلمين أن يكون في القرآن ما لا يفهم معناه ، فانظر إلى هذا الاختلاف المنتشر الذي لا يكاد ينضبط في تفسير هذه الحروف والكلام عليها . والذي أذهبُ إليه : أن هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر اللّه بعلمه ، وسائر كلامه تعالى محكم . وإلى هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد اليزيدي ، وهو قول الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين ، قالوا : هي سر اللّه في القرآن ، وهي من المتشابه الذي انفرد اللّه بعلمه ، ولا يجب أن نتكلم فيها ، ولكن نؤمن بها وتمر كما جاءت . وقال الجمهور : بل يجب أن يتكلم فيها وتلتمس الفوائد التي تحتها ، والمعاني التي تتخرج عليها ، واختلفوا في ذلك الاختلاف الذي قدمناه . قال ابن عطية : والصواب ما قال الجمهور ، فنفسر هذه الحروف ونلتمس لها التأويل لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظماً ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها ، كقول الشاعر : قلت لها قفي فقالت قاف أراد قالت وقفت وكقول القائل : بالخير خيرات وإن شرَّفا ولا أريد الشر إلا أن تآ أراد وإن شراً فشر ، وأراد إلا أن تشاء : والشواهد في هذا كثيرة فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها ، فينبغي إذا كان من معهود كلام العرب ، أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه ، انتهى كلامه . وفرق بين ما أنشد وبين هذه الحروف ، وقد أطال الزمخشري وغيره الكلام على هذه الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير ، ولا يقوم على كثير من دعاويه برهان . وقد تكلم المعربون على هذه الحروف فقالوا : لم تعرب حروف التهجي لأنها أسماء ما يلفظ ، فهي كالأصوات فلا تعرب إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها ، ويحتمل محلها الرفع على المبتدأ أو على إضمار المبتدأ ، والنصب بإضمار فعل ، والجر على إضمار حرف القسم ، هذا إذا جعلناها اسماً للسور ، وأما إذا لم تكن إسماً للسور فلا محل لها ، لأنها إذ ذاك كحروف المعجم أوردت مفردة من غير عامل فاقتضت أن تكون مستكنة كأسماء الأعداد ، أو ردتها لمجرد العدد بغير عطف ، وقد تكلم النحويون على هذه الحروف على أنها أسماء السور ، وتكلموا على ما يمكن إعرابه منها وما لا يمكن ، وعلى ما إذا أعرب فمنه ما يمنع الصرف ، ومنه ما لا يمنع الصرف ، وتفصيل ذلك في علم النحو . وقد نقل خلاف في كون هذه الحروف آية ، فقال الكوفيون : { الم } آية ، وكذلك هي آية في أول كل سورة ذكرت فيها ، وكذلك { المص } و { طسم } وأخواتها و { طه } و { يس } و { حم } وأخواتها إلا { حم عسق } فإنها آيتان و { كهيعص } آية ، وأما { المر } وأخواتها فليست بآية ، وكذلك { طس } و { ص } و { ق } و { ن } و { القلم } وق وص حروف دل كل حرف منها على كلمة ، وجعلوا الكلمة آية ، كما عدوا :{ مُّقْتَدِرِ الرَّحْمَنُ }{ ومدهامتان } آيتيين . وقال البصريون وغيرهم : ليس شيء من ذلك آية . وذكر المفسرون الاقتصار على هذه الحروف في أوائل السور ، وأن ذلك الاقتصار كان لوجوه ذكروها لا يقوم على شيء منها برهان فتركت ذكرها . وذكروا أن التركيب من هذه الحروف انتهى إلى خمسة ، وهو : كهيعص ، لأنه أقصى ما يتركب منه الإسم المجرد ، وقطع ابن القعقاع ألف لام ميم حرفاً حرفاً بوقفة وقفة ، وكذلك سائر حروف التهجي من الفواتح ، وبين النون من طسم ويس وعسق ونون إلا في طس تلك فإنه لم يظهر ، وذلك اسم مشار بعيد ، ويصح أن يكون في قوله { الم ذالِكَ الْكِتَابُ } على بابه فيحمل عليه ولا حاجة إلى إطلاقه بمعنى هذا ، كما ذهب إليه بعضهم فيكون للقريب ، فإذا حملناه على موضوعه فالمشار إليه ما نزل بمكة من القرآن ، قاله ابن كيسان وغيره ، أو التوراة والإنجيل ، قاله عكرمة ، أو ما في اللوح المحفوظ ، قاله ابن حبيب ، أو ما وعد به نبيه صلى اللّه عليه وسلم من أنه ينزل إليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد ، قاله ابن عباس ، أو الكتاب الذي وعد به يوم الميثاق ، قاله عطاء بن السائب ، أو الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل ، قاله ابن رئاب ، أو الذي لم ينزل من القرآن ، أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي بين المنزل والمنزل إليه ، أو ذلك إشارة إلى حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها . وسمعت الأستاذ أبا جعفر بن إبراهيم بن الزبير شيخنا يقول : ذلك إشارة إلى الصراط في قوله :{ اهْدِنَا الصّرَاطَ } ، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم : ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب . وبهذا الذي ذكره الأستاذ تبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد ، وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره ، لا إلى شيء لم يجر له ذكر ، وقد ركبوا وجوهاً من الإعراب في قوله :{ ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} والذي نختاره منها أن قوله :{ ذالِكَ الْكِتَابُ } جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ولا افتقار ، كان أولى أن يسلك به الإضمار والافتقار ، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن ، لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه ، وأبعدها من التكلف ، وأسوغها في لسان العرب . ولسنا كمن جعل كلام اللّه تعالى كشعر امرىء القيس ، وشعر الأعشى ، يحمله جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه الاحتمالات . فكما أن كلام اللّه من أفصح كلام ، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه ، هذا على أنا إنما نذكر كثيراً مما ذكروه لينظر فيه ، فربما يظهر لبعض المتأملين ترجيح شيء منه ، فقالوا : يجوز أن يكون ذلك خبر المبتدأ محذوف تقديره هو ذلك الكتاب ، والكتاب صفة أو بدل أو عطف بيان ، ويحتمل أن يكون مبتدأ وما بعده خبراً . وفي موضع خبر { الم }{ وَلاَ رَيْبَ } جملة تحتمل الاستئناف ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وأن تكون في موضع خبر لذلك ، والكتاب صفة أو بدل أو عطف أو خبر بعد خبر ، إذا كان الكتاب خبراً ، وقلت بتعدد الأخبار التي ليست في معنى خبر واحد ، وهذا أولى بالبعد لتباين أحد الخبرين ، لأن الأول مفرد والثاني جملة ، وأن يكون في موضع نصب أي مبرأ من الريب ، وبناء ريب مع لا يدل على أنها العاملة عمل إن ، فهو في موضع نصب ولا وهو في موضع رفع بالابتداء ، فالمرفوع بعده على طريق الإسناد خبر لذلك المبتدأ فلم تعمل حالة البناء إلا النصب في الاسم فقط ، هذا مذهب سيبويه . وأما الأخفش فذلك المرفوع خبر للا ، فعملت عنده النصب والرفع ، وتقرير هذا في كتب النحو . وإذا عملت عمل إن أفادت الاستغراق فنفت هنا كل ريب ، والفتح هو قراءة الجمهور . وقرأ أبو الشعثاء : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } بالرفع ، وكذا قراءة زيد بن علي حيث رفع ، والمراد أيضاً هنا الاستغراق ، لا من اللفظ بل من دلالة المعنى ، لأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه ، وصار نظير من قرأ :{ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } بالبناء والرفع ، لكن البناء يدل بلفظه على قضية العموم ، والرفع لا يدل لأنه يحتمل العموم ، ويحتمل نفي الوحدة ، لكن سياق الكلام يبين أن المراد العموم ، ورفعه على أن يكون ريب مبتدأ وفيه الخبر ، وهذا ضعيف لعدم تكرار لا ، أو يكون عملها إعمال ليس ، فيكون فيه في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا عملت عمل ليس رفعت الإسم ونصبت الخبر ، أو على مذهب من ينسب العمل لها في رفع الإسم خاصة ، وأما الخبر فمرفوع لأنها وما عملت فيه في موضع رفع بالابتداء كحالها إذا نصبت وبني الإسم معها ، وذلك في مذهب سيبويه ، وسيأتي الكلام مشبعاً في ذلك عند قوله تعالى :{ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ } ، وحمل لا في قراءة لا ريب على أنها تعمل عمل ليس ضعيف لقلة إعمال لا عمل ليس ، فلهذا كانت هذه القراءة ضعيفة . وقرأ الزهري ، وابن محيصن ، ومسلم بن جندب ، وعبيد بن عمير ، فيه : بضم الهاء ، وكذلك إليه وعليه وبه ونصله ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل . وقرأ ابن أبي إسحاق : فهو بضم الهاء ووصلها بواو ، وجوزوا في قوله : أن يكون خبراً للا على مذهب الأخفش ، وخبراً لها مع اسمها على مذهب سيبويه ، أن يكون صفة والخبر محذوف ، وأن يكون من صلة ريب بمعنى أنه يضمر عامل من لفظ ريب فيتعلق به ، إلا أنه يكون متعلقاً بنفس لا ريب ، إذ يلزم إذ ذاك إعرابه ، لأنه يصير اسم لا مطولاً بمعموله نحو لا ضارباً زيداً عندنا ، والذي نختاره أن الخبر محذوف لأن الخبر في باب لا العاملة عمل إن إذا علم لم تلفظ به بنو تميم ، وكثر حذفه عند أهل الحجاز ، وهو هنا معلوم ، فاحمله على أحسن الوجوه في الإعراب ، وإدغام الباء من لا ريب في فاء فيه مروي عن أبي عمرو ، والمشهور عنه الإظهار ، وهي رواية اليزيدي عنه . وقد قرأته بالوجهين على الأستاذ أبي جعفر بن الطباع بالأندلس ، ونفي الريب يدل على نفي الماهية ، أي ليس مما يحله الريب ولا يكون فيه ، ولا يدل ذلك على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس كثيرين . فعلى ما قلناه لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة ، كما حمله الزمخشري ، ولا يرد علينا قوله تعالى :{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ } لاختلاف الحال والمحل ، فالحال هناك المخاطبون ، والريب هو المحل ، والحال هنا منفي ، والمحل الكتاب ، فلا تنافي بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفياً عن القرآن . وقد قيد بعضهم الريب فقال : لا ريب فيه عند المتكلم به ، وقيل هو عموم يراد به الخصوص ، أي عند المؤمنين ، وبعضهم جعله على حذف مضاف ، أي لا سبب فيه لوضوح آياته وإحكام معانيه وصدق أخباره . وهذه التقادير لا يحتاج إليها . واختيار الزمخشري أن فيه خبر ، وبذلك بني عليه سؤالاً وهو أن قال : هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على القول فيقوله تعالى : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } ؟ وأجاب : بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد ، وهو أن كتاباً غيره فيه الريب ، كما قصد في قوله :{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ } تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي ، كأنه قيل ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة . وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر ، ولا نعلم أحداً يفرق بين : ليس في الدار رجل ، وليس رجل في الدار ، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة لا يغتال ، وقد وصفت بذلك العرب خمر الدنيا ، قال علقمة بن عبدة : تشفي الصداع ولا يؤذيك طالبها ولا يخالطها في الرأس تدويم وأبعد من ذهب إلى أن قوله : لا ريب صيغة خبر ومعناه النهي عن الريب . وجوزوا في قوله تعالى :{ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } أن يكون هدى في موضع رفع على أنه مبتدأ ، وفيه في موضع الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هو هدى ، أو على فيه مضمرة إذا جعلنا فيه من تمام لا ريب ، أو خبر بعد خبر فتكون قد أخبرت بالكتاب عن ذلك ، وبقوله لا ريب فيه ، ثم جاء هذا خبراً ثالثاً ، أو كان الكتاب تابعاً وهدى خبر ثان على ما مر في الإعراب ، أو في موضع نصب على الحال ، وبولغ بجعل المصدر حالاً وصاحب الحال اسم الإشارة ، أو الكتاب ، والعامل فيها على هذين الوجهين معنى الإشارة أو الضمير في فيه ، والعامل ما في الظرف من الاستقرار وهو مشكل لأن الحال تقييد ، فيكون انتقال الريب مقيداً بالحال إذ لا ريب فيه يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين ، لكن يزيل الإشكال أنها حال لازمة . و الأولى : جعل كل جملة مستقلة ، فذلك الكتاب جملة ، ولا ريب جملة ، وفيه هدى للمتقين جملة ، ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق . فالأولى أخبرت بأن المشار إليه هو الكتاب الكامل ، كما تقول : زيد الرجل ، أي الكامل في الأوصاف . والثانية نعت لا يكون شيء ما من ريب . والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين . والمجاز إما فيه هدى ، أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون فصار نظير اهدنا الصراط ، وإما في المتقين أي المشارفين لاكتساب التقوى ، كقوله : إذا ما مات ميت من تميم والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك ، وهل التقوى تتناول اجتناب الصغائر ؟ في ذلك خلاف . وجوز بعضهم أن يكون التقدير هدى للمتقين والكافرين ، فحذف لدلالة أحد الفريقين ، وخص المتقين بالذكر تشريفاً لهم . ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب ، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى اللّه تعالى ، هو الكتاب أي الكامل في الكتب ، وهو المنزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي قال فيه { مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْء } ، فإذا كان جميع الأشياء فيه ، فلا كتاب أكمل منه ، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى . ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزاء حقيقة لا مجاز فيها ، وفي الثانية مجازاً لحذف لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب ، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام ، إذ جعل القرآن ظرفاً والهدى مظروفاً ، فألحق المعنى بالعين ، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيت على زيد في قولك : زيد في البيت {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } : الإيمان : التصديق ، { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } ، وأصله من الأمن أو الأمانة ، ومعناهما الطمأنينة ، منه : صدقة ، وأمن به : وثق به ، والهمزة في أمن للصيرورة كأعشب ، أو لمطاوعة فعل كأكب ، وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء ، وهو يتعدى بالباء واللام { فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى } ، والتعدية باللام في ضمنها تعد بالباء ، فهذا فرق ما بين التعديتين . الغيب : مصدر غاب يغيب إذا توارى ، وسمى المطمئن من الأرض غيباً لذلك أو فعيل من غاب فأصله غيب ، وخفف نحو لين في لين ، والفارسي لا يرى ذلك قياساً في ذوات الياء ، فلا يجيز في لين التخفيف ويجيزه في ذوات الواو ، ونحو : سيد وميت ، وغيره قاسه فيهما . وابن مالك وافق أبا علي في ذوات الياء . وخالف الفارسي في ذوات الواو ، فزعم أنه محفوظ لا مقيس ، وتقرير هذا في علم التصريف .{ وَيُقِيمُونَ الصَّلواةَ } والإقامة : التقويم ، أقام العود قومه ، أو الأدامة أقامت الغزالة سوق الضراب ، أي أدامتها من قامت السوق ، أو التشمر والنهوض من قام بالأمر ، والهمزة في أقام للتعدية . الصلاة : فعلة ، وأصله الواو لاشتقاقه من الصلى ، وهو عرق متصل بالظهر يفترق من عند عجب الذنب ، ويمتد منه عرقان في كل ورك ، عرق يقال لهما الصلوان فإذا ركع المصلي انحنى صلاة وتحرك فسمي بذلك مصلياً ، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل لأنه يأتي مع صلوى السابق . قال ابن عطية : فاشتقت الصلاة منه إما لأنها جاءت ثانية الإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل ، وإما لأن الراكع والساجد ينثني صلواه ، والصلاة حقيقة شرعية تنتظم من أقوال وهيئآت مخصوصة ، وصلى فعل الصلاة ، وأما صلى دعا فمجاز وعلاقته تشبيه الداعي في التخشع والرغبة بفاعل الصلاة ، وجعل ابن عطية الصلاة مما أخذ من صلى بمعنى دعا ، كما قال : عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً وقال : لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما قال : فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء ، وانضاف إليه هيئآت وقراءة ، سمى جميع ذلك باسم الدعاء والقول إنها من الدعاء أحسن ، انتهى كلامه . وقد ذكر أن ذلك مجاز عندنا ، وذكرنا العلاقة بين الداعي وفاعل الصلاة ، ومن حرف جر . وزعم الكسائي أن أصلها منا مستدلاً بقول بعض قضاعة : بذلنا مارن الخطى فيهم وكل مهند ذكر حسام منا أن ذر قرن الشمس حتى أغاب شريدهم قتر الظلام وتأول ابن جني ، رحمه اللّه ، على أنه مصدر على فعل من منى بمنى أي قدر . واغتر بعضهم بهذا البيت فقال : وقد يقال منا . وقد تكون لابتداء الغاية وللتبعيض ، وزائدة وزيد لبيان الجنس ، وللتعليل ، وللبدل ، وللمجاوزة والاستعلاء ، ولانتهاء الغاية ، وللفصل ، ولموافقة في مثل ذلك : سرت من البصرة إلى الكوفة ، أكلت من الرغيف ، ما قام من رجل ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } ،{أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السَّمَاء } ،{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا } ،{ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } ، قربت منه ، { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ } ،{ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ }{ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ }{ مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاْرْضِ} ما تكون موصولة ، واستفهامية ، وشرطية ، وموصوفة ، وصفة ، وتامة . مثل ذلك :{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ } مال هذا الرسول ، { مَّا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } ، مررت بما معجب لك ، لأمر ما جدع قصير أنفه ، ما أحسن زيداً .{ رَزَقْنَاهُمْ } الرزق : العطاء ، وهو الشيء الذي يرزق كالطحن ، والرزق المصدر ، وقيل الرزق أيضاً مصدر رزقته أعطيته ، { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا } ، وقال : رزقت مالاً ولم ترزق منافعه إن الشقي هو المحروم ما رزقا وقيل : أصل الرزق الحظ ، ومعاني فعل كثيرة ذكر منها : الجمع ، والتفريق ، والإعطاء ، والمنع ، والامتناع ، والإيذاء ، والغلبة ، والدفع ، والتحويل ، والتحول ، والاستقرار ، والسير ، والستر ، والتجريد ، والرمي ، والإصلاح ، والتصويت . مثل ذلك : حشر ، وقسم ، ومنح ، وغفل ، وشمس ، ولسع ، وقهر ، ودرأ ، وصرف ، وظعن ، وسكن ، ورمل ، وحجب ، وسلخ ، وقذف ، وسبح ، وصرخ . وهي هنا للإعطاء نحو : نحل ، ووهب ، ومنح .{ يُنفِقُونَ } ، الإنفاق : الإنفاذ ، أنفقت الشيء وأنفذته بمعنى واحد ، والهمزة للتعدية ، يقال نفق الشيء نفذ ، وأصل هذه المادة تدل على الخروج والذهاب ، ومنه : نافق ، والنافقاء ، ونفق . . |
﴿ ٢ ﴾