٢٩

هو الذي خلق . . . . .

{هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً } : مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وهو أنه لما ذكر أن من كان منشئاً لكم بعد العدم ومفنياً لكم بعد الوجود وموجداً لكم ثانية ، إما في جنة ،

وإما إلى نار ، كان جديراً أن يعبد ولا يجحد ، ويشكر ولا يكفر . ثم أخذ يذكرهم عظيم إحسانه وجزيل امتنانه من خلق جميع ما في الأرض لهم ، وعظيم قدرته وتصرفه في العالم العلوي ، وأن العالم العلوي والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء ، وأنه عليم بكل شيء . ولفظة هو من

المضمرات وضع للمفرد المذكر الغائب ، وهو كلي في الوضع كسائر المضمرات ، جرى في النسبة المخصوصة حالة الاستعمال ، فما من مفرد مذكر غائب إلا ويصح أن يطلق عليه هو ، ولكن إذا أسند لهذا الاسم شيء تعين . ومشهور لغات العرب تخفيف الواو مفتوحة ، وشددتها همدان ، وسكنتها أسد وقيس ، وحذف الواو مختص بالشعر . ولهؤلاء المنسوبين إلى علم الحقائق وإلى التصوف كلام غريب بالنسبة لمعقولنا ، رأيت أن أذكره هنا ليقع الذكر فيه .

قالوا : أسماء اللّه تعالى على ثلاثة أقسام : مظهرات ، ومضمرات ، ومستترات . فالمظهرات : أسماء ذات ، وأسماء صفات ، وهذه كلها مشتقة ، وأسماء الذات مشتقة وهي كثيرة ، وغير المشتق واحد وهو اللّه . وقد قيل : إنه مشتق ، والذي ينبغي اعتقاده أنه غير مشتق ، بل اسم مرتجل دال على الذات .

وأما المضمرات فأربعة : أنا في مثل : { اللّه لا إِلَاهَ إِلا أَنَاْ } ، وأنت في مثل :{ لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ } ، وهو في مثل :{ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم } ، ونحن في مثل :{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} قالوا : فإذا تقرر هذا فاللّه أعظم أسمائه المظهرات الدالة على الذات ، ولفظة هو من أعظم أسمائه المظهرات والمضمرات للدلالة على ذاته ، لأن أسماءه المشتقة كلها لفظها متضمن جواز الاشتراك لاجتماعهما في الوصف الخاص ، ولا يمنع أن يكون أحد الوصفين حقيقة والآخر مجازاً من الاشتراك ، وهو اسم من أسماء اللّه تعالى ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة من حيث هو هو . فلفظة هو توصلك إلى الحق وتقطعك عما سواه ، فإنك لا بد أن يشرك مع النظر في معرفة ما يدل عليه الاسم المشتق النظر في معرفة المعنى الذي يشتق منه ، وهذا الاسم لأجل دلالته على الذات ينقطع معه النظر إلى ما سواه ، اختاره الجلة من المقربين مداراً لذكرهم ومناراً لكل أمرهم فقالوا : يا هو ، لأن لفظة هو إشارة بعين المشار إليه بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد ، والمقربون لا يخطر في عقولهم وأرواحهم موجود آخر سوى الذي دلت عليه إشارته ، وهو اسم مركب من حرفين وهما : الهاء والواو ، والهاء أصل والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية ، والجمع في هما وهم ، والأصل حرف واحد يدل على الواحد الفرد . انتهى ما نقل عن بعض من عاصرناه في هو بالنسبة إلى اللّه تعالى مقرراً لما ذكروه ومعتقداً لما حبروه . ولهم في لفظة أنا وأنت وهو كلام غريب جداً بعيد عما تكلم عليها به أهل اللغة والعربية ، وحديث هؤلاء المنتمين إلى هذه العلوم لم يفتح لي فيه ببارقة ، ولا ألممت فيه إلى الآن بغادية ولا طارقة ، نسأل اللّه تعالى أن ينور بصائرنا بأنوار الهداية ، وأن يجنبنا مسالك الغواية ، وأن يلهمنا إلى طريق الصواب ، وأن يرزقنا اتباع الأمرين النيرين : السنة والكتاب .

ولكم : متعلق بخلق ، واللام فيه ، قيل : للسبب ، أي لأجلكم ولانتفاعكم ، وقدر بعضهم لاعتباركم .

وقيل : للتمليك والإباحة ، فيكون التمليك خاصاً ، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به وتدعو الضرورة إليه .

وقيل : للاختصاص ، وهو أعم من التمليك ، والأحسن حملها على السبب فيكون مفعولاً من أجله لأنه بما في الأرض يحصل الانتفاع الديني والدنيوي . فالديني : النظر فيه وفيما فيه من عجائب الصنع ولطائف الخلق الدالة على قدرة الصانع وحكمته ومن التذكير بالآخرة والجزاء ،

وأما الدنيوي : فظاهر ، وهو ما فيه من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمناظر البهية وغير ذلك . وقد استدل بقوله :{ خَلَقَ لَكُمْ } ، من ذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة ، فلكل أحد أن ينتفع بها ، وإذا احتمل أن يكون اللام لغير التمليك والإباحة ، لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه . وقد ذهب قوم إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر ، فلا يقدم على شيء إلا بإذن . وذهب قوم إلى أن الوقف لنا تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة ، ودليل القائلين بالحظر قالوا بالوقف .

وحكى أبو بكر بن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : لم يخل العقل قط من السمع ، فلا نازلة إلا وفيها سمع ، أو لها تعلق به أثر لها حال تستصحب ، وإذا جعلنا اللام للسبب ، فليس المعنى أن اللّه فعل شيئاً لسبب ، لكنه لما فعل ما لو فعله غيره لفعله لسبب أطلق عليه لفظ السبب واندرج تحت قوله :{ مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً } ، جميع ما كانت الأرض مستقراً له من الحيوان والنبات والمعدن والجبال ، وجميع ما كان بواسطة من الحرف والأمور المستنبطة . واستدل بعضهم بذلك على تحريم

الطين ، قال : لأنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض .

وقد تقدم قبل هذا الإمتنان بجعل الأرض لنا فراشاً ، وهنا امتن بخلق ما فيها لنا وانتصب جميعاً على الحال من المخلوق ، وهي حال مؤكدة لأن لفظة ما في الأرض عام ، ومعنى جميعاً العموم . فهو مرادف من حيث المعنى للفظة كل كأنه قيل : ما في الأرض كله ، ولا تدل على الاجتماع في الزمان ، وهذا هو الفارق بين معاً وجميعاً . وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على مع ، ومن زعم أن المعنى بقوله : ما في الأرض ، الأرض وما فيها ، فهو بعيد عن مدلول اللفظ ، لكنه تفسير معنى من هذا اللفظ ، ومن قوله تعالى : { الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً } ، فانتظم من هذين الأرض وما فيها خلق اللّه ذلك لنا .

وقال الزمخشري : إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء ، كما تذكر السماء ، ويراد بها الجهات العلوية ، جاز ذلك ، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية . وقال بعض المنسوبين للحقائق : خلق لكم لبعد نعمه عليكم ، فتقتضي الشكرمن نفسك لتطلب المزيد منه . وقال أبو عثمان وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاء في المعاد ، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك ، فإنه قد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وقبل التوحيد . وقال ابن عطاء : خلق لكم ليكون الكون كله لك وتكون للّه فلا تشتغل بما لك عما أنت له . وقال بعض البغداديين : أنعم عليك بها ، فإن الخلق عبدة النعم لاستيلاء النعم عليهم ، فمن ظهر للحضرة أسقط عنه المنعم رؤية النعم . وقال الثوري : أعلى مقامات أهل الحقائق الانقطاع عن العلائق : والعطف بثم يقتضي التراخي في الزمان ، ولا زمان إذ ذاك ، فقيل : أشار بثم إلى التفاوت الحاصل بين خلق السماء والأرض في القدر ،

وقيل : لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركة فيها وتقدير الأقوات عطف بثم ، إذ بين خلق الأرض والاستواء تراخ يدل على ذلك :{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ } ، الآية . استوى أهل الحجاز على الفتح ، ونجد على الإمالة . وقرىء في السبعة بهما ، { وفي الاستواء هنا سبعة أقوال } :

أحدها : أقبل وعمد إلى خلقها وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر ، وهو استعارة من قولهم : استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ، قال معناه الفراء ، واختاره الزمخشري ، وبين ما الذي استعير منه .

الثاني : علا وارتفع من غير تكييف ولا تحديد ، قاله الربيع بن أنس ، والتقدير : علا أمره وسلطانه ، واختاره الطبري .

الثالث : أن يكون إلى بمعنى على ، أي استوى على السماء ، أي تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكاً لخلقه ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : فلما علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ومعنى هذا الاستيلاء كما قال الشاعر : قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

الرابع : أن المعنى تحول أمره إلى السماء واستقر فيها ، والاستواء هو الاستقرار ، فيكون ذلك على حذف مضاف ، أي ثم استوى أمره إلى السماء ، أي استقر لأن أوامره وقضاياه تنزل إلى الأرض من السماء ، قاله الحسن البصري . و

الخامس : أن المعنى استوى بخلقه واختراعه إلى السماء ، قاله ابن كيسان ، ويؤول المعنى إلى القول الأول .

السادس : أن المعنى كمل صنعه فيها ، كما تقول : استوى الأمر ، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه .

السابع : أن الضمير في استوى عائد على الدخان ، وهذا بعيد جدًّا يبعده قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِىَ دُخَانٌ } ، واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور ، ولا يفسره سياق الكلام .

وهذه التأويلات كلها فرار عما تقرر في العقول من أن اللّه تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى ، وأن يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث ، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش ، إن شاء اللّه تعالى . ومعنى التسوية : تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن وتكميله من قولهم : درهم سواء ، أي وازن كامل تام ، أو جعلهن سواء من قوله :{ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ } أو تسوية سطوحها بالإملاس . والضمير في فسوّاهن عائد على السماء على أنها جمع سماوة ، أو على أنه اسم جنس فيصدق إطلاقه على الفرد والجمع ، ويكون مراداً به هنا الجمع .

قال الزمخشري ، والضمير في فسواهن ضمير مبهم . و { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } تفسيره كقولهم : ربه رجلاً ، انتهى كلامه . ومفهومه أنّ هذا الضمير يعود على ما بعده ، وهو مفسر به ، فهو عائد على غير متقدّم الذكر . وهذا الذي يفسره ما بعده : منه ما يفسر بجملة ، وهو ضمير الشأن أو القصة ، وشرطها عند البصريين أن يصرح بجزأيها ، ومنه ما يفسر بمفرد ، أي غير جملة ، وهو الضمير المرفوع بنعم وبئس وما جرى مجراهما . والضمير المجرور بربّ ، والضمير المرفوع بأول المتنازعين على مذهب البصريين ، والضمير المجعول خبره مفسراً له ، والضمير الذي أبدل منه مفسره في إثبات هذا القسم الأخير خلاف ، وذلك نحو : ضربتهم قومك ، وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحداً من هذه الضمائر التي سردناها ، إلا أن تخيل فيه أن يكون سبع سموات بدلاً منه ومفسراً له ، وهو الذي يقتضيه تشبيه الزمخشري له بربه رجلاً ، وأنه ضمير مبهم ليس عائداً على شيء قبله ، لكن هذا يضعف بكون هذا التقدير يجعله غير مرتبط بما قبله ارتباطاً كلياً ، إذ يكون الكلام قد تضمن أنه تعالى استوى على السماء ، وأنه سوى سبع سموات عقيب استوائه السماء ، فيكون قد أخبر بإخبارين : أحدهما استواؤه إلى السماء والآخر : تسويته سبع سموات .

وظاهر الكلام أن الذي استوى إليه هو بعينه المستوي سبع سموات . وقد أعرب بعضهم سبع سموات بدلاً من الضمير على أن الضمير عائد على ما قبله ، وهو إعراب صحيح ، نحو : أخوك مررت به زيد ، وأجازوا في سبع سموات أن يكون منصوباً على المفعول به ، والتقدير : فسوى منهن سبع سموات ، وهذا ليس بجيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى . أما من حيث اللفظ فإن سوى ليس من باب اختار ، فيجوز حذف حرف الجر منه في فصيح الكلام ،

وأما من حيث المعنى فلأنه يدل على أن الموات كثيرة ، فسوى منهن سبعاً ، والأمر ليس كذلك ، إذ المعلوم أن السموات سبع . وأجازوا أيضاً أن يكون مفعولاً ثانياً لسوى ، ويكون معنى سوى : صير ، وهذا ليس بجيد ، لأن

تعدى سوى لواحد هو المعلوم في اللغة ،  { فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } ،{ قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ}

وأما جعلها بمعنى صير ، فغير معروف في اللغة . وأجازوا أيضاً النصب على الحال ، فتلخص في نصب سموات أوجه البدل باعتبارين ، والمفعول به ، ومفعول ثان ، وحال ، والمختار البدل باعتبار عود الضمير على ما قبله والحال ، ويترجح البدل بعدم الاشتقاق .

وقد اختلف أهل العلم في أيهما خلق قبل ، فمنهم من قال : السماء خلقت قبل الأرض ، ومنهم من قال : الأرض خلقت قبل السماء ، وكل تعلق في الاستدلال بظواهر آيات يأتي الكلام عليها إن شاء اللّه تعالى . والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدم على تسوية السماء سبعاً لا غير ، والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء ، وخلقت السماء بعدها ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء وبهذا يحتمل الجمع بين الآيات .

وقال بعضهم : وإنما خلق السموات سبعاً ، لأن السبعة والسبعين فيه دلالة على تضاعيف القوة والشدة ، كأنه ضوعف سبع مرات . ومن شأن العرب أن يبالغوا بالسبعة والسبعين من العدد ، لما في ذكرها من دليل المضاعفة .

قال تعالى :{ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً } ،{ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } ، والسبعة تذكر في جلائل الأمور : الأيام سبعة ، والسموات سبع ، والأرضين سبع ، والنجوم التي هي أعلام يستدل بها سبعة : زحل ، والمشتري ، وعطارد ، والمريخ ، والزهرة ، والشمس ، والقمر ، والبحار سبعة ، وأبواب جهنم . وتسكين الهاء في هو وهي بعد الواو والفاء واللام وثم جائز ، وقل بعد كاف الجر وهمزة الاستفهام ، وندر بعد لكن ، في قراءة أبي حمدون ، لكن هو اللّه ربي ، وهو تشبيه بتسكين سبع وكرش ، شبه الكلمتان بالكلمة .{ وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } :

وقرأ بتسكين { وَهُوَ } أبو عمرو والكسائي وقالون ،

وقرأ الباقون بضم الهاء على الأصل . ووقف يعقوب على وهو بالهاء نحو : وهوه { بِكُلّ } متعلق بقوله :{ عَلِيمٌ } ، وكان القياس التعدي باللام حالة التقديم ، أو بنفسه .

وأما حالة التأخير فبنفسه لأنه من فعل متعد ، وهو أحد الأمثلة الخمسة التي للمبالغة ، وقد حدث فيها بسبب المبالغة من الأحكام في فعلها ولا في اسم الفاعل ، وذلك أن هذا المبني للمبالغة المتعدي ، إما أن يكون فعله متعدياً بنفسه ، أو بحرف جر ، فإن كان متعدياً بحرف جر تعدى المثال بحرف الجر نحو : زيد صبور على الأذى زهيد في الدنيا ، لأن صبر يتعدى بعلى ، وزهد يتعدى بفي ، وإن كان متعدياً بنفسه . فإما أن يكون ما يفهم علماً وجهلاً ، أو لا . إن كان مما يفهم علماً أو جهلاً تعدى المثال بالباء نحو : زيد عليم بكذا ، وجهول بكذا ، وخبير بذلك ، وإن كان لا يفهم علماً ولا جهلاً فيتعدى باللام نحو قوله تعالى :{ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } وفي تعديها لما بعدها بغير الحرف ونصبها له خلاف مذكور في النحو ، وإنما خالفت هذه الأمثلة التي للمبالغة أفعالها المتعدية بنفسه ، لأنها بما فيها من المبالغة أشبهت أفعل التفضيل ، وأفعل التفضيل حكمه هكذا .

قال تعالى :{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } ، وقال الشاعر :

أعطى لفارهة حلو مراتعها

وقال :

أكر وأحمى للحقيقة منهم

فإن جاء بعده ما ظاهره أنه منصوب به نحو : قوله تعالى إن ربك هو أعلم من يضل ، وقول الشاعر :

وأضرب منا بالسيوف القوانسا

أول بأنه معمول لفعل محذوف يدل عليه أفعال التفضيل .

{شَىْء } : قد تقدم اختلاف الناس في مدلول شيء . فمن أطلقه على الموجود والمعدوم كان تعلق العلم بهما من هذه الآية ظاهراً ، ومن خصه بالموجود فقط كان تعلق علمه تعالى بالمعدوم مستفاداً من دليل آخر غير هذه الآية .{ عَلِيمٌ } ؛ قد ذكرنا أنه من أمثلة المبالغة ، وقد وصف تعالى نفسه بعالم وعليم وعلام ، وهذان للمبالغة . وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في علامة ، ولا يجوز وصفه به تعالى . والمبالغة بأحد أمرين : أما بالنسبة إلى تكرير وقوع الوصف سواء اتحد متعلقه أم تكثر ،

وأما بالنسبة إلى تكثير المتعلق لا تكثير الوصف . ومن هذا الثاني المبالغة في صفات اللّه تعالى ، لأن علمه تعالى واحد لا تكثير فيه ، فلما تعلق علمه تعالى بالجميع كلية وجزئية دقيقة ، وجليلة معدومة وموجودة ، وصف نفسه تعالى بالصفة التي دلت على المبالغة ، وناسب مقطع هذه الآية بالوصف بمبالغة العلم ، لأنه تقدم ذكر خلق الأرض والسماء والتصرف في العالم العلوي والسفلي وغير ذلك من الإماتة والإحياء ، وكل ذلك يدل على صدور هذه الأشياء عن العلم الكامل التام المحيط بجميع الأشياء . وقال بعض الناس : العليم من كان علمه من ذاته ، والعالم من كان علمه متعدياً من غيره ، وهذا ليس بجيد لأن اللّه تعالى قد وصف نفسه بالعالم ، ولم يكن علمه بتعلم . وفي تعميم قوله تعالى :{ بكل شيء عليم } رد على من زعم أن علم اللّه تعالى متعلق بالكليات لا بالجزئيات ، تعالى اللّه عن ذلك . وقالوا : علم اللّه تعالى يتميز على علم عباده بكونه واحداً يعلم به جميع المعلومات ، وبأنه لا يتغير بتغيرها ، وبأنه غير مستفاد من حاسة ولا فكر ، وبأنه ضروري لثبوت امتناع زواله ، وبأنه تعالى لا يشغله علم عن علم ، وبأن معلوماته تعالى غير متناهية . وفي قولهم لا يشغله علم عن علم ، يريدون ، معلوم عن معلوم ، لأنه قد تقدم أن علم اللّه واحد ولا يشغله تعلق علم شيء عن تعلقه بشيء آخر .

وتضمن قوله تعالى : { إن اللّه لا يستحي } إلى آخر قوله :{ وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } : أن ما ضرب به المثل في كتابه : من مستوقد النار ، والصيب ، والذباب ، والعنكبوت ، وما يجري مجرى ذلك ، فيه عجائب من الحكم الخفية ، والجلية ، وبدائع الفصاحة العربية ، وموافقة المثل لما ضرب به ، وأنه لا يحسن في مثله الأمثلة ، وأنه تعالى لا يترك ذلك لما فيه من الحكم ومدح من عرف أن ذلك حق ، وذم من أنكره وعابه ، وأن في ضربه هدى لمن آمن ، وضلالاً لمن صد عنه ، وذم من نقض عهد اللّه وقطع ما يجب أن يوصل ، وأفسد في الأرض ، وإعلامه بأن ذلك سبب خسرانه ، والإعلام أن ناقضي عهده هو تعالى قادر على إحيائهم بعد الموت ، كما كان قادراً على إيجادهم بعد العدم ، وأنه جامعهم وباعثهم ومجازيهم بأعمالهم ، وفي ذلك أشد التخويف والتهديد . ثم بعد التخويف ذكرهم تعالى بنعمه التي أنعمها عليهم : من خلق الأرض المقلة ، والسماء المظلة ، والمخلوقات المتعددة التي ينتفعون بها ويعتبرون بها ، ليجمع بذلك بين الترهيب والترغيب ، وهذه هي الموعظة التي يتعظ بها ذو العقل السليم والذهن المستقيم . ثم ختم ذلك بالفضل الأكبر من إعلامهم بإحاطة علمه بجميع الأشياء من الابتداء إلى الانتهاء .

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ} .

﴿ ٢٩