٥٥

وإذ قلتم يا . . . . .

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى مُوسَى } : هذه محاورة بني إسرائيل لموسى ، وذلك بعد محاورته لهم في الآية قبل هذا . والضمير في قلتم قيل للسبعين المختارين ، قاله ابن مسعود وقتادة ، وذكر في اختيار السبعين كيفية ستأتي ، إن شاء اللّه تعالى ، في مكانها في الأعراف .

وقيل : الضمير لسائر بني إسرائيل إلا من عصمة اللّه ، قاله ابن زيد .

وقيل : الذين انفردوا مع هارون ولم يعبدوا العجل . وقال بعض من جمع في التفسير : تظافرت أقوال أئمة التفسير على أن الذين أصابتهم الصاعقة هم السبعون رجلاً الذين اختارهم موسى ومضى بهم لميقات ربه ومناجاته ، وما ذكر لا يمكن مع ذكر الاختلاف في قوله :{ وَإِذْ قُلْتُمْ } ، لأن الظاهر أن القائل ذلك هم الذين أخذتهم الصاعقة ، إلا إن كان ذلك من تلوين الخطاب ، وهو هنا بعيد . وفي نداء بني إسرائيل لنبيهم باسمه سوء أدب منهم معه ، إذ لم يقولوا : يا نبي اللّه ، أو يا رسول اللّه ، أو يا كليم اللّه ، أو غير ذلك من الألفاظ التي تشعر بصفات التعظيم ، وهي كانت عادتهم معه : يا موسى لن نصبر على طعام واحد ، يا موسى اجعل لنا إلهاً ، يا موسى ادع لنا ربك . وقد قال اللّه لهذه الأمّة لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً . .

{لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } : قيل معناه : لن نصدّقك فيما جئت به من التوراة ، ولم يريدوا نفي الإيمان به بدليل قولهم لك ، ولم يقولوا بك نحو :{ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } ،أي بمصدّق .

وقيل معنا : لن نقرّ لك ، فعبر عن الإقرار بالإيمان وعدّاه باللام ، وقد جاء { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى } ، قالوا : أقررنا ، فيكون المعنى : لن نقرّ لك بأن التوراة من عند اللّه .

وقيل : يجوز أن تكون اللام للعلة ، أي لن نؤمن لأجل قولك بالتوراة .

وقيل : يجوز أن يراد نفي الكمال ، أي لا يكمل إيماننا لك ، كما قيل في قوله صلى اللّه عليه وسلم { لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأهله والناس أجمعين} .

{حَتَّى نَرَى اللّه جَهْرَةً } حتى : هنا حرف غاية ، أخبروا بنفي إيمانهم مستصحباً إلى هذه الغاية ومفهومها أنهم إذا رأوا اللّه جهرة آمنوا ، والرؤية هنا : هي البصرية ، وهي التي لا حجاب دونها ولا ساتر ، وانتصاب جهرة على أنه مصدر مؤكد مزيل لاحتمال الرّؤية أن تكون مناماً أو علماً بالقلب . والمعنى حتى نرى اللّه عياناً ، وهو مصدر من قولك : جهر بالقراءة وبالدعاء ، أي أعلن بها فأريد بها نوع من الرّؤية ، فانتصابها على حدّ قولهم : قعد القرفصاء ، وفي : نصب هذا النوع خلاف مذكور في النحو . والأصح أن يكون منصوباً بالفعل السابق يعدي إلى النوع ، كما تعدّى إلى لفظ المصدر الملاقي مع الفعل في الاشتقاق ،

وقيل انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال على تقدير الحذف ، أي ذوي جهرة ، أو على معنى جاهرين بالرؤية لا على طريق المبالغة نحو : رجل صوم ، لأن المبالغة لا تراد هنا . فعلى القول الأوّل تكون الجهرة من صفات الرّؤية ، وعلى هذا القول تكون من صفات الرائين ، وثم قول ثالث ، وهو أن يكون راجعاً لمعنى القول ، أو القائلين ، فيكون المعنى : وإذ قلتم كذا قولاً جهرة أو جاهرين بذلك القول ، لم يسروه ولم يتكاتموا به ، بل صرحوا به وجهروا بأنهم أخبروا بانتفاء الإيمان مغياً بالرؤية . والقول بأن الجهرة راجع لمعنى القول مروي عن ابن عباس وأبي عبيدة ، والظاهر تعلقه بالرؤية لا بالقول ، وهو الذي يقتضيه التركيب الفصيح .

وقرأ ابن عباس وسهل بن شعيب وحميد بن قيس : جهرة ، بفتح الهاء ، وتحتمل هذه القراءة وجهين :

أحدهما : أن يكون جهرة مصدراً كالغلبة ، فتكون معناها ومعنى جهرة المسكنّة الهاء سواء ، ويجري فيها من الإعراب الوجوه التي سبقت في جهرة .

والثاني : أن يكون جمعاً لجاهر ، كما تقول : فاسق وفسقة ، فيكون انتصابه على الحال ، أي جاهرين بالرؤية .

قال الزمخشري : وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه السلام رادّهم ، وعرّفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال ، وأن من استجاز على اللّه الرؤية ، فقد جعله من جملة الإقسام أو الإعراض ، فرادوه بعد بيان الحجة ووضوح البرهان ، ولجوا فكانوا في الكفر كعبدة العجل ، فسلط اللّه عليهم الصاعقة ، كما سلط على أولئك القتل ، تسوية بين الكفرين ، ودلالة على عظمها بعظم المحنة . اه . كلامه . وهو مصرّح باستحالة رؤية اللّه تعال بالأبصار . وهذه المسألة فيها خلاف بين المسلمين .

ذهبت القدرية والمعتزلة والنجارية والجهمية ومن شاركهم من الخوارج إلى استحالة ذلك في حق الباري سبحانه وتعالى ، وذهب أكثر المسلمين إلى إثبات الرؤية . فقال الكرامية : يرى في جهة فوق وله تحت ، ويرى جسماً ، وقالت المشبهة : يرى على صورة ، وقال أهل السنة : لا مقابلاً ، ولا محاذياً ، ولا متمكناً ، ولا متحيزاً ، ولا متلوناً ، ولا على صورة ولا هيئة ، ولا على اجتماع وجسمية ، بل يراه المؤمنون ، يعلمون أنه بخلاف المخلوقات كما علموه كذلك قبل . وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة الثابتة في رؤية اللّه تعالى ، فوجب المصير إليها . وهذه المسألة من أصعب مسائل أصول الدين ، وقد رأيت لأبي جعفر الطوسي من فضلاء الإمامية فيها مجلدة كبيرة ، وليس في الآية ما يدل على ما ذهب إليه الزمخشري من استحالة الرؤية ، لكن عادته تحميل الألفاظ ما لا تدل عليه ، خصوصاً ما يجر إلى مذهبه الإعتزالي ، نعوذ باللّه من العصبية فيما لا ينبغي . وكذلك اختلفوا في رؤية الحق نفسه ، فذهب أكثر المعتزلة إلى أنه لا يرى نفسه ، وذهبت

طائفة منهم إلى أنه يرى نفسه ، وذهب الكعبي إلى أنه لا يرى نفسه ولا غيره ، وهذا مذهب النجار ، وكل ذلك مذكور في علم أصول الدين .

{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } : أي استولت عليكم وأحاطت بكم . وأصل الأخذ : القبض باليد . والصاعقة هنا : هل هي نار من السماء أحرقتهم ، أو الموت ، أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا ، أو الفزع فدام حتى ماتوا ، أو غشي عليهم ، أو العذاب الذي يموتون منه ، جو صيحة سماوية ؟ أقوال ، أصحها : أنها سبب الموت ، لا الموت ، وإن كانوا قد اختلفوا في السبب ، قاله المحققون لقوله تعالى :{ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وأجمع المفسرون على أن المدّة من الموت أو الصعق كانت يوماً وليلة .

وقيل : أصاب موسى ما أصابها ،

وقيل صعق ولم يمت ، قالوا : وهو الصحيح ، لأنه جاء ، فلما أفاق في حق موسى وجاء ، ثم بعثناكم في حقهم ، وأكثر استعماله البعث في القرآن بعث الأموات .

وقيل : غشي عليهم كهو ولم يموتوا ، والصعق يطلق على غير الموت ، وقال جرير : وهل كان الفرزدق غير قرد

أصابته الصواعق فاستدارا

والظاهر أن سبب أخذ الصاعقة إياهم قولهم :{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّه جَهْرَةً } ، إذ لم يقولوا ذلك ويسألوا الرؤية إلا على سبيل التعنت ،

وقيل : سبب أخذ الصعقة إياهم هو غير هذا القول من كفرهم بموسى ، أو تكذيبهم إياه لما جاءهم بالتوراة أو عبادة العجل .

وقرأ عمرو على الصعقة ، واستعظم سؤال الرؤية حيث وقع ، لأن رؤيته لا تحصل إلا في الآخرة ، فطلبها في الدنيا هو مستنكر ، أو لأن حكم اللّه أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يراه ، فكان طلبها طلباً لإزالة التكليف ، أو لأنه لما دلت الدلائل على صدق المدّعي كان طلب الدلائل الزائدة تعنتاً ولأن في منع الرؤية في الدنيا ضرباً من المصلحة المهمة للخلق ، فلذلك استنكر . .

{وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } : جملة حالية ، ومتعلق النظر : أخذ الصعقة إياكم ، أي وأنتم تنظرون إلى ما حل بكم منها أو بعضكم إلى بعض كيف يخرّ ميتاً ، أو إلى الأحياء ، أو تعلمون أنها تأخذكم . فعبر بالنظر عن العلم ، أو إلى آثار الصاعقة في أجسامكم بعد أن بعثتم ، أو ينظر كل منكم إلى إحياء نفسه ، كما وقع في قصة العزير ، قالوا : حي عضواً بعد عضو ، أو إلى أوائل ما كان ينزل من الصاعقة قبل الموت ، أو أنتم يقابل بعضكم بعضاً من قول العرب دور آل فلان تتراءى ، أي يقابل بعضها بعضاً ، ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } إجابة السؤال في حصول الرؤية لهم ، لكان وجهاً من قولهم : نظرت الرجل ، أي انتظرته ، كما قال الشاعر : فإنكما إن تنظراني ساعة

من الدهر تنفعني لدى أم جندب

لكن هذا الوجه ليس بمنقول ، فلا أجسر على القول به ، وإن كان اللفظ يحتمله . وقد عدّ صاحب المنتخب هذا

إنعاماً سادساً ، وذكر في كونه إنعاماً وجوهاً : منها ما يتعلق بغير بني إسرائيل ، ومنها ما يتعلق بهم ، والمقصود ذكر ما يتعلق بكون ذلك إنعاماً ، وهو أن إحياءهم لأن يتوبوا عن التعنت ، ولأن يتخلصوا من أليم العقاب ويفوزوا بجزيل الثواب من أعظم النعم ، ولا تدل هذه الآية على أن قولهم هذا بعد أن كلف عبدة العجل بالقتل ولا قبله . وقد قيل بكل من القولين ، لأن هذه الجمل معطوفة بالواو ، والواو لا تدل بوضعها على الترتيب الزماني . قال بعضهم : لما أحلهم اللّه محل مناجاته ، وأسمعهم لذيذ خطابه ، اشرأبّت نفوسهم للفخر وعلوّ المنزلة ، فعاملهم اللّه بنقيض ما حصل في أنفسهم بالصعقة التي هي خضوع وتذلل تأديباً لهم وعبرة لغيرهم ،  { إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لاِوْلِى الاْبْصَارِ}

﴿ ٥٥