٧

{خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }

الختم : الوسم بطابع أو غيره مما يوسم به . القلب : مصدر قلب ، والقلب : اللحمة الصنوبرية المعروفة سميت بالمصدر ، وكنى به في القرآن وغيره عن العقل ، وأطلق أيضاً على لب كل شيء وخالصه . السمع : مصدر سمع سمعاً وسماعاً وكنى به في بعض المواضع عن الأذن . البصر : نور العين ، وهو ما تدرك به المرئيات . الغشاوة : الغطاء ، غشاه أي غطاه ، وتصحح الواو لأن الكلمة بنيت على تاء التأنيث ، كما صححوا اشتقاقه ، قال أبو علي الفارسي : لم أسمع من الغشاوة فعلاً متصرفاً بالواو ، وإذا لم يوجد ذلك كان معناها معنى ما اللام منه الياء ، غشي يغشى بدلالة قولهم : الغشيان والغشاوة من غشي ، كالجباوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء إذا لم يصرف منه فعل ، كما لم يصرف من الجباوة ، انتهى كلامه . العذاب : أصله الاستمرار ، ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم ، واشتقوا منه فقالوا : عذبته ، أي داومت عليه الألم ، وقد جعل الناس بينه وبين العذاب : الذي هو الماء الحلو ، وبين عذب الفرس : استمر عطشه ، قدراً مشتركاً وهو الاستمرار ، وإن اختلف متعلق الاستمرار . وقال الخليل : أصله المنع ، يقال عذب الفرس : امتنع من العلف . عظيم : اسم فاعل من عظم غير مذهوب به مذهب الزمان ، وفعيل اسم ، وصفة الاسم مفرد نحو : قميص ، وجمع نحو : كليب ، ومعنى نحو : صهيل ، والصفة مفرد فعله كقرى ، وفعله كسرى ، واسم فاعل من فعل ككريم ، وللمبالغة من فاعل كعليم ، وبمعنى أفعل

كشميط ، وبمعنى مفعول كجريح ، ومفعل كسميع واليم ، وتفعل كوكيد ، ومفاعل كجليس ، ومفتعل كسعير ، ومستفعل كمكين ، وفعل كرطيب ، وفعل كعجيب ، وفعال كصحيح ، وبمعنى الفاعل والمفعول كصريح ، وبمعنى الواحد والجمع كخليط وجمع فاعل كغريب .

مناسبة اتصال هذه الآية بما قبلها ظاهر ، وهو أنه لما ذكر صفة من الكتاب له هدى وهم المتقون الجامعون للأوصاف المؤدية إلى الفور ، ذكر صفة ضدهم وهم الكفار المحتوم لهم بالوفاة على الكفر ، وافتتح قصتهم بحرف التأكيد ليدل على استئناف الكلام فيهم ، ولذلك لم يدخل في قصة المتقين ، لأن الحديث إنما جاء فيهم بحكم الانجرار ، إذ الحديث إنما هو عن الكتاب ثم أنجز ذكرهم في الإخبار عن الكتاب ، وعلى تقدير إعراب الذين يؤمنون ، الأول والثاني مبتدأ ، فإنما هو في المعنى من تمام صفة المتقين الذين كفروا ، يحتمل أن يكون للجنس ملحوظاً فيه قيد ، وهو أن يقضي عليه بالكفر والوفاة عليه ، وأن يكون لمعينين كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما . وسواء وما بعده يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون لا موضع له من الإعراب ، ويكون جملة اعتراض من مبتدأ وخبر ، بجعل سواء المبتدأ والجملة بعده الخبر أو العكس ، والخبر قوله : لا يؤمنون ، ويكون قد دخلت جملة الاعتراض تأكيداً لمضمون الجملة ، لأن من أخبر اللّه عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره . والوجه

الثاني : أن يكون له موضع من الإعراب ، وهو أن يكون في موضع خبر إن ، فيحتمل لا يؤمنون أن يكون له موضع من الإعراب ، إما خبر بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم لا يؤمنون ، وجوزوا فيه أن يكون في موضع الحال وهو بعيد ، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الإعراب فتكون جملة تفسيرية لأن عدم الإيمان هو استواء الإنذار وعدمه ، كقوله تعالى : { وَعَدَ اللّه الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ } ،أو يكون جملة دعائية وهو بعيد ، وإذا كان لقوله تعالى :{ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ } موضع من الإعراب فيحتمل أن يكون سواء خبر إن ، والجملة في موضع رفع على الفاعلية ، وقد اعتمد بكونه خبر الذين ، والمعنى إن الذين كفروا مستو إنذارهم وعدمه . وفي كون الجملة تقع فاعلة خلاف مذهب جمهور البصريين أن الفاعل لا يكون إلا اسماً أو ما هو في تقديره ، ومذهب هشام وثعلب وجماعة من الكوفيين جواز كون الجملة تكون فاعلة ، وأجازوا تعجبني يقوم زيد ، وظهر لي أقام زيد أم عمرو ، وأي قيام أحدهما ، ومذهب الفراء وجماعة : أنه إن كانت الجملة معمولة لفعل من أفعل القلوب وعلق عنها ، جاز أن تقع في موضع الفاعل أو المفعول الذي لم يسم فاعله وإلا فلا ، ونسب هذا لسيبويه . قال

أصحابنا : والصحيح المنع مطلقاً وتقرير هذا في المبسوطات من كتب النحو . ويحتمل أن يكون قوله : { سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } مبتدأ وخبراً على التقديرين اللذين ذكرناهما إذا كانت جملة اعتراض ، وتكون في موضع خبر إن ، والتقديران المذكوران عن أبي علي الفارسي وغيره . وإذا جعلنا سواء المبتدأ والجملة الخبر ، فلا يحتاج إلى رابط لأنها المبتدأ في المعنى والتأويل ، وأكثر ما جاء سواء بعده الجملة المصدرة بالهمزة المعادلة بأم { سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا } ،{ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ } ، وقد تحذف تلك الجملة للدلالة عليها ، { اصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ } أي أصبرتم أم لم تصبروا ، وتأتي بعده الجملة الفعلية المتسلطة على اسم الاستفهام ، نحو : سواء على أي الرجال ضربت ، قال زهير : سواء عليه أي حين أتيته

أساعة نحس تتقي أم بأسعد

وقد جاء بعده ما عري عن الاستفهام ، وهو الأصل ، قال :

سواء صحيحات العيون وعورها

وأخبر عن الجملة بأن جعلت فاعلاً بسواء أو مبتدأة ، وإن لم تكن مصدره بحرف مصدري حملاً على المعنى وكلام العرب منه ما طابق فيه اللفظ المعنى ، نحو : قام زيد ، وزيد قائم ، وهو أكثر كلام العرب ، ومنه ما غلب فيه حكم اللفظ على المعنى ، نحو : علمت أقام زيد أم قعد ، لا يجوز تقديم الجملة على علمت ، وإن كان ليس ما بعد علمت استفهاماً ، بل الهمزة فيه للتسوية . ومنه ما غلب فيه المعنى على اللفظ ، وذلك نحو الإضافة للجملة الفعلية نحو :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

أذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه ، لكن لوحظ المعنى ، وهو المصدر ، فصحت الإضافة .

قال ابن عطية : أأنذرتهم أم لم تنذرهم لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر ، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام ، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً سواء على أقمت أم قعدت أم ذهبت ؟ وإذا قلت مستفهماً أخرج زيد أم قام ؟ فقد استوى الأمران عندك ، هذان في الخبر ، وهذان في الاستفهام ، وعدم علم أحدهما بعينه ، فلما عممتهما التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام ، وكل استفهام تسوية ، وإن لم يكن كل تسوية استفهاماً ، انتهى كلامه . وهو حسن ، إلا أن في أوله مناقشة ، وهو قوله :{ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ } لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الخبر ، وليس

كذلك لأن هذا الذي صورته صورة الاستفهام ليس معناه الخبر لأنه مقدر بالمفرد إما مبتدأ وخبره سواء أو العكس ، أو فاعل سواء لكون سواء وحده خبراً لأن ، وعلى هذه التقادير كلها ليس معناه معنى الخبر وإنما سواء ، وما بعده إذا كان خبراً أو مبتدأ معناه الخبر . ولغة تميم تخفيف الهمزتين في نحو أأنذرتهم ، وبه قرأ الكوفيون ، وابن ذكوان ، وهو الأصل . وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلباً للتخفيف ، فقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وهشام : بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، إلا أن أبا عمرو ، وقالون ، وإسماعيل بن جعفر ، عن نافع ، وهشام ، يدخلون بينهما ألفاً ، وابن كثير لا يدخل . وروي تحقيقاً عن هشام وإدخال ألف بينهما ، وهي قراءة ابن عباس ، وابن أبي إسحاق . وروي عن ورش ، كابن كثير ، وكقالون وإبدال الهمزة الثانية ألفاً فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين ، وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري ، وزعم أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين :

أحدهما : الجمع بين ساكنين على غير حده .

الثاني : إن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفاً ، لأن ذلك هو طريق الهمزة الساكنة ، وما قاله هو مذهب البصريين ، وقد أجاز الكوفيون الجمع بين الساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون . وقراءة ورش صحيحة النقل لا تدفع باختيار المذاهب ولكن عادة هذا الرجل إساءة الأدب على أهل الأداء ونقلة لقرآن .

وقرأ الزهري ، وابن محيصن : أنذرتهم بهمزة واحدة ، حذف الهمزة الأولى لدلالة المعنى عليها ، ولأجل ثبوت ما عادلها وهو أم ،

وقرأ أبي أيضا بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم ، والمفعول الثاني لأنذر محذوف لدلالة المعنى عليه ، التقدير أأنذرتهم العذاب على كفرهم أم لم تنذرهموه ؟ وفائدة الإنذار مع تساويه مع العدم أنه قاطع لحجتهم ، وأنهم قد دعوا فلم يؤمنوا ، ولئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت ، وأن فيه تكثير الأجر بمعاناة من لا قبول له للإيمان ومقاساته ، وإن في ذلك عموم إنذاره لأنه أرسل للخلق كافة . وهل قوله : لا يؤمنون خبر عنهم أو حكم عليهم أو ذم لهم أو دعاء عليهم ؟ أقوال ، وظاهرقوله تعالى : { خَتَمَ اللّه } أنه إخبار من اللّه تعالى بختمه وحمله بعضهم على أنه دعاء عليهم ، وكنى بالختم على القلوب عن كونها لا تقبل شيئاً من الحق ولا تعيه لإعراضها عنه ، فاستعار الشيء المحسوس والشيء المعقول ، أو مثل القلب بالوعاء الذي ختم عليه صوناً لما فيه ومنعاً لغيره من الدخول إليه . و

الأول : مجاز الاستعارة ،

والثاني : مجاز التمثيل . ونقل عمن مضى أن الختم حقيقة وهو انضمام القلب وانكماشه ، قال مجاهد : إذا أذنبت ضم من القلب هكذا ، وضم مجاهد الخنصر ، ثم إذا أذنبت ضم هكذا ، وضم البنصر ، ثم هكذا إلى الإبهام ، وهذا هو الختم والطبع والرين .

وقيل : الختم سمة تكون فيهم تعرفهم الملائكة بها من المؤمنين .

وقيل : حفظ ما في قلوبهم من الكفر ليجازيهم .

وقيل : الشهادة على قلوبهم بما فيها من الكفر ونسبة الختم إلى اللّه تعالى بأي معنى فسر إسناد صحيح ، إذ هو إسناد إلى الفاعل الحقيقي ، إذ اللّه تعالى خالق كل شيء .

وقد تأول الزمخشري وغيره من المعتزلة هذا الإسناد ، إذ مذهبهم أن اللّه تعالى لا يخلق الكفر ولا يمنع من قبول الحق والوصول إليه ، إذ ذاك قبيح واللّه تعالى يتعالى عن فعل القبيح ، وذكر أنواعاً من التأويل عشرة ، ملخصها :

الأول : أن الختم كنى به عن الوصف الذي صار كالخلقي وكأنهم جبلوا عليه وصار كان اللّه هو الذي فعل بهم .

الثاني : أنه من باب التمثيل كقولهم : طارت به العنقاء ، إذا أطال الغيبة ، وكأنهم مثلت حال قلوبهم بحال قلوب ختم اللّه عليها .

الثالث : أنه نسبه إلى السبب لما كان اللّه هو الذي أقدر الشيطان ومكنه أسند إليه الختم .

الرابع : أنهم لما كانوا مقطوعاً بهم أنهم لا يؤمنون طوعاً ولم يبق طريق إيمانهم إلا بالجاء وقسر وترك القسر عبر عن تركه بالختم .

الخامس : أن يكون حكاية لما يقوله الكفار تهكماً كقولهم : { قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ}

السادس : أن الختم منه على قلوبهم هو الشهادة منه بأنهم لا يؤمنون .

السابع : أنها في قوم مخصوصين فعل ذلك بهم في الدنيا عقاباً عاجلاً ، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا .

الثامن : أن يكون ذلك فعله بهم من عير أن يحول بينهم وبين الإيمان لضيق صدورهم عقوبة غير مانعة من الإيمان .

التاسع : أن يفعل بهم ذلك في الآخرة لقوله تعالى :{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا}

العاشر : ما حكى عن الحسن البصري ، وهو اختيار أبي علي الجبائي ، والقاضي ، أن ذلك سمة وعلامة يجعلها اللّه تعالى في قلب الكافر وسمعه ، تستدل بذلك الملائكة على أنهم كفار وأنهم لا يؤمنون . انتهى ما قاله المعتزلة . والمسألة يبحث عنها في أصول الدين . وقد وقع قوله :{ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } بين شيئين : يمكن أن يكون السمع محكوماً عليه مع كل واحد منهما ، إذ يحتمل أن يكون أشرك في الختم بينه وبين القلوب ، ويحتمل أن يكون أشرك في الغشاوة بينه وبين الأبصار . لكن حمله على الأول أولى للتصريح بذلك في قوله :{ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} وتكرير حرف الجر يدل على أن الختم ختمان ، أو على التوكيد ، إن كان الختم واحداً فيكون أدل على شدة الختم .

وقرأ ابن أبي عبلة أسماعهم فطابق في الجمع بين القلوب والأسماع والأبصار .

وأما الجمهور فقرؤوا على التوحيد ، إما لكونه مصدراً في الأصل فلمح فيه الأصل ،

وإما اكتفاء بالمفرد عن الجمع لأن ما قبله وما بعده يدل على أنه أريد به الجمع ،

وإما لكونه مصدراً حقيقة وحذف ما أضيف إليه لدلالة المعنى أي حواس سمعهم . وقد اختلف الناس في أي الحاستين السمع والبصر أفضل ، وهو اختلاف لا يجدي كبير شيء . والإمالة في أبصارهم جائزة ، وقد قرىء بها ، وقد غلبت الراء المكسورة حرف الاستعلاء ، إذ لولاها لما جازت الإمالة ، وهذا بتمامه مذكور في النحو .

وقرأ الجمهور : غشاوة بكسر الغين ورفع التاء ، وكانت هذه الجملة ابتدائية ليشمل الكلام الإسنادين : إسناد الجملة الفعلية وإسناد الجملة الابتدائية ، فيكون ذلك آكد لأن الفعلية تدل على التجدد والحدوث ، والإسمية تدل على الثبوت . وكان تقديم الفعلية أولى لأن فيها أن ذلك قد وقع وفرغ منه ، وتقديم المجرور الذي هو على أبصارهم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة ، مع أن فيه مطابقة بالجملة قبله لأنه تقدم فيها الجزء المحكوم به . وهذه كذلك الجملتان تؤول دلالتهما إلى معنى واحد ، وهو منعهم

من الإيمان ، ونصب المفضل غشاوة يحتاج إلى إضمار ما أظهرفي قوله : { وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } ،أي وجعل على أبصارهم غشاوة ، أو إلى عطف أبصارهم على ما قبله ونصبها على حذف حرف الجر ، أي بغشاوة ، وهو ضعيف . ويحتمل عندي أن تكون اسماً وضع موضع مصدر من معنى ختم ، لأن معنى ختم غشي وستر ، كأنه قيل تغشيه على سبيل التأكيد ، وتكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة . وقال أبو علي : وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن يحمله على ختم الظاهر فيعرض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به ، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر ، وما أن تحمله على فعل يدل عليه ختم تقديره وجعل على أبصارهم فيجيء الكلام من باب :

متقلداً سيفاً ورمحاً

وقول الآخر :

علفتها تبناً وماء بارداً

ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار ، فقراءة الرفع أحسن ، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة . انتهى كلام أبي علي ، رحمه اللّه تعالى . ولا أدري ما معنى قوله : لأن النصب إنما يحمله على ختم الظاهر ، وكيف تحمل غشاوة المنصوب على خثم الذي هو فعل ؟ هذا ما لا حمل فيه اللّهم إلا إن أراد أن يكون قوله تعالى :{ خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ } دعاء عليهم لا خبراً ، فإن ذلك يناسب مذهبه لاعتزاله ، ويكون غشاة في معنى المصدر المدعو به عليهم القائم مقام الفعل فكأنه قيل : وغشى اللّه على أبصارهم ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على ختم عطف المصدر النائب مناب فعله في الدعاء ، نحو قولك : رحم اللّه زيداً وسقياً له ، وتكون إذ ذاك قد حلت بين غشاوة المعطوف وبين ختم المعطوف عليه بالجار والمجرور .

وأما إن جعلت ذلك خبراً محضاً وجعلت غشاوة في موضع المصدر البدل عن الفعل في الخبر فهو ضعيف لا ينقاس ذلك بل يقتصر فيه على مورد السماع ،

وقرأ الحسن باختلاف عنه وزيد بن علي : غشاوة بضم الغين ورفع التاء ، وأصحاب عبد اللّه بالفتح والنصب وسكون الشين ، وعبيد بن عمير كذلك ، إلا أنه رفع التاء .

وقرأ بعضهم غشوة بالكسر والرفع ، وبعضهم غشوة وهي قراءة أبي حيوة ، والأعمش قرأ بالفتح والرفع والنصب . وقال الثوري : كان أصحاب عبد اللّه يقرؤونها غشية بفتح الغين والياء والرفع . اه . وقال يعقوب : غشوة بالضم لغة ، ولم يؤثرها عن أحد من القراءة .

قال بعض المفسرين : وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة ، والأشياء التي هي أبداً مشتملة ، فهذا يجيء وزنها : كالصمامة ، والعمامة ، والعصابة ، والريانة ، وغير ذلك .

وقرأ بعضهم : غشاوة بالعين المهملة المكسورة والرفع من العشي ، وهو شبه العمى في العين . وتقديم القلوب على السمع من باب التقديم بالشرف وتقديم الجملة التي انتظمتها على الجملة التي تضمنت الأبصار من هذا الباب أيضاً . وذكر أهل البيان أن التقديم يكون باعتبارات خمسة : تقدم العلة والسبب على المعلوم والمسبب ، كتقديم الأموال على الأولاد في قوله تعالى :{ إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } ، فإنه إنما يشرع في النكاح عند قدرته على المؤنة ، فهي سبب إلى التزوج ، والنكاح سبب للتناسل . والعلة : كتقدم المضيء على الضوء ، وليس تقدم زمان ، لأن جرم الشمس لا ينفك عن الضوء . وتقدم

بالذات ، كالواحد مع الإثنين ، وليس الواحد علة للاثنين بخلاف القسم الأول . وتقدم بالشرف ، كتقدم الإمام على المأموم . وتقدم بالزمان ، كتقدم الوالد على الولد بالوجود ، وزاد بعضهم سادس وهو : التقدم بالوجود حيث لا زمان . ولما ذكر تعالى حال هؤلاء الكفار في الدنيا ، أخبر بما يؤول إليه أمرهم في الآخرة من العذاب العظيم . ولما كان قد أعد لهم العذاب صير كأنه ملك لهم لازم ، والعظيم هو الكبير .

وقيل : العظيم فوق ، لأن الكبير يقابله الصغير ، والعظيم يقابله الحقير . قيل : والحقير دون الصغير ، وأصل العظم في الجثة ثم يستعمل في المعنى ، وعظم العذاب بالنسبة لي عذاب دونه يتخللّه فتور ، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما شبع من الآخر ، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد .

وذكر المفسرون في سبب نزولقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } إلى قوله :{ عظِيمٌ } ، أقوالاً :

أحدها : أنها نزلت في يهود كانوا حول المدينة ، قاله ابن عباس ، وكان يسميهم .

الثاني : نزلت في قادة الأحزاب من مشركي قريش ، قاله أبو العالية .

الثالث : في أبي جهل وخمسة من أهل بيته ، قاله الضحاك .

الرابع : في أصحاب القليب : وهم أبو جهل ، وشيبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة .

الخامس : في مشركي العرب قريش وغيرها .

السادس : في المنافقين ، فإن كانت نزلت في ناس بأعيانهم وافوا على الكفر ، فالذين كفروا معهودون ، وإن كانت لا في ناس مخصوصين وافوا على الكفر ، فيكون عاماً مخصوصاً . ألا ترى أنه قد أسلم من مشركي قريش وغيرها ومن المنافقين ومن اليهود خلق كثير بعد نزول هاتين الآيتين ؟ .

وذكروا أيضاً أن في هاتين الآيتين من ضروب الفصاحة أنواعاً .

الأول : الخطاب العام اللفظ الخاص المعنى .

الثاني : الاستفهام الذي يراد به تقرير المعنى في النفس ، أي يتقرر أن الإنذار وعدمه سواء عندهم .{ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } ، وحقيقة الختم وضع محسوس على محسوس يحدث بينهما رقم يكون علامة للخاتم ، والختم هنا معنوي ، فإن القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره استعير له اسم المختوم عليه فبين أنه من مجاز الاستعارة .

الرابع : الحذف ، وهو في مواضع : منها : أن الذين كفروا ، أي أن القوم الذين كفروا باللّه وبك وبما جئت به . ومنها : لا يؤمنون باللّه وبما أخبرتهم به عنه . ومنها : ختم اللّه على قلوبهم فلا تعي وعلى أسماعهم فلا تصغي . ومنها : وعلى أبصارهم غشاوة على من نصب ، أي وجعل على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون سبيل الهداية . ومنها : ولهم عذاب ، أي ولهم يوم القيامة عذاب عظيم دائم ، ويجوز أن يكون التقدير : ولهم عذاب عظيم في الدنيا بالقتل والسبي أو بالإذلال ووضع الجزية وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم .

الخامس : التعميم : وهوفي قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } ، فإنه لو اقتصر على قوله عذاب ولم يقل عظيم لاحتمل القليل والكثير ، فلما وصفه بالعظيم تمم المعنى وعلم أن العذاب الذي وعدوا به عظيم ، إما في المقدار

وإما في الإيلام والدوام .

السادس : الإشارة ، فإن قوله :{ سَوَاء عَلَيْهِمْ } إشارة إلى أن السواء الذي أضيف إليهم وباله ونكاله عليهم ومستعل فوقهم ، لأنه لو أراد بيان أن ذلك من وصفهم فحسب لقال : سواء عندهم ، فلما قال : سواء عليهم ، نبه على أنه مستعل عليهم ، فإن كلمة على للاستعلاء وهو الذي قاله هذا القائل من أن على تشعر بالاستعلاء صحيح ،

وأما أنها تدل على أن الكلام تضمن معنى الوبال والنكال عليهم فليس بصحيح ، بل المعنى في قولك سواء عليك وعندك كذا وكذا واحد ، وإن كان أكثر الاستعمال بعلى ،

قال تعالى :{ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَوَ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْواعِظِينَ } ،{ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا } ، سواء عليها رحلتي ومقامي ، وكل هذا لا يدل على معنى الوبال والنكاح عليهم .

السابع : مجاز التشبيه شبه قلوبهم لتأبيها عن الحق ، وأسماعهم لإضرابها عن سماع داعي الفلاح ، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية بالوعاء المختوم عليه المسدود منافذة المغشي بغشاء يمنع أن يصل إليه ما يصلحه ، لما كانت مع صحتها وقوة إدراكها ممنوعة عن قبول الخير وسماعه وتلمح نوره ، وهذا كله من مجاز التشبيه ، إذ الختم والغشاوة لم يوجدا حقيقة ، وهو بالاستعارة أولى ، إذ من شرط التشبيه أن يذكر المشبه والمشبه به .

﴿ ٧