٨٧

ولقد آتينا موسى . . . . .

قفوت الأثر : اتبعته ، والأصل أن يجيء الإنسان تابعاً لقفا الذي اتبعه ، ثم توسع فيه حتى صار لمطلق الاتباع ، وإن بعد زمان المتبوع ، من زمان التابع . وقال أمية : قالت لأخت له قصيه عن جنب

وكيف تقفو ولا سهل ولا جدد

الرسل : جمع رسول ، ولا ينقاس فعل في فعول بمعنى مفعول . وتسكين عينه لغة أهل الحجاز ، والتحريك لغة بني تميم . عيسى : اسم أعجمي علم لا يصرف للعجمة والعلمية ، ووزنه عند سيبويه : فعلى ، والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة ، بمنزلة ياء معزى ، يعني بالياء الألف ، سماها ياء لكتابتهم إياها ياء . قال أبو علي : وليست للتأنيث ، كالتي في ذكرى ، بدلالة صرفهم له في النكرة . وذهب الحافظ أبو عمر ، وعثمان بن سعيد الداني ، صاحب التصانيف في القراءات ، وعثمان بن سعيد الصيرفي وغيره ، إلى أن وزنه فعلل ، وردّ ذلك الأستاذ أبو الحسن بن الباذش بأن الياء والواو لا يكونان أصلاً في بنات الأربع . قال بعض أصحابنا : وهذه الأسماء أعجمية ، وكل أعجمي استعملته العرب ، فالنحويون يتكلمون على

أحكامه في التصريف على الحدّ الذي يتكلمون فيه العربي ، فيسى من هذا الباب . انتهى كلامه . ومن زعم أنه مشتق من العيس : وهو بياض يخالطه شقرة ، فغير مصيب ، لأن الاشتقاق العربي يدخل الأسماء الأعجمية . مريم ، باللسان السرياني ، معناه : الخادم ، وسميت به أم عيسى ، فصار علماً ، فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية . ومريم ، باللسان العربي : من النساء ، كالزير : من الرجال ، وبه فسر قول رؤبة :

قلت لزير لم تصله مريمه

والزير : الذي يكثر خلطة النساء وزيارتهنّ ، والياء فيه مبدلة من واو ، كالريح ، إذ هما من الزور والروح ، فصار هذا اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى اللسانين . ووزن مريم عند النحويين مفعل ، لأن فعيلاً ، بفتح الفاء ، لم يثبت في الأبنية ، كما ثبت نحو : عثير وعلبب ، قاله الزمخشري وغيره . وقد أثبت بعض الناس فعيلاً ، وجعل منه : ضهيداً ، اسم موضع ، ومدين ، إذا جعلنا ميمه أصلية ، وضهياء مقصورة مصروفة ، وهي المرأة التي لا تحيض ،

وقيل : التي لا ثدي لها . قال أبو عمرو الشيباني : ضهياة وضهياءة ، بالقصر والمد . قال الزجاج : اشتقاقها من ضأهأت : أي شابهت ، لأنها أشبهت الرجل . وقال ابن جني : أما ضهيد وعثير فمصنوعان ، فلا يجعلان دليلاً على إثبات فعيل . انتهى . وصحة حرف العلة في مريم على خلاف القياس نحو : مزيد . البين : الواضح ، بان : وضح وظهر . أيد : فعل تأييد ، أو أيد : أفعل إئياداً ، وكلاهما من الأيد ، وهو القوة . وقد أبدلوا في أفعل من يائه جيماً ، قالوا : أجد ، أي قوي ، كما أبدلوا ياء يد ، قالوا : لا أفعل ذلك جدى الدهر ، يريدون يد الدهر ، وهو إبدال لا يطرد . والأصل في آيد أاْيد ، وصححت العين كما صححت في أغيلت ، وهو تصحيح شاذ إلا في فعل التعجب ، فتقول : ما أبينا وما أطولا ورآه أبو زيد مقيساً ، ولو أعل على حدّ أقتت وأحدت ، فألقيت حركة العين على الفاء ، وحذفت العين ، لوجب أن تنقلب الفاء واواً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، كما انقلبت في أوادم جمع أدم على أفاعل ، ثم تنقلب الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها . فلما أدّى القياس إلى إعلال الفاء والعين ، رفض وصححت العين . الروح ، من الحيوان : اسم للجزء الذي تحصل به الحياة ، قاله الراغب ، واختلف الناس فيه وفي النفس ، أهما من المشترك أم من المتباين ؟ وفي ماهية النفس والروح ، وقد صنف في ذلك . القدس : الطهارة ،

وقيل : البركة ، وقد تقدّم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله تعالى : { وَنُقَدّسُ لَكَ } ، الرسول ، فعول بمعنى : المفعول ، أي المرسل ، وهو قليل ، ومنه : الحلوب ، والركوب ، بمعنى : المحلوب والمركوب . تهوى : تحب وتختار ، ماضيه على فعل ، ومصدره الهوى . غلف : جمع أغلف ، كأحمر وحمر ، وهو الذي لا يفقه ، أو جمع غلاف ، وهو الغشاء ، فيكون أصله التثقيل ، فخفف . اللعن :

الطرد والإبعاد ، يقال : شأو لعين ، أي بعيد ، وقال الشماخ : ذرت به القطا ونفيت عنه

مقام الذئب كالرجل اللعين

المعرفة : العلم المتعلق بالمفردات ، ويسبقه الجهل ، بخلاف أصل العلم فإنه يتعلق بالنسب ، وقد لا يسبقه الجهل ، ولذلك لم يوصف اللّه تعالى بالمعرفة ، ووصف بالعلم . بئس : فعل جعل للذمّ ، وصله فعل ، وله ولنعم باب معقود في النحو . البغي : الظلم ، وأصله الفساد ، من قولهم : بغى الجرح : فسد ، قاله الأصمعي ،

وقيل : أصله شدّة الطلب ، ومنه ما نبغي ، وقول الراجز : أنشد والباغي يحب الوجدان

فلائصاً مختلفات الألوان

ومنه سميت الزانية بغياً ، لشدّة طلبها للزنا ، الإهانة : الإذلال ، وهان هواناً : لم يحفل به ، وهو معنى الذل ، وهو كون الإنسان لا يؤبه به ، ولا يلتفت إليه . وراء ، من الظروف المتوسطة التصرف ، وتكون بمعنى : قدام ، وبمعنى : خلف ، وهو الأشهر فيه . الخالص : الذي لا يشوبه شيء ، يقال : خلص يخلص خلوصاً . تمنى : تفعل من المنية ، وهو الشيء المشتهى ، وقد يكون المتمنى باللسان بمعنى : التلاوة ، ومنه : تمنى على زيد منه حاجة ، وجد : مشترك بين الإصابة والعلم والغنى والحرج ويختلف بالمصادر : كالوجدان والوجد والموجدة . الحرص : شدّة الطلب . الودّ : المحبة للشيء والإيثار له ، وفعله : ودّ وهو على فعل يفعل ،

وحكى الكسائي : وددت ، فعلى هذا يجوز كسر الواو ، إذ يكون فعل يفعل ، وفك الإدغام في قوله :

ما في قلوبهم لنا من مودة

ضرورة . عمر : التضعيف فيه للنقل ، إذ هو من عمر الرجل : أي طال عمره ، وعمره اللّه : أطال عمره ، والعمر : مدة البقاء . الألف : عشر من المئين ، وقد يتجاوز فيه فيدل على الشيء الكثير ، وهو من الألفة ، إذ هو ما لف أنواع الأعداد ، إذ العشرات مالف الآحاد ، والمئون ما لف العشرات ، والألف ما لف المئين . الزحزحة : الإزالة والتنحية عن المقر . بصير : فعيل من بصر به إذا رآه ،  { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } ، ثم يتجّوز به فيطلق على بصر القلب ، وهو العلم . بصير بكذا : أي عالم به .

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } : تقدّم الكلام في هذه اللام ، ويحتمل أن تكون للتأكيد ، وأن تكون جواب قسم . ومناسبة هذا لما قبله أن إيتاء موسى الكتاب هو نعمة لهم ، إذ فيه أحكامهم وشرائعهم . ثم قابلوا تلك النعمة بالكفران ، وذلك جرى على ما سبق من عادتهم ، إذ قد أمروا بأشياء ونهوا عن أشياء ، فخالفوا أمر اللّه ونهيه ، فناسب ذكر هذه الآية ما قبلها . والإيتاء : الإعطاء ، فيحتمل أن يراد به : الإنزال ، لأنه أنزله عليه جملة واحدة ، ويحتمل أن يراد آتيناه : أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه ، فيكون على حذف مضاف آتينا موسى علم الكتاب ، أو فهم الكتاب . وموسى : هو نبي اللّه موسى بن عمران ، صلى اللّه على نبينا وعليه وسلم . والكتاب هنا : التوراة ، في قول الجمهور ، والألف واللام فيه للعهد ، إذ قرن بموسى وانتصابه على أنه مفعول ثانٍ لآتينا . وقد تقدم أنه مفعول أول عند السهيلي ،

وموسى هو الثاني عنده .

{وَقَفَّيْنَا } : هذه الياء أصلها الواو ، إلا أنها متى وقعت رابعة أبدلت ياء ، كما تقول : غزيت من الغزو ، والتضعيف الذي في قفينا ليس للتعدية ، إذ لو كان للتعدية لكان يتعدى إلى اثنين ، لأن قفوت يتعدّى إلى واحد . تقول : قفوت زيداً ، أي تبعته ، فلو جاء على التعدية لكان : وقفيناه من بعده الرسل ، وكونه لم يجىء كذلك في القرآن ، يبعد أن تكون الباء زائدة في المفعول الأول ، ويكون المفعول الثاني جاء محذوفاً . ألا ترى إلى قوله :{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } ، ولكنه ضمن معنى جئنا ، كأنه قال : وجئنا من بعده بالرسل ، يقفو بعضهم بعضاً ، ومن في :{ مِن بَعْدِهِ } : لابتداء الغاية ، وهو ظاهر ، لأنه يحكى أن موسى لم يمت حتى نبىء يوشع .{ بِالرُّسُلِ } : أرسل اللّه على أثر موسى رسلاً وهم : يوشع ، وشمويل ، وشمعون ، وداود ، وسليمان ، وشعيا ، وأمريا ، وعزير ، وحزقيل ، وإلياس ، وأليسع ويونس ، وزكريا ، ويحيى ، وغيرهم . والباء في بالرسل متعلق بقفينا ، والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص ، ويحتمل أن تكون للعهد ، لما استفيد من القرآن وغيره أن هؤلاء بعثوا من بعده ، ويحتمل أن تكون التقفية معنوية ، وهي كونهم يتبعونه في العمل بالتوراة وأحكامها ، ويأمرون باتباعها والبقاء على التزامها .

وقرأ الجمهور : بالرسل بضم السين .

وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر : بتسكينها ، وقد تقدم أنهما لغتان ، وواقهما أبو عمرو أن أضيف إلى ضمير جمع نحو : رسلهم ورسلكم ورسلنا ، استثقل توالي أربع متحركات ، فسكن تخفيفاً .

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } : أضاف عيسى إلى أمه رداً على اليهود فيما أضافوه إليه .{ الْبَيِّنَاتُ } : وهي الحجج الواضحة الدالة على نبوّته ، فيشمل كل معجزة أوتيها عيسى عليه السلام ، وهذا هو الظاهر .

وقيل : الإنجيل .

وقيل : الحجج التي أقامها اللّه على اليهود .

وقيل : إبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار بالمغيبات ، وإحياء الموتى ، وهم أربعة : سام بن نوح ، والعازر ، وابن العجوز ، وبنت العشار ، ومن الطير : الخفاش ، فقيل : لم يكن من قبل عيسى ، بل هو صورة ، واللّه نفخ فيه الروح .

وقيل : كان قبله ، فوضع عيسى على مثاله . قالوا : وإنما اختص هذا النوع من الطير لأنه ليس شيء من الطير أشد خلقاً منه ، لأنه لحم كله . وأجمل اللّه ذكر الرسل ، وفصل ذكر عيسى ، لأن من قبله كانوا متبعين شريعة موسى ،

وأما عيسى فنسخ شرعه كثيراً من شرع موسى .

{وَأَيَّدْنَاهُ } : قرأ الجمهور على وزن فعلناه .

وقرأ مجاهد ، والأعرج ، وحميد ، وابن محيصن ، وحسين ، عن أبي عمرو : أأيدناه ، على وزن : أفعلناه . وتقدم الكلام على ذلك في المفردات ، وفرق بعضهم بينهما فقال : أما المد فمعناه القوة ،

وأما القصر فالتأييد والنصر ، والأصح أنهما بمعنى قويناه ، وكلاهما من الأيد ، وهو القوة .{ بِرُوحِ الْقُدُسِ } : قراءة الجمهور : بضم القاف والدّال .

وقرأ مجاهد : وابن كثير : بسكون الدال حيث وقع ، وفيه لغة فتحها .

وقرأ أبو حيوة : القدوس ، بواو . والروح هنا : اسم اللّه الأعظم الذي كان به عيسى عليه السلام يحيي الموتى ، قاله ابن عباس ، أو الإِنجيل ، كما سمى اللّه القرآن روحاً ،

قال تعالى :{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } قاله ابن زيد ، أو الروح التي نفخها تعالى في عيسى عليه السلام ، أو جبريل عليه السلام ، قاله قتادة والسدّي والضحاك والربيع ، ونسب

هذا القول لابن عباس ، قاله ابن عطية ، وهذا أصح الأقوال . وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لحسان بن ثابت } أهج قريشاً وروح القدس معك { ، ومرة قال له ؛ } وجبريل معك} . انتهى كلامه . قالوا : ويقوي ذلك قوله تعالى :{ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} وقال حسان : وجبريل رسول اللّه فينا

وروح القدس ليس له كفاء

وتسمية جبريل بذلك ، لأن الغالب على جسمه الروحانية ، وكذلك سائر الملائكة ، أو لأنه يحيا به الدين ، كما يحيا البدن بالروح ، فإنه هو المتولي لإنزال الوحي ، أو لتكوينه روحاً من غير ولادة . وتأييد اللّه عيسى بجبريل عليهما السلام لإظهار حجته وأمر دينه ، أو لدفع اليهود عنه ، إذ أرادوا قتله ، أو في جميع أحواله . واختار الزمخشري أن معناه : بالروح المقدسة ، قال : كما يقال حاتم الجود ، ورجل صدق . ووصفها بالقدس كما قال : وروح منه ، فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة . انتهى كلامه . وقد تقدّم معنى القدس أنه الطهارة أو البركة . وقال مجاهد والربيع : القدس من أسماء اللّه تعالى ، كالقدّوس . قالوا : وإطلاق الرّوح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى اسم اللّه الأعظم مجاز ، لأن الرّوح هو الريح المتردد في مخارق الإنسان في منافذه . ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك ، إلا أن كلاً منها أطلق الرّوح عليه على سبيل التشبيه ، من حيث إن الرّوح سبب للحياة ، فجبريل هو سبب لحياة القلوب بالعلوم ، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها ، والاسم الأعظم سبب لأن يتوصل به إلى تحصيل الأغراض . والمشابهة بين جبريل والرّوح أتم ، ولأن هذه التسمية فيه أظهر ، ولأن المراد من أيدناه : قوّيناه وأعناه ، وإسنادها إلى جبريل حقيقة ، وإلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز . ولأن اختصاص عيسى بجبريل من آكد وجوه الاختصاص ، إذ لم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك ، لأنه هو الذي بشر مريم بولادته ، وتولد عيسى بنفخه ، ورباه في جميع الأحوال ، وكان يسير معه حيث سار ، وكان معه حيث صعد إلى السماء .

{أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ } : الهمزة أصلها للاستفهام ، وهي هنا للتوبيخ والتقريع . والفاء لعطف الجملة على ما قبلها ، واعتنى بحرف الاستفهام فقدم ، والأصل فأكلما . ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف ، بل يكون العطف على الجمل التي قبلها ، كأنه قال : ولقد آتينا يا بني إسرائيل ، آتيناكم ما آتيناكم . فكلما جاءكم رسول . ويحتمل أن يقدر قبلها محذوف ، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق . وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى :{ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا } ، فأغنى عن إعادته . والنصاب لها قولها :{ اسْتَكْبَرْتُمْ} والخطاب في جاءكم يجوز أن يكون عاماً لجميع بني إسرائيل ، إذ كانوا على طبع واحد من سوء الأخلاق ، وتكذيب الرسل ، وكثرة سؤالهم لأنبيائهم ، والشك والارتياب فيما أتوهم به ، أو يكون عائداً إلى أسلافهم الذين فعلوا ذلك . وسياق الآيات يدل عليه أو إلى من بحضرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أبنائهم ، لأنهم راضون بفعلهم ، والراضي كالفاعل . وقد كذبوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما جاء به ، وسقوه السم ليقتلوه ، وسحروه . وبما : متعلق بقوله : جاءكم ، وما موصولة ، والعائد محذوف ، أي لا تهواه . وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بحق ، ومنه هذه الآية . وأسند الهوى إلى النفس ، ولم يسند إلى ضمير المخاطب ، فكان يكون بما لا تهوون إشعاراً بأن النفس يسند إليها غالباً الأفعال السيئة ، { إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء } ،{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } ،{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} استكبرتم : استفعل هنا : بمعنى تفعل ، وهو أحد معاني استفعل . وفسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الكبر بأنه سفه الحق وغمط الناس . والمعنى قيل : استكبرتم عن إجابته احتقاراً للرسول . أو استبعاداً للرسالة ، وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعة الاستكبار الذي هو محل النقصائص ونتيجة الإعجاب . وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق ، وإن ذلك كان يتكرر منهم

بتكرر مجيء الرسل إليهم ، وهو كما ذكرنا استبكار بمعنى التكبر ، وهو مشعر بالتكلف والتفعل ، لذلك لا أنهم يصيرون بذلك كبراء عظماء ، بل يتفعلون ذلك ولا يبلغون حقيقته ، لأن الكبرياء إنما هي للّه تعالى ، فمحال أن يتصف بها غيره حقيقة .

{فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ } : ظاهره أنه معطوف على قوله : استكبرتم ، فنشأ عن الاستكبار مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب فقط ، حيث لا يقدرون على قتله ، وفريق بالقتل إذا قدروا على قتله . وتهيأ لهم ذلك ، ويضمن أن من قتلوه فقد كذبوه . واستغنى عن التصريح بتكذيبه للعلم بذلك ، فذكر أقبح أفعالهم معه ، وهو قتله . وأجاز أبو القاسم الراغب أن { يَكُونَ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ } معطوفاً على قوله :{ وَأَيَّدْنَاهُ } ، ويكون قوله : أفكلما مع ما بعده فصلاً بينهما على سبيل الإنكار . والأظهر في ترتيب الكلام الأول ، وهذا أيضاً محتمل ، وأخر العامل وقدّم المفعول ليتواخى رؤوس الآي ، وثم محذوف تقديره : ففريقاً منهم كذبتم ، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ، ولأنه المشترك بين الفريقين : المكذب والمقتول .

{وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } : وأتى بفعل القتل مضارعاً ، إما لكونه حكيت أنه الحال الماضية ، إن كانت أريدت فاستحضرت في النفوس ، وصور حتى كأنه ملتبس به مشروع فيه ، ولما فيه من مناسبة رؤوس الآي التي هي فواصل ،

وإما لكونه مستقبلاً ، لأنهم يرومون قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولذلك سحروه وسموه . وقال صلى اللّه عليه وسلم عند موته : { ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري} . وكان في ذلك على هذا الوجه تنبيه على أن عادتهم قتل أنبيائهم ، لأن هذا النبي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل ، وقد أمروا بالإيمان به والنصر له ، يرومون قتله . فكيف من لم يكن فيه تقدم عهد من اللّه ؟ فقتله عندهم أولى . قال ابن عطية عن بني إسرائيل : كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ، ثم تقوم سوقهم آخر النهار . وروي سبعين نبياً ، ثم تقوم سوق نقلهم آخر النهار .

﴿ ٨٧