٥٧وظللنا عليكم الغمام . . . . . {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } الغمام : مفعول على إسقاط حرف الجرّ ، أي بالغمام ، كما تقول : ظللت على فلان بالرد ، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف ، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللاً . فعلى هذا الوجه الثاني يكون فعل فيه ، يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولهم ؟ عدّلت زيداً ، أي جعلته عدلاً ، فكذلك هذا معناه : جعلنا الغمام عليكم ظله ، وعلى الوجه الأول تكون فعل فيه بمعنى أفعل ، فيكون التضعيف أصله للتعدية ، ثم ضمن معنى فعل يعدى بعلى ، فكان الأصل : وظللناكم ، أي أظللناكم بالغمام ، نحو ما ورد في الحديث : { سبعة يظلهم اللّه في ظله } ، ثم ضمن ظلل معنى كلل أو شبهة مما يمكن تعديته بعلى ، فعداه بعلى . وقد تقدم ذكر معاني فعل ، وليس المعنى على ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، إذ ظاهره يقتضي أن الغمام ظلل علينا ، فيكون قد جعل على الغمام شيء يكون ظلة للغمام ، وليس كذلك ، بل المعنى ، واللّه أعلم ، ما ذكره المفسرون . وقد تقدّم تفسير الغمام ، وقيل : إنه الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر ، وهو الذي تأتي فيه ملائكة الرحمن ، وهو المشار إليه بقوله : { فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ } ، وليس بغمام حقيقة ، وإنما سمي غماماً لكونه يشبه الغمام . وقيل : الذين ظلّل عليهم الغمام بعض بني إسرائيل ، وكان اللّه قد أجرى العادة في بني إسرائيل أن من عبد اللّه ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنباً أظلّته غمامة . وحكي أن شخصاً عبد ثلاثين سنة فلم تظله غمامة ، فجاء إلى أصحاب الغمائم فذكر لهم ذلك فقالوا : لعلك أحدثت ذنباً ، فقال : لا أعلم شيئاً إلا أني رفعت طرفي إلى السماء وأعدته بغير فكر ، فقالوا له : ذلك ذنبك ، وكانت فيهم جماعة يسمون أصحاب الغمائم ، فامتنّ اللّه عليهم بكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة الباهرة . والمكان الذي أظلتهم فيه الغمامة كان في التيه بين الشام ومصر لما شكوا حر الشمس ، وسيأتي بيان ذلك في قصتهم . وقيل : أرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل ، وقعوا فيها حين خرجوا من البحر ، فأظلهم اللّه بالغمام ، ووقاهم حرّ الشمس . {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } المنّ : اسم جنس لا واحد له من لفظه . وفي المن الذي أنزله اللّه على بني إسرائيل أقوال : ما يسقط على الشجر أحلى من الشهد وأبيض من الثلج ، وهو قول ابن عباس والشعبي ، أو صمغة طيبة حلوة ، وهو قول مجاهد ؛ أو شراب كان ينزل عليهم يشربونه بعد مزجه بالماء ، وهو قول الرّبيع أبن أنس وأبي العالية ؛ أو عسل كان ينزل عليهم ، وهو قول ابن زيد ؛ أو الرقاق المتخذ من الذرة أو من النقي ، وهو قول وهب ؛ أو الزنجبيل ، وهو قول السدّي ، أو الترنجبين ، وعليه أكثر المفسرين ؛ أو عسل حامض ، قاله عمرو بن عيسى ؛ أو جميع ما منّ اللّه به عليهم في التيه وجاءهم عفواً من غير تعب ، قاله الزّجاج ، ودليله قوله صلى اللّه عليه وسلم : { الكمأة من المنّ الذي منّ اللّه به على بني إسرائيل} . وفي رواية : على موسى . وفي السلوى الذي أنزله اللّه على بني إسرائيل أقوال : طائر يشبه السماني ، أو هو السماني نفسه ، أو طيور حمر بعث اللّه بها سحابة فمطرت في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض ، قاله أبو العالية ومقاتل ؛ أو طير يكون بالهند أكبر من العصفور ، قاله عكرمة ؛ أو طير سمين مثل الحمام ؛ أو العسل بلغة كنانة ، وكانت تأتيهم السلوى من جهة السماء ، فيختارون منها السمين ويتركون الهزيل ؛ وقيل : كانت ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي . وقيل : كانت تنزل على الشجر فينطبخ نصفها وينشوي نصفها . وكان المنّ ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والسلوى بكرة وعشياً ، وقيل : دائماً ، وقيل : كلما أحبوا . وقد ذكر المفسرون حكايات في التظليل ونزول المنّ والسلوى ، وتظافرت أقاويلهم أن ذلك كان في فحص التيه ، وستأتي قصته في سورة المائدة ، إن شاء اللّه تعالى ، وأنهم قالوا : من لنا من حراك الشمس ؟ فظلل عليهم الغمام ، وقالوا : من لنا بالطعام ؟ فأنزل اللّه عليهم المن والسلوى ، وقالوا : من لنا بالماء ؟ فأمر اللّه موسى بضرب الحجر ، وهذه دل عليها القرآن . وزيد في تلك الحكايات أنهم قالوا : بم نستصبح ؟ فضرب لهم عمود من نور في وسط محلتهم ، وقيل : من نار ، وقالوا : من لنا باللباس ؟ فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب ، ولا يخلق ، ولا يدرن ، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان . { كُلُواْ } : أمر إباحة وإذن كقوله :{ فَاصْطَادُواْ } ،{ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ } ، وذلك على قول من قال : إن الأصل في الأشياء الحظر ، أو دوموا على الأكل على قول من قال الأصل فيها الإباحة ، وههنا قول محذوف ، أي وقلنا : كلوا ، والقول يحذف كثيراً ويبقى المقول ، وذلك لفهم المعنى ، ومنه : أكفرتم ؟ أي فيقال : أكفرتم ؟ وحذف المقول وإبقاء القول قليل ، وذلك أيضاً لفهم المعنى ، قال الشاعر : لنحن الألى قلتم فأنى ملئتم برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا التقدير : قلتم نقاتلهم .{ مِن طَيّبَاتِ } : من : للتبعيض لأن المن والسلوى بعض الطيبات ، وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة ، ولا يتخرج ذلك إلا على قول الأخفش ، وأبعد من هذا قول من زعم أنها للجنس ، لأن التي للجنس في إثباتها خلاف ، ولا بد أن يكون قبلها ما يصلح أن يقدر بعده موصول يكون صفة له . وقول من زعم أنها للبدل ، إذ هو معنى مختلف في إثباته ، ولم يدع إليه هنا ما يرجح ذلك . والطيبات هنا قيل : الحلال ، وقيل : اللذيذ المشتهى . ومن زعم أن هذا على حذف مضاف ، وهو كلوا من عوض طيبات ما رزقناكم ، فقوله ضعيف ، عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة بالمن والسلوى ، فكانا بدلاً من الطيبات . وقد استنبط بعضهم من قوله :{ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل ، بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك ، وهو قول . وقيل : يملك بالوضع فقط ، وقيل : بالأخذ والتناول ، وقيل : لا يملك بحال ، بل ينتفع به وهو على ملك المالك . وما في قوله :{ مَا رَزَقْنَاكُمْ } موصولة ، والعائد محذوف ، أي ما رزقناكموه ، وشروط الحذف فيه موجودة ، ولا يبعد أن يجوز مجوّز فيها أن تكون مصدرية ، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير ، ويكون يطلق المصدر على المفعول ، والأول أسبق إلى الذهن . {وَمَا ظَلَمُونَا } نفي أنهم لم يقع منهم ظلم اللّه تعالى ، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء إمكان وقوعه ، لأن ظلم الإنسان للّه تعالى لا يمكن وقوعه ألبتة . قيل : المعنى وما ظلمونا بقولهم :{ أَرِنَا اللّه جَهْرَةً } ، بل ظلموا أنفسهم بما قابلناهم به من الصاعقة . وقيل : وما ظلمونا بادخارهم المن والسلوى ، بل ظلموا أنفسهم بفساد طعامهم وتقليص أرزاقهم . وقيل : وما ظلموانا بإبائهم على موسى أن يدخلوا قرية الجبارين . وقيل : وما ظلمونا باستحبابهم العذاب وقطعهم مادّة الرزق عنهم ، بل ظلموا أنفسهم بذلك . وقيل : وما ظلمونا بكفر النعم ، بل ظلموا أنفسهم بحلول النقم . وقيل : وما ظلمونا بعبادة العجل ، بل ظلموا أنفسهم بقتل بعضهم بعضاً . واتفق ابن عطية والزمخشري على أنه يقدر محذوف قبل هذه الجملة ، فقدره ابن عطية ، فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر ، قال : والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرّة لنا ، ولكن وضعوه في موضع مضرّة لهم حيث لا يجب . وقدره الزمخشري : فظلموا بأن كفروا هذه النعم ، وما ظلمونا ، قال : فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه ، انتهى . ولا يتعين تقدير محذوف ، كما زعما ، لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلهاً ، ومن سؤال رؤية اللّه على سبيل التعنت ، وغير ذلك مما لم يقص هنا . فجاء قوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا } جملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا بذلك نقص ولا ضرر ، بل وبال ذلك راجع إلى أنفسهم ومختص بهم ، لا يصل إلينا منه شيء . {وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } : لكن هنا وقعت أحسن موقع ، لأنه تقدم قبلها نفي وجاء بعدها إيجاب ، نحو قوله تعالى :{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } ، وكذلك العكس ، نحو قوله تعالى :{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَاكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } ، أعني أن يتقدم إيجاب ثم يجيء بعدها نفي ، لأن الاستدراك الحاصل بها إنما يكون عليه ما قبلها بوجه مّا ، وذلك أنه لما تقرر أنه قد وقع منهم ظلم ، فلما نفى ذلك الظلم أن يصل إلى اللّه تعالى بقيت النفس متشوّفة ومتطلعة إلى ذكر من وقع به الظلم ، فاستدرك بأن ذلك الظلم الحاصل منهم إنما كان واقعاً بهم ، وأحسن مواقعها أن تكون بين المتضادين ، ويليه أن تقع بين النقيضين ، ويليه أن تقع بين الخلافين ، وفي هذا الأخير خلاف بين النحويين . أذلك تركيب عربي أم لا ؟ وذلك نحو قولك : ما زيد قائم ، ولكن هو ضاحك ، وقد تكلم على ذلك في علم النحو . واتفقوا على أنها لا تقع بين المتماثلين نحو : ما خرج زيد ولكن لم يخرج عمرو . وطباق الكلام أن يثبت ما بعد لكن على سبيل ما نفي قبلها ، نحو قوله :{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } ، لكن دخلت كانوا هنا مشعرة بأن ذلك من شأنهم ومن طريقتهم ، ولأنها أيضاً تكون في كثير من المواضع تستعمل حيث يكون المسند لا ينقطع عن المسند إليه ، نحو قوله :{ وَكَانَ اللّه بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } ؛ فكان المعنى : ولكن لم يزالوا ظالمي أنفسهم بكثرة ما يصدر منهم من المخالفات . ويظلمون : صورته صورة المضارع ، وهو ماض من حيث المعنى ، وهذا من المواضع التي يكون فيها المضارع بمعنى الماضي . ولم يذكره ابن مالك في التسهيل ولا فيما وقفنا عليه من كتبه ، وذكر ذلك غيره وقدم معمول الخبر عليه هنا وهو قوله :{ أَنفُسِهِمْ } ، ليحصل بذلك توافق رؤوس الآي والفواصل ، وليدل على الاعتناء بالإخبار عمن حل به الفعل ، ولأنه من حيث المعنى صار العامل في المفعول توكيداً لما يدل عليه ما قبله . فليس ذكره ضروريًّا ، وبأن التوكيد أن يتأخر عن المؤكد ، وذلك أنك تقول : ما ضربت زيداً ولكن ضربت عمراً ، فذكر ضربت الثانية أفادت التأكيد ، لأن لكن موضوعها أن يكون ما بعدها منافياً لما قبلها ، ولذلك يجوز أن تقول : ما ضربت زيداً ولكن عمراً ، فلست مضطراً لذكر العامل . فلما كان معنى قوله :{ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } في معنى :{ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } ، كان ذكر العامل في المفعول ليس مضطراً إليه ، إذ لو قيل : وما ظلمونا ولكن أنفسهم ، لكان كلاماً عربياً ، ويكتفي بدلالة لكن أن ما بعدها مناف لما قبلها ، فلما اجتمعت هذه المحسنات لتقديم المفعول كان تقديمه هنا الأفصح . وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر قصص بني إسرائيل فصولاً منها : أمر موسى ، على نبينا وعليه السلام ، إياهم بالتوبة إلى اللّه من مقارفة هذا الذنب العظيم الذي هو عبادة العجل من دون اللّه ، وأن مثل هذا الذنب العظيم تقبل التوبة منه ، والتلطف بهم في ندائهم بيا قوم ، وتنبيههم على علة الظلم الذي كان وباله راجعاً عليهم ، والإعلام بأن توبتهم بقتل أنفسهم ، ثم الإخبار بحصول توبة اللّه عليهم وأن ذلك كان بسابق رحمته ، ثم التوبيخ لهم بسؤالهم ما كان لا ينبغي لهم أن يسألوه ، وهو رؤية اللّه عياناً ، لأنه كان سؤال تعنت . ثم ذكر ما ترتب على هذا السؤال من أخذ الصاعقة إياهم . ثم الإنعام عليهم بالبعث ، وهو من الخوارق العظيمة أن يحيى الإنسان في الدنيا بعد أن مات . ثم إسعافهم بما سألوه ، إذ وقعوا في التيه ، واحتاجوا إلى ما يزيل ضررهم وحاجتهم من لفح الشمس ، وتغذية أجسادهم بما يصلح لها ، فظلل عليهم الغمام ، وهذا من أعظم الأشياء وأكبر المعجزات حيث يسخر العالم العلوي للعالم السفلي على حسب اقتراحه ، فكان على ما قيل : تظلهم بالنهار وتذهب بالليل حتى ينوّر عليهم القمر . وأنزل عليهم المن والسلوى ، وهذا من أشرف المأكول ، إذ جمع بين الغذاء والدواء ، بما في ذلك من الحلاوة التي في المن والدسم الذي في السلوى ، وهما مقمعاً الحرارة ومثيراً القوّة للبدن . ثم الأمر لهم بتناول ذلك غير مقيد بزمان ولا مكان ، بل ذلك أمر مطلق . ثم التنصيص أن ذلك من الطيبات وبحق ما يكون ذلك من الطيبات . ثم ذكر أنه رزق منه لهم لم يتعبوا في تحصيله ولا استخراجه ولا تنميته ، بل جاء رزقاً مهنأ لا تعب فيه . ثم أرداف هذه الجمل بالجملة الأخيرة ، إذ هي مؤكدة لافتتاح هذه الجمل السابقة ، لأنه افتتحها بالإخبار بأنهم ظلموا أنفسهم ، وختمها بذلك وهو قوله : { وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فجاءت هذه الجمل في غاية الفصاحة لفظاً والبلاغة معنى ، إذ جمعت الألفاظ المختارة والمعاني الكثيرة متعلقاً أوائل أواخرها بأواخر أوائلها ، مع لطف الإخبار عن نفسه . فحيث ذكر النعم صرح بأن ذلك من عنده ، فقال : ثم بعثناكم ، وقال : وظللنا وأنزلنا ، وحيث ذكر النقم لم ينسبها إليه تعالى فقال : فأخذتكم الصاعقة . وسر ذلك أنه موضع تعداد للنعم ، فناسب نسبة ذلك إليه ليذكرهم آلاءه ، ولم ينسب النقم إليه ، وإن كانت منه حقيقة ، لأن في نسبتها إليه تخويفاً عظيماً ربما عادل ذلك الفرح بالنعم . والمقصود : انبساط نفوسهم بذكر ما أنعم اللّه به عليهم ، وإن كان الكلام قد انطوى على ترهيب وترغيب ، فالترغيب أغلب عليه . |
﴿ ٥٧ ﴾