٣٦

فأزلهما الشيطان عنها . . . . .

أزل : من الزلل ، وهو عثور القدم . يقال : زلت قدمه ، وزلت به النعل . والزلل في الرأي والنظر مجاز ، وأزال : من الزوال ، وأصله التنحية . والهمزة في كلا الفعلين للتعدية . الهبوط : هو النزول ، مصدر هبط ، ومضارعه يهبط ويهبط بكسر الباء وضمها ، والهبوط بالفتح : موضع النزول . وقال المفضل : الهبوط : الخروج عن البلدة ، وهو أيضاً الدخول فيها من الأضداد ، ويقال في انحطاط المنزلة مجازاً ، ولهذا قال الفراء : الهبوط : الذل ، قال لبيد :

إن يقنطوا يهبطوا يوماً وإن أُمروا

بعض : أصله مصدر بعض يبعض بعضاً ، أي قطع ، ويطلق على الجزء ، ويقابله كل ، وهما معرفتان لصدور الحال منهما في فصيح الكلام ، قالوا : مررت ببعض قائماً ، وبكل جالساً ، وينوي فيهما الإضافة ، فلذلك لا تدخل عليهما الألف واللام ، ولذلك خطأوا أبا القاسم الزجاجي في قوله : ويبدل البعض من الكل ، ويعود الضمير على بعض ، إذا أريد به جمع مفرداً ومجموعاً . وكذلك الخبر والحال والوصف يجوز إفراده إذ ذاك وجمعه . العدو : من العداوة ، وهي مجاوزة الحدّ ، يقال : عدا فلان طوره إذا جاوزه ،

وقيل : العداوة ، التباعد بالقلوب من عدوى الجبل ، وهما طرفاه ، سميا بذلك لبعد ما بينهما ،

وقيل : من عدا : أي ظلم ، وكلها متقاربة في المعنى . والعدو يكون للواحد والاثنين والجمع ، والمذكر والمؤنث ، وقد جمع فقيل : أعداء ، وقد أنث فقالوا : عدوة ، ومنه : أي عدوات أنفسهن . وقال الفراء : قالت العرب للمرأة : عدوة اللّه ، وطرح بعضهم الهاء . المستقر : مستفعل من القرار ، وهو اللبث والإقامة ، ويكون مصدراً وزماناً ومكاناً لأنه من فعل زائد على ثلاثة أحرف ، فيكون لما ذكر بصورة المفعول ، ولذلك سميت الأرض : القرارة ، قال الشاعر : جادت عليه كل عين ثرّة

فتركن كل قرارة كالدرهم

واستفعل فيه : بمعنى فعل استقر وقرّ بمعنى . المتاع : البلغة ، وهو مأخوذ من متع النهار إذا ارتفع ، فينطلق على ما يتحصل للإنسان من عرض الدنيا ، ويطلق على الزاد وعلى الانتفاع بالنساء ، ومنه ،  { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } ،{ ونكاح المتعة } ،{ وَعَلَى } ،{ فَرِيضَةً وَمَتّعُوهُنَّ } ، وعلى التعمير ، { يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا } ، قالوا : ومنه أمتع اللّه بك ، أي أطال اللّه الإيناس بك ، وكله راجع لمعنى البلغة ، الحين : الوقت والزمان ، ولا يتخصص بمدة ، بل وضع المطلق منه

تلقى : تفعل من اللقاء ، نحو تعدى من العدو ، قالوا : أو بمعنى استقبل ، ومنه : تلقى فلان فلاناً استقبله . ويتلقى الوحي : أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه ، وخرجنا نتلقى الحجج : نستقبلهم ، وقال الشماخ : إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

وقال القفال : التلقي التعرض للقاء ، ثم يوضع موضع القبول والأخذ ، ومنه وإنك لتلقى القرآن ، تلقيت هذه الكلمة من فلان : أخذتها منه . الكلمة : اللفظة الموضوعة المعنى ، والكلمة : الكلام ، والكلمة : القصيدة سميت بذلك لاشتمالها على الكلمة والكلام ، ويجمع بحذف التاء فيكون اسم جنس ، نحو : نبقة ونبق . التوبة : الرجوع ، تاب يتوب توباً وتوبة ومتاباً ، فإذا عدى بعلى ضمن معنى العطف . تبع : بمعنى لحق ، وبمعنى تلا ، وبمعنى افتدى . والخوف : الفزع ، خاف ، يخاف خوفاً وتخوف تخوفاً ، فأفزع ، ويتعدى بالهمز وبالتضعيف ، ويكون للأمر المستقبل . وأصل الحزن : غلظ الهم ، مأخوذ من الحزن : وهو ما غلظ من الأرض ، يقال : حزن يحزن حزناً وحزناً ، ويعدى بالهمزة وبالفتحة ، نحو : شترت عين الرجل ، وشترها اللّه ، وفي التعدية بالفتحة خلاف ، ويكون للأمر الماضي . الآية : العلامة ، ويجمع آيا وآيات ، قال النابغة : توهمت آيات لها فعرفتها

لستة أعوام وذا العام سابع

ووزنها عند الخليل وسيبويه : فعلة ، فأعلت العين وسلمت اللام شذوذاً والقياس العكس . وعند الكسائي : فاعلة ، حذفت العين لئلا يلزم فيه من الإدغام ما لزم في دابة ، فتثقل ، وعند الفراء : فعلة ، فأبدلت العين ألفاً استثقالاً للتضعيف ، كما أبدلت في قيراط وديوان ، وعند بعض الكوفيين : فعلة : استثقل التضعيف فقلبت الفاء الأولى ألفاً لانكسارها وتحرك ما قبلها ، وهذه مسألة ينهى الكلام عليها في علم التصريف . الصحبة : الاقتران ، صحب يصحب ، والأصحاب : جمع صاحب ، وجمع فاعل : على أفعال شاذ ، والصحبة والصحابة : أسماء جموع ، وكذا صحب على الأصح خلافاً للأخفش ، وهي لمطلق الاقتران في زمان ما .

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } : الهمزة : كما تقدم في أزل للتعدية ، والمعنى : جعلهما زلاً بإغوائه وحملهما على أن زلاً وحصلا في الزلة ، هذا أصل همزة التعدية . وقد تأتي بمعنى جعل أسباب الفعل ، فلا يقع إذ ذاك الفعل . تقول : أضحكت زيداً فما ضحك وأبكيته فما بكى ، أي جعلت له أسباب الضحك وأسباب البكاء فما ترتب على ذلك ضحكه ولا بكاؤه ، والأصل هو الأول ، وقال الشاعر : كميت يزل اللبد عن حال متنه

كما زلت الصفواء بالمتنزل

معناه : فيما يشرح الشراح ، يزل اللبد : يزلقه عن وسط ظهره ، وكذلك قوله : يزل الغلام الخف عن صهواته : أي يزلقه .

وقيل أزلهما : أبعدهما . تقول : زل عن مرتبته ، وزل عني ذاك ، وزل من الشهر كذا : أي ذهب وسقط ، وهو

قريب من المعنى الأول ، لأن الزلة هي سقوط في المعنى ، إذ فيها خروج فاعلها عن طريق الاستقامة ، وبعده عنها . فهذا جاء على الأصل من تعدية الهمزة .

وقرأ الحسن وأبو رجاء وحمزة : فأزالهما ، ومعنى الإزالة : التنحية . وروي عن حمزة وأبي عبيدة إمالة فأزالهما . والشيطان : هو إبليس بلا خلاف هنا . وحكوا أن عبد اللّه قرأ ، فوسوس لهما الشيطان عنها ، وهذه القراءة مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، فينبغي أن يجعل تفسيراً ، وكذا ما ورد عنه وعن غيره مما خالف سواد المصحف . وأكثر قراءات عبد اللّه إنما تنسب للشيعة . وقد قال بعض علمائنا : إنه صح عندنا بالتواتر قراءة عبد اللّه على غير ما ينقل عنه مما وافق السواد ، فتلك إنما هي آحاد ، وذلك على تقدير صحتها ، فلا تعارض ما ثبت بالتواتر .

وفي كيفية توصل إبليس إلى إغوائهما حتى أكلا من الشجرة أقاويل : قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور : شافههما بدليل ، وقاسمهما ، قيل : فدخل إبليس الجنة على طريق الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء ،

وقيل : دخل في جوف الحية . وذكروا كيف كانت خلقة الحية وما صارت إليه ، وكيف كانت مكالمة إبليس لآدم . وقد قصها اللّه تعالى أحسن القصص وأصدقه في سورة الأعراف وغيرها .

وقيل : لم يدخل إبليس الجنة ، بل كان يدنو من السماء فيكلمهما .

وقيل : قام عند الباب فنادى .

وقيل : لم يدخل الجنة بل كان ذلك بسلطانه الذي ابتلى به آدم وذريته ، كقول النبي صلى اللّه عليه وسلم { إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم} .

وقيل : خاطبه من الأرض ولم يصعد إلى السماء بعد الطرد واللعن ، وكان خطابه وسوسة ، وقد أكثر المفسرون في نقل قصص كثير في قصة آدم وحواء والحية ، واللّه أعلم بذلك ، وتكلموا في كيفية حاله حين أكل من الشجرة ، أكان ذلك في حال التعمد ، أم في حال غفلة الذهن عن النهي بنسيان ، أم بسكر من خمر الجنة ، كما ذكروا عن سعيد بن المسيب . وما أظنه يصح عنه ، لأن خمر الجنة ، كما ذكر اللّه تعالى ، { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } إلا إن كانت الجنة في الأرض ، على ما فسره بعضهم ، فيمكن أن يكون خمرها بسكر . والذين قالوا : بالعمد ، قالوا : كان النهي نهي تنزيه ،

وقيل : كان معه من الفزع عند إقدامه ما صير هذا الفعل صغيرة .

وقيل : فعله اجتهاداً ، وخالف لأنه تقدم الإشارة إلى الشخص لا إلى النوع ، فتركها وأكل أخرى . والاجتهاد في الفروع لا يوجب العقاب .

وقيل كان الأكل كبيرة ،

وقيل : أتاهما إبليس في غير صورته التي يعرفانها ، فلم يعرفاه ، وحلف لهما أنه ناصح .

وقيل : نسي عداوة إبليس ،

وقيل : يجوز أن يتأول آدم { وَلاَ تَقْرَبَا } أنه نهي عن القربان مجتمعين ، وأنه يجوز لكل واحد أن يقرب ، والذي يسلك فيما اقتضى ظاهره بعض مخالفة تأويله على أحسن محمل ، وتنزيه الأنبياء عن النقائص . وسيأتي الكلام على ما يرد من ذلك ، وتأويله على الوجه الذي يليق ، إن شاء اللّه .

وفي { المنتخب} للإمام أبي عبد اللّه محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصه : منعت الأمة وقوع

الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إلا الفضيلية من الخوارج ، قالوا : وقد وقع منهم ذنوب ، والذنب عندهم كفر ، وأجاز الإمامية إظهار الكفر منهم على سبيل التقية ، واجتمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ ، فلا يجوز عمداً ولا سهواً ، ومن الناس من جوز ذلك سهواً وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمداً واختلفوا في السهو .

وأما أفعالهم فقالت الحشوية : يجوز وقوع الكبائر منهم على جهة العمد . وقال أكثر المعتزلة : بجواز الصغائر عمداً إلا في القول ، كالكذب . وقال الجبائي : يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل .

وقيل : يمتنعان عليهم ، إلا على جهة السهو والخطأ ، وهم مأخوذون بذلك ، وإن كان موضوعاً عن أمتهم . وقالت الرافضة : يمتنع ذلك على كل جهة . واختلف في وقت العصمة فقالت الرافضة : من وقت مولدهم ، وقال كثير من المعتزلة : من وقت النبوة . والمختار عندنا : أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتة ، لا الكبيرة ولا الصغيرة ، لأنهم لو صدر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة ، لعظيم شرفهم ، وذلك محال . ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة ، ولئلا يجب زجرهم وإيذاؤهم ، ولئلا يقتدى بهم في ذلك ، ولئلا يكونوا مستحقين للعقاب ، ولئلا يفعلون ضد ماأمرو به ، لأنهم مصطفون ، ولأن إبليس استثناهم في الاغواء . انتهى ما لخصناه من المنتخب .

والقول في الدلائل لهذه المذاهب ، وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين . عنها : الضمير عائد على الشجرة ، وهو الظاهر ، لأنه أقرب مذكور . والمعنى : فحملهما الشيطان على الزلة بسببها . وتكون عن إذ ذاك للسبب ، أي أصدر الشيطان زلتهما عن الشجرة كقوله تعالى : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى } ،{ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}

وقيل : عائد على الجنة ، لأنها أول مذكور ، ويؤيده قراءة حمزة وغيره : فأزالهما ، إذ يبعد فأزالهما الشيطان عن الشجرة .

وقيل : عائد على الطاعة ، قالوا بدليل قوله :{ وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ } ، فيكون إذ ذاك الضمير عائداً على غير مذكور ، إلا على ما يفهم من معنى قوله :{ وَلاَ تَقْرَبَا } لأن المعنى : أطيعاني بعدم قربان هذه الشجرة .

وقيل : عائد على الحالة التي كانوا عليها من التفكه والرفاهية والتبوّء من الجنة ، حيث شاءا ، ومتى شاءا ، وكيف شاءا بدليل ، { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا}

وقيل : عائد على السماء وهو بعيد .

{فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } من الطاعة إلى المعصية ، أو من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا ، أو من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب ، أو رضوان اللّه ، أو جواره . وكل هذه الأقوال متقاربة . قال المهدوي : إذا جعل أزلهما من زل عن المكان ، فقوله :{ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } توكيد . إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة ، انتهى . والأولى أن يكون بمعنى كسبهما الزلة لا يكون بإلقاء .

قال ابن عطية : وهنا محذوف يدل عليه الظاهر تقديره : فأكلا من الشجرة ، ويعني أن المحذوف يتقدر قبل قوله :{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ } ، ونسب الإزلال والإزالة والإخراج لإبليس على جهة المجاز ، والفاعل للأشياء هو اللّه تعالى .

{وَقُلْنَا اهْبِطُواْ } : قرأ الجمهور بكسر الباء ،

وقرأ أبو حياة : اهبطوا بضم الباء ، وقد ذكرنا أنهما لغتان . والقول في :{ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ } مثل القول في :{ وَقُلْنَا يَاءادَمُ ءادَمَ اسْكُنْ} ولما كان أمراً بالهبوط من الجنة إلى الأرض ، وكان في ذلك انحاط رتبة المأمور ، لم يؤنسه بالنداء ، ولا أقبل عليه بتنويهه بذكر اسمه . والإقبال عليه بالنداء بخلاف قوله :{ وَقُلْنَا يَاءادَمُ ءادَمَ اسْكُنْ } ، والمخاطب بالأمر آدم وحوّاء والحية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، أو هؤلاء

وإبليس ، قاله السدي عن ابن عباس ، أو آدم وإبليس ، قاله مجاهد ، أو هما وحواء ، قاله مقاتل ، أو آدم وحواء فحسب . ويكون الخطاب بلفظ الجمع وإن وقع على التثنية نحو : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } ، ذكره ابن الأنباري ، أو آدم وحواء والوسوسة ، قاله الحسن ، أو آدم وحواء وذريتهما ، قاله الفراء ، أو آدم وحواء ، والمراد هما وذريتهما ، ورجحه الزمخشري قال : لأنهما لما كانا أصل الأنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الأنس كلهم . والدليل عليه قوله :{ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } ، ويدل على ذلك قوله :{ مِنْ تَبِعَ هُدَايَ } الآية ، وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم ، انتهى . وفي قول الفراء خطاب من لم يوجد بعد ، لأن ذريتهما كانت إذ ذاك غير موجودة . وفي قول من أدخل إبليس معهما في الأمر ضعف ، لأنه كان خرج قبلهما ، ويجوز على ضرب من التجوز . قال كعب ووهب : أهبطوا جملة ونزلوا في بلاد متفرقة . وقال مقاتل : أهبطوا متفرقين ، فهبط إبليس ، قيل بالأيلة ، وحواء بجدّة ، وآدم بالهند ،

وقيل : بسرنديب بجبل يقال له : واسم .

وقيل : كان غذاؤه جوز الهند ، وكان السحاب يمسح رأسه فأورث ولده الصلع . وهذا لا يصح إذ لو كان كذلك لكان أولاده كلهم صلعاً .

وروي عن ابن عباس : أن الحية أهبطت بنصيبين . وروى الثعلبي : بأصبهان ، والمسعودي : بسجستان ، وهي أكثر بلاد اللّه حيات .

وقيل : بيسان .

وقيل : كان هذا الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا .

وقيل : لما نزل آدم بسرنديب من الهند ومعه ريح الجنة ، علق بشجرها وأوديتها ، فامتلأ ما هناك طيباً ، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام . وذكر أبو الفرج بن الجوزي في إخراجه كيفية ضربنا صفحاً عن ذكرها ، قال : وأدخل آدم في الجنة ضحوة ، وأخرج منها بين الصلاتين ، فمكث فيها نصف يوم ، والنصف خمسمائة عام ، مما يعد أهل الدنيا ، والأشبه أن قوله : اهبطوا أمر تكليف ، لأن فيه مشقة شديدة بسبب ما كانا فيه من الجنة ، إلى مكان لا تحصل فيه المعيشة إلا بالمشقة ، وهذا يبطل قول من ظن أن ذلك عقوبة ، لأن التشديد في التكليف يكون بسبب الثواب . فكيف يكون عقاباً مع ما في هبوطه وسكناه الأرض من ظهور حكمته الأزلية في ذلك ، وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في جنة ونار . وكانت تلك الأكلة سبب هبوطه ، واللّه يفعل ما يشاء . وأمره بالهبوط إلى الأرض بعد أن تاب عليه لقوله ثانية :{ قُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } ، إن كان المخاطبون آدم وحواء وذريتهما ، كما قال مجاهد ، فالمراد ما عليه الناس من التعادي وتضليل بعضهم لبعض ، والبعضية موجودة في ذريتهما ،

لأنه ليس كلهم يعادي كلهم ، بل البعض يعادي البعض . وإن كان معهما إبليس أو الحية ، كما قاله مقاتل ، فليس بعض ذريتهما يعادي ذرية آدم ، بل كلهم أعداء لكل بني آدم . ولكن يتحقيق هذا بأن جعل المأمورون بالهبوط شيئاً واحداً وجزّئوا أجزاء ، فكل جزء منها جزء من الذين هبطوا ، والجزء يطلق عليه البعض فيكون التقدير : كل جنس منكم معاد للجنس المباين له .

وقال الزجاج : إبليس عدوّ للمؤمنين وهم أعداؤه .

وقيل معناه : عداوة نفس الإنسان له وجوارحه ، وهذا فيه بعد ، وهذه الجملة في موضع الحال ، أي اهبطوا متعادين ، والعامل فيها اهبطوا . فصاحب الحال الضمير في اهبطوا ، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها ، واجتماع الواو والضمير في الجملة الإسمية الواقعة حالاً أكثر من انفراد الضمير . وفي كتاب اللّه تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللّه وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } ، وليس مجيئها بالضمير دون الواو شاذاً ، خلافاً للفراء ومن واقفه كالزمخشري . وقد روى سيبويه عن العرب كلمته فوه إلى فيّ ، ورجع عوده على بدئه ، وخرجه على وجهين :

أحدهما : أن عوده مبتدأ وعلى بدئه خبر ، والجملة حال ، وهو كثير في لسان العرب ، نظمها ونثرها ، فلا يكون ذلك شاذاً . وأجاز مكي بن أبي طالب أن تكون الجملة مستأنفة إخباراً من اللّه تعالى بأن بعضهم لبعض عدوّ ، فلا يكون في موضع الحال ، وكأنه فر من الحال ، لأنه تخيل أنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأموراً به ، أو كالمأمور . ألا ترى أنك إذا قلت قم ضاحكاً كان المعنى الأمر بإيقاع القيام مصحوباً بالحال فيكون مأموراً بها أو كالمأمور ، لأنك لم تسوّغ له القيام إلا في حال الضحك وما يتوصل إلى فعل المأمور إلا به مأمور ؟ واللّه تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك ، لأن الفعل إذا كان مأموراً به من يسند إليه في حال من أحواله ، لم تكن تلك الحال مأموراً بها ، لأن النسبة الحالية هي لنسبة تقييدية لا نسبة إسنادية . فلو كانت مأموراً بها إذا كان العامل فيها امراً ، فلا يسوغ ذلك هنا ، لأن الفعل المأمور به إذا كان لا يقع في الوجود إلا بذلك القيد ، ولا يمكن خلافه ، لم يكن ذلك القيد مأموراً به ، لأنه ليس داخلاً في حيز التكليف ، وهذه الحال من هذا النوع ، قل يلزم أن يكون اللّه أمر بها ، وهذه الحال من الأحوال اللازمة . وقوله : لبعض متعلق بقوله عدوّ ، واللام مقوية لوصول عدوّ إليه ، وأفرد عدوّ على لفظ بعض أو لأنه يصلح للجمع ، كما سبق ذكر ذلك عند الكلام على بعض وعلى عدوّ حالة الإفراد .

{وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ } : مبتدأ وخبر . لكم هو الخبر ، وفي الأرض متعلق بالخبر ، وحقيقته أنه معمول للعامل في الخبر ، والخبر هنا مصحح لجواز الابتداء بالنكرة ، ولا يجوز { فِى الاْرْضِ } أن يتعلق بمستقر ، سواء كان يراد به مكان استقرار كما قاله أبو العالية وابن زيد ، أو المصدر ، أي استقرار ، كما قاله السدي ، لأن اسم المكان لا يعمل ، ولأن المصدر الموصول لا يجوّز بعضهم تقديم معموله عليه ، ولا يجوز في الأرض أن يكون خبراً ، ولكم متعلق بمستقرّ لما ذكرناه ، أو في موضع الحال من

مستقر ، لأن العامل إذ ذاك فيها يكون الخبر ، وهو عامل معنوي ، والحال متقدمة على جزأي الإسناد ، فلا يجوز ذلك ، وصار نظير : قائماً زيد في الدار ، أو قائماً في الدار زيد ، وهو لا يجوز بإجماع . مستقرّ : أي مكان استقراركم حالتي الحياة والموت ،

وقيل : هو القبر ، أو استقرار ، كما تقدم شرحه .

{وَمَتَاعٌ } : المتاع ما استمتع به من المنافع ، أو الزاد ، أو الزمان الطويل ، أو التعمير .{ إِلَى حِينٍ } : إلى الموت ، أو إلى قيام الساعة ، أو إلى أجل قد علمه اللّه ، قاله ابن عباس . ويتعلق إلى بمحذوف ، أي ومتاع كائن إلى حين ، أو بمتاع ، أي واستمتاع إلى حين ، وهو من باب الأعمال ، أعمل فيه الثاني ولم يحتج إلى إضمار في الأول ، لأن متعلقه فضلة ، فالأولى حذفه ، ولا جائز أن يكون من إعمال الأول ، لأن الأولى أن لا يحذف من الثاني والأحسن حمل القرآن على الأولى . والأفصح لا يقال إنه لا يجوز أن يكون من باب الإعمال ، وإن كان كل من مستقرّ ومتاع يقتضيه من جهة المعنى بسبب أن الأول لا يجوز أن يتعلق به إلى حين ، لأنه يلزم من ذلك الفصل بين المصدر ومعموله بالمعطوف ، والمصدر موصول فلا يفصل بينه وبين معموله ، لأن المصدر هنا لا يكون موصولاً ، وذلك أن المصدر منه ما يلحظ فيه الحدوث فيتقدر مصدري مع الفعل ، وهذا هو الموصول ، وإنما كان موصولاً باعتبار تقديره بذلك الحرف الذي هو موصول بالفعل ، وإلا فالمصدر من حيث هو مصدر لا يكون موصولاً ، ومنه ما لا يلحظ فيه الحدوث ، نحو وله : لزيد معرفة بالنحو ، وبصر بالطب ، وله ذكاء ذكاء الحكماء . فمثل هذا لا يتقدر بحرف مصدري والفعل ، حتى ذكر النحويون أن هذا المصدر إذا أضيف لم يحكم على الاسم بعده ، لا برفع ولا بنصب ، قالوا : فإذا

قلت : يعجبني قيام زيد ، فزيد فاعل القيام تأويله يعجبني أن يقوم زيد ، وممكن أن زيداً يعرى منه القيام ، ولا يقصد فيه إلى إفادة المخاطب أنه فعل القيام فيما مضى ، أو يفعله فيما يستقبل ، بل تكون النية في الإخبار كالنية في : يعجبني خاتم زيد المحدود المعروف بصاحبه والمخفوض بالمصدر . على هذه الطريقة لا يقضى عليه برفع ، ولا يؤكد ، ولا ينعت ، ولا يعطف عليه إلا بمثل ما يستعمل مع المخفوضات الصحاح ، انتهى .

فأنت ترى تجويزهم أن لا يكون موصولاً مع المصدر الذي يمكن أن يكون موصولاً ، وهو قولهم : يعجبني قيام زيد ، فكيف مع ما لا يجوز أن يكون موصولاً نحو : ما مثلنا به من قوله : له ذكاء ذكاء الحكماء ، وبصر بالطب ، ونحو ذلك ، فكذلك يكون مستقر ومتاع من قبيل ما لا يكون موصولاً . ولا يمتنع أن يعمل في الجار والمجرور ، وإن لم يكن موصولاً ، كما مثلنا في قوله : له معرفة بالنحو ، لأن الظرف والجار والمجرور يعمل فيهما روائح الأفعال ، حتى الأسماء الأعلام ، نحو قولهم : أنا أبو المنهال بعض الأحيان ، وأنا ابن ماوية إذ جدّ النقر .

وأما أن تعمل في الفاعل ، أو المفعول به فلا .

وأما إذا قلنا بمذهب الكوفيين ، وهو أن المصدر إذا نون ، أو دخلت عليه الألف واللام ، تحققت له الاسمية وزال عنه تقدير الفعل ، فانقطع عن أن يحدث إعراباً ، وكانت قصته قصة زيد وعمرو والرجل والثوب ، فيمكن أيضاً أن يخرج عليه قوله تعالى :{ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } ، ولا يبعد على هذا التقدير تعلق الجار والمجرور بكل منهما ، لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما ، ولأن المصدر إذ ذاك لا يكون بأبعد في العمل في الظرف أو المجرور من الاسم العلم . ويمكن أن يفسر قوله :{ مُّسْتَقِرٌّ مَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } بقوله :{ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ وَفِى قَوْلُهُ إِلَى حِينٍ } دليل على عدم البقاء في الأرض ، ودليل على المعاد . وفي هذه الآية التحذير عن مخالفة أمر اللّه بقصد أو تأويل ، وأن المخالفة تزيل عن مقام الولاية

﴿ ٣٦