٣١

وعلم آدم الأسماء . . . . .

{وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا } : لما أخبر تعالى الملائكة عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته على سبيل الإجمال ، أراد أن يفصل ، فبين لهم من فضل آدم ما لم يكن معلوماً لهم ، وذلك بأن علمه الأسماء ليظهر فضله وقصورهم عنه في العلم ، فتأكد الجواب الإجمالي بالتفضيل . ولا بد من تقدير جملة محذوفة قبل هذا ، لأنه بها يتم المعنى ويصح هذا العطف ، وهي : فجعل في الأرض خليفة . ولما كان لفظ الخليفة محذوفاً مع الجملة المقدرة ، أبرزه في قوله :{ وَعَلَّمَ ءادَمَ } ، ناصاً عليه ومنوهاً بذكره باسمه . وأبعد من زعم أن :{ وَعَلَّمَ ءادَمَ } معطوف على قوله ، قال من قوله تعالى :{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ} وهل التعليم بتكليم اللّه تعالى له في السماء ، كما كلم موسى في الأرض ، أو بوساطة ملك أو بالإلهام ؟ أقوال أظهرها أن الباري تعالى هو المعلم ، لا بواسطة ولا إلهام .

وقرأ اليماني ويزيد اليزيدي : وعلم آدم مبنياً للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به والتضعيف في علم للتعدية ، إذ كان قبل التضعيف يتعدى لواحد ، فعدى به إلى اثنين . وليست التعدية بالتضعيف مقيسة ، إنما يقتصر فيه على مورد السماع ، سواء كان الفعل قبل التضعيف لازماً أم كان متعدياً ، نحو : علم المتعدية إلى واحد .

وأما إن كان متعدياً إلى اثنين ، فلا يحفظ في شيء منه التعدية بالتضعيف إلى ثلاث . وقد وهم القاسم بن علي الحريري في زعمه في شرح الملحة له أن علم تكون منقولة من علم التي تتعدى إلى اثنين فتصير بالتضعيف متعدية إلى ثلاثة ، ولا يحفظ ذلك من كلامهم .

وقد ذهب بعض النحويين إلى اقتباس التعدية بالتضعيف . قال الإمام أبو الحسين بن أبي الربيع في { كتاب التلخيص} من تأليفه : الظاهر من مذهب سيبويه أن النقل بالتضعيف سماع في المتعدي واللازم ، وفيما علمه أقوال : أسماء جميع المخلوقات ، قاله ابن نعباس وابن جبير ومجاهد وقتادة ، أو اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وعزى إلى ابن عباس ، وهو قريب من الأول ، أو جميع اللغات ، ثم كلم كل واحد من بنيه بلغة فتفرقوا في البلاد ، واختص كل فرقة بلغة أو كلمة واحدة تفرع منها جميع اللغات ، أو أسماء النجوم فقط ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، أو أسماء الملائكة فقط ، قاله الربيع بن خيثم ،

أو أسماء ذريته ، قاله الربيع بن زيد ، أو أسماء ذريته والملائكة ، قاله الطبري واختاره ؛ أو أسماء الأجناس التي خلقها ، علماً أن هذا اسمه فرس ، وهذا اسمه بعير ، وهذا اسمه كذا ، وهذا اسمه كذا ، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ، واختاره الزمخشري ، أو أسماء ما خلق في الأرض ، قاله ابن قتيبة ، أو الأسماء بلغة ثم وقع الاصطلاح من ذريته في سواها ، أو علمه كل شيء حتى نحو سيبويه ، قاله أبو علي الفارسي ، أو أسماء اللّه عز وجل ، قاله الحكيم الترمذي ، أو أسماء من أسمائه المخزونة ، فعلم بها جميع الأسماء ، قاله الجريري ، أو التسميات . ومعنى هذا علمه أن يسمي الأشياء ، وليس المعنى علمه الأسماء ، لأن التسمية غير الاسم ، قاله الجمهور ، وحالة تعليمه تعالى آدم ، هل عرض عليه المسميات أو وصفها له ولم يعرضها عليه قولان : قال بعض من عاصرناه : المختار أسماء ذريته ، وعرفه العاصي والمطيع ليعرف الملائكة بأسمائهم وأفعالهم رداً عليهم قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } ، الأسماء كلها يحتمل أسماء المسميات ، فحذف المضاف إليه لدلالة الأسماء عليه .

قال الزمخشري : وعوض منه اللام كقوله :{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } ، انتهى .

وقد تقدم لنا أن اللام عوض من الإضافة ليس مذهب البصريين ، ويحتمل أن يكون التقدير مسميات ، الأسماء ، فحذف المضاف وقيم المضاف إليه مقامه ، ويترجح الأول ، وهو تعليق التعليم بالأسماء تعلق الأنباء به في قوله :{ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء } ، والآية التي بعدها ، ولم يقل : أنبئوني بهؤلاء ، ولا أنبئهم بهم . ويترجح الثاني بقوله ، ثم عرضهم إذا حمل على ظاهره ، لأن الأسماء لا تجمع كذلك ، فدل على عوده على المسميات نحو قوله تعالى :{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَاهُ } ، التقدير : أو كذي ظلمات ، فعاد الضمير من يغشاه على ذي المحذوفة ، القائم مقامها في الإعراب ظلمات . والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أن اللّه علم آدم الأسماء ولم يبين لنا أسماء مخصوصة ، بل دل قوله تعالى :{ كُلَّهَا } على الشمول ، والحكمة حاصلة بتعليم الأسماء ، وإن لم تعلم مسمياتها . ويحتمل أن يريد بالأسماء المسميات ، فيكون من إطلاق اللفظ ويراد به مدلوله .

{ثُمَّ عَرَضَهُمْ } : ثم : حرف تراخ ، ومهلة علم آدم ثم أمهله من ذلك الوقت إلى أن قال :{ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ } ليتقرر ذلك في قلبه ويتحقق المعلوم ثم أخبره عما تحقق به واستيقنه .

وأما الملائكة فقال لهم على وجه التعقيب دون مهلة { أَنبِئُونِى } ، فلما لم يتقدم لهم تعريف لم يخبروا ، ولما تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر ونطق إظهاراً لعنايته السابقة به

سبحانه . عرضهم خلقهم وعرضهم عليهم ، قاله ابن مسعود ، أو صورهم لقلوب الملائكة ، أو عرضهم وهم كالذر ، أو عرض الأسماء ، قاله ابن عباس ، وفيه جمعها بلفظة هم . والظاهر أن ضمير النصب في عرضهم يعود على المسميات ، وظاهره أنه للعقلاء ، فيكون إذ ذاك المعنى بالأسماء أسماء العاقلين ، أو يكون فيهم غير العقلاء ، وغلب العقلاء .

وقرأ أبي ثم عرضها .

وقرأ عبد اللّه ثم عرضهن ، والضمير عائد على الأسماء ، فتكون هي المعروضة ، أو يكون التقدير مسمياتها ، فيكون المعروض المسميات لا الأسماء . { عَلَى الْمَلَائِكَةِ } : ظاهره العموم ، فقيل : هو مراد ،

وقيل : الملائكة الذين كانوا مع إبليس في الأرض .{ فَقَالَ } : الفاء : للتعقيب ، ولم يتخلل بين العرض والأمر مهلة بحيث يقع فيها تروّ أو فكر ، وذلك أجدر بعدم الإضافة .{ أَنبِئُونِى } : أمر تعجيز لا تكليف .

وقرأ الأعمش : أنبوني ، بغير همز ، وقد استدل بقوله : أنبئوني على جواز تكليف ما لا يطاق ، وهو استدلال ضعيف ، لأنه على سبيل التبكيت ، ويدل عليه :{ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}{ بِأَسْمَاء هَؤُلاء } : ظاهره حضور أشخاص حالة العرض على الملائكة ، ومن قال : إن المعروض إنما هي أسماء فقط ، جعل الإشارة إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة ، إذ قد حضر ما هو منها بسبب وذلك أسماؤها وكأنه قال لهم : في كل اسم لأي شخص هذا الإسم ، وهذا فيه بعد وتكلف وخروج عن الظاهر بغير داعية إلى ذلك .

{إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } : شرط جوابه محذوف تقديره فأنبئوني يدل عليه أنبئوني السابق ، ولا يكون أنبؤني السابق هو الجواب ، هذا مذهب سيبويه وجمهور البصريين ، وخالف الكوفيون وأبو زيد وأبو العباس ، فزعموا أن جواب الشرط هو المتقدّم في نحو هذه المسألة ، هذا هو النقل المحقق ، وقد وهم المهدوي ، وتبعه ابن عطية ، فزعما أن جواب الشرط محذوف عند المبرد ، التقدير : فأنبئوني ، إلا إن كانا اطلعا على نقل آخر غريب عن المبرد يخالف مشهور ما حكاه الناس ، فيحتمل . وكذلك وهم ابن عطية وغيره ، فزعما أنّ مذهب سيبويه تقديم الجواب على الشرط ، وأن قوله : أنبئوني المتقدم هو الجواب . والصدق هنا هو الصواب ، أي إن كنتم مصيبين ، كما يطلق الكذب على الخطأ ، كذلك يطلق الصدق على الصواب . ومتعلق الصدق فيه أقوال :{ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، إني لا أخلق خلقاً ، لا كنتم أعلم منه ، لأنه هجس في أنفسهم أنهم أعلم من غيرهم ، أو فيما زعمتم أن خلفائي يفسدون في الأرض ، أو فيما وقع في نفوسكم أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل منه ، أو بأمور من أستخلفهم بعدكم ، أو إني إن استخلفتكم فيها سبحتموني وقدّستموني ، وإن استخلفت غيركم فيها عصاني ، أو في قولكم : إنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون له وتقومون به ، قاله ابن مسعود وابن عباس ، أو في ذلك أنباء ، وجواب السؤال بالأسماء ، { روي } أن : الملائكة حين خلق اللّه آدم قالت : يخلق ربنا ما شاء ، فلن يخلق خلقاً أعلم منا ولا أكرم عليه . فأراد أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا ، قالوا : ولقوله إن كنتم صادقين ، لم يجز لهم الاجتهاد ، إذ لو لم يقيد بالصدق ، وهو الإصابة ، لجاز الاجتهاد ، كما جاز للذي قال له : كم لبثت ؟ ولم يشرط عليه الإصابة فلم يصب ولم يعنف . وأبعد من ذهب إلى أن الصدق هنا ضد الكذب المتعارف لعصمة الملائكة ، كما أبعد من جعل إن بمعنى إذ ، فأخرجها عن الشرطية إلى الظرفية . وإذا التقت همزتان مكسورتان من كلمتين نحو : هؤلاء إن كنتم ، فورش وقنبل يبدلان الثانية ياء ممدودة ، إلا أن ورشاً في : هؤلاء إن كنتم ، وعلى البغاء إن أردن ، يجعل الياء مكسورة ، وقالون والبزي يلينان الأولى ويحققان الثانية ، وعنهما في بالسوء إلا وجوه :

أحدها : هذا الأصل الذي تقرر لهما .

الثاني : إبدال الهمزة الأولى واواً مكسورة وإدغام الواو الساكنة قبلها فيها وتحقيق الثانية .

الثالث : إبدال الهمزة الأولى ياء ، نحو : بالسوي .

الرابع : إبدالها واواً من غير إدغام ، نحو : السوو .

وقرأ أبو عمرو : بحذف الأولى ،

وقرأ الكوفيون وابن عامر : بتحقيق الهمزتين .

﴿ ٣١