٤٢ولا تلبسوا الحق . . . . . {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } : أي الصدق بالكذب ، قاله ابن عباس ، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام ، قاله مجاهد ، أو التوراة بما كتبوه بأيديهم فيها من غيرها ، أو بما بدلوا فيها من ذكر محمد صلى اللّه عليه وسلم ، قاله ابن زيد ، أو الأمانة بالخيانة لأنهم ائتمنوا على إبداء ما في التوراة ، فخانوا في ذلك بكتمانه وتبديله ، أو الإقرار بنبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى غيرهم وجحدهم أنه ما بعث إليهم ، قاله أبو العالية ، أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم ، أو صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم بصفة الدجال . وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله بالباطل للإلصاق ، كقولك : خلطت الماء باللبن ، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل ، فلا يتيمز الحق من الباطل ، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة ، كهي في كتبت بالقلم ، قال : كان المعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم ، وهذا فيه بعد عن هذا التركيب ، وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك . {وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ } : مجزوم عطفاً على تلبسوا ، والمعنى : النهي عن كل واحد من الفعلين ، كما قالوا : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، بالجزم نهياً عن كل واحد من الفعلين ، وجوزوا أن يكون منصوباً على إضمار أن ، وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم ، ويسمى عند الكوفيين النصب على الصرف . والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو ، وهذا مذكور في علم النحو . وما جوزوه ليس بظاهر ، لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحباً على الجمع بين الفعلين ، كما إذا قلت : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، معناه : النهي عن الجمع بينهما ، ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما ، وذلك منهي عنه ، فلذلك رجح الجزم . وقرأ عبد اللّه :{ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ } ، وخرج على أنها جملة في موضع الحال ، وقدره الزمخشري : كاتمين ، وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ، لأن الجملة المثبتة المصدّرة بمضارع ، إذا وقعت حالاً لا تدخل عليها الواو ، والتقدير الإعرابي هو أن تضمر قبل المضارع هنا مبتدأ تقديره : وأنتم تكتمون الحق ، ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال ، لأن الحال قيد في الجملة السابقة ، وهم قد نهوا عن لبس الحق بالباطل ، على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحال إلا أن تكون الحال لازمة ، وذلك أن يقال : لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوماً ، ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر ، وهو أن يكون اللّه قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق ، فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي ، على من يرى جواز ذلك ، وهو سيبويه وجماعة ، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل ، وكلا التخريجين تخريج شذوذ . والحق الذي كتموه هو أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو العالية ، والسدّي ، ومقاتل ، أو الإسلام ، قاله الحسن ، أو يكون الحق عامًّا فيندرج فيه أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والقرآن ، وما جاء به صلى اللّه عليه وسلم وكتمانه أنهم كانوا يعلمون ذلك ويظهرون خلافه . {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية ، ومفعول تعلمون محذوف اقتصاراً ، إذ المقصود : وأنتم من ذوي العلم ، فلا يناسب من كان عالماً أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل ، وقد قدروا حذفه حذف اختصار ، وفيه أقاويل ستة : أحدها : وأنتم تعلمون أنه مذكور هو وصفته في التوراة صلى اللّه عليه وسلم. الثاني : وأنتم تعلمون البعث والجزاء . الثالث : وأنتم تعلمون أنه نبي مرسل للناس قاطبة . الرابع : وأنتم تعلمون الحق من الباطل . وقال الزمخشري : وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون ، فجعل مفعول العلم اللبس والكتم المفهومين من الفعلين السابقين ، قال : وهو أقبح ، لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه ، انتهى . فكان ما قدّره هو على حذف مضاف ، أي وأنتم تعلمون قبح أو تحريم اللبس والكتم ، و قال ابن عطية : وأنتم تعلمون ، جملة في موضع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم ، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا ، انتهى . ومفهوم كلامه أن مفعول تعلمون هو الحق ، كأنه قال : ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمونه ، لأن المكتوم قد يكون حقاً وغير حق ، فإذا كان حقاً وعلم أنه حق ، كان كتمانه له أشد معصية وأعظم ذنباً ، لأن العاصي على علم أعصى من الجاهل العاصي . قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يشهد لهم بعلم على الإطلاق ، قال : ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال ، انتهى . يعني أن الجملة تكون معطوفة ، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي ، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار على ما قررناه من الكلام في تخريجنا لقراءة عبد اللّه : وتكتمون . والأظهر من هذه الأقاويل ما قدّمناه أوّلاً من كون العلم حذف مفعوله حذف اقتصار ، إذ المقصود أن من كان من أهل العلم والاطلاع على ما جاءت به الرسل ، لا يصلح له لبس الحق بالباطل ولا كتمانه . وهذه الحال ، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم ، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل ، لأن الجاهل بحال الشيء لا يدري كونه حقاً أو باطلاً ، وإنما فائدتها : أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل بها . وقال القشيري : لا تتوهموا ، إن يلتئم لكم جمع الضدّين والكون في حالة واحدة في محلين ، فإما مبسوطة بحق ، وإما مربوطة بحط ، { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } ، تدليس ، { وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ } تلبيس ، { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أن حق الحق تقديس ، انتهى . وفي هذه الآية دليل أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ، ويحرم عليه كتمانه . |
﴿ ٤٢ ﴾