٥٩فبدل الذين ظلموا . . . . . {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } : ظاهره انقسامهم إلى ظالمين وغير ظالمين ، وأن الظالمين هم الذين بدلوا ، فإن كان كلهم بدلوا ، كان ذلك من وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بالعلة ، وكأنه قيل : فبدّلوا ، لكنه أظهره تنبيهاً على علة التبديل ، وهو الظلم ، أي لولا ظلمهم ما بدلوا ، والمبدّل به محذوف تقديره : فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة .{ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } : ولما كان محذوفاً ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر بعدها . والذي قيل لهم هو أن يقولوا حطة ، فلو لم يحذف لكان وجه الكلام فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة قولاً غيره ، لكنه لما حذف أظهر مضافاً إليه غير ليدل ، على أن المحذوف هو هذا المظهر ، وهو الذي قيل لهم . وهذا التقدير الذي قدرناه هو على وضع بدل إذ المجرور هو الزائل ، والمنصوب هو الحاصل . واختلف المفسرون في القول الذي قالوه بدل أن يقولوا : حطة ، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد ووهب وابن زيد : حنطة ، وقال السدّي عن أشياخه : حنطة حمراء ، وقيل : حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة سوداء ، وقال أبو صالح : سنبلة ، وقال السدّي ومجاهد أيضاً : هطا شمهاثاً ، وقيل : حطى شمعاثاً ، ومعناها في هذين القولين : حنطة حمراء ، وقيل : حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة . وقيل : حبة في شعيرة ، وقال ابن مسعود : حنطة حمراء فيها شعير ، وقيل : حنطة في شعير ، رواه ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : حبة حنطة مقلوة في شعرة ، وقيل : تكلموا بكلام النبطية على جهة الاستهزاء والاستخفاف . وقيل : إنهم غيروا ما شرع لهم ولم يعملوا بما أنزل اللّه عليهم . والذي ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسر ذلك بأنهم قالوا : حبة في شعرة ، فوجب المصير إلى هذا القول واطراح تلك الأقوال ، ولو صح شيء من الأقوال السابقة لحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين ، فيكون بعضهم قال : كذا ، وبعضهم قال : كذا ، فلا يكون فيها تضاد . ومعنى الآية : أنهم وضعوا مكان ما أمروا به من التوبة والاستغفار قولاً مغايراً له مشعراً باستهزائهم بما أمروا به ، والإعراض عما يكون عنه غفران خطيآتهم . كل ذلك عدم مبالاة بأوامر اللّه ، فاستحقوا بذلك النكال . {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا } : كرر الظاهر السابق زيادة في تقبيح حالهم وإشعاراً بعلية نزول الرجز . وقد أضمر ذلك في الأعراف فقال :{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ } ، لأن المضمر هو المظهر . وقرأ ابن محيصن : رجزاً بضم الراء ، وقد تقدّم أنها بالغة في الرجز . واختلفوا في الرجز هنا ، فقال أبو العالية : هو غضب اللّه تعالى ، وقال ابن زيد : طاعون أهلك منهم في ساعة سبعين ألفاً ، وقال وهب : طاعون عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك ، وقال ابن جبير : ثلج هلك به منهم سبعون ألفاً ، وقال ابن عباس : ظلمة وموت مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفاً وهلك سبعون ألفاً عقوبة . والذي يدل عليه القرآن أنه أنزل عليهم عذاب ولم يبين نوعه ، إذ لا كبير فائدة في تعليق النوع .{ مّنَ السَّمَاء } : إن فسر الرجز بالثلج كان كونه من السماء ظاهراً ، وإن فسر بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء عليهم ، أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء .{ بِمَا كَانُوا } ، ما : مصدرية التقدير بكونهم .{ يَفْسُقُونَ} وأجاز بعضهم أن تكون بمعى الذي ، وهو بعيد . وقرأ النخعي وابن وثاب وغيرهما بكسر السين ، وهي لغة . قال أبو مسلم : هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله :{ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} وفائدة التكرار التأكيد ، لأن الوصف دال على العلية ، فالظاهر أن التبديل سببه الظلم ، وأن إنزال الرجز سببه الظلم أيضاً . وقال غير أبي مسلم : ليس مكرر الوجهين : أحدهما : أن الظلم قد يكون من الصغائر ، { رَبَّنَا ظَلَمْنَا } ، ومن الكبائر :{ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } والفسق لا يكون إلا من الكبائر . فلما وصفهم بالظلم أوّلاً وصفهم بالفسق الذي هو لا بد أن يكون من الكبائر . والثاني : أنه يحتمل أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ونزول الرجز عليهم من السماء ، لا بسبب ذلك التبديل بل بالفسق الذي فعلوه قبل ذلك التبديل ، وعلى هذا يزول التكرار . انتهى . . وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى :{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } ، وترتيب العذاب على هذا التبديل على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر . وقال قوم : يجوز ذلك إذا كانت الكلمة تسدّ مسدّها ، وعلى هذا جرى الخلاف في قراءة القرآن بالمعنى ، وفي تكبيرة الإحرام ، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك ، وفي نقل الحديث بالمعنى . وذكروا أن في الآية سؤالات : الأول : قوله هنا ، { وَإِذَا قُلْنَا } ، وفي الأعراف :{ وَإِذْ قِيلَ} وأجيب بأنه صرح بالفاعل في البقرة لإزالة الإبهام ، وحذف في الأعراف للعلم به في سورة البقرة . الثاني : قال هنا : ادخلوا ، وهناك اسكنوا . وأجيب بأن الدخول مقدّم على السكنى ، فذكر الدخول في السورة المتقدّمة . والسكنى في المتأخرة . الثالث : هنا خطاياكم ، وهناك : خطيئتاكم . وأجيب بأن الخطايا جمع كثرة ، فناسب حيث قرن به ما يليق بجوده ، وهو غفران الكثير . والخطيئات جمع قلة لما لم يضف ذلك إلى نفسه . الرابع : ذكر هنا : رغداً وهناك : حذف . وأجيب بالجواب قبل . الخامس : هنا قدم دخول الباب على القول ، وهناك عكس . وأجيب بأن الواو للجمع والمخاطبون بهذا مذنبون . فاشتغاله بحط الذنب مقدّم على اشتغاله بالعبادة ، فكلفوا بقول حطة أولاً ، ثم بالدخول وغير مذنبين . فاشتغاله أولاً بالعبادة ثم بذكر التوبة ثانياً على سبيل هضم النفس وإزالة العجب ، فلما احتمل الانقسام ذكر حكم كل واحد منهما في سورة بأيهما بدأ . السادس : إثبات الواو في وسنزيد هنا ، وحذفها هناك . وأجيب بأنه لما تقدم أمران كإن المجيء بالواو مؤذناً بأن مجموع الغفران والزيادة جزاء واحد لمجموع الأمرين ، وحيث تركت أفاد توزع كل واحد على كل واحد من الأمرين ، فالغفران في مقابلة القول ، والزيادة في مقابلة ادخلوا . السابع : لم يذكر ههنا منهم وذكر هناك . وأجيب بأن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص بلفظ من قال : { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ } ، فذكر لفظ من آخراً اليطابق آخره أوله ، وهنا لم تبن القصة على التخصيص . الثامن : هنا فأنزلنا ، وهناك : فأرسلنا . وأجيب بأن الإنزال مفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية ، وهذا إنما يحدث بالآخر . التاسع : هنا : يفسقون ، وهناك : يظلمون . وأجيب بأنه لما بين هنا كون ذلك الظلم فسقاً اكتفى بذكر الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان هنا . قال بعض الناس : بنو إسرائيل خالفوا اللّه في قول وفعل ، وأخبر تعالى بالمجازاة على المخالفة بالقول دون الفعل ، وهو امتناعهم عن الدخول بصفة السجود . وأجاب بأن الفعل لا يجب إلا بأمر ، والأمر قول فحصل بالمجازاة عن القول المجازاة بالأمرين جميعاً ، والجزاء هنا إن كان قد وقع على هذه المخالفة الخاصة ، فيفسقون يحتمل الحال ، وإن كان قد وقع على ما مى من المخالفات التي فسقوا بها ، فهو مضارع وقع موضع الماضي ، وهو كثير في القرآن وفصيح الكلام . |
﴿ ٥٩ ﴾