٣٤

وإذ قلنا للملائكة . . . . .

لم يؤثر فيها سبب نزول سمعي ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن اللّه تعالى لما شرف آدم بفضيلة العلم وجعله معلماً للملائكة وهم مستفيدون منه مع قولهم السابق : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} أراد اللّه أن يكرم هذا الذي استخلفه بأن يسجد له ملائكته ، ليظهر بذلك مزية العلم على مزية العبادة . قال الطبري : قصة إبليس تقريع لمن أشبهه من بني آدم ، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، مع علمهم بنبوته ، ومع قدم نعم اللّه عليهم وعلى أسلافهم . وإذ : ظرف كما سبق فقيل بزيادتها .

وقيل : العامل فيها فعل مضمر يشيرون إلى ادكر .

وقيل : هي معطوفة على ما قبلها ، يعني قوله :{ وَإِذْ قَالَتْ رَبَّكَ } ، ويضعف الأول بأن الأسماءلا تزاد ، والثاني أنها لازم ظرفيتها ، والثالث لاختلاف الزمانين فيستحيل وقوع العامل الذي اخترناه في إذ الأولى في إذ هذه .

وقيل : العامل فيها أبى ، ويحتمل عندي أن يكون العامل في إذ محذوف دل عليه قوله :{ فَسَجَدُواْ } ، تقديره : انقادوا وأطاعوا ، لأن السجود كان ناشئاً عن الانقياد للأمر .

وفي قوله :{ قُلْنَا}

التفات ، وهو من أنواع البديع ، إذ كان ما قبل هذه الآية قد أخبر عن اللّه بصورة الغائب ، ثم انتقل إلى ضمير المتكلم ،  { وَءاتَى بِنَا } التي تدل على التعظيم وعلوّ القدرة وتنزيله منزلة الجمع ، لتعدد صفاته الحميدة ومواهبه الجزيلة .

وحكمة هذا الالتفات وكونه بنون المعظم نفسه أنه صدر منه الأمر للملائكة بالسجود ، ووجب عليهم الامتثال ، فناسب أن يكون الأمر في غاية من التعظيم ، لأنه متى كان كذلك كان أدعى لامتثال المأمور فعل ما أمر به من غير بطء ولا تأول لشغل خاطره بورود ما صدر من المعظم . وقد جاء في القرآن نظائر لهذا ، منها :{ وَقُلْنَا يَاءادَمُ ءادَمَ اسْكُنْ } ،{ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ } ،{ قُلْنَا ياذَا نَّارٍ كُونِى بَرْداً } ، وقلنا من بعده لبني إسرائيل :{ اسْكُنُواْ الاْرْضَ } ،{ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ } ،{ وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ} فأنت ترى هذا الأمر وهذا النهي كيف تقدّمهما الفعل المسند إلى المتكلم المعظم نفسه ، لأن الآمر اقتضى الاستعلاء على المأمور ، فظهر للمأمور بصفة العظمة ، ولا أعظم من اللّه تعالى ، والمأمورون بالسجود ، قال السدي : عامة الملائكة .

وقال ابن عباس : الملائكة الذين يحكمون في الأرض .

وقرأ الجمهور : للملائكة بجر التاء .

وقرأ أبو جعفر يزيد ابن القعقاع وسليمان بن مهران : بضم التاء ، اتباعاً لحركة الجيم ونقل أنها لغة أزدشنوءة . قال الزجاج : هذا غلط من أبي جعفر ، وقال الفارسي : هذا خطأ ، وقال ابن جني : لأن كسرة التاء كسرة إعراب ، وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر ، إذا كان ما قبل الهمزة ساكناً صحيحاً نحو :{ وَقَالَتِ اخْرُجْ}

وقال الزمخشري : لا يجوز لاستهلاك الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة كقولهم :{ الْحَمْدُ للّه } ، انتهى كلامه . وإذا كان ذلك في لغة ضعيفة ، وقد نقل أنها لغة أزدشنوءة ، فلا ينبغي أن يخطأ القارىء بها ولا يغلط ، والقارىء بها أبو جعفر ، أحد القراء المشاهير الذين أخذوا القرآن عرضاً عن عبد اللّه بن عباس وغيره من الصحابة ، وهو شيخ نافع بن أبي نعيم ، أحد القراء السبعة ، وقد علل ضم التاء لشبهها بألف الوصل ، ووجه الشبه أن الهمزة تسقط في الدرج لكونها ليست بأصل ، والتاء في الملائكة تسقط أيضاً لأنها ليست بأصل . ألا تراهم قالوا : الملائك ؟

وقيل : ضمت لأن العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها .

{وَاسْجُدُواْ } : أمر ، وتقتضي هذه الصيغة طلب إيقاع الفعل في الزمان المطلق استقباله ، ولا تدل بالوضع على الفور ، وهذا مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر بن الطيب ، واختاره الغزالي والرازي خلافاً للماليكة من أهل بغداد ، وأبي حنيفة ومتبعيه . وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الفقه ، وهذ الخلاف إنما هو حيث لا تدل قرينة على فور أو تأخير .

وأما هنا فالعطف بالفاء يدل على تعقيب القول بالفعل من غير مهلة ، فتكون الملائكة قد فهموا الفور من شيء آخر غير موضوع اللفظ ، فلذلك بادروا بالفعل ولم يتأخروا . والسجود المأمور به والمفعول إيماء وخضوع ، قاله الجمهور ، أو وضع الجبهة على الأرض مع التذلل ، أو إقرارهم له بالفضل واعترافهم له بالمزية ، وهذا يرجع إلى معنى السجود اللغوي ، قال : فإن من أقر لك بالفضل فقد خضع لك .{ لاِدَمَ } : من قال بالسجود الشرعي قال : كان السجود تكرمة وتحية له ، وهو قول الجمهور : علي وابن مسعود وابن عباس ، كسجود أبوي يوسف ، لا سجود عبادة ، أوللّه تعالى ، ونصبه اللّه قبلة لسجودهم كالكعبة ، فيكون المعنى إلى آدم ، قاله الشعبي ، أوللّه تعالى ، فسجد وسجدوا مؤتمين به ، وشرفه بأن جعله إماماً يقتدون به . والمعنى في :{ لاِدَمَ } أي مع آدم .

وقال قوم : إنما أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه ، فالسجود امتثال لأمر اللّه ، والسجود له ، قاله مقاتل ، والقرآن يرد هذا القول . وقال قوم : كان سجود الملائكة مرتين . قيل : والإجماع يرد هذا القول ، والظاهر أن السجود هو بالجبهة لقوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}

وقيل : لا دليل في ذلك ، لأن الجاثي على ركبتيه واقع ، وأن السجود كان لآدم على سبيل التكرمة ،

وقال بعضهم : السجود للّه بوضع الجبهة ، وللبشر بالانحناء ، انتهى . ويجوز أن يكون السجود في ذلك الوقت للبشر غير محرم ، وقد نقل أن السجود كان في شريعة من قبلنا هو التحية ، ونسخ ذلك في الإسلام .

وقيل : كان السجود لغير اللّه جائزاً إلى زمن يعقوب ، ثم نسخ ، وقال الأكثرون : لم ينسخ إلى عصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وروي أنه صلى اللّه عليه وسلم قال في حديث عرض عليه الصحابة أن يسجدوا له : { لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا للّه رب العالمين } ، وأن معاذاً سجد للنبي صلى اللّه عليه وسلم فنهاه عن ذلك . قال ابن عطاء : لما استعظموا تسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم بذلك استغناءه عنهم وعن عبادتهم .

{فَسَجَدُواْ } ، ثم : محذوف تقديره : فسجدوا له ، أي لآدم . دل عليه قول :{ اسْجُدُواْ لاِدَمَ } ، واللام في لآدم للتبيين ، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها عند شرح { الْحَمْدُ للّه}{ إِلاَّ إِبْلِيسَ } : هو مستنثى من الضمير في فسجدوا ، وهو استثناء من موجب في نحو هذه المسألة فيترجح النصب ، وهو استثناء متصل عند الجمهور : ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب وقتادة وابن جريج ، واختاره الشيخ أبو الحسن والطبري ، فعلى هذا يكون ملكاً ثم أبلس وغضب عليه ولعن فصار شيطاناً . وروى في ذلك آثار عن ابن عباس وقتادة وابن جبير ، وقد اختلف في اسمه فقيل : عزازيل ،

وقيل : الحارث .

وقيل : هو استثناء منقطع ، وأنه أبو الجن ، كما أن آدم أبو البشر ، ولم يكن قط ملكاً ، قاله ابن زيد والحسن ، وروي عن ابن عباس . وروي عن ابن مسعود وشهر بن حوشب : أنه من الجن الذين كانوا في الأض وقاتلتهم الملائكة ، فسبوه صغيراً وتعبد مع الملائكة وخوطب معهم ، واستدل على أنه ليس من الملائكة بقوله تعالى :{ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً } فعم ، فلا يجوز على الملائكة الكفر ولا الفسق ، كما لا يجوز على رسله من البشر ، وبقوله :{ لاَّ يَعْصُونَ اللّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ، وبقوله :{ كَانَ مِنَ الْجِنّ } ، وبأن له نسلاً ، بخلاف الملائكة ، والظاهر أنه استثناء متصل لتوجه الأمر على الملائكة ، فلو لم يكن لما توجه الأمر عليه ، فلم يقع عليه ذم لتركه فعل ما لم يؤمر به .

وأما جاعل الملائكة رسلاً ، ولا يعصون اللّه ما أمرهم ، فهو عام مخصوص ، إذ عصمتهم ليست لذاتهم ، إنما هي بجعل اللّه لهم ذلك ،

وأما إبليس فسلبه اللّه تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية .

وأماقوله تعالى :{ كَانَ مِنَ الْجِنّ } ، فقال قتادة : هم صنف من الملائكة يقال لهم الجنة . وقال ابن جبير : سبط من الملائكة خلقوا من نار ، وإبليس منهم ، أو أطلق عليه من الجن لأنه لا يرى ، كما سمي الملائكة جنة ، أو لأنه سمي باسم ما غلب عليه ، أو بما كان من فعله ، أو لأن الملائكة تسمى جنَّاً . قال الأعشى في ذكر سليمان على نبينا وعليه السلام :

وسخر من جن الملائك تسعة

قياماً لديه يعملون بلا أجر

{أَبَى } : امتنع وأنف من السجود لآدم .{ وَاسْتَكْبَرَ } : تكبر وتعاظم في نفسه وقدم الإباء على الاستكبار ، وإن كان الاستكبار هو الأول ، لأنه من أفعال القلوب وهو التعاظم ، وينشأ عنه الإباء من السجود اعتباراً بما ظهر عنه أولاً ، وهو الامتناع من السجود ، ولأن المأمور به هو السجود ، فلما استثنى إبليس كان محكوماً عليه بأنه ترك السجود ، أو بأنه مسكوت عنه غير محكوم عليه على الاختلاف الذي نذكره قريباً إن شاء اللّه . والمقصود : الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة . فناسب أن يبدأ أولاً بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء ، أو بإنشاء الإخبار عنه بالمخالفة ، والذي يؤدي هذا المعنى هو الإباء من السجود . والخلاف الذي أشرنا إليه هو أنك إذا

قلت : قام القوم إلا زيداً ، فمذهب الكسائي أن التخريج من الاسم ، وأن زيداً غير محكوم عليه أم ولا غيره ، فيحتمل أن يكون قد قام ، وأن يكون غير قائم . ومذهب الفراء أن الاستثناء من القول ، والصحيح مذهبنا ، وهو أن الاسم مستثنى من الاسم وأن الفعل مستثنى من الفعل . ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو ، ومفعول أبي محذوف لأنه يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد ، قال الشاعر : أبى الضيم والنعمان يحرق نابه

عليه فأفضى والسيوف معاقله

والتقدير : أبى السجود ، وأبى من الأفعال الواجبة التي معناها النفي ، ولهذا يفرغ ما بعد إلا كما يفرغ لفعل المنفي ،

قال تعالى :{ وَيَأْبَى اللّه إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } ، ولا يجوز : ضربت إلا زيداً على أن يكون استثناء مفرغاً لأن إلا لا تدخل في الواجب ، وقال الشاعر : أبى اللّه إلا عدله ووفاءه

فلا النكر معروف ولا العرف ضائع

وأبى زيد الظلم : أبلغ من لم يظلم ، لأن نفي الشيء عن الشخص قد يكون لعجز أو غيره ، فإذا

قلت : أبى زيد كذا ، دل على نفي ذلك عنه على طريق الامتناع والأنفة منه ، فلذلك جاء قوله تعالى :{ أَبَى } ، لأن استثناء إبليس لا يدل إلا على أنه لم يسجد ، فلو اقتصر عليه لجاز أن يكون تخلفه عن السجود لأمر غير الإباء ، فنص على سبب كونه لم يسجد وهو الإباء والأنفة .

{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } قيل : كان بمعنى صار ،

وقيل : على بابها أي كان في علم اللّه لأنه لا خلاف أنه كان عالماً باللّه قبل كفره .

فالمعنى : أنه كان في علم اللّه سيكون من الكافرين . قال أبو العالية : من العاصين ، وصلة أل هنا ظاهرها الماضي ، فيكون قد سبق إبليس كفار ، وهم الجن الذين كانوا في الأرض ، أو يكون إبليس أول من كفر مطلقاً ، إن لم يصح أنه كان كفار قبله ، وإن صح ، فيفيد أول من كفر بعد إيمانه ، أو يراد الكفر الذي هو التغطية للحق ، وكفر إبليس قيل : جهل سلبه اللّه ما كان وهبه من العلم ، فخالف الأمر ونزع يده من الطاعة ،

وقيل : كفر عناد ولم يسلب العلم بل كان الكبر مانعه من السجود .

قال ابن عطية : والكفر عناداً مع بقاء العلم مستبعد ، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل اللّه لمن شاء ، انتهى كلامه .

وهذا الذي ذكره جوازه واقع بالفعل . هذا فرعون كان عالماً بوحدانية اللّه وربوبيته دون غيره ، ومع ذلك حمله حب الرئاسة والإعجاب بما أوتي من الملك ، فادعى الألوهية مع علمه . وأبو جهل ، كان يتحقق رسالة النبي صلى اللّه عليه وسلم ويعلم أن ما جاء به حق ، ومع ذلك أنكر نبوته ، وأقام على الكفر . وكذلك الأخنس ، وأمية بن أبي الصلت ، وغيرهما ممن كفر عناداً ، مع علمهم بصدق الرسل ، وقد قسم العلماء الكفار إلى

كافر بقلبه ولسانه ، كالدهرية والمنكرين رسالة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وكافر بقلبه مؤمن بلسانه وهم المنافقون ، ومؤمن بقلبه كافر بلسانه ، كفرعون ومن ذكر معه فلا ينكر الكفر مع وجود العلم . وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على أن المعصية توجب الكفر ، وأجيب بأنه كافر منافق وإن كان مؤمناً فإنما كفر لاستكباره واعتقاد كونه محقاً في ذلك التمرد ، واستدلاله على ذلك بقوله : { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} قال القشيري : لما كان إبليس مدة في دلال طاعته يختال في مراد موافقته ، سلموا له رتبة التقدم واعتقدوا فيه استحقاق التخصص ، فصار أمره كما قيل : وكان سراج الوصل أزهر بيننا

فهبت به ريح من البين فانطفا

سئل أبو الفتوح أحمد ، أخو أبي حامد الغزالي عن إبليس فقال : لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت وقسي القدر إذا رمت أصمت ، ثم أنشد : وكنا وليلى في صعود من الهوى

فلما توافينا ثبت وزلت

{وَقُلْنَا يَاءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ}

﴿ ٣٤