٦١

وإذ قلتم يا . . . . .

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ } : لما سئموا من الإقامة في التيه ، والمواظبة على مأكول واحد ، لبعدهم عن الأرض التي ألفوها ، وعن العوائد التي عهدوها ، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك وتشوفهم إلى ما كانوا يألفون ، وسألوا موسى أن يسأل اللّه لهم . وأكثر أهل الظاهر من المفسرين على أن هذا السؤال كان معصية ، قالوا : لأنهم كرهوا إنزال المن والسلوى ، وتلك الكراهة معصية ، ولأن موسى وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير ، وبأن قوله :{ أَتَسْتَبْدِلُونَ } هو على سبيل الإنكار . والجواب ، أن قولهم :{ لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ } لا يدل على عدم الرضا به فقط ، بل اشتهوا أشياء أخر .

وأما الإنكار فلأنه قد يكون لما فيه من تفويت

الأنفع في الدنيا ، أو الأنفع في الآخرة .

وأما الخيرية فسيأتي الكلام فيها ، وإنما كان سؤالاً مباحاً ، والدليل عليه أن قوله : { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ } من قبل هذه الآية ، عند إنزال المن وتفجير العين ليس بإيجاب بل هو إباحة ، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم :{ لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ } معصية لأن من أبيح له صنوف من الطعام يحسن منه أن يسأل غيرها ، إما بنفسه أو على لسان الرسول . ولما كان سؤال النبي أقرب للإباحة ، سألوه عن ذلك ، ولأن النوع الواحد أربعين سنة يمل ويشتهي إذ ذاك غيره ، ولأنهم ما تعودوا ذلك النوع . ورغبة الإنسان فيما اعتاده ، وإن كان خسيساً ، فوق رغبة ما لم يعتده ، وإن كان شريفاً ، ولأن ذلك يكون سبباً لانتقالهم عن التيه الذي ملوه ، لأن تلك الأطعمة لا توجد فيه ، فأرادوا الحلول بغيره ، ولأن المواظسش

بة على طعام واحد سبب لنقص الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة ، والاستكثار من الأنواع بعكس ذلك . فثبت بهذا أن تبديل نوع بنوع يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء ، وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه ، فثبت أنه لا يجوز أن يكون معصية . ومما يؤكد ذلك قوله :{ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ } هو كالإجابة لماطلبوا . ولو كانوا عاصين في ذلك السؤال لكانت الإجابة إليه معصية ، وهي غير جائزة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . ووصف الطعام بواحد ، وإن كان طعامين ، لأنه المنّ والسلوى اللذان رزقوهما في التيه ، لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عديدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها قيل : لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً ، يراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف . ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والسرف ، ونحن قوم فلاحة أهل زراعات ، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة ، كالحبوب والبقول ونحوهما . ذكر هذين الوجهين في معنى الواحد الزمخشري .

وقيل : أعاد على لفظ الطعام من حيث أنه مفرد لا على معناه .

وقيل : كانوا يأكلون المن والسلوى مختلطين ، فيصير بمنزلة اللون الذي يجمع أشياء ويسمى لوناً واحداً ، قاله ابن زيد .

وقيل : كان طعامهم يأتيهم بصفة الوحدة ، نزل عليهم المن فأكلوا منه مدة حتى سئموه وملوه ، ثم انقطع عنهم ، فأنزل عليهم السلوى فأكلوها مدة وحدها .

وقيل : أرادوا بالطعام الواحد السلوى ، لأن المن كان شراباً ، أو شيئاً يتحلون به ، وما كانوا يعدون طعاماً إلا السلوى .

وقيل : عبرعنهما بالواحد ، كما عبر بالإثنين عن الواحد نحو :{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } ، وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب .

وقيل : قالوا ذلك عند نزول أحدهما .

وقيل : معناه لن نصبر على أننا كلنا أغنياء ، فلا يستعين بعضنا ببعض ، ويكون قد كنى بالطعام الواحد عن كونهم نوعاً واحداً ، وهو كونهم ذوي غنى ، فلا يخدم بعضهم بعضاً ، وكذلك كانوا في التيه ، فلما خرجوا منه عادوا لما كانوا عليه من فقر بعض وغنى بعض . فهذه تسعة أقوال في معنى قوله :{ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ}

{فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ } : معناه : اسأله لنا ، ومتعلق الدعاء محذوف ، أي ادع لنا ربك بأن يخرج كذا وكذا . ولغة بني عامر : فادع بكسر العين ، جعلوا دعا من ذوات الياء ، كرمى يرمي ، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم بما اقترحوه ولم يدعو لهم ، لأن إجابة الأنبياء أقرب من إجابة غيرهم ، ولذلك قالوا : ربك ، ولم يقولوا : ربنا ، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم من مناجاته وتكليمه وإتيانه التوراة ، فكأنهم قالوا : ادع لنا الذي هو محسن لك ، فكما أحسن إليك في أشياء ، كذلك نرجو أن يحسن إلينا في إجابة دعائك .{ يُخْرِجْ لَنَا } : جزمه على جواب الأمر الذي هوادع ، وقد مر نظيره في { أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}

وقيل : ثم محذوف تقديره : وقل له اخرج فيخرج ، مجزوم على جواب هذا الأمر الذي هو اخرج .

وقيل : جزم يخرج بلام مضمرة ، وهي لام الطلب ، أي ليخرج ، وهذا عند البصريين لا يجوز .{ مِمَّا تُنبِتُ الارْضُ } : مفعول يخرج محذوف ومن تبعيضه : أي مأكولاً مما تنبت ، هذا على مذهب سيبويه . وقال الأخفش : من زائدة ، التقدير : ما تنبت ، وما موصولة ، والعائد محذوف تقديره ، تنبته ، وفيه شروط جواز الحذف ، وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية تقديره : من إنبات الأرض . قال أبو البقاء : لا يجوز ذلك لأن المفعول المقدر لا يوصف بالإنبات ، لأن الإنبات مصدر ، والمحذوف جوهر ، وإضافة الإنبات إلى الأرض مجاز ، إذ المنبت هو اللّه تعالى ، لكنه لما

جعل فيها قابلية الإنبات نسب الإنبات إليها .

{مِن بَقْلِهَا } : هذا بدل من قوله :{ مِمَّا تُنبِتُ الارْضُ } ، على إعادة حرف الجرّ ، وهو فصيح في الكلام ، أعني أن يعاد حرف الجرّ في البدل . فمن على هذا التقدير تبعيضية ، كهي في مما تنبت ، ويتعلق بيخرج ، إمّا الأولى ،

وإمّا أخرى مقدّرة على الخلاف الذي في العامل في البدل ، هل هو العامل الأول ، أو ذلك على تكرار العامل ؟ والمشهور هذا الثاني ، وأجاز المهدويّ أيضاً ، وابن عطية ، وأبو البقاء أن تكون من في قوله :{ مِن بَقْلِهَا } لبيان الجنس ، وعبر عنها المهدويّ بأنها للتخصيص ، ثم اختلفوا ، فقال أبو البقاء : موضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف تقديره : مما تنبته الأرض كائناً من بقلها ، وقدّم ذكر هذا الوجه قال : ويجوز أن تكون بدلاً من ما الأولى بإعادة حرف الجر .

وأما المهدوي ، وابن عطية فزعما مع قولهما : إن من في { مِن بَقْلِهَا } بدل من قوله : مما تنبت ، وذلك لأن من في قوله { مِمَّا تُنبِتُ } للتبعيض ، ومن في قوله { مِن بَقْلِهَا } على زعمهما لبيان الجنس . فقد اختلف مدلول الحرفين ، واختلاف ذلك كاختلاف الحرفين ، فلا يجوز البدل إلا أن ذهب ذاهب إلى أن من في قوله :{ مِمَّا تُنبِتُ الارْضُ } لبيان الجنس ، فيمكن أن يفرّع القول بالبدل على كونها لبيان الجنس . والمختار ما قدّمناه من كون من في الموضعين للتبعيض ،

وأمّا أن تكون لبيان الجنس ، فقد أباه أصحابنا وتأوّلوا ما استدلّ به مثبت ذلك ، والمراد بالبقل هنا : أطايب البقول التي يأكلها الناس ، كالنعناع ، والكرفس ، والكرّاث ، وأشباهها ، قاله الزمخشري .

وقرأ يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وغيرهما : وقثائها بضم القاف ، وقد تقدّم أنها لغة .

{وَفُومِهَا } : تقدّم الكلام فيه ، وللمفسرين فيه أقاويل ستة :

أحدها : أنه الثوم ، وبينته قراءة ابن مسعود : وثومها بالثاء ، وهو المناسب للبقل والعدس والبصل .

الثاني : قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدّي : أنه الحنطة .

الثالث : أنه الحبوب كلها .

الرابع : أنه الخبز ، قاله مجاهد وابن عطاء وابن زيد .

الخامس : أنه الحمص .

السادس : أنه السنبلة .{ وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } : وأحوال هذه الخمسة التي ذكروها مختلفة ، فذكروا ، أولاً : ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، إذ البقل منه ما هو بارد رطب كالهندبا ، ومنه ما هو حار يابس كالكرفس والسداب ، ومنه ما هو حار وفيه رطوبة عرضية كالنعناع . وثانياً القثاء ، وهو بارد رطب . وثالثاً : الثوم ، وهو حار يابس . ورابعاً : العدس ، وهو بارد يابس . وخامساً : البصل ، وهو حار رطب ، وإذا طبخ صار بارداً رطباً ، فعلى هذا جاء ترتيب ذكر هذه الخمسة .

{قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ } : الضمير في قال ظاهر عوده على موسى ، ويحتمل عوده على الرب تعالى ، ويؤيده { اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ } ، والهمزة في { أَتَسْتَبْدِلُونَ } للإنكار ، والاستبدال : الاعتياض .

وقرأ أبيّ : أتبدّلون ، وهو مجاز لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى اللّه تعالى ، لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدّلين ، وكان المعنى : أتسألون تبديل .{ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ } ، والذي : مفعول أتستبدلون ، وهو الحاصل ، والذي دخلت عليه الباء هو الزائل ، كما قررناه في غير مكان . هو أدنى : صلة للذي ، وهو هنا واجب الإثبات على مذهب البصريين ، إذ لا طول في الصلة ، وأدنى : خبر عن هو ، وهو : أفعل التفضيل ، ومن وما دخلت عليه حذفاً للعلم ، وحسن حذفهما كون أفعل التفضيل خبراً ، فإن وقع غير خبر مثل كونه حالاً أو صفة قل الحذف وتقديره : أدنى من ذلك الطعام الواحد ، وحسن حذفهما أيضاً كون المفضل عليه مذكوراً بعد ذلك ، وهو قوله :{ بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ } ، وأفرد :{ الَّذِى هُوَ أَدْنَى } لأنه أحال به على المأكول الذي هو { مِمَّا تُنبِتُ الارْضُ } ، وعلى ما من قوله :{ مِمَّا تُنبِتُ } ،

فيكون قد راعى المبدل منه ، إذ لو راعى البدل لقال : أتستبدلون اللاتي هي أدنى ، وقد تقدّم القول في أدنى الكسائي : أدنأ بالهمز ، ووقع البعض من جمع في التفسير ، وهم في نسبة هذه القراءة للكسائي ، فقال :

وقرأ زهير والكسائي شاذاً : أدنأ ، فظن أن هذه قراءة الكسائي ، وجعل زهيراً والكسائي شخصين ، وإنما هو زهير الكسائي يعرف بذلك ، وبالفرقبي ، فهو رجل واحد . فأما تفسير : الأدنى والخير هنا ففيه أقاويل :

أحدها : قال الزجاج : تفاضل الأشياء بالقيم ، وهذه البقول لا خطر فيها ولا علو قيمة ، والمنّ والسلوى هما أعلا قيمة وأعظم خطراً ، واختار هذا الزمخشري ، قال : أقرب منزلة وأهون مقداراً ، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار فيقال : هو أدنى المحل وقريب المنزلة ، كما يعبر بالعبد عن عكس ذلك فيقال : بعيد المحل بعيد المنزلة ، يريدون الرفعة والعلو . انتهى كلامه ، وهو من كلام الزجاج .

والثاني : أن المنّ والسلوى هو الذي منّ اللّه به وأمرهم بأكله ، وفي استدامة ما أمر اللّه به وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوه عار من هذه الخصال فكان أدنى من هذا الوجه .

الثالث : أن التفضيل يقع من جهة الطيب واللذة ، والمن والسلوى لا شك أنهما أطيب من البقول التي طلبوها .

الرابع : أن المنّ والسلوى لا كلفة في تحصيله ولا تعب ولا مشقة ، والبقول لا تحصل إلا بعد مشقة الحرث والزرع والخدمة والسقي ، وما حصل بلا مشقة خير مما حصل بمشقة .

الخامس : أن المنّ والسلوى لا شك في حله وخلوصه لنزوله من عند اللّه ، والحبوب والأرض يتخللّها العيوب والغصوب ويدخلها الحرام والشبهة ، وما كان حلاً خالصاً أفضل مما يدخله الحرام والشبهة .

السادس : أن المنّ والسلوى يفضلان ما سألوه من جنس الغذاء ونفعه . وملخص هذه الأقوال : هل الأدنوية والخيرية بالنسبة إلى القيمة ، أو امتثال الأمر وما يترتب عليه ، أو اللذة ، أو الكلفة ، أو الحل ، أو الجنس ؟ أقوال ستة .

وأما قراءة زهير فهي من الدناء .

وقد تقدم أن أدنى غير المهموز قيل إن أصلها الهمزة فسهل كهذه القراءة ، ومن قال بالقلب وإن أصله أدون ، فالدناءة والدون راجعان إلى معنى واحد ، وهو الخمسة ، وهو من جهة المعنى أحسن مقابلة لقوله : { بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ} ومن جعل أدنى بمعنى أقرب ، لأن الأدون والأدنأ يقابلهما الخير ، والأدنى بمعنى الأقرب يقابله الأبعد ، وحذف من ومعمولها بعد قوله : هو خير ، لما ذكرناه في قوله : هو أدنى ، من وقوع أفعل التفضيل خبراً وتقديره : منه ، أي من :{ الَّذِى هُوَ أَدْنَى} وكانت هاتان الصلتان جملتين إسميتين لثبوت الجملة الإسمية ، وكان الخير أفعل التفضيل ، لأنه لا دلالة فيها على تعيين زمان ، بل في ذلك إثبات الأدنوية والخيرية من غير تقييد بزمان ، بخلاف الجملة الفعلية ، فإنه كان يتعين الزمان ، أو يتجوز في ذلك ، إن لم يقصد التعيين ، فكان الوصل بما هو حقيقة في عدم الدلالة على التعيين أفصح ، وكانت صلة ما في قوله : مما تنبت ، جملة فعلية ، لأن الفعل عندهم يشعر بالتجدد والحدوث ، والإنبات متجدد دائماً ، فناسب كل مكان ما يليق به من الصلة .

{اهْبِطُواْ مِصْرًا } : في الكلام حذف على تقدير أن القائل :{ أَتَسْتَبْدِلُونَ } هو موسى ، وتقدير المحذوف ، فدعا موسى ربه فأجابه ، { قَالَ اهْبِطُواْ} وتقدّم معنى الهبوط ،

ويقال : هبط الوادي : حل به ، وهبط منه : خرج ، وكان القادم على بلد ينصبّ عليه . وقرىء اهبطوا ، بضم الباء ، وهما لغتان ، والأفصح الكسر ، والجمهور على صرف مصراً هنا .

وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان بن تغلب : بغير تنوين ، وبين كذلك في مصحف أبي بن كعب ، ومصحف عبد اللّه ، وبعض مصاحف عثمان .

فأما من صرف فإنه يعني مصراً من الأمصار غير معين ، واستدلوا بالأمر بدخول القرية ، وبأنهم سكنوا الشام بعد التيه ، وبأن ما سألوه من البقل وغيره لا يكون إلا في الأمصار ، وهذا قول قتادة والسدي ومجاهد وابن زيد .

وقيل : هو مصر غير معين لكنه من أمصار الأرض المقدسة ، بدليل : ادخلوا الأرض المقدسة .

وقيل : أراد بقوله : مصراً وإن كان غير معين مصر فرعون ، وهو من إطلاق النكرة ، ويراد بها المعين ، كما تقول : ائتني برجل ، وأنت تعني به زيداً . قال أشهب ، قال لي مالك : هي مصر قريتك مسكن فرعون . وأجاز من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين أن تكون مصر هذه المنوّنة هي الإسم العلم . والمراد بقوله : { ءانٍ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } ، قالوا : وصرف ، وإن كان فيه العلمية والتأنيث ، كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين ، لخفة الإسم لسكون وسطه ، قاله الأخف ٥ ، أو صرف لأنه ذهب باللفظ مذهب المكان ، فذكره فبقي فيه سبب واحد فانصرف . وشبهه الزمخشري في منع الصرف ، وهو علم بنوح ولوط حيث صرفا ، وإن كان فيهما العلمية والعجمة لخفة الإسم بكونه ثلاثياً ساكن الوسط ، وهذا ليس كما ذهبوا إليه من أنه مشبه لهند ، أو مشبه لنوح ، لأن مصر اجتمع فيه ثلاثة أسباب وهي : التأنيث والعلمية والعجمة . فهو يتحتم منع صرفه بخلاف هند ، فإنه ليس فيه سوى العلمية والتأنيث ، على أن من النحويين من خالف في هند ، وزعم أنه لا يجوز فيه إلا منع الصرف ، وزعم أنه لا دليل على ما ادعى النحويون من الصرف في قوله : لم تتلفع بفضل مئزرها دعد

ولم تسق دعد في العلب

وبخلاف نوح ، فإن العجمة لم تعتبر إلا في غير الثلاثي الساكن الوسط ،

وأما إذا كان ثلاثياً ساكن الوسط فالصرف . وقد أجاز عيسى بن عمر منع صرفه قياساً على هند ، ولم يسمع ذلك من العرب إلا مصروفاً ، فهو قياس على مختلف فيه مخالف لنطق العرب ، فوجب اطراحه . وقال الحسن بن بحر : المراد بقوله مصراً ، البيت المقدس ، يعني أن اللفظ ، وإن كان نكرة ، فالمراد به معين ، كما قلنا في قول من قال : إنه أراد به وإن كان نكرة مصر المعينة .

وأمّا من قرأ مصر بغير تنوين ، فالمراد مصر العلم ، وهي دار فرعون . واستبعد بعض الناس قول من قال : إنها مصر فرعون ، قال : لأنهم من مصر خرجوا ، وأمروا بالهبوط إلى الأرض المقدسة لقتال الجبارين فأبوا ، فعذبوا بالتيه أربعين سنة لتخلفهم عن قتال الجبارين ، ولقولهم :{ اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ، فماتوا جميعاً في التيه ، وبقي أبناؤهم ، فامتثلوا أمراللّه ، وهبطوا إلى الشام ، وقاتلوا الجبارين ، ثم عادوا إلى البيت المقدّس . ولم يصرّح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر . انتهى كلامه . فتلخص من قراءة التنوين : أن يكون المراد مصراً غير معين لا من الشام ولا من غيره ، أو مصراً غير معين من أمصار الشام ، أو معيناً ، وهو بيت المقدس ، أو مصر فرعون ، فهذه أربعة أقوال .

{فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ } : هذه الجملة جواب للأمر ، كما يجاب بالفعل المجزوم ، ويجري فيه الخلاف الجاري فيه : هل ضمن اهبطوا مصراً معنى أن تهبوا أو أضمر الشرط ؟ وفعله بعد فعل الأمر كأنه قال : أن تهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم ، وفي ذلك محذوفان :

أحدهما : ما يربط هذه الجملة بما قبلها ، وتقديره : فإن لكم فيها ما سألتم .

والثاني : الضمير العائد على ما ، تقديره : ما سألتموه ، وشروط جواز الحذف فيه موجودة .

وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب : سألتم : بكسر السين ، وهذا من تداخل اللغات ، وذلك أن في سأل لغتين : إحداهما : أن تكون العين همزة فوزنه فعل . والثانية : أن تكون العين واواً تقول : سأل يسأل ، فتكون الألف منقلبة عن واو ، ويدل على أنه من الواو ، وقولهم : هما يتساولان ، كما تقول : يتجاوبان ، وحين كسر السين توهم أنه فتحها ، فأتى بالعين همزة ، قال الشاعر :

إذا جئتهم وسأيلتهم

وجدت بهم علة حاضره

الأصل ساءلتهم ، والمعروف إبدال الهمزة ياء ، فتقول : سايلتهم ، فجمع بين العوض وهو الياء ، وبين المعوض منه وهو الهمزة لكنه لما اضطر قدم الهمزة قبل ألف فاعل . وقال ابن جني : يحتمل أن يكون إبدال الهمزة في سألتم ياء ، كما أبدلت ألفاً في قوله :

سألت هذيل رسول اللّه فاحشة

فانكسر السين قبل الياء ، ثم تنبه للّهمز فهمز . والمعنى : ما سألتم من البقول والحبوب التي اخترتموها على المن والسلوى .

وقيل : ما سألتم من اتكالكم على تدبير أنفسكم في مصالح معاشكم وأحوال أقواتكم .

{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } : معنى الضرب هنا : الإلزام والقضاء عليهم ، من ضرب الأمير البعث على الجيش ، وكقول العرب : ضربة لازم ،

ويقال : ضرب الحاكم على اليد ، وضرب الدهر ضرباته ، أي ألزم إلزاماته ،

وقيل : معناه الإحاطة بهم والاشتمال عليهم مأخوذ من ضرب القباب . ومنه قول الفرزدق : ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضى عليك بها الكتاب المنزل

وقيل : معناه التصقت بهم ، من ضربت الحائط بالطين : ألصقته به .

وقيل : معناه جعلت من ضربت الطين خزفاً ، أي جعلت عليهم الذلة والمسكنة . أما الذلة فقيل : هي هوانهم بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدّونها عن يد وهم صاغرون ،

وقيل : هي ما ألزموا به من إظهار الزيّ ليعلم أنهم يهود ، ولا يلتبسوا بالمسلمين ،

وقيل : فقر النفس وشحها ، فلا ترى ملة من الملل أذل وأحرص من اليهود .

وأما المسكنة : فالخشوع ، فلا يرى يهودي إلا وهو بادي الخشوع ، أو الخراج ، وهو الجزية ، قاله الحسن وقتادة ، أو الفاقة والحاجة ، قاله أبو العالية ، أو ما يظهرونه من سوء حالهم مخافة أن تضاعف عليهم الجزية ، أو الضعف ، فتراه ساكن الحركات قليل النهوض . واستبعد صاحب المنتخب قول من فسر الذلة بالجزية ، لأن الجزية لم تكن مضروبة عليهم من أول أمرهم .

وقيل : هو من المعجزات ، لأنه أخبر عنه صلى اللّه عليه وسلم. فكان كما أخبر ، والمضروب عليهم الذلة والمسكنة اليهود المعاصرون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قاله الجمهور ، أو الذين كفروا بآيات اللّه وقتلوا الأنبياء بغير حق . والقائلون :{ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ } ، ومن تابعهم من أبنائهم أقوال ثلاثة .

{وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّه} : تقدم تفسيره باء ، فعلى من قال : باء : رجع ، تكون الباء للحال ، أي مصحوبين بغضب ، ومن قال : استحق ، فالباء صلة نحو : لا يقرأن بالسور : أي استحقوا غضباً ، ومن قال : نزل وتمكن أو تساووا ، والباء ظرفية ، فعلى القول الأول تتعلق بمحذوف ، وعلى الثاني لا تتعلق ، وعلى الثالث بنفس باء . وزعم الأخفش أن الباء في قوله بغضب للسبب ، فعلى هذا تتعلق بباء ، ويكون مفعول باء محذوفاً ، أي استحقوا العذاب بسبب غضب اللّه عليهم . وباء يستعمل في الخير :{ لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً } ،{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } ،{ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} وفي الشر :{ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّه } ،{ ءانٍ تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ } ،{ فَبَاءو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} وقد جاء استعمال المعنيين في الحديث : { أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي} . وقال بعض الناس : باء لا تجيء إلا في الشر . والغضب هنا ما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا ، أو ما يحل بهم من العذاب في الآخرة . ويكون باؤوا في معنى يبوؤون ، نحو { أَزِفَتِ الاْزِفَةُ } ،{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}{ مِنَ اللّه } يحتمل أن يكون متعلقاً بباؤوا إذا كان باء بمعنى رجع ، وكأنهم كانوا مقبلين على اللّه تعالى ، فبعصيانهم رجعوا منه ، أي من عنده بغضب . ويحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوف ويكون في موضع الصفة ، أي بغضب كائن من اللّه ، وهذا الوجه ظاهر إذا كان باء بمعنى استحق ، أو بمعنى نزل وتمكن ، ويبعد الوجه الأول ، وفي وصف الغضب بكونه من اللّه تعظيم للغضب ، وتفخيم لشأنه .{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } الإشارة إلى المباءة بالغضب ، أو المباءة . والضرب وهو مبتدأ ، والجار والمجرور بعده خبر ، والباء للسبب ، أي ذلك كائن بكفرهم وقتلهم .

{كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه} : الآيات المعجزات التسع وغيرها التي أتى بها موسى ، أو التوراة ، أو آيات منها ، كالآيات التي فيها صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،أو فيها الرّجم ، أو القرآن ، أو جميع آيات اللّه المنزلة على الرسل ، أقوال خمسة ، وإضافة الآيات إلى اللّه لأنها من عنده تعالى .{ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ } : قتلوا يحيى وشعيا وزكريا . وروي عن ابن مسعود قتل بنو إسرائيل سبعين نبياً ،

وفي رواية ثلاثمائة نبي في أول النهار ، وقامت سوق قتلهم في آخره . وعلى هذا يتوجه قراءة من قرأ : يقتلون بالتشديد لظهور المبالغة في القتل ، وهي قراءة علي .

وقرأ الحسن : وتقتلون بالتاء ، فيكون ذلك من الالتفات . وروي عنه بالياء كالجماعة ، ولا فرق في الدلالة بين النبيين والأنبياء ، لأن الجمعين إذا دخلت عليهما أل تساويا بخلاف حالهما إذا كانا نكرتين ، لأن جمع السلامة إذ ذاك ظاهر في القلة ، وجمع التكسير على أفعلاء ظاهر في الكثرة .

وقرأ نافع : بهمز النبيين والنبىء والأنبياء والنبوءة ، إلا أن قالون أبدل وأدغم في الأحزاب في :{ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ } إن أراد وفي { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىّ إِلاَّ أَن } ، في الوصل .

وقرأ الجمهور بغير همز ، وقد تقدّم الكلام عليه في المفردات .

{بِغَيْرِ الْحَقّ } : متعلق بقوله : وتقتلون ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير في تقتلون ، أي تقتلونهم مبالغة . قيل : ويجوز أن تكون منعة لمصدر محذوف ، أي قتلا بغير حق . وعلى كلا الوجهين هو توكيد ، ولم يرد هذا على أن قتل النبيين ينقسم إلى قتل بحق وقتل بغير حق ، بل ما وقع من قتلهم إنما وقع بغير حق ، لأن النبي معصوم من أن يأتي أمراً يستحق عليه فيه القتل ، وإنما جاء هذا القيد على سبيل التشنيع لقتلهم ، والتقبيح لفعلهم مع أنبيائهم ، أي بغير الحق عندهم ، أي لم يدّعوا في قتلهم وجهاً يستحقون به القتل عندهم .

وقيل : جاء ذلك على سبيل التأكيد كقوله :{ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ } ، إذ لا يقع قتل نبي إلا بغير الحق ، ولم يأت نبي قط بما يوجب قتله ، وإنما قتل منهم من قتل كراهة له وزيادة في منزلته . قال ابن عباس وغيره : لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر . قيل : وعرّف الحق هنا لأنه أشير به إلى المعهود في قوله عليه السلام : { لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاثاً }

وأما المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك حق لا ما يعرفه المسلمون ولا غيره .

{ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } ، ذلك : رد على الأول وتكرير له ، فأشير به لما أشير بذلك الأول ، ويجوز أن تكون إشارة إلى الكفر والقتل المذكورين ، فلا يكون تكريراً ولا توكيداً ، ومعناه : أن الذي حملهم على جحود آيات اللّه وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ، فجسرهم هذا على ذلك ، إذا المعاصي يريد الكفر .{ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ،{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ } ، وقولهم { قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّه عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقد تقدّم تفسير العصيان والاعتداء لغة ، وقد فسر الاعتداء هنا أنه تجاوزهم ما حدّ اللّه لهم من الحق إلى الباطل .

وقيل : التمادي على المخالفة وقتل الأنبياء .

وقيل : العصيان بنقض العهد والاعتداء بكثرة قتل الأنبياء .

وقيل : الاعتداء بسبب المخالفة والإقامة على ذلك الزمن الطويل أثر عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :

{اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسائة سنة حين كثر فيهم أولاد السبايا ، واختلفوا بعد عيسى بمائة سنة }.

وقيل : هو الاعتداء في السبت ،

قال تعالى :{ وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ} وما : في قوله { بِمَا عَصَواْ } مصدرية ، أي ذلك بعصيانهم ، ولم يعطف الاعتداء على العصيان لئلا يفوت تناسب مقاطع الآي ، وليدل على أن الاعتداء صار كالشيء الصادر منهم دائماً . ولما ذكر تعالى حلول العقوبة بهم من ضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب ، وبين علة ذلك ، فبدأ بأعظم الأسباب في ذلك ، وهو كفرهم بآيات اللّه . . ثم ثنى بما يتلو ذلك في العظم وهو قتل الأنبياء ، ثم أعقب ذلك بما يكون من المعاصي ، وما يتعدى من الظلم . قال معنى هذا صاحب المنتخب ، ويظهر أن قوله ذلك بأنهم كانوا يكفرون ويقتلون ، تعليل لضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب ، وأن الإشارة بقوله { ذالِكَ بِمَا عَصَواْ } إشارة إلى الكفر والقتل ، وبما تعليل لهما فيعود العصيان إلى الكفر ، ويعود الاعتداء إلى القتل ، فيكون قد ذكر شيئين وقابلهما بشيئين . كما ذكر أولاً شيئين وهما : الضرب والمباءة ، وقابلهما بشيئين وهما : الكفر والقتل ، فجاء هذا لفاً ونشراً في المؤضعين ، وذلك من محاسن الكلام وجودة تركيبه ، ويخرج بذلك عن التأكيد الذي لا يصار إليه إلا عند الحاجة ، وذلك بأن يكون الكلام يبعد أن يحمل على التأسيس .

وقد تضمنت هذه الآيات من لطائف الامتنان وغرائب الإحسان لبني إسرائيل فصولاً ، منها : أنهم أمروا بدخول القرية التي بها يتحصنون ، والأكل من ثمراتها ما يشتهون ، ثم كلفوا النزر من العمل والقول ، وهو دخول بابها ساجدين ، ونطقهم بلفظة واحدة تائبين ، ورتب على هذا النزر غفران جرائمهم العظيمة وخطاياهم الجسيمة ، فخالفوا في الأمرين فعلاً وقولاً ، جرياً على عادتهم في عدم الامتثال ، فعاقبهم على ذلك بأشد النكال . ثم ذكر تعالى ما كان عليه موسى عليه السلام من العطف عليهم وسؤال الخير لهم ، وذلك بأن دعا اللّه لهم بالسقيا ، فأحاله على فعل نفسه بأن أنشأ لهم ، من قرع الصفا بالعصا ، عيوناً يجري بها ما يكفيهم من الماء ، معيناً على الوصف الذي ذكره تعالى من كون تلك العيون على عدد الأسباط ، حتى لا يقع منهم مشاحة ولا مغالبة ، وأعلمهم بأن ذلك منه رزق ، وأمروا بالأكل منه والشرب ، ثم نهوا عن الفساد ، إذ هو سبب لقطع الرزق . ثم ذكر تعالى تبرمهم من الرزق الذي امتن به عليهم ، فلجوا في طلب ما كان مألوفهم إلى نبيهم فقالوا :{ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ } ، وذلك جري على عادته معهم ، إذ كان يناجي ربه فيما كان عائداً عليهم بصلاح دينهم ودنياهم ، وذكر توبيخه لهم على ما سألوه من استبدال الخسيس بالنفيس ، وبما لا نصب في اكتسابه ما فيه العناء الشاق ، إذ ما طلبوه يحتاج إلى استفراغ أوقاتهم المعدة لعبادة ربهم في تحصيله ، ومع ذلك فصارت أغذية مضرة مؤذية جالبة أخلاطاً رديئة ، ينشأ عنها طمس أنوار الأبصار والبصائر ، بخلاف ما رزقهم اللّه ، إذ هو شيء واحد جيد ، ينشأ عنه صحة البدن وجودة الإدراك .

كان الخليل بن أحمد ، رحمه اللّه ، يستف دقيق الشعير ، ويشرب عليه الماء العذب ، وكان ذهنه أشرق أذهان أهل زمانه ، وكان قوي البدن يغزو سنة ويحج أخرى . ثم أمروا بالحلول فيما فيه مطلبهم والهبوط إلى معدن ما سألوه ، ثم أخبر تعالى بما عاقبهم به من جعلهم أذلاء مساكين ومباءتهم بغضبه ، وإن ذلك متسبب عن كفرهم بالآيات التي هي سبب الإيمان ، لما احتوت عليه من الخوارق التي أعجزت الإنس والجان ، وعن قتلهم من كان سبباً لهدايتهم ، وهم الأنبياء ، إذ باتباعهم يحصل العز في الدنيا والفوز في الأخرى ، وأن الذي جرّ الكفر والقتل إليهم هو العصيان والاعتداء اللذان كانا سبقاً منهم قبل تعاطي الكفر والقتل .

وقال : إن الأمور صغيرها

مما يهيج له العظيم

والشر تحقره وقد ينمى

﴿ ٦١