٥١

وإذ واعدنا موسى . . . . .

{وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } قرأ الجمهور : واعدنا ،

وقرأ أبو عمرو : وعدنا بغير ألف هنا ، وفي الأعراف وطه ، ويحتمل واعدنا : أن يكون بمعنى وعدنا ، ويكون صدر من واحد ، ويحتمل أن يكون من اثنين على أصل المفاعلة ، فيكون اللّه قد وعد موسى الوحي ، ويكون موسى وعد اللّه المجيء للميقات ، أو يكون الوعد من اللّه وقبوله كان من موسى ، وقبول الوعد يشبه الوعد . قال القفال : ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد اللّه بمعنى يعاهده .

وقيل : وعد إذا كان عن غير طلب ، وواعد إذا كان عن طلب . وقد رجح أبو عبيد

قراءة من قرأ : وعدنا بغير ألف ، وأنكر قراءة من قرأ : واعدنا بالألف ، وافقه على معنى ما قال أبو حاتم ومكي . وقال أبو عبيد : المواعدة لا تكون إلا من البشر ، وقال أبو حاتم : أكثر ما تكون المواعدة من المخلوقين المتكافئين ، كل واحد منهما يعد صاحبه ، وقد مر تخريج واعد على تلك الوجوه السابقة ، ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى ، لأن كلاً منهما متواتر ، فهما في الصحة على حدّ سواء . وأكثر القراء على القراءة بألف ، وهي قراءة مجاهد ، والأعرج ، وابن كثير ، ونافع ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي . موسى : هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن . وذكر الشريف أبو البركات محمد بن أسعد بن علي الحوّاني النسابة : أن موسى على نبينا وعليه السلام هو : موسى بن عمران بن قاهث ، وتقدّم الكلام في لفظ موسى العلم .

وأما موسى الحديدة ، التي يحلق بها الشعر ، فهي مؤنثة عربية مشتقة من : أسوت الشيء ، إذا أصلحته ، ووزنها مفعل ، وأصلها الهمز ،

وقيل : اشتقاقها من : أوسيت إذا حلقت ، وهذا الاشتقاق أشبه بها ، ولا أصل للواو في الهمز على حد . أربعين ليلة : ذو الحجة وعشر من المحرّم ، أو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، قاله أبو العالية وأكثر المفسرين ،

وقرأ علي وعيسى بن عمر : بكسر باء أربعين شاذاً اتباعاً ، ونصب أربعين على المفعول الثاني لواعدنا ، على أنها هي الموعودة ، أو على حذف مضاف التقديم تمام ، أو انقضاء أربعين حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه ، قاله الأخفش ، فيكون مثل قوله : فواعديه سر حتى مالك

أو النقا بينهما أسهلا

أي إتيان سر حتى مالك ، ولا يجوز نصب أربعين على الظرف لأنه ظرف معدود ، فيلزم وقوع العامل في كل فرد من أجزائه ، والمواعدة لم تقع كذلك . وليلة : منصوب على التمييز الجائي بعد تمام الاسم ، والعامل في هذا النوع من التمييز اسم العدد قبله شبه أربعين بضاربين ، ولا يجوز تقديم هذا النوع من التمييز على اسم العدد بإجماع ، ولا الفصل بينهما بالمجرور إلا ضرورة ، نحو : على أنني بعدما قد مضى

ثلاثون للّهجر حولاً كميلا

وعشرين منها أصبعاً من ورائنا

ولا تعريف للتمييز ، خلافاً لبعض الكوفيين وأبي الحسين بن الطراوة . وأول أصحابنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب : ما فعلت العشرون الدرهم ، وما جاء نحو : هذا مما يدل على التعريف ، وذلك مذكور في علم النحو .

وكان تفسير الأربعين بليلة دون يوم ، لأن أوّل الشهر ليلة الهلال ، ولهذا أرّخ بالليالي ، واعتماد العرب على الأهلة ، فصارت الأيام تبعاً لليالي ، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل { وَءايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } ،أو دلالة على مواصلته الصوم ليلاً ونهاراً ، لأنه لو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل ، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها . وهذه المواعدة للتكلم ، أو لإنزال التوراة . قال المهدوي : وكان ذلك بعد أن جاوز البحر ، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند اللّه ، فخرج إلى الطور في سبعين رجلاً من خيار بني إسرائيل ، وصعد الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة ، فقعدوا فيما ذكره المفسرون عشرين يوماً وعشرة ليال ، فقالوا : قد أخلفنا موعده ، انتهى كلامه .

وقال الزمخشري : لما دخل بنو إسرائيل مصر ، بعد هلاك فرعون ، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد اللّه أن ينزل عليهم التوراة ، وضرب له ميقاتاً ، انتهى .

{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } : الجمهور على إدغام الذال في التاء .

وقرأ ابن كثير وحفص من السبعة : بالإظهار ، ويحتمل اتخذ هنا أن تكون متعدية لواحد ، أي صنعتم عجلاً ، كما قال :{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } ، على أحد التأويلين ، وعلى هذا التقدير : يكون ثم جملة محذوفة يدل عليها المعنى ، وتقديرها : وعبدتموه إلهاً ، ويحتمل أن تكون مما تعدّت إلى اثنين فيكون المفعول الثاني محذوفاً لدلالة المعنى ، التقدير : ثم اتخذتم العجل إلهاً ، والأرجح القول الأوّل ، إذ لو كان مما يتعدّى في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني ، ولو في موضع واحد ، ألا ترى أنه لم يعد إلى اثنين بل إلى واحد في هذا الموضع ، وفي :{ اتَّخَذَ قَوْمِ مُوسَى } ، وفي :{ اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } ، وفي :{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ } ، وفي قوله في هذه السورة أيضاً :{ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } ، لكنه يرجح القول الثاني لاستلزام القول الأوّل حذف جملة من هذه الآيات ، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول ، وحذف المفرد أسهل من حذف الجملة . فعلى القول الأوّل فيه ذمّ الجماعة بفعل الواحد ، لأن الذي عمل العجل هو السامري ، وسيأتي ، إن شاء اللّه ، الكلام فيه وفي اسمه وحكاية إضلاله عند قوله تعالى :{ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ } ، وذلك عادة العرب في لاكمها تذم وتمدح القبيلة بما صدر عن بعضها . وعلى القول الثاني فيه ذمهم بما صدر منهم ، والألف واللام في العجل على القول الأول لتعريف الماهية ، إذ لم يتقدّم عهد فيه ، وعلى القول الثاني للعهد السابق ، إذ كانوا قد صنعوا عجلاً ثم اتخذوا ذلك العجل إلهاً ، وكونه عجلاً ظاهر في أنه صار لحماً ودماً ، فيكون عجلاً حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه حقيقة ، قاله الحسن .

وقيل : هو مجاز ، أي عجلاً في الصورة والشكل ، لأن السامري صاغه على شكل العجل ، وكان فيما ذكروا صائغاً ، ويكون نسبة الخوار إليه مجازاً ، قاله الجمهور ، وسيأتي الكلام على ذلك في الأعراف ، إن شاء اللّه . ومن أغرب ما ذهب إليه في هذا العجل أنه سمي عجلاً لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى ، فاتخذوه إلهاً ، قاله أبو العالية ، أو سمى هذا عجلاً ، لقصر مدّته .

{مِن بَعْدِهِ } ، من : تفيد ابتداء الغاية ، ويتعارض مدلولها مع مدلول ثم ، لأن ثم تقتضي وقوع الاتخاذ بعد مهلة من المواعدة ، ومن تقتضي ابتداء الغاية في التعدية التي تلي المواعدة ، إذا الظاهر عود الضمير على موسى ، ولا تتصوّر التعدية في الذات ، فلا بد من حذف ، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا ، أي من بعد مواعدته ، فلا بد من ارتكاب المجاز في أحد الحرفين ، إلا أن قدر محذوف غير المواعدة ، وهو أن يكون التقدير من بعد ذهابه إلى الطور ، فيزول التعارض ، إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ . ويبين المهلة قصة الأعراف ، إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل كثيرة ، وابتداء الغاية يكون عقيب الذهاب إلى الطور ، فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد ، فزال التعارض .

وقيل : الضمير في بعده يعود على الذهاب ، أي من بعد الذهاب ، ودل على ذلك أن المواعدة

تقتضي الذهاب ، فيكون عائداً على غير مذكور ، بل على ما يفهم من سياق الكلام ، نحو قوله تعالى : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } ،{ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } أي توارت الشمس ، إذ يدل عليها قوله : بالعشي ، وأي فأثرن بالمكان ، إذ يدل عليه { وَالْعَادِيَاتِ }{ فَالمُورِيَاتِ } ،{ فَالْمُغِيراتِ } ، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا في مكان فاقتضته ودلت عليه .

وقيل : الضمير يعود على الانجاء ، أي من بعد الانجاء ،

وقيل : على الهدى ، أي من بعد الهدى ، وكلا هذين القولين ضعيف .

{وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } : جملة حالية ، ومتعلق الظلم . قيل : ظالمون بوضع العبادة في غير موضعها ،

وقيل : بتعاطي أسباب هلاكها ،

وقيل : برضاكم فعل السامري في اتخاذه العجل ، ولم تنكروا عليه . ويحتمل أن تكون الجملة غير حال ، بل إخبار من اللّه إنهم ظالمون : أي سجيتهم الظلم ، وهو وضع الأشياء في غير محلها . وكان المعنى : ثم اتخذتم العجل من بعده وكنتم ظالمين ، كقوله تعالى :{ اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} وأبرز هذه الجملة في صورة ابتداء وخبر ، لأنها أبلغ وآكد من الجملة الفعلية ولموافقة الفواصل . وظاهر قوله : ثم اتخذتم العموم ، وأنهم كلهم عبدوا العجل إلا هارون ،

وقيل : الذين عكفوا على عبادته من قوم موسى ثمانية آلاف رجل ،

وقيل : كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفاً ، قيل : وهذا هو الصحيح ،

وقيل : إلا هارون والسبعين رجلاً الذين كانوا مع موسى . واتخاذ السامري العجل دون سائر الحيوانات ، قيل : لأنهم مرّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم وكانت على صور البقر ، فقالوا : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، فهجس في نفس السامري أن يفتنهم من هذه الجهة ، فاتخذ لهم العجل ،

وقيل : إنه كان من قوم يعبدون البقر ، وكان منافقاً يظهر الإيمان بموسى ، فاتخذ عجلاً من جنس ما كان يعبده ، وفي اتخاذهم العجل إلهاً دليل على أنهم كانوا مجسمة أو حلولية ، إذ من اعتقد تنزيه اللّه عن ذلك واستحالة ذلك عليه بالضرورة ، تبين له بأوّل وهلة فساد دعوى أن العجل إله . وقد نقل المفسرون عن ابن عباس والسدّي وغيرهما قصصاً كثيراً مختلفاً في سبب اتخاذ العجل ، وكيفية اتخاذه ، وانجر مع ذلك أخبار كثيرة ، اللّه أعلم بصحتها ، إذ لم يشهد بصحتها كتاب ولا حديث صحيح ، فتركنا نقل ذلك على عادتنا في هذا الكتاب .

﴿ ٥١