٢٦

إن اللّه لا . . . . .

الأخلاق ، لا طمحات ولا مرجات ولا يغرن ولا يعزن . وقال النخعي : الولد . وقال يمان : من الإثم والأذى ، وكل هذه الأقوال لا يدل على تعيينها قوله تعالى : { مُّطَهَّرَةٍ } لكن ظاهر اللفظ يقتضي أنهن مطهرات من كل ما يشين ، لأن من طهره اللّه تعالى ووصفه بالتطهير كان في غاية النظافة والوضاءة . ولما ذكر تعالى مسكن المؤمنين ومطعهمهم ومنحكهم ، وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع توقع خوف الزوال ، ولذلك قيل : أشد الغم عندي في سرور

تيقن عنه صاحبه ارتحالا

أعقب ذلك تعالى بما يزيل تنغيص التنعم بذكر الخلود في دار النعيم ، ف

قال تعالى :{ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقد تقدم ذكر الخلاف في الخلود ، وأن المعتزلة تذهب إلى أنه البقاء الدائم الذي لا ينقطع أبداً ، وأن غيرهم يذهب إلى أنه البقاء الطويل ، انقطع أو لم ينقطع ، وأن كون نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار سرمدي لا ينقطع ، ليس مستفاداً من لفظ الخلود بل من آيات من القرآن وأحاديث صحاح من السنة ،

قال تعالى :{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } ،

وقال تعالى :{ وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} وفي الحديث : { يا أهل الجنة خلود بلا موت} . وفي حديث أخرجه مسلم في وصف أهل الجنة : { وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً} . إلى غير ذلك من الآي والأحاديث .

{إِنَّ اللّه لاَ يَسْتَحْىِ إِنَّ اللّه لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ } ،

إن اللّه لا . . . . .

الحياء : تغير وإنكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم ، ومحله الوجه ، ومنبعه من القلب ، واشتقاقه من

الحياة ، وضده : القحة ، والحياء ، والاستحياء ، والانخزال ، والانقماع ، والانقلاع ، متقاربة المعنى ، فتنوب كل واحدة منها مناب الأخرى . أن : حرف ثنائي الوضع ينسبك منه مع الفعل الذي يليه مصدر ، وعمله في المضارع النصب ، إن كان معرباً ، والجزم بها لغة لبني صباح ، وتوصل أيضاً بالماضي المتصرف ، وذكروا أنها توصل بالأمر ، وإذا نصبت المضارع فلا يجوز الفصل بينهما بشيء . وأجاز بعضهم الفصل بالظرف ، وأجاز الكوفيون الفصل بينها وبين معمولها بالشرط . وأجازوا أيضاً إلغاءها وتسليط الشرط على ما كان يكون معمولاً لها لولاه ، وأجاز الفراء تقديم معمول معمولها عليها ، ومنعه الجمهور . وأحكام أن الموصولة كثيرة ، ويكون أيضاً حرف تفسير خلافاً للكوفيين ، إذ زعموا أنها لا تأتي تفسيراً ، وسيأتي الكلام على التفسيرية عند قوله تعالى : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِىَ } ، إن شاء اللّه تعالى . وتكون أن أيضاً زائدة وتطرد زيادتها بعد لما ، ولا تفيد إذ ذاك غير التوكيد ، خلافاً لمن زاد على ذلك أنها تفيد اتصال الفعل الواقع جواباً بالفعل الذي زيدت قبله ، وبعد القسم قبل لو والجواب خلافاً لمن زعم أنها إذ ذاك رابطة لجملة القسم بالمقسم عليه إذا كان لو والجواب ، ولا تكون أن للمجازاة خلافاً للكوفيين ، ولا بمعنى إن المكسورة المخففة من الثقيلة خلافاً للفارسي ، ولا للنفي ، ولا بمعنى إذ ، ولا بمعنى لئلا خلافاً لزاعمي ذلك .

وأما أن المخففة من الثقيلة فحرف ثلاثي الوضع ، وسيأتي الكلام عليه عند أول ما يذكر ، إن شاء اللّه تعالى . والضرب : إمساس جسم بجسم بعنف ويكنى به عن السفر في الأرض ويكون بمعنى الصنع والاعتمال . وروى ضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاتماً من ذهب .

والبعوضة : واحد البعوض ، وهي طائر صغير جداً معروف ، وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع فغلبت ، واشتقاقه من البغض بمعنى القطع . أما : حرف ، وفيه معنى الشرط ، وبعضهم يعبر عنها بحرف تفصيل ، وبعضهم بحرف إخبار ، وإبدل بنو تميم الميم الأولى ياء فقالوا : أيما . وقال سيبويه في تفسير أما : أن المعنى مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، والذي يليها مبتدأ وخبر وتلزم الفاء فيما ولي الجزاء الذي وليها ، إلا إن كانت الجملة دعاء فالفاء فيما يليها ولا يفصل بغيرها من الجمل بينها وبين الفاء ، وإذا فصل بها فلا بد من الفصل بينها وبين الجملة بمعمول يلي أما ، ولا يجوز أن يفصل بين أما وبين الفاء بمعمول خبر أن وفاقاً لسيبويه وأبي عثمان ، وخلافاً للمبرود وابن درستويه ، ولا بمعمول خبر ليت ولعل خلافاً للفراء . ومسألة أما علماً ، فعالم لزم أهل الحجاز فيه النصب وتختاره تميم ، وتوجيه هاتين المسألتين مذكور في النحو . الحق : الثابت الذي لا يسوغ إنكاره . حق الأمر ثبت ووجب ومنه :{ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ } ، والباطل مقابله ، وهو المضمحل الزائل ، ماذا : الأصل في ذا أنها اسم إشارة ، فمتى أريد موضوعها الأصلي كانت ماذا جملة مستقلة ، وتكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء وذا خبره . وقد استعملت العرب ماذا ثلاثة استعمالات غير الذي ذكرناه أولاً :

أحدها : أن تكون ما استفهاماً وذا موصولاً بدليل وقوع الاسم جواباً لها مرفوعاً في الفصيح ، وبدليل رفع البدل قال الشاعر : ألا تسألان المرء ماذا يحاول

أنحب فيقضى أم ضلال وباطل

الثاني : أن تكون ماذا كلها استفهاماً ، وهذا الوجه هو الذي يقول بعض النحويين فيه : إن ذا لغو ولا يريد بذلك الزيادة بل المعنى أنها ركبت مع ما وصارت كلها استفهاماً ، ويدل على هذا الوصف وقوع الإسم جواباً لها منصوباً في الفصيح ، وقول العرب : عماذا تسأل بإثبات ألف ما ، وقول الشاعر :

يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم

لا يستفقن إلى الديرين تحنانا

ولا يصح موصولية ذاهنا ،

الثالث : أن تكونما مع ذا اسماً موصولاً ، وهو قليل ، قال الشاعر :

دعي ماذا علمت سأتقيه

ولكن بالمغيب نبئيني

فعلى هذا الوجه والأول يكون الفعل بعدها صلة لا موضع له من الإعراب ولا يتسلط على ماذا : وعلى الوجه الثاني يتسلط على ماذا إن كان مما يمكن أن يتسلط . وأجاز الفارسي أن تكون ماذا نكرة موصوفة وجعل منه : دعى ماذا علمت . الإرادة : طلب نفسك الشيء وميل قلبك إليه ، وهي نقيض الكرهة ، ويأتي الكلام عليها مضافة إلى اللّه تعالى ، إن شاء اللّه . الفسوق : الخروج ، فسقت الرطبة : خرجت ، والفاسق شرعاً : الخارج عن الحق ، ومضارعه جاء على يفعل ويفعل . النقض : فك تركيب الشيء وردّه إلى ما كان عليه أولاً ، فنقض البناء هدمه ، ونقض المبرم حله . والعهد : الموثق ، وعهد إليه في كذا : أوصاه به ووثقه عليه . والعهد في لسان العرب على ستة محامل : الوصية ، والضمان ، والأمر ، والالتقاء ، والرؤية ، والمنزل . والميثاق : العهد المؤكد باليمين . والميثاق والتوثقة : كالميعاد بمعنى الوعد ، والميلاد بمعنى الولادة . الخسار : النقصان أو الهلاك ، كيف : اسم ، ودخول حرف الجر عليها شاذ ، وأكثر ما تستعمل استفهاماً ، والشرط بها قليل ، والجزم بها غير مسموع من العرب ، فلا نجيزه قياساً ، خلافاً للكوفيين وقطرب ، وقد ذكر خلاف فيها : أهي ظرف أم اسم غير طرف ؟ والأول عزوه إلى سيبويه ، والثاني إلى الأخفش والسيرافي ، والبدل منها والجواب إذا كانت مع فعل مستغن منصوبان ، ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ ، ومنصوب إن كان ناسخاً . أمواتاً : جمع ميت ، وهو أيضاً جمع ميتة ، وجمعهما على أفعال شذوذ ، والقياس في فيعل إذا كسر فعائل . الاستواء : الاعتدال والاستقامة ، استوى العود وغيره : إذا استقام واعتدل ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ، والتسوية : التقويم والتعديل .

{إِنَّ اللّه لاَ خَالِدُونَ إِنَّ اللّه لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ } ، الآيات . قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل ، والفراء : نزلت في اليهود لما ضرب اللّه تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت ، والذباب ، والتراب ، والحجارة ، وغير ذلك مما يستحقر ويطرح . قالوا : إن اللّه أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه

المحقرات ، فردّ اللّه عليهم بهذه الآية . وقال الحسن ، ومجاهد ، والسدّي ، وغيرهم : نزلت في المنافقين ، قالوا : لما ضرب اللّه تعالى المثل بالمستوقد والصيب قالوا : اللّه أعلى وأعظم أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال بها ، فرد اللّه عليهم بهذه الآية ،

وقيل نزلت في المشركين ، والكل محتمل ، إذ اشتملت على نقض العهد ، وهو من صفة اليهود ، لأن الخطاب بوفاء العهد إنما هو لبني إسرائيل ، وعلى الكافرين { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } ، وهم المشركون والمنافقون ، وكلهم كانوا في إيذائه صلى اللّه عليه وسلم متوافقين . وقد نص من أول السورة إلى هنا ذكر ثلاث طوائف ، وكلهم من الذين كفروا ، قاله القفال ، قال : ويجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب . وقال الربيع بن أنس : هذا مثل ضربه اللّه تعالى للدنيا وأهلها ، وأن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا شبعت وامتلأت ماتت . كذلك مثل أهل الدنيا إذا امتلؤوا منها كان سبباً لهلاكهم ،

وقيل : ضرب ذلك تعالى مثلاً لأعمال العباد أنه لا يمتنع أن يذكر ما قل منها أو كثر ليجازي عليها ثواباً أو عقاباً ، والأَظهر في سبب النزول القولان الأولان . ومناسبة هذه الآية ظاهرة ، إذ قد جرى قبل ذكر المثل بالمستوقد والصيب ، ونزل التمثيل بالعنكبوت والذباب ، فأنكر ذلك الجهلة وأهل العناد ، واستغربوا ما ليس بمستغرب ولا منكر ، إذ التمثيل يكشف المعنى ويوضح المطلوب . وقد تقدم الكلام في فائدته عند قوله تعالى :{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً } ، والعاقل إذا سمع التمثيل استبان له به الحق ، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور والأجناس والحشرات والهوام ، ولسان العرب ملآن من ذلك ، ألا ترى إلى قول الشاعر : وإني لألقى من ذوي الضغن منهم

وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره

كما لقيت ذات الصفا من حليفهاوما انفكت الأمثال في الناس سائره

فذكر قصة ذات الصفا ، وهي حية كانت قد قتلت قرابة حليفها ، فتواثقا باللّه على أنها تدي ذلك القتيل ولا تؤذيها ، إلى آخر القصة المذكورة في ذلك الشعر . والأمثال مضروبة في الإنجيل بالأشياء الحقيرة كالنخالة والدود والزنابير . وكذلك أيضاً قرأت أمثالاً في الزبور . فإنكار ضرب الأمثال جهالة مفرطة أو مكابرة واضحة ، ومساق هذه الجملة مصدرة بأن يدل على التوكيد .

وقرأ الجمهور : يستحيي بياءين ، والماضي : استحيا ، وهي لغة أهل الحجاز ، واستفعل هنا جاء للإغناء عن الثلاثي المجرد : كاستنكف ، واستأثر ، واستبد ، واستعبر ، وهو من المعاني التي جاء لها استفعل . وقد تقدم ذكرها عند قوله :{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وهذا هنا من الحياء . وفي كلام الزمخشري ما يدل على أن استحيا ليس مغنياً عن المجرد بل هو موافق للمجرد ، وهو أحد المعاني أيضاً الذي جاء لها استفعل .

قال الزمخشري : يقال حيي الرجل كما يقال : نسي وخشي وشظي الفرس ، إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعبر به عن الانكسار ، والتغير منكسر القوة منتقض الحياة ، كما قالوا : فلان هلك حياء من كذا ، ومات حياء ، ورأيت الهلال في وجهه من شدة الحياء ، وذاب حياء ، وجمد في مكانه خجلاً ، انتهى كلامه . فظاهره أنه يقال : من الحياء حيي الرجل ، فيكون استحيا على ذلك موافقاً للمجرد ، وعلى ما نقلناه قبل يكون مغنياً عن المجرد .

وقرأ ابن كثير في رواية شبل ، وابن محيصن ، ويعقوب : يستحي بياء واحدة ، وهي لغة بني تميم ، يجرونها مجرى يستبي . قال الشاعر :

ألا تستحي منا ملوك وتتقي

محارمنا لا يبوء الدم بالدم

والماضي : استحى ، قال الشاعر : إذا ما استحين الماء يعرض نفسه

كرعن بسيت في إناء من الورد

واختلف النحاة في المحذوفة ، فقيل لام الكلمة ، فالوزن يستفع ، فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين فصارت يستفع .

وقيل المحذوف العين ، فالوزن يستيفل ثم نقلت حركة اللام إلى الفاء وسكنت اللام فصارت يستفل . وأكثر نصوص الأئمة على أن المحذوف هو العين .

وقد تكلمنا على هذه المسألة في { كتاب التكميل لشرح التسهيل} من تأليفنا ، وليس هذا الحذف مختصاً بالماضي والمضارع ، بل يكون أيضاً في سائر التصرفات ، كاسم الفاعل ، واسم المفعول ، وغير ذلك . وهذا الفعل مما نقلوا أنه يكون متعدياً بنفسه ، ويكون متعدياً بحرف جر ، يقال : استحييته واستحييت منه . فعلى هذا يحتمل { أَن يَضْرِبَ } أن يكون مفعولاً به على أن يكون الفعل تعدى إليه بنفسه ، أو تعدى إليه على إسقاط حرف الجر . وفي ذلك الخلاف الذي ذكرناه في قوله تعالى :{ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } ، أذلك في موضع نصب بعد حذف حرف الجر أم في موضع جر ؟ .

واختلف المفسرون في معنى الاستحياء المنسوب إلى اللّه تعالى نفيه ، فقيل : المعنى لا يترك ، فعبر بالحياء عن الترك ، قاله الزمخشري وغيره ، لأن الترك من ثمرات الحياء ، لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء تركه ، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب .

وقيل : المعنى لا يخشى ، وسميت الخشية حياء لأنها من ثمراته ، ورجحه الطبري . وقد قيل في قوله تعالى :{ وَتَخْشَى النَّاسَ } ، أن معناه تستحي من الناس .

وقيل : المعنى لا يمتنع . وكل هذه الأقوال متقاربة من حيث المعنى ، يجوز أن يوصف اللّه تعالى بها ، وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء التي موضوعها في اللغة لا ينبغي أن يوصف اللّه تعالى به ،

وقيل : ينبغي أن تمر على ما جاءت ، ونؤمن بها ولا نتأولها ونكل علمها إليه تعالى ، لأن صفاته تعالى لا يطلع على ماهيتها الخلق . والذي عليه أكثر أهل العلم أن اللّه تعالى خاطبنا بلسان العرب ، وفيه الحقيقة والمجاز ، فما صح في العقل نسبته إليه نسبناه إليه ، وما استحال أوّلناه بما يليق به تعالى ، كما نؤول فيما ينسب إلى غيره مما لا يصح نسبته إليه ، والحياء بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى اللّه تعالى ، فلذلك أوله أهل العلم ، وقد جاء منسوباً إلى اللّه مثبتاً فيما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { إن اللّه حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً } ، وأول بأن هذا جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد من عطائه لكرمه بترك من ترك رد المحتاج إليه حياء منه ، وقد يجوز أيضاً في الاستحياء ، فنسب إلى ما لا يصح منه بحال ، كالبيت الذي أنشدناه قبل وهو :

إذا ما استحين الماء يعرض نفسه

قال أبو التمام : هو الليث ليث الغاب بأساً ونجدة

وإن كان أحيا منه وجهاً وأكرما

ويجوز أن يكون قوله تعالى : { لاَ يَسْتَحْىِ } على سبيل المقابلة ، لأنه روي أن الكفار قالوا : ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت ومجيء الشيء على سبيل المقابلة ، وإن لم يكن من جنس ما قوبل به ، شائع في لسان العرب ، ومنه :{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } ، وجاء ذكر الاستحياء منفياً عن اللّه تعالى ، وإن كان إثباته بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى اللّه تعالى ، فكل أمر مستحيل على اللّه تعالى إثباته ، يصح أن ينفي عن اللّه تعالى ، وبذلك نزل القرآن وجاءت السنة . ألا ترى إلى قوله تعالى :{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } ،{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }{ مَا اتَّخَذَ اللّه مِن وَلَدٍ } ،{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } ؟ ونقول : اللّه تعالى ليس بجسم . فالإخبار بانتفاء هذه الأشياء هو الصدق المحض ، وليس انتفاء الشيء مما يدل على تجويزه على من نفي عنه ، ولا صحة نسبته إليه ، كما ذهب إليه أبو بكر بن الطيب وغيره . زعم أن ما لا يجوز على اللّه إثباتاً يجب أن لا يطلق على طريق النفي ، قال : فيما ورد من ذلك هو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة ، وكثرة ذلك ، أعني نفي الشيء عما لا يصح إثباته ، له كثير في القرآن ولسان العرب ، بحيث لا يحصر ما ورد من ذلك . ويضرب : قيل معناه : يبين ،

وقيل : يذكر ،

وقيل : يضع ، من ضربت عليهم الذلة ، وضرب البعث على بني فلان ، ويكون يضرب قد تعدى إلى واحد ،

وقيل يضرب : في معنى يجعل ويصير ، كما تقول : ضربت الطين لبناً ، وضربت الفضة خاتماً . فعلى هذا يتعدى لاثنين ، والأصح أن ضرب لا يكون من باب ظن وأخواتها ، فيتعدى إلى اثنين ، وبطلان هذا المذهب مذكور في كتب النحو . وما : إذا نصبت بعوضة زائدة للتأكيد أو صفة للمثل تزيد النكرة شياعاً ، كما تقول : ائتني برجلٍ ما ، أي : أيّ رجل كان . وأجاز الفراء ، وثعلب ، والزجاج : أن تكون ما نكرة ، وينتصب بدلاً من قوله : مثلاً .

وقرأ الجمهور : بنصب بعوضة . واختلف في توجيه النصب على وجوه :

أحدها : أن تكون صفة لما ، إذا جعلنا ما بدلاً من مثل ، ومثلاً مفعول بيضرب ، وتكون ما إذ ذاك قد وصفت باسم الجنس المتنكر لإبهام ما ، وهو قول الفراء .

الثاني : أن تكون بعوضة عطف بيان ، ومثلاً مفعول بيضرب .

الثالث : أن تكون بدلاً من مثل .

الرابع : أن يكون مفعولاً ليضرب ، وانتصب مثلاً حالاً من النكرة مقدمة عليها . و

الخامس : أن تكون مفعولاً ليضرب ثانياً ، والأول هو المثل على أن يضرب يتعدى إلى اثنين . و

السادس : أن تكون مفعولاً أول ليضرب ، ومثلاً المفعول الثاني .

والسابع : أن تكون منصوباً على تقدير إسقاط الجار ، والمعنى { أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } ما بين { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } ، وحكوا له عشرون ما ناقة فجملاً ، ونسبه ابن عطية لبعض الكوفيين ، ونسبه المهدوي للكوفيين ، ونسبه غيرهما للكسائي والفراء ، ويكون : مثلاً مفعولاً بيضرب على هذا الوجه ، وأنكر هذا النصب ، أعني نصب بعوضة على هذا الوجه ، أبو العباس . وتحرير نقل هذا المذهب : أن الكوفيين يزعمون أن ما تكون جزاء في الأصل وتحول إلى لفظ الذي ، فينتصب ما بعدها ، سواء كان نكرة أم غير نكرة ، ويعطف عليه بالفاء فقط ، وتلزم ولا يصلح مكانها الواو ، ولا ثم ، ولا أو ، ولا لاو ، ويجعلون النصب في ذلك الاسم على حذف مضاف ، وهو بين . فلما حذف بين ، قام هذا مقامه في الإعراب . ويقدرون الفاء بإلى ، وقد جاء التصريح بها في بعض المواضع . حكى الكسائي عن العرب : مطرنا ما زبالة فالثعلبية ، وما منصوبة بمطرنا .

وحكى الكسائي والفراء عن العرب : هي أحسن الناس ما قرنا ، وانتصاب ما في هذه المسألة على التفسير ، وتقول : هي حسنة ما قرنها إلى قدمها . قال الفراء : أنشدنا أعرابي من بني سليم : يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم

ولا حبال محب واصل تصل

وقال الكسائي : سمعت أعرابياً نظر إلى الهلال فقال : الحمد للّه ما إهلالك إلى سرارك ،

وحكى الفراء عن العرب : الشنق ما خما فعشرين . والمعنى فيما تقدم ما بين كذا إلى كذا ، وما في هذا المعنى لا تسقط ، فخطأ أن يقول : مطرنا زبالة فالثعلبية . وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون لا يعرفه البصريون ، ورده إلى قواعد البصريين مذكور في غير هذا ، والذي نختاره من هذه الأعاريب أن ضرب يتعدى إلى اثنين هو الصحيح ، وذلك لواحد هو مثلاً لقوله تعالى : ضرب مثل ، ولأنه المقدم في التركيب ، وصالح لأن ينتصب بيضرب . وما : صفة تزيد النكرة شياعاً ، لأن زيادتها في هذا الموضع لا تنقاس . وبعوضة : بدل لأن عطف البيان مذهب الجمهور فيه أنه لا يكون في النكرات ، إنما ذهب إلى ذلك الفارسي ، ولأن الصفة بأسماء الأجناس لا تنقاس .

وقرأ الضحاك ، وإبراهيم بن أبي عبلة ، ورؤبة بن العجاج ، وقطرب : بعوضة بالرفع ، واتفق المعربون على أنه خبر ، ولكن اختلفوا فيما يكون عنه خبراً ، فقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هو بعوضة ، وفي هذا وجهان :

أحدهما : أن هذه الجملة صلة لما ، وما موصولة بمعنى الذي ، وحذف هذا العائد وهذا الإعراب لا يصح إلا على مذهب الكوفيين ، حيث لم يشترطوا في جواز حذف هذا الضمير طول الصلة .

وأما البصريون فإنهم اشترطوا ذلك فير غير أيّ من الموصولات ، وعلى مذهبهم تكون هذه القراءة على هذا التخريج شاذة ، ويكون إعراب ما على هذا التخريج بدلاً ، التقدير : مثلاً الذي هو بعوضة . والوجه

الثاني : أن تكون ما زائدة أو صفة وهو بعوضة وما بعده جملة ، كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق ،

وقيل : خبر مبتدأ ملفوظ به وهو ما ، على أن تكون استفهامية .

قال الزمخشري ، لما استنكفوا من تمثيل اللّه لأصنامهم بالمحقرات قال : إن اللّه لا يستحي أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقرة بله فما فوقها ، كما يقال ، فلأن لا يبالي بما وهب ما دينار وديناران ، والمختار الوجه الثاني لسهولة تخريجه ، لأن الوجه الأول لا يجوز فصيحاً على مذهب البصريين ، والثاني فيه غرابة واستبعاد عن معنى الاستفهام ، وما من قوله : فما معطوفة على قوله بعوضة إن نصبنا لما موصولة وصلتها الظرف ،

أو موصوفة وصفتها الظرف ، والموصوفة أرجح . وإن رفعنا بعوضة ، وكانت ما موصولة فعطف ما الثانية عليها أو استفهاماً ، فذلك من عطف الجمل ، أو كانت البعوضة خبراً لهو محذوفة ، وما زائدة ، أو صفة فعطف على البعوضة ، إما موصولة أو موصوفة ، وما فوقها الظاهر أنه يعني في الحجم كالذباب والعنكبوت ، قاله ابن عباس : ويكون ذكر البعوضة تنبيهاً على الصغر ، وما فوقها تنبيهاً على الكبر ، وبه قال أيضاً قتادة ، وابن جريج ،

وقيل : المعنى فما فوقها في الصغر ، أي وما يزيد عليها في الصغر ، كما تقول : فلان أنذل الناس ، فيقال لك : هو فوق ذلك ، أي أبلغ وأعرق في النذالة ، قاله أبو عبيدة ، والكسائي .

وقال ابن قتيبة : فوق من الأضداد ينطلق على الأكثر والأقل ، فعلى قول من قال بأن اللفظ المشترك يحمل على معانيه ، يكون دلالة على ما هو أصغر من البعوضة وما هو أكبر .

وقيل : أراد ما فوقها وما دونها ، فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر لدلالة المعنى عليها ، كما اكتفى في قوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } عن قوله : والبرد ، ورجح القول بالفوقية في الصغر بأن المقصود من التمثيل تحقير الأوثان ، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود من هذا الباب أكمل ، وبأن الغرض هنا أن اللّه لا يمتنع عن التمثيل بالشيء الحقير ، وبأن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب . فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم اللّه سبحانه ، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالكبير ، والذي نختاره القول الأول لجريان فوق على مشهور ما استقر فيها في اللغة ، وفي المعنى الذي أسند اللّه إليه عدم الاستحياء من أجله في ضرب المثل بهذه المصغرات والمستضعفات وجوه :

أحدها : أن البعوضة قد أوجدها على الغاية القصوى من الإحكام وحسن التأليف والنظام ، وأظهر فيها ، مع صغر حجمها ، من بدائع الحكمة كمثل ما أظهره في الفيل الذي هو في غاية الكبر وعظم الخلقة . وإذا كل واحد منهما قد استوفى نصاب حسن الصنعة وبدائع التأليف والصنعة ، فضرب المثل بالصغير والكبير سيان عنده إذا كانا في توفية الحكمة سواء .

الثاني : أن البعوضة لما كانت من أصغر ما خلق اللّه تعالى خصها بالذكر في القلة ، فلا يستحي أن يضرب المثل في الشيء الكبير بالكبير والحقير بالحقير ، وله المثل الأعلى في ضرب الأمثال .

الثالث : أن في البعوضة ، مع صغر حجمها وضعف بنيانها ، من حسن التأليف ودقيق الصنع ، من اختصار الخصر ودقة الخرطوم ولطيف تكوين الأعضاء ولين البشرة ، ما يعجز أن يحاط بوصفه ، وهي مع ذلك تبضع بشوكة خرطومها ، مع لينها ، جلد الجاموس والفيل ، وتهتدي إلى مراق البشرة بغير دليل ، فلا يستحي اللّه تعالى أن يضرب بها المثل ، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يخلق مثلها ولا أقل منها ، كما

قال تعالى :{ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ}

الرابع : أن المثل بالذباب والبعوض والعنكبوت ، وما يجري مجراه ، أتى به تعالى في غاية ما يكون من التمثيل ، وأحسن ما يكون من التشبيه ، لأن الذي جعلها مثلاً لهم في غاية ما يكون من الحقارة ، وضعف القوة ، وخسة الذات والفعل ، فلو شبههم بغير ذلك ما حسن موقع التشبيه ، ولا عذب مذاق التمثيل ، إذ الشيء لا يشبه إلا بما يماثله ويشاكله ، ومن أتى بالشيء على وجهه فلا يستحيا منه . وتصدير الجملتين بأما التي معناها الشرط مشعر بالتوكيد ، إذ هي أبلغ من : فالذين آمنوا يعلمون ، والذين كفروا يقولون ، إذ قد تقرر أن ما برز في حيز أما من الخبر كان واقعاً لا محالة ، وما مفيد ذلك ومثيره إلا ترتب الحكم على معنى الشرط ، والضمير في أنه عائد على المثل ،

وقيل : هو عائد على المصدر المفهوم من يضرب كأنه قال : فيعلمون أن ضرب المثل .

وقيل : هو عائد على المصدر المفهوم من لا يستحي ، أن فيعلمون أن إنتفاء الاستحياء من ذكر الحق ، والأظهر الأول لدلالة قوله تعالى :{ مَاذَا أَرَادَ اللّه بِهَاذَا مَثَلاً } فميز اللّه تعالى المشار إليه هنا بالمثل . والتقسيم ورد على شيء واحد ، فظهر أنه عائد على المثل ، وأخبر عن المؤمنين بالعلم لأنه الجزم المطابق

لدليل ، وأخبر عن الكافرين بالقول ، وهو اللفظ الجاري على اللسان ، وجعل متعلقه الجملة الاستفهامية الشاملة للاستغراق والاستبعاد والاستهزاء ، وهي قوله : { مَاذَا أَرَادَ اللّه}

وقد تقدم الكلام على أقسام ماذا ، وهي ههنا تحتمل وجهين من تلك الأقسام .

أحدهما : أن تكون ما استفهاماً في موضع رفع بالابتداء ، وذا بمعنى الذي خبر عن ما . وأراد صلة لذا الموصولة والعائد محذوف ، إذ فيه شروط جواز الحذف ، والتقدير ما الذي أراده اللّه .

والثاني : أن تكون ماذا كلها استفهاماً ، وتركيب ذا مع ما ، وتكون مفعولاً بإرادة التقدير ، أي شيء أراده اللّه ، وهذان الوجهان فصيحان .

قال ابن عطية : واختلف النحويون في ماذا فقيل : هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد اللّه ،

وقيل : ما اسم وذا اسم آخر بمعنى الذي ، فما في موضع رفع بالابتداء وذا خبر . انتهى كلام ابن عطية ، وظاهره اختلاف النحويين في ماذا هنا وليس كذلك ، إذ هما وجهان سائغان فصيحان في لسان العرب وليست مسألة خلاف عند النحويين ، بل كل من شدا طرفاً من علم النحو يجوز هذين الوجهين في ماذا هنا ، وكذا كل من وقفنا على كلامه من المفسرين والمعربين ذكروا الوجهين في ماذا هنا . والإرادة بالتفسير اللغوي ، وهي ميل القلب إلى الشيء ، يستحيل نسبتها إلى اللّه تعالى . قال بعض المفسرين : الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته ولذته وألمه . وقال المتكلمون : إنها صفة تقتضي رجحان طرفي الجائز على الآخر في الإيقاع ، لا في الوقوع ، واحترز بهذا القيد الأخير من القدرة . وأهل السنة يعتقدون أن اللّه مريد بإرادة واحدة أزلية موجودة بذاته ، والقدرية المعتزلة والنجارية والجهمية وبعض الرافضة نفوا الصفات التي أثبتها أهل السنة ، والبهشمية والبصريون من المعتزلة يقولون بحدوث إرادة اللّه تعالى لا في محل ، والكرّامية تقول بحدوثها فيه تعالى ، وإنها إرادات كثيرة ، وأكثرهم زعموا مع القول بالحدوث أنه يستحيل فيها العدم ، ومنهم من قال يجوز عدمها ، وهذه المسألة يبحث فيها في أصول الدين . وانتصاب مثلاً على التمييز عند البصريين ، أي من مثل ، وأجاز بعضهم نصبه على الحال من اسم الإشارة ، أي متمثلاً به ، والعامل فيه اسم الإشارة ، وهو كقولك : لمن حمل سلاحاً رديئاً ، ماذا أردت بهذا سلاحاً ، فنصبه من وجهين : التمييز والحال من اسم الإشارة . وأجاز بعضهم أن يكون حالاً من اللّه تعالى ، أي متمثلاً . وأجاز الكوفيون أن يكون منصوباً على القطع ، ومعنى هذا أنه كان يجوز أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله ، فإذا لم تتبعه في الإعراب وقطعته عنه نصب على القطع ، وجعلوا من ذلك .

وعالين قنوانا من البسر أحمرا

فأحمر عندهم من صفات البسر ، إلا أنه لما قطعته عن إعرابه نصبته على القطع وكان أصله من البسر الأحمر ، كذلك قالوا : ما أراد اللّه بهذا المثل . فلما لم يجر على إعراب هذا ، انتصب مثلاً على القطع ، وإذا

قلت : عبد اللّه في الحمام عرياناً ، ويجيء زيد راكباً ، فهذا ونحوه منصوب على القطع عند الكسائي . وفرق الفراء فزعم أن ما كان فيما قبله دليل عليه فهو المنصوب على القطع ، ومالاً فمنصوب على الحال ، وهذا كله عند البصريين منصوب على الحال ، ولم يثبت البصريون النصب على القطع . والاستدلال على بطلان ما ذهب إليه الكوفيون مذكور في مبسوطات النحور ، المختار انتصاب مثل على التمييز ، وجاء على معنى التوكيد لأنه من حيث أشير إليه علم أنه مثل ، فجاء التمييز بعده مؤكداً للاسم الذي أشير إليه .

يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً } : جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بإما ، ووصف تعالى العالمين بأنه الحق ، والسائلين عنه سؤال استهزاء بالكثرة ، وإن كان قد

قال تعالى : : جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بإما ، ووصف تعالى العالمين بأنه الحق ، والسائلين عنه سؤال استهزاء بالكثرة ، وإن كان قد

قال تعالى :{ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ } ،

إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وقليل مّا هم ، فلا تنافي بينهما لأن الكثرة والقلة أمران نسبيان ، فالمهتدون في أنفسهم كثير ، وإذا وصفوا بالقلة فبالنسبة إلى أهل الضلال ، أو تكون الكثرة بالنسبة إلى الحقيقة ، والقلة بالنسبة إلى الأشخاص ، فسموا كثيراً ذهاباً إلى الحقيقة ، كما قال الشاعر : إن الكرام كثير في البلاد وإن

قلوا كما غيرهم قلوا وإن كثروا

واختار بعض المعربين والمفسرين أن يكون قوله تعالى : وقليل مّا هم ، فلا تنافي بينهما لأن الكثرة والقلة أمران نسبيان ، فالمهتدون في أنفسهم كثير ، وإذا وصفوا بالقلة فبالنسبة إلى أهل الضلال ، أو تكون الكثرة بالنسبة إلى الحقيقة ، والقلة بالنسبة إلى الأشخاص ، فسموا كثيراً ذهاباً إلى الحقيقة ، كما قال الشاعر : إن الكرام كثير في البلاد وإن

قلوا كما غيرهم قلوا وإن كثروا

واختار بعض المعربين والمفسرين أن يكون قوله تعالى :{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } في موضع الصفة لمثل ، وكان المعنى :{ مَاذَا أَرَادَ اللّه بِهَاذَا مَثَلاً } يفرق به الناس إلى ضلال وإلى هداية ، فعلى هذا يكون من كلام الذين كفروا . وهذا الوجه ليس بظاهر ، لأن الذي ذكر أنّ اللّه لا يستحي منه هو ضرب مثل مّا ، أي مثل : كان بعوضة ، أو ما فوقها ، والذين كفروا إنما سألوا سؤال استهزاء وليسوا معترفين بأن هذا المثل { يُضِلُّ اللّه بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } ، إلا أن ضمن معنى الكلام أن ذلك على حسب اعتقادكم وزعمكم أيها المؤمنون فيمكن ذلك ، ولكن كونه إخباراً من اللّه تعالى هو الظاهر ، وإسناد الضلال إلى اللّه تعالى إسناد حقيقي كما أن إسناد الهداية كذلك ، فهو خالق الضلال والهداية ، وقد تؤول هنا الإضلال بالإضلال عن طريق الجنة ، والإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى تقبيح الدين وتركه ، وهو الإضلال المضاف إلى الشيطان ، والإضلال بهذا المعنى منتف عن اللّه بالإجماع . والزمخشري على طريقته الاعتزالية يقول : إسناد الضلال إلى اللّه تعالى إسناد إلى السبب ، لأنه لما ضرب به المثل فضل به قوم واهتدى به قوم تسبب لضلالهم وهداهم .

وقيل : يضل بمعنى يعذب ، كقوله تعالى :{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } ، قاله بعض المعتزلة ، وردّ القفال هذا وقال : بل المراد في الشاهد في ضلال عن الحق وجوز ابن عطية أن يكون قوله :{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } من كلام الكفار ، ويكون قوله :{ وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } إلى آخر الآية ، من كلام اللّه تعالى . وهذا الذي جوزه ليس بظاهر لأنه إلباس في التركيب ، لأن الكلام إما أن يجري على أنه من كلام الكفار ، أو يجري على أنه من كلام اللّه .

وإما أن يجري بعضه على أنه من كلام الكفار وبعضه من كلام اللّه تعالى من غير دليل على ذلك فإنه يكون إلباساً في التركيب ، وكتاب اللّه منزه عنه .

وقرأ زيد بن علي : يضلّ به كثير ويهدي به كثير وما يضلّ به إلا الفاسقون ، في الثلاثة على البناء للمفعول .

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة ، في الثلاثة على البناء للفاعل الظاهر ، مفتوح حرف المضارعة . قال عثمان بن سعيد الصيرفي : هذه قراءة القدرية . وروي عن ابن مسعود أنه قرأ : يضلّ بضمّ الياء في الأول ، وما يضلّ به بفتح الياء ، والفاسقون بالواو ، وكذا أيضاً في القراءتين السابقتين ، وهي قراءات متجهة إلى أنها مخالفة للمصحف المجمع عليه . والظاهر أن الضمير في به في الثلاثة عائد على مثلاً ، وهو على حذف المضاف ، أي يضرب المثل .

وقيل : الضمير في به من قوله :{ يُضِلُّ بِهِ } ،أي بالتكذيب في به من قوله :{ وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } ،أي بالتصديق . ودلّ على ذلك قوة الكلام في قوله تعالى :{ فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ }{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ}

ومعنى :{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } ،أي : وما يكون ذلك سبباً للضلالة إلا عند من خرج عن الحق . وقال بعض أهل العلم : معنى يضلّ ويهدي : الزيادة في الضلال والهدى ، لا أن ضرب المثل سبب للضلالة والهدى ، فعلى هذا يكون التقدير : نزيد من لم يصدق به وكفر ضلالاً على ضلالة ، ومن آمن به وصدق إيماناً على إيمانه . والفاسقين : مفعول يضلّ لأنه استثناء

مفرغ ، ومنع أبو البقاء أن يكون منصوباً على الاستثناء . ويكون مفعول يضل محذوفاً تقديره : وما يضل به أحداً إلا الفاسقين ، وليس بممتنع ، وذلك أن الاسم بعد إلا : إما أن يفرغ له العامل ، فيكون على حسب العامل نحو : ما قام إلا زيد ، وما ضربت إلا زيداً ، وما مررت إلا بزيد ، إذا جعلت زيداً وبزيد معمولاً للعامل قبل لا ، أو لا يفرغ . وإذا لم يفرغ ، فأما أن يكون العامل طالباً مرفوعاً ، فلا يجوز إلا ذكره قبل إلا ، وإضماره إن كان مما يضمر ، أو منصوباً ، أو مجروراً ، فيجوز حذفه لأنه فضلة وإتيانه . فإن حذفته كان الاسم الذي بعد إلا منصوباً على الاستثناء فتقول : ما ضربت إلا زيداً ، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً ، وما مررت إلا عمراً ، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً ، وما مررت إلا عمراً ، قال الشاعر : نجا سالم والنفس منه بشدقه

ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

يريد ولم ينج بشيء إلا جفن سيف ، وإن أثبته ، ولم يحذفه ، فله أحكام مذكورة . فعلى هذا الذي قد قعده النحويون يجوز في الفاسقين أن يكون معمولاً ليضل ، ويكون من الاستثناء المفرغ ، ويجوز أن يكون منصوباً على الاستثناء ، ويكون معمول يضل قد حذف لفهم المعنى ، والفاسق هو الخارج من طاعة اللّه تعالى . فتارة يكون ذلك بكفر وتارة يكون بعصيان غير الكفر .

قال الزمخشري : الفاسق في الشريعة : الخارج عن أمر اللّه بارتكاب الكبيرة ، وهو النازل بين المنزلتين ، أي بين منزلة المؤمن والكافر . وقالوا : إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء ، رضي اللّه عنه وعن أشياعه . وكونه بين بين ، أي حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ، ويوارث ، ويغسل ، ويصلي عليه ، ويدفن في مقابر المسلمين ، وهو كالكافر في الذم ، واللعن ، والبراءة منه ، واعتقاد عداوته ، وأن لا تقبل شهادته . ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزي خلفه ، ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة ، وقد جاء الاستعمالان في كتاب اللّه تعالى : { بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ } ، يريد اللمز والتنابز ، { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ، انتهى كلام الزمخشري . وهو جار على مذهبه الاعتزالي ، والذي عليه سلف هذه الأمة : أن من كان مؤمناً وفسق بمعصية دون الكفر ، فإنه فاسق بفسقه مؤمن بإيمانه ، وأنه لم يخرج بفسقه عن ازيمان ، ولا بلغ حد الكفر . وذهبت الخوارج إلى أن من عصى وأذنب ذنباً فقد كفر بعد إيمانه . ومنهم من قال : من أذنب بعد الإيمان فقد أشرك . ومنهم من قال : كل معصية نفاق ، وإن حكم القاضي بعد التصديق أنه منافق . وذهبت المعتزلة إلى ما ذكره الزمخشري ، وذكر أن لأصل هذه المسألة سموا معتزلة ، فإنهم اعتزلوا قول الأمة فيه ، فإن الأمة كانوا على قولين ، فأحدثوا قولاً ثالثاً فسموا معتزلة لذلك ، وهذه المسألة مقررة في أصول الدين .

﴿ ٢٦