٨٩ولما جاءهم كتاب . . . . . {وَلَمَّا جَاءهُمُ } : الضمير عائد على اليهود ، ونزلت فيهم حين كانت غطفان تقاتلهم وتهزمهم ، أو حين كانوا يلقون من العرب أذى كثيراً ، أو حين حاربهم الأوس والخزرج فغلبتهم .{ كِتَابٌ } : هو القرآن ، وإسناد المجيء إليه مجاز .{ مِنْ عِندِ اللّه } : في موضع الصفة ، وصفه بمن عند اللّه جدير أن يقبل ، ويتبع ما فيه ، ويعمل بمضمونه ، إذ هو وارد من عند خالقهم وإلههم الذي هو ناظر في مصالحهم .{ مُّصَدّقُ } : صفة ثانية ، وقدّمت الأولى عليها ، لأن الوصف بكينونته من عند اللّه آكد ، ووصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند اللّه . لا يقال : إنه يحتمل أن يكون { مِنْ عِندِ اللّه } متعلقاً بجاءهم ، فلا يكون صفة للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما . وفي مصحف أبيّ مصدقاً ، وبه قرأ ابن أبي عبلة ونصبه على الحال من كتاب ، وإن كان نكرة . وقد أجاز ذلك سيبويه بلا شرط ، فقد تخصصت بالصفة ، فقربت من المعرفة .{ لّمَا مَعَهُمْ } : هو التوراة والإنجيل ، وتصديقه إما بكونهما من عند اللّه ، أو بما اشتملا عليه من ذكر بعث الرسول ونعته . {وَكَانُواْ } : يجوز أن يكون معطوفاً على جاءهم ، فيكون جواب لما مرتباً على المجيء والكون . ويحتمل أن يكون جملة حالية ، أي وقد كانوا ، فيكون الجواب مرتباً على المجيء بقيد في مفعوله ، وهم كونهم يستفتحون . وظاهر كلام الزمخشري أن قوله : وكانوا ليست معطوفة على الفعل بعد لما ، ولا حالاً لأنه قدّر جواب لما محذوفاً قبل تفسيره يستفتحون ، فدل على أن قوله : وكانوا ، جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله : ولما .{ مِن قَبْلُ } : أي من قبل المجيء ، وبني لقطعه عن الإضافة إلى معرفة . {يَسْتَفْتِحُونَ } : أي يستحكمون ، أو يستعلمون ، أو يستنصرون ، أقوال ثلاثة . يقولون ، إذا دهمهم العدو : اللّهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان ، الذي نجد نعته في التوراة . واختلفوا في جواب ولما الأولى ، فذهب الأخفش والزجاج إلى أنه محذوف لدلالة المعنى عليه ، واختاره الزمخشري وقدره نحو : كذبوا به واستهانوا بمجيئه ، وقدره غيره : كفروا ، فحذف لدلالة كفروا به عليه ، والمعنى قريب في ذلك . وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله :{ فَلَمَّا جَاءهُمُ جَوَابَ لَّمّاً الاْولَى وَكَفَرُواْ جَوَابَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ} قال : ويدل على أن الفاء هنا ليست بناسقة أن الواو لا تصلح في موضعها . وذهب المبرد إلى أن جواب لما الأولى هو : كفروا به ، وكرر لما لطول الكلام ، ويقيد ذلك تقريراً للذنب وتأكيداً له . وهذا القول كان يكون أحسن لولا أن الفاء تمنع من التأكيد . وأما قول الفراء فلم يثبت من لسانهم ، لما جاء زيد ، فلما جاء خالد أقبل جعفر ، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته ، ولا حجة في هذا المختلف فيه ، فالأولى أن كون الجواب محذوفاً لدلالة المعنى عليه ، وأن يكون التقدير :{ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّه مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ } كذبوه ، ويكون التكذيب حاصلاً بنفس مجيء الكتاب من غير فكر فيه ولا روّية ، بل بادروا إلى تكذيبه . ثم قال تعالى :{ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ } ،أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم ، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبياً يبعث قد قرب وقت بعثه ، فكانوا يخبرون بذلك . {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ } : وما سبق لهم تعريفه للمشركين .{ كَفَرُواْ بِهِ } : ستروه وجحدوه ، وهذا أبلغ في ذمهم ، إذ يكون الشيء المعورف لهم ، المستقر في قلوبهم وقلوب من أعلموهم به كيانه ونعته يعمدون إلى ستره وجحده ، قال تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} وقال أبو القاسم الراغب : ما ملخصه الاستفتاح ، طلب الفتح ، وهو ضربان : إلهي ، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم المؤدية إلى الثواب ، ومنه { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ } ، فعسى أن يأتي بالفتح . ودنيوي ، وهو النصرة بالوصول إلى اللذات البدنية ، ومنه { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء} فمعنى يستفتحون : أي يعلمون خبره من الناس مرّة ، ويستنبطون ذكره من الكتب مرة . وقيل : بطلبون من اللّه بذكره الظفر . وقيل : كانوا يقولون إنا ننصر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم على عبدة الأوثان . وكل ذلك داخل في عموم الاستفتاح . انتهى . وظاهر قوله : ما عرفوا أنه الكتاب ، لأنه أتى بلفظ ما ، ويحتمل أنه يراد به النبي صلى اللّه عليه وسلم. فإن ما قد يعبر بها عن صفات من يعقل ، ويجوز أن يكون المعنى : ما عرفوه من الحق ، فيندرج فيه معرفة نبوّته وشريعته وكتابه ، وما تضمنه . {فَلَعْنَةُ اللّه عَلَى الْكَافِرِينَ } : لما كان الكتاب جائياً من عند اللّه إليهم ، فكذبوه وستروا ما سبق لهم عرفانه ، فكان ذلك استهانة بالمرسل والمرسل به . قابلهم اللّه بالاستهانة والطرد ، وأضاف اللعنة إلى اللّه تعالى على سبيل المبالغة ، لأن من لعنه اللّه تعالى هو الملعون حقيقة .{ قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّه مَن لَّعَنَهُ اللّه } ؟{ وَمَن يَلْعَنِ اللّه فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} ثم إنه لم يكتف باللعنة حتى جعلها مستعلية عليهم ، كأنه شيء جاءهم من أعلاهم ، فجللّهم بها ، ثم نبه على علة اللعنة وسببها ، وهي الكفر ، كما قال قبل :{ بَل لَّعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ } ، وأقام الظاهر مقام المضمر لهذا المعنى ، فتكون الألف واللام للعهد ، أو تكون للعموم ، فيكون هؤلاء فرداً من أفراد العموم . قال الزمخشري : ويجوز أن تكون للجنس ، ويكون فيه دخولاً أولياً . ونعني بالجنس العموم ، وتخيله أنهم يدخلون فيه دخولاً أولياً ليس بشيء ، لأن دلالة العلة على إفراده ليس فيها بعض الإفراد أولى من بعض ، وإنما هي دلالة على كل فرد فرد ، فهي دلالة متساوية . وإذا كانت دلالة متساوية ، فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء . |
﴿ ٨٩ ﴾