٣٧

فتلقى آدم من . . . . .

{فَتَلَقَّىءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } ، تلقى : تفعل من اللقاء ، وهو هنا بمعنى التجرد ، أي لقي آدم ، نحو قولهم : تعداك هذا الأمر ، بمعنى عداك ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل ، وهي سبعة عشر معنى مطاوعة فعل ، نحو : كسرته فتكسر ، والتكلف نحو : تحلم ، والتجنب نحو : تجنب ، والصيرورة نحو : تألم ، والتلبس

بالمسمى المشتق منه نحو : تقمص ، والعمل فيه نحو : تسحر ، والاتخاذ نحو : تبنيت الصبي ، ومواصلة العمل في مهلة نحو : تفهم ، وموافقة استفعل نحو : تكبر ، وموافقة المجرد نحو : تعدى الشيء ، أي عداه ، والإغناء عنه نحو : تكلم ، والإغناء عن فعل نحو : توبل ، وموافقة فعل نحو : تولى ، أي ولى ، والختل ، نحو : تعقلته ، والتوقع نحو : تخوفه ، والطلب نحو : تنجز حوائجه ، والتكثير نحو : تعطينا . ومعنى تلقي الكلمات : أخذها وقبولها ، أو الفهم ، أو الفطانة ، أو الإلهام أو التعلم والعمل بها ، أو الاستغفار والاستقالة من الذنب . وقول من زعم أن أصله : تلقن ، فأبدلت النون ألفاً ضعيف ، وإن كان المعنى صحيحاً ، لأن ذلك لا يكون إلا مما كان عينه ولامه من جنس واحد نحو : تظني ، وتقضي ، وتسرّي ، أصله : تظنن ، وتقضض ، وتسرر . ولا يقال في تقبل : تقبى .

وقرأ الجمهور : برفع آدم ونصب الكلمات ، وعكس ابن كثير . ومعنى تلقي الكلمات لآدم : وصولها إليه ، لأن من تلقاك فقد تلقيته فكأنه قال : فجاءت آدم من ربه كلمات . وظاهر قوله : كلمات ، أنها جملة مشتملة على كلم ، أو جمل من الكلام قالها آدم ، فلذلك قدروا بعد قوله : كلمات ، جملة محذوفة وهي فقالها فتاب عليه . واختلفوا في تعيين تلك الكلمات على أقوال ، وقد طولوا بذكرها ، ولم يخبرنا اللّه بها إلا مبهمة ، ونحن نذكرها كما ذكرها المفسرون ، قال ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وابن كعب وعطاء الخراساني والضحاك وعبيد بن عمير وابن زيد : هي { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا } ، الآية .

وروي عن ابن ابن مسعود ، أن أحب الكلام إلى اللّه ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة : { سبحانك اللّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ، لا إلاه إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} . وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال : يقول ما قاله أبواه : { ربنا ظلمنا أنفسنا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } وما قاله يونس :  { لا إلاه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} . وروي عن ابن عباس ووهب أنها : { سبحانك اللّهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي ، فاغفر لي إنك خير الغافرين} . وقال محمد بن كعب هي : { لا إله إلا أنت سبحانك اللّهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم} .

وحكى السدّي عن ابن عباس أنه قال : { رب ألم تخلقني بيدك ؟ } قال : بلى ، قال : ألم تنفخ فيّ من روحك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تسبق رحمتك غضبك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تسكني جنتك ؟ قال : بلى ، قال : رب إن تبت وأصلحت أراجعي إلى الجنة ؟ قال :  { نعم} . وزاد قتادة في هذا : { وسبقت رحمتك إليّ قبل غضبك ؟ قيل له بلى ، قال : رب هل كتبت هذا عليّ قبل أن تخلقني ؟ يل له : نعم ، فقال : رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قيل له : {نعم} . وقال قتادة هي : { أستغفرك وأتوب إليك إنك أنت التوّاب الرحيم} . وقال عبيد بن عمير ، قال : { يا رب خطيئتي التي أخطأتها أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني ؟ أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال : بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك ، قال :  { فكما كتبت عليّ فاغفر لي} .

وقيل إنها : { سبحانك اللّهم لا إلاه إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور} .

وقيل : رأى مكتوباً على ساق العرش محمد رسول اللّه ، فتشفع بذلك فهي الكلمات .

وقيل : قوله حين عطس : { الحمد للّه} .

وقيل : هي الدعاء والحياء والبكاء .

وقيل : الاستغفار والندم والحزن .

قال ابن عطية : وسماها كلمات ، مجازاً لما هي في خلقها صادرة عن كلمات ، وهي : {كن في كل واحدة منهن} ، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئاً إلا الاستغفار المعهود . انتهى كلامه .

{فَتَابَ عَلَيْهِ } : أي تفضل عليه بقبول توبته وأفرده بالإخبار عنه بالتوبة عليه ، وإن كانت زوجته مشاركة له في الأمر بالسكنى والنهي عن قربان الشجرة وتلقي الكلمات والتوبة ، لأنه هو المواجه بالأمر والنهي ،

وهي تابعة له في ذلك . فكملت القصة بذكره وحده ، كما جاء في قصة موسى والخضر ، إذ جاء { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى } ، فحملاها بغير نول ، وكان مع موسى يوشع ، لكنه كان تابعاً لموسى فلم يذكره ولم يجمع معهما في الضمير ، أو اكتفى بذكر أحدهما ، إذ كان فعلهما واحداً ، نحو قوله تعالى :{ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } ،{ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } ،أو طوى ذكرها كما طواه عند ذكر المعصية في قوله :{ وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى}

وقد جاء طي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة ، وقد ذكرها في قوله :{ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } ، وإنما لم يراع هذا الستر في امرأتي نوح ولوط لأنهما كانت كافرتين ، وقد ضرب بهما المثل للكفار ، لأن ذنوبهما كانت غاية في القبح والفحش . والكافر لا يناسب الستر عليه ولا الإغضاء عن ذنبه ، بل ينادي عليه ليكون ذلك أخزى له وأحط لدرجته . وحوّاء ليست كذلك ، ولأن معصيتهما تكرّرت واستمرّ منهما الكفر والإصرار على ذلك ، والتوبة متعذرة لما سبق في علم اللّه أنهما لا يتوبان ، وليست حوّاء كذلك لخفة ما وقع منها ، أو لرجوعها إلى ربها ، ولأن التبكيت للمذنب شرع رجاء الإقلاع ، وهذا المعنى معقود فيهما ، وذكرهما بالإضافة إلى زوجيهما فيه من الشهرة ما لا يكون في ذكر اسميهما غير مضافين إليهما . وتوبة العبد : رجوعه عن المعصية ، وتوبة اللّه على العبد : رجوعه عليه بالقبول والرحمة . واختلف في التوبة المطلوبة من العبد ، فقال قوم : هي الندم ، أخذاً بظاهر قوله صلى اللّه عليه وسلم : { الندم توبة } وقال قوم : شروطها ثلاثة : الندم على ما فات ، والإقلاع عنه ، والعزم على أن لا يعود . وتأولوا : الندم توبة على معظم التوبة نحو : الحج عرفة ، وزاد بعضهم في الشروط ، برد المظالم إذا قدر على ردها ، وزاد بعضهم : المطعم الحلال ، وقال القفال : لا بد مع تلك الشروط الثلاثة من الإشفاق فيما بين ذلك ، وذلك أنه مأمور بالتوبة ، ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بها كما لزمه ، فيكون خائفاً . ولهذا جاء يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه .

روي عن ابن عباس أن آدم وحوّاء بكيا على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة . وقد ذكروا في كثرة دموع آدم وداود شيئاً يفوت الحصر كثرة . وقال شهر بن حوشب : بلغني أن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من اللّه تعالى . وروي أن اللّه تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء .

وقرأ الجمهور { أَنَّهُ } : بكسر الهمزة ،

وقرأ نوفل بن أبي عقرب : أنه بفتح الهمزة ، ووجهه أنه فتح على التعليل ، التقدير : لأنه ، فالمفتوحة مع ما بعدها فضلة ، إذ هي في تقدير مفرد ثابت واقع مفروغ من ثبوته لا يمكن فيه نزاع منازع ،

وأما الكسر فهي جملة ثابتة تامة أخرجت مخرج الإخبار المستقل الثابت ، ومع ذلك فلها ربط معنوي بما قبلها ، كما جاءت في :{ وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ } ،{ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ } ،{ وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ } ، حتى لو وضعت الفاء التي تعطي الربط مكانها أغنت عنها ، وقالوا : إن أن إنما تجيء لتثبيت ما يتردد المخاطب في ثبوته ونفيه ، فإن قطع بأحد الأمرين ، فليس من مظانها ، فإن وجدت داخلة على ما قطع فيه بأحد الأمرين ظاهراً ، فيكون ذلك لتنزيله منزلة المتردد فيه لأمر ما ، وسيأتي الكلام على ذلك في نحو :{ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ } إن شاء اللّه .

ولما دخلت للتأكيد في قوله :{ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّاب الرَّحِيمُ } ، قوي التأكيد بتأكيد آخر ، وهو لفظه :{ هُوَ} وقد ذكرنا فائدته في قوله :{ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وبولغ أيضاً في الصفتين بعده ، فجاء التواب : على وزن فعال ، والرحيم : على وزن فعيل ، وهما من الأمثلة التي صيغت للمبالغة . وهذا كله ترغيب من اللّه تعالى للعبد في التوبة والرّجوع إلى الطاعة ، واطماع في عفوه تعالى وإحسانه لمن تاب إليه . والتواب من أسمائه تعالى ، وهو الكثير القبول لتوبة العبد ، أو الكثير الإعانة عليها . وقد ورد هذا الإسم في كتاب اللّه معرفاً ومنكراً ، ووصف به تعالى نفسه ، فدل ذلك على أنه مما استأثر به تعالى . وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يوصف به إلا تجوزاً ، وأجمعوا أنه لا يوصف تعالى بتائب ولا آيب ولا رجاع ولا منيب ، وفرق بين إطلاقه على اللّه تعالى وعلى العبد ، وذلك لاختلاف صلتيهما . ألا ترى : فتاب عليه ، وتوبوا إلى اللّه ؟ فالتوبة من اللّه على العبد هي العطف والتفضل عليه ، ومن العبد هي الرّجوع إلى طاعته تعالى ، لطلب ثواب ، أو خشية عقاب ، أو رفع درجات . وأعقب الصفة الأولى بصفة الرحمة ، لأن قبول التوبة سببه رحمة اللّه لعبده ، وتقدم التواب لمناسبة فتاب عليه ، ولحسن ختم الفاصلة بقوله :{ الرَّحِيمِ} وقد تقدم الكلام في البسملة على لفظة الرحيم وما يتعلق بها ، فأغنى ذلك عن إعادته .

﴿ ٣٧