٥٠

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذالِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .

وإذ فرقنا بكم . . . . .

الفرق : الفصل ، فرق بين كذا وكذا : فصل ، وفرق كذا : فصل بعضه من بعض ، ومنه : الفرق في شعر الرأس ، والفريق ، والفرقان ، والتفرق ، والفرق ، المفروق ، كالطحن . والفرق ضده : الجمع ، ونظائره : الفصل ، وضده : الوصل ، والشق والصدع : وضدهما اللأم ، والتمييز : وضده الاختلاط .

وقيل : يقال فرق في المعانى ، وفرق في الأجسام ، وليس بصحيح . البحر : مكان مطمئن من الأرض يجمع المياه ، ويجمع في القلة على أبحر ، وفي الكثرة على بحور وبحار ، وأصله قيل : الشق ،

وقيل : السعة . فمن

الأول : البحيرة ، وهي التي شقت أذنها ، ومن

الثاني : البحيرة ، المدينة المتسعة ، وفرس بحر : واسع العدو ، وتبحر في العلم : أي اتسع ، وقال : انعق بضأنك في بقل تبحره

من الأباطح وأحبسها بحلدان

وجاء استعماله في الماء الحلو والماء الملح ،

قال تعالى : { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } ، وجاء استعماله للملح ،

ويقال : هو الأصل ، فيه أنشد أحمد بن يحيى : وقد عاد عذب الماء بحراً فزادني

على مرض أن أبحر المشرب العذب

أي صار ملحاً . الغرق : معروف ، والفعل منه فعل بكسر العين يفعل بالفتح ، قال :

وتارات يجمّ فيغرق

والتغريق ، والتعويص ، والترسيب ، والتغييب ، بمعنى واحد . النظر : تصويب المقلة إلى المرئيّ ، ويطلق على الرؤية ، وتعديته بإلى ، ويعلق ، وإن لم يكن من أفعال القلوب ، فلينظر أيها أزكى طعاماً ، ونظره وانتظره وأنظره : أخره ، والنظرة : التأخير . وعد في الخير والشر ، والوعد في الخير ، وأوعد في الشر ، والإيعاد والوعيد في الشر . موسى : اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية . يقال : هو مركب من مو : وهو الماء ، وشاو : وهو الشجر . فلما عرّب أبدلوا شينه سيناً ، وإذا كان أعجمياً فلا يدخله اشتقاق عربي . وقد اختلفوا في اشتقاقه ، فقال مكيّ : موسى مفعل من أوسيت ، وقال غيره : هو مشتق من ماس يميس ، ووزنه : فعلى ، فأبدلت الياء واواً الضمة ما قبلها ، كما قالوا : طوبى ، وهي من ذوات الياء ، لأنها من طاب يطيب . وكون وزنه فعلى هو مذهب المعربين . وقد نص سيبويه على أن وزن موسى مفعل ، وذلك فيما لا ينصرف . واحتج سيبويه في الأبنية على ذلك بأن زيادة الميم أولاً أكثر من زيادة الألف آخراً ، واحتج الفارسي على كونه مفعلاً لا فعلى ، بالإجماع على صرفه نكرة ، ولو كان فعلى لم ينصرف نكرة لأن الألف كانت تكون للتأنيث ، وألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة . الأربعون : ليس بجمع سلامة ، بل هو من قبيل المفرد الذي هو اسم جمع ، ومدلوله معروف ، وقد أعرب إعراب الجمع المذكر السالم .

الليلة : مدلولها معروف ، وتكسر شاذاً على فعالى ، فيقال : الليالي ، ونظيره : الكيكة

والكياكي ، كأنه جمع ليلاه وكيكاه ، وأهل والأهالي . وقد شذوا في التصغير كما شذوا في التكسير ، قالوا : لييله . الاتخاذ : افتعال من الأخذ ، وكان القياس أن لا تبدل الهمزة إلا ياء ، فتقول : إيتخذ كهمزة إيمان إذ أصله : إإمان ، وكقولهم : ائتزر : افتعل من الإزار ، فمتى كانت فاء الكلمة واواً أو ياء ، وبنيت افتعل منها ، فاللغة الفصحى إبدالها تاء وإدغامها في تاء الافتعال ، فتقول : اتصل واتسر من الوصل واليسر ، فإن كانت فاء الكلمة همزة ، وبنيت افتعل ، أبدلت تلك الهمزة ياء وأقررتها . هذا هو القياس ، وقد تبدل هذه الياء تاء فتدغم ، قالوا : اتمن ، وأصله : ائتمن . وعلى هذا جاء : اتخذ . ومما علق بذهني من فوائد الشيخ الإمام بهاء الدين أبي عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر الحلبي ، عرف بابن النحاس ، رحمه اللّه ، وهو كان المشتهر بعلم النحو في ديار مصر : أن اتخذ مما أبدل فيه الواو تاء على اللغة الفصحى ، لأن فيه لغة أنه يقال : وخذ بالواو ، فجاء هذا على الأصل في البدل ، وإن كان مبنياً على اللغة القليلة ، وهذا أحسن ، لأنهم نصوا على أن اتمن لغة رديئة ، وكان رحمه اللّه يغرب بنقل هذه اللغة . وقد خرج الفارسي مسألة اتخذ على أن التاء الأولى أصلية ، إذ

قلت : قالت العرب تخذ بكسر الخاء ، بمعنى : أخذ ، قال : تعالى : { لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ، في قراء من قرأ كذلك ، وأنشد الفارسي ، رحمه اللّه : وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

نسيفاً كافحوص القطاة المطوّق

فعلى قوله : التاء أصل ، وبنيت منه افتعل ، فقلت : اتخذ ، كما تقول : اتبع ، مبنياً من تبع ، وقد نازع أبو القاسم الزجاجي في تخذ ، فزعم أن أصله : اتخذ ، وحذف كما حذف اتقى ، فقالوا : تقى ، واستدل على ذلك بقولهم : تخذ بفتح التاء مخففة ، كما قالوا : يتقي ويتسع بحذف التاء التي هي بدل من فاء الكلمة . ورد السيرافي هذا القول وقال : لو كان محذوفاً منه ما كسرت الخاء ، بل كانت تكون مفتوحة ، كقاف تفي ،

وأما يتخذ فمحذوف مثل : يتسع ، حذف من المضارع دون الماضي ، وتخذ بناء أصلي ، انتهى . وما ذهب إليه الفارسي والسيرافي من أنه بناء أصلي على حده هو الصحيح ، بدليل ما حكاه أبو زيد وهو : تخذ يتخذ تخذاً ، قال الشاعر : ولا تكثرن تخذ العشار فإنها

تريد مباءات فسيحاً بناؤها

وذكر المهدوي في شرح الهداية : أن الأصل واو مبدلة من همزة ، ثم قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء ، فصار في اتخذ أقوال :

أحدها : التاء الأولى أصل .

الثاني : أنها بدل من واو أصلية .

الثالث : أنها بدل من تاء أبدلت من همزة .

الرابع : أنها بدل من واو أبدلت من همزة ، واتخذ تارة يتعدى لواحد ، وذلك نحو قوله تعالى :{ اتَّخَذَتْ بَيْتاً } ، وتارة لاثنين نحو قوله تعالى :{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ } : بمعنى صير . العجل : معروف ، وهو ولد البقرة الصغير الذكر . بعد : ظرف زمان ، وأصله الوصف ، كقبل ، وحكمه حكمه في كونه يبنى على الضم إذا قطع عن الإضافة إلى معرفة ، ويعرب بحركتين ، فإذا

قلت : جئت بعد زيد ، فالتقدير : جئت زماناً بعد زمان مجيء زيد ، ولا يحفظ جرّه إلا بمن وحدها .

عفا : بمعنى كثر ، فلا يتعدى حتى عفوا ، وقالوا : وبمعنى درس ، فيكون لازماً متعدياً نحو : عفت الديار ، ونحو : عفاها الريح ، وعفا عن زيد : لم يؤاخذه بجريمته ، واعفوا عن اللحى ، أي اتركوها ولا تأخذوا منها شيئاً ، ورجل عفوّ ، والجمع عفو على فعل بإسكان العين ، وهو جميع شاذ ، والعفاء : الشعر الكثير ، قال الشاعر :

عليه من عقيقته عفاء

ويقال في الدعاء على الشخص : عليه العفاء ، قال :

على آثار من ذهب العفاء

يريد الدروس ، وتأتي عفا : بمعنى سهل من قولهم : خذ ما عفا وصفا ، وأخذت عفوه : أي ما سهل عليه ،  { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } : أي الفضل الذي يسهل إعطاؤه ، ومنه : خذ العفو ، أي السهل على أحد الأقوال ، والعافية : الحالة السهلة السمحة . الشكر : الثناء على إسداء النعم ، وفعلة : شكر يشكرشكراً وشكوراً ، ويتعدى لواحد تارة بنفسه وتارة بحرف جر ، وهو من ألفاظ مسموعة تحفظ ولا يقاس عليها ، وهو قسم برأسه ، تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف جر على حد سواء ، خلافاً لمن زعم استحالة ذلك . وكان شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع يذهب إلى أن شكر أصله أن يتعدى بحرف جر ، ثم أسقط اتساعاً .

وقيل : الشكر : إظهار النعمة من قولهم : شكرت الرمكة مهرها إذا أظهرته ، والشكير : صغار الورق يظهر من أثر الماء ، قال الشاعر : وبينا الفتى يهتز للعيش ناضرا

كعسلوجة يهتز منها شكيرها

وأوّل الشيب ، قال الراجز : ألان ادلاج بك العتير

والرأس إذ صار له شكير

وناقة شكور تذر أكثر مما رعت

الفرقان : مصدر فرق ، وتقدّم الكلام في فرق .

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } : معطوف على : وإذ نجيناكم فالعامل فيه ما ذكر أنه العامل في إذ تلك بواسطة الحرف .

وقرأ الزهري : فرّقنا بالتشديد ، ويفيد التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر مسلكاً على عدد أسباط بني إسرائيل . ومن قرأ : فرقنا مجرداً ، اكتفى بالمطلق ، وفهم التكثير من تعداد الأسباط . بكم : متعلق بفرّقنا ، والباء معناها : السبب ، أي بسبب دخولكم ، أو المصاحبة : أي ملتبساً ، كما قال :

تدوس بنا الجماجم والتريبا

أي ملتبسة بنا ، أو : أي جعلناه فرقاً بكم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما ، وهو قريب من معنى الاستعانة ، أو معناها اللام ، أي فرّقنا لكم البحر ، أي لأجلكم ، ومعناها راجع للسبب . ويحتمل الفرق أن يكون عرضاً من ضفة إلى ضفة ، ويحتمل أن يكون طولاً ، ونقل كل : وعلى هذا الثاني قالوا : كان ذلك بقرب من موضع النجاة ، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة . وذكر العامري : أن موضع خروجهم من البحر كان قريباً من برية فلسطين ،

وهي كانت طريقهم . البحر : قيل هو بحر القلزم من بحار فارس ، وكان بين طرفيه أربعة فراسخ ،

وقيل : من بحر من بحار مصر يقال له أساف ، ويعرف الآن ببحر القلزم ، قيل : وهو الصحيح ، ولم يختلفوا في أن فرق البحر كان بعدد الأسباط ، اثنى عشر مسلكاً . واختلفوا في عدد المفروق بهم ، وعدد آل فرعون ، على أقوال يضاد بعضها بعضاً ، وحكوا في كيفية خروج بني إسرائيل ، وتعنتهم وهم في البحر مقتحمون ، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده ، حكايات مطوّلة جداً لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها ، فاللّه أعلم بالصحيح منها .

{فَأَنجَيْنَاكُمْ } : يعني من الغرق ، ومن أدراك فرعون لكم واليوم الذي وقع فيه الفرق والنجاة والغرق كان يوم عاشوراء ؟ واستطردوا إلى الكلام في يوم عاشوراء ، وفي صومه ، وهي مسألة تذكر في الفقه . وبين قوله :{ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } ، وبين قوله :{ فَأَنجَيْنَاكُمْ } محذوف يدلّ عليه المعنى تقديره : وإذ فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم .{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ } والهمزة في أغرقنا للتعدية ، ويعدى أيضاً بالتضعيف . ولم يذكر فرعون فيمن غرق ، لأن وجوده معهم مستقرّ ، فاكتفى بذكر الآل هنا ، لأنهم هم الذين ذكروا في الآية قبل هذه ، ونسب تلك الصفة القبيحة إليهم من سومهم بني إسرائيل العذاب ، وذبحهم أبناءهم ، واستحيائهم نساءهم ، فناسب هذا إفرادهم بالغرق . وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر ، منها :{ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ } ،{ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ } ،{ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ} وناسب نجاتهم من فرعون بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين ، نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه السلام من الذبح ، بإلقائه وهو طفل في البحر ، وخروجه منه سالماً . ولكل أمّة نصيب من نبيها . وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق ، هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح ، لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم ، والغرق فيه إبطاء الموت ، ولا دم خارج ، وكان ما به الحياة { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ } سبباً لإعدامهم من الوجود . ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدّة ، جعله اللّه تعالى نكالاً لمن ادّعى الربوبية ، فقال :{ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى } ، إذ على قدر الذنب يكون العقاب ، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدّعى وتغييبه في قعر الماء .

{وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } : جملة حالية ، وهو من النظر : بمعنى الإبصار . والمعنى ، واللّه أعلم : أن هذه الخوارق العظيمية من فرق البحر بكم ، وإنجائكم من الغرق ، ومن أعدائكم ، وإهلاك أعدائكم بالغرق ، وقع وأنتم تعاينون ذلك وتشاهدونه ، لم يصل ذلك إليكم بنقل ، بل بالمشاهدة التي توجب العلم الضروري بأن ذلك خارق من عند اللّه تعالى على يد النبي الذي جاءكم .

وقيل : وأنتم تنظرون إليهم لقرب بعض من بعض ،

وقيل : إلى طفوهم على وجه الماء غرقى .

وقيل : إليهم وقد لفظهم البحر وهم العدد الذي لا يكاد ينحصر ، لم يترك البحر في جوفه منهم واحداً .

وقيل : تنظرون أي بعضكم إلى بعض وأنتم سائرون في البحر ، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له : أين أصحابنا ؟ فقال : سيروا ، فإنهم على طريق مثل طريقكم ، قالوا : لا نرضى حتى نراهم ، فأوحى اللّه إليه أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على الحيطان ، فصار بها كوى ، فتراءوا وتسامعوا كلام بعضهم بعضاً . وهذه الأقوال الخمسة النظر فيها بمعنى الرؤية ،

وقيل : النظر تجوز به عن القرب ، أي وأنتم بالقرب منهم ، أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم : أنت مني بمرأى ومسمع ، أي قريب بحيث أراك وأسمعك ، قاله ابن الأنباري .

وقيل : هو من نظر البصيرة والعقل ، ومعناه : وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت إليهم .

وقيل : النظر هنا بمعنى العلم ، لأن العلم يحصل عن النظر ، فكنى به عنه ، قاله الفراء ، وهو معنى قول ابن عباس .

﴿ ٥٠