٣٨

قلنا اهبطوا منها . . . . .

{قُلْنَا } ، كرّر القول ، إما على سبيل التأكيد المحض ، لأن سبب الهبوط كان أول مخالفة ، فكرّر تنبيهاً على ذلك ، أو لاختلاف متعلقيهما ، لأن الأول علق به العداوة ، والثاني علق بإتيان الهدى .

وأما لا على سبيل التأكيد ، بل هما هبوطان حقيقة ، الأول من الجنة إلى السماء ، والثاني من السماء إلى الأرض . وضعف هذا الوجه بقوله في الهبوط

الأول :{ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ } ، ولم يحصل الاستقرار على هذا التخريج إلا بالهبوط الثاني ، فكان ينبغي الاستقرار يذكر فيه وبقوله في الهبوط الثاني منها ، وظاهر الضمير أنه يعود إلى الجنة ، فاقتضى ذلك أن يكون الهبوط الثاني منهما .

{جَمِيعاً } : حال من الضمير في اهبطوا ، وقد تقدم الكلام في لفظة جميعاً وأنها تقتضي التعميم في الحم ، لا المقارنة في الزمان عند الكلام على قوله تعالى :{ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً } ، فهنا يدل على أنهم كلهم خوطبوا بالهبوط ، فقد دلا على اتحاد زمان الهبوط . وأبعد ابن عطية في قوله : كأنه قال هبوطاً جميعاً ، أو هابطين جميعاً ، فجعله نعتاً لمصدر محذوف ، أو لاسم فاعل محذوف ، كل منهما يدل عليه الفعل . قال : لأن جميعاً ليس بمصدر ولا اسم فاعل ، مع منافاة ما قدره للحكم الذي صدره ، لأنه قال : أولاً وجميعاً حال من الضمير في اهبطوا . فإذا كان حالاً من الضمير في اهبطوا على ما قرر أولاً ، فكيف يقدر ثانياً ؟ كأنه قال : هبوطاً جميعاً ، أو هابطين جميعاً . فكلامه أخيراً يعارض حكمه أولاً ، ولا ينافي كونه ليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالاً حتى يضطر إلى هذا التقدير الذي قدره . وأبعد غيره أيضاً في زعمه أن التقدير : وقلنا اهبطوا مجتمعين ، فهبطوا جميعاً ، فجعل ثم حالاً محذوفة لدلالة جميعاً عليها ، وعاملاً محذوفاً لدلالة اهبطوا عليه . ولا يلتئم هذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول : أي فقلنا : إما يأتينكم .

وقد تقدم الكلام في المأمورين بالهبوط ، وعلى تقدير أن يكون هبوطاً ثانياً ، فقيل يخص آدم وحواء ، لأن إبليس لا يأتيه هدى ، وخصا بخطاب الجمع تشريفاً لهما .

وقيل : يندرج في الخطاب لأن إبليس مخاطب بالإيمان بالإجماع ، وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد ، والنون في يأتينكم نون التوكيد ، وكثر مجيء هذا النحو في القرآن :{ فَإِمَّا تَرَيِنَّ } ،{ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ } ،{ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ} قال أبو العباس المهدوي : إن : هي ، التي للشرط زيدت عليها ما للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل ، ولو سقطت ، يعني ما لم تدخل النون ، فما تؤكد أول الكلام ، والنون تؤكد آخره . وتبعه ابن عطية في هذا فقال : فإن هي للشرط ، دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة ، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء النون ، انتهى كلامه . وهذا الذي ذهبا إليه من أن النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت إن بما ، هو مذهب المبرد والزجاج ، زعما أنها تلزم تشبيهاً بما زيدت للتأكيد في لام اليمين نحو : واللّه لأخرجن . وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ما بعد إن ضرورة . وذهب سيبويه والفارسي وجماعة من المتقدمين إلى أن ذلك لا يختص بالضرورة ، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها ، وإن كان الإثبات أحسن . وكذلك يجوز حذف ما وإثبات النون ، قال سيبويه : في هذه المسألة وإن شئت لم تقحم النون ، كما أنك إن شئت لم تجيء بما ، انتهى كلامه . وقد كثر السماع بعدم النون بعد إما ، قال الشنفري : فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا

على رقة أحفى ولا أتنعل

وقال آخر : يا صاح إما تجدني غير ذي جدة

فما التخلي عن الإخوان من شيمي

وقال آخر : زعمت تماضر أنني إما أمت

تسدد أبينوها الأصاغر خلتي

والقياس يقبله ، لأن ما زيدت حيث لا يمكن دخول النون ، نحو قول الشاعر : إمّا أقمت

وإمّا كنت مرتحلا

فاللّه يحفظ ما تبقى وما تذر

فكما جاءت هنا زائدة بعد إن ، فكذلك في نحو : إما تقم يأتينكم ، مبني مفتوح الآخر . واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء ، أم بني على السكون وحرك بالفتحة لالتقاء الساكنين : وقد أوضحنا ذلك في كتابنا المسمى } بالتكميل لشرح التسهيل} .{ مِنّي } : متعلق بيأتينكم ، وهذا شبيه بالالتفات ، لأنه انتقل من الضمير الموضوع للجمع ، أو المعظم نفسه ، إلى الضمير الخاص بالمتكلم المفرد . وقد ذكرنا حكمة ذاك الضمير في : قلنا ، عند شرح قوله :{ وَقُلْنَا يَاءادَمُ ءادَمَ اسْكُنْ } ، وحكمة هذا الانتقال هنا أن الهدى لا يكون إلا منه وحده تعالى ، فناسب الضمير الخاص كونه لا هادي إلا هو تعالى ، فأعطى الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره الضمير الخاص الذي لا يحتمل غيره تعالى .

وفي قوله : مني ، إشارة إلى أن الخير كله منه ، ولذلك جاء :{ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ وَقَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء } ، فأتى بكلمة : من ، الدالة على الابتداء في الأشياء ، لينبه على أن ذلك صادر منه ومبتدأ من جهته تعالى ، وأتى بأداة الشرط في قوله :{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } ، وهي تدخل على ما يتردد في وقوعه ، والذي أنبهم زمان وقوعه ، وإتيان الهدى واقع لا محالة ، لأنه أنبهم وقت الإتيان ، أو لأنه آذن ذلك بأن توحيد اللّه تعالى ليس شرطاً فيه إتيان رسل منه ، ولا إنزال كتب بذلك ، بل لو لم يبعث رسلاً ، ولا أنزل كتباً ، لكان الإيمان به واجباً ، وذلك لما ركب فيهم من العقل ، ونصب لهم من الأدلة ، ومكن لهم من الاستدلال ، كما قال :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

قال معناه الزمخشري غير إنشاد الشعر . هدى : تقدم الكلام على الهدى في قوله : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } ، ونكره لأن المقصود هو المطلق ، ولم يسبق عهد فيه فيعرّف . والهدى المذكور هنا : الكتب المنزلة ، أو الرسل ، أوالبيان ، أو القدرة على الطاعة ، أو محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أقوال . فمن تبع : الفاء مع ما دخلت عليه جواب لقوله :{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} وقال السجاوندي : الجواب محذوف تقديره فاتبعوه ، انتهى . فكأنه على رأيه حذف لدلالة قوله بعده :{ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} وتظافرت نصوص المفسرين والمعربين على أن : من ، في قوله : فمن تبع ، شرطية ، وأن جواب هذا الشرط هو قوله :{ فَلاَ خَوْفٌ } ، فتكون الآية فيها شرطان .

وحكى عن الكسائي أن قوله :{ فَلاَ خَوْفٌ } جواب للشرطين جميعاً ، وقد أتقنا مسألة اجتماع الشرطين في { كتاب التكميل} ، ولا يتعين عندي أن تكون من شرطية ، بل يجوز أن تكون موصولة ، بل يترجح ذلك لقوله في قسيمه : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ } ، فأتى به موصولاً ، ويكون قوله :{ فَلاَ خَوْفٌ } جملة في موضع الخبر .

وأما دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً ، فإن الشروط المسوّغة لذلك موجودة هنا .

وفي قوله :{ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } ، تنزيل الهدى منزلة الإمام المتبع المقتدى به ، فتكون حركات التابع وسكناته موافقة لمتبوعه ، وهو الهدى ، فحينئذ يذهب عنه الخوف والحزن . وفي إضافة الهدى إليه من تعظيم الهدى ما لا يكون فيه لو كان معزّفاً بالألف واللام ، وإن كان سبيل مثل هذا أن يعود بالألف واللام نحو قوله :{ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } ، والإضافة تؤدي معنى الألف واللام من التعريف ، ويزيد على ذلك بمزية التعظيم والتشريف .

وقرأ الأعرج : هداي بسكون الياء ، وفيه الجمع بين ساكنين ، كقراءة من قرأ : ومحياي ، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف .

وقرأ عاصم الجحدري وعبد اللّه بن أبي إسحاق وعيسى بن أبي عمر : هديّ ، بقلب الألف ياء وإدغمها في ياء المتكلم ، إذ لم يمكن كسر ما قبل الياء ، لأنه حرف لا يقبل الحركة ، وهي لغة هذيل ، يقلبون ألف المقصور ياء ويدغمونها في ياء المتكلم ، وقال شاعرهم : سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم

فتخرموا ولكل قوم مصرع

{فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } : قرأ الجمهور بالرفع والتنوين ،

وقرأ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب بالفتح في جميع القرآن ،

وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين وجه قراءة الجمهور مراعاة الرفع في { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، فرفعوا للتعادل .

قال ابن عطية : والرفع على إعمالها إعمال ليس ، ولا يتعين ما قاله ، بل الأولى أن يكون مرفوعاً بالابتداء لوجهين :

أحدهما : أن إعمال لا عمل ليس قليل جداً ، ويمكن النزاع في صحته ، وإن صح فيمكن النزاع في اقتياسه .

والثاني : حصول التعادل بينهما ، إذ تكون لا قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ ولم تعمل فيهما . ووجه قراءة الزهري ومن وافقه أن ذلك نص في العموم ، فينفي كل فرد من مدلول الخوف ،

وأما الرفع فيجوزه وليس نصاً ، فراعوا ما دل على العموم بالنص دون ما يدل عليه بالظاهر .

وأما قراءة ابن محيصن فخرجها ابن عطية على أنه من إعمال لا عمل ليس ، وأنه حذف التنوين تخفيفاً لكثرة الاستعمال . وقد ذكرنا ما في إعمال لا عمل ليس ، فالأولى أن يكون مبتدأ ، كما ذكرناه

إذا كان مرفوعاً منوناً ، وحذف تنوينه كما قال لكثرة الاستعمال ، ويجوز أن يكون عرِّي من التنوين لأنه على نية الألف واللام ، فيكون التقدير : فلا الخوف عليهم ، ويكون مثل ما حكى الأخفش عن العرب : سلام عليكم ، بغير تنوين . قالوا : يريدون السلام عليكم ، ويكون هذا التخريج أولى ، إذ يحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلتا الجملتين ، وإذا دخلت على المعارف لم تجر مجرى ليس ، وقد سمع من ذلك بيت للنابغة الجعدي ، وتأوله النحاة وهو : وحلت سواء القلب لا أنا باغيا

سواها ولا في حبها متراخيا

وقد لحنوا أبا الطيب في قوله : فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً وكنى بقوله : { عَلَيْهِمْ } عن الاستيلاء والإحاطة ، ونزل المعنى منزلة الجرم ، ونفى كونه معتلياً مستولياً عليهم . وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية ، ألا ترى إلى انصباب النفي على كينونة الخوف عليهم ؟ ولا يلزم من كينونة استعلاء الخوف انتفاء الخوف في كل حال ، ولذلك قال بعض المفسرين : ليس في قوله :{ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها عن المطيعين لما وصفه اللّه تعالى ورسوله من شدائد القيامة ، إلا أنها مخففة عن المطيعين . فإذا صاروا إلى رحمته ، فكأنهم لم يخافوا ، وقدم عدم الخوف على عدم الحزن ، لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات ، ولذلك أبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي ، وأبرزت الثانية مصدرة بالمعرفة في قوله :{ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}

وفي قوله :{ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن ، وأن غيرهم يحزن ، ولو لم يشر إلى هذا المعنى لكان : ولا يحزنون ، كافياً . ولذلك أورد نفي الحزن عنهم وإذهابه في قوله :{ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ } إلى قوله :{ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ} ومعلوم أن هذين الخبرين وما قبلهما من الخبر مختص بالذين سبقت لهم من اللّه الحسنى ،

وفي قوله :{ الْحَمْدُ للّه الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } ، فدل هذا كله على أن غيرهم يحزنه الفزع ، ولا يذهب عنهم الحزن .

وحكى عن المفسرين في تفسير هذه الجملة أقوال :

أحدها : لا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب ولا يحزنون عند الموت .

الثاني : لا يتوقعون مكروهاً في المستقبل ، ولا هم يحزنون لفوات المرغوب في الماضي والحال .

الثالث : لا خوف عليهم فيما يستقبلهم ، ولا هم يحزنون فيما خلفه .

الرابع : لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا .

الخامس : لا خوف عليهم من عقاب ، ولا هم يحزنون على فوات ثواب .

السادس : إن الخوف استشعار غم لفقد مطلوب ، والحزن استشعار غم لفوات محبوب .

السابع : لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم منها .

الثامن : لا خوف عليهم يوم القيامة ، ولا هم يحزنون فيها .

التاسع : أنه أشار إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن ، لا خوف عليهم فيها ولا حزن .

العاشر : ما قاله ابن زيد : لا خوف عليهم أمامهم ، فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فأمنهم اللّه منه ، ثم سلاهم عن الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا . الحادي عشر : لا خوف حين أطبقت النار ، ولا حزن حين ذبح الموت في صورة كبش على الصراط ، فقيل لأهل الجنة والنار : خلود لا موت . الثاني عشر : لا خوف ولا حزن على الدوام .

وهذه الأقوال كلها متقاربة ، وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم ، لكن يخص بما بعد الدنيا ، لأنه في دار الدنيا قد يلحق المؤمن الخوف والحزن ، فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها من العموم لذلك . .

﴿ ٣٨