٧٩

فويل للذين يكتبون . . . . .

{يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } الآية . قيل : نزلت في الذين غيروا صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبدّلوا نعته ، فجعلوه آدم سبطاً طويلاً ، وكان في كتابهم على الصفة التي هو بها ، فقالوا لأصحابهم وأتباعهم : انظروا إلى صفة هذا النبي الذي يبعث في آخر الزمان ، ليس يشبه نعت هذا ، وكانت الأحبار من اليهود يخافون أن يذهب مأكلتهم بإبقاء صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم على حالها ، فلذلك غيروها .

وقيل : خاف ملوكهم على ملكهم ، إذا آمن الناس كلهم ، فجاءوا إلى أحبار اليهود فجعلوا لهم عليهم وضائع ومآكل ، وكشطوها من التوراة ، وكتبوا بأيديهم كتاباً ، وحللوا فيه ما اختاروا ، وحرموا ما اختاروا .

وقيل : نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي ، ولم يتبعوا كتاباً ، بل كتبوا بأيديهم كتاباً ، وحللوا فيه ما اختاروا ، وحرموا ما اختاروا ، وقالوا : هذا من عند اللّه . وقال أبو مالك : نزلت في عبد اللّه بن سعد بن سرح ، كاتب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، كان يغيره فارتد . وقد تقدم شرح ويل عند الكلام على المفردات ، وذكر عن عثمان ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : أنه جبل من نار جهنم ، وذكر أن أبا سعيد روى : أنه واد في جهنم بين جبلين ، يهوي فيه الهاوي ، وذكر أن سفيان وعطاء بن يسار رويا أنه واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار .

وحكى الزهراوي وجماعة : أنه باب من أبواب جهنم .

وقيل : هو صهريج في جهنم .

وقيل ، عن سعيد بن جبير ، إنه واد في جهنم ، لو سجرت فيه جبال الدنيا لانماعت من حره ، ولو صح في تفسير الويل شيء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لوجب المصير إليه . وقد تكلمت العرب في نظمها ونثرها بلفظة الويل قبل أن يجيء القرآن ، ولم تطلقه على شيء من هذه التفاسير ، وإنما مدلوله ما فسره أهل اللغة ، وهو نكرة فيها معنى الدعاء ، فلذلك جاز الابتداء بها ، إذ الدعاء أحد المسوّغات لجواز الابتداء بالنكرة ، وهي تقارب ثلاثين مسوّغاً ، وذكرناها في كتاب { منهج المسالك} من تأليفنا .

والكتابة معروفة ، ويقال أول من كتب بالقلم إدريس ،

وقيل : آدم . والكتاب هنا قيل : كتبوا أشياء اختلقوها ، وأحكاماً بدلوها من التوراة حتى استقر حكماً بينهم .

وقيل : كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبنوها في سفهائهم ، وفي العرب ، وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل ، وصار سفهاؤهم ، ومن يأتيهم من مشركي العرب ، إذا سألوهم عن صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يقولون : ما هو هذا الموصوف عندنا في التوراة المبدلة المغيرة ، ويقرؤوها عليهم ويقولون لهم : هذه التوراة التي أنزلت من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً . بأيديهم : تأكيد يرفع توهم المجاز ، لأن قولك : زيد يكتب ، ظاهره أنه يباشر الكتابة ، ويحتمل أن ينسب إليه على طريقة المجاز ، ويكون آمراً بذلك

كما جاء في الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتب ، وإنما المعنى : أمر بالكتابة ، لأن اللّه تعالى قد أخبر أنه النبي الأمي ، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب . وقد

قال تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} ونظير هذا التأكيد { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ وَيَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم } ، وقوله :

نظرت فلم تنظر بعينيك منظراً

فهذه كلها أتى بها لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، ولرفع المجاز الذي كان يحتمله . وفي هذا التأكيد أيضاً تقبيح لفعلهم ، إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير ، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم ، واجترحوه بأيديهم . وقال ابن السرّاح : ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم ، ومن عند أنفسهم ، من غير أن ينزل عليهم . انتهى كلامه . ولا يدل على ما ذكر ، لأن مباشرة الشيء باليد لا تقتضي الاختلاق ، ولا بد من تقدير حال محذوفة يدل عليها ما بعدها ، التقدير : يكتبون الكتاب بأيديهم محرّفاً ، أو نحوه مما يدل على هذا المعنى لقوله بعد ثم :{ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللّه } ، إذ لا إنكار على من يباشر الكتاب بيده إلا إذا وضعه غير موضعه ، فلذلك قدرنا هذه الحال .

{ثُمَّ يَقُولُونَ } : أي لأتباعهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرىء لهم ، ومعمول القول هذه الجملة التي هي :{ هَاذَا مِنْ عِندِ اللّه لِيَشْتَرُواْ } ، علة في القول ، وهي لام كي ، وقد تقدم الكلام عليها قبل . وهي مكسورة لأنها حرف جر ، فيتعلق ب يقولون . وقد أبعد من ذهب إلى أنها متعلقة بالاستقرار ، وبنو العنبر يفتحون لام كي ، قال مكي في إعراب القرآن له .{ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا } ، به : متعلق بقوله : ليشتروا ، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم :{ هَاذَا مِنْ عِندِ اللّه } ، وهو المكتوب المحرّف . وتقدّم القول في الاشتراء في قوله :{ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} والثمن هنا : هو عرض الدنيا ، أو الرّشا والمآكل التي كانت لهم ، ووصف بالقلة لكونه فانياً ، أو حراماً ، أو حقيراً ، أو لا يوازنه شيء ، لا ثمن ، ولا مثمن . وقد جمعوا في هذا الفعل أنهم ضلوا وأضلوا وكذبوا على اللّه ، وضموا إلى ذلك حب الدنيا . وهذا الوعيد مرتب على كتابة الكتاب المحرّف ، وعلى إسناده إلى اللّه تعالى . وكلاهما منكر ، والجمع بينهما أنكر . وهذا يدل على تحريم أخذ المال على الباطل ، وإن كان برضا المعطي .

{فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } : كتابتهم مقدمة ، نتيجتها كسب المال الحرام ، فلذلك كرر الويل في كل واحد منهما ، لئلا يتوهم أن الوعيد هو على المجموع فقط . فكل واحد من هذين متوعد عليه بالهلاك . وظاهر الكسب هو ما أخذوه على تحريفهم الكتاب من الحرام ، وهو الأليق بمساق الآية .

وقيل : المراد بما يكسبون الأعمال السيئة ، فيحتاج في كلا القولين إلى اختصاص ، لأن ما يكسبون عام ، والأولى أن يقيد بما ذكرناه.

﴿ ٧٩