٩٠بئسما اشتروا به . . . . . {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } : تقدّم الكلام على بئس ، وأما ما فاختلف فيها ، ألها موضع من الإعراب أم لا . فذهب الفرّاء إلى أنه بجملته شيء واحد ركب ، كحبذا ، هذا نقل ابن عطية عنه . وقال المهدوي : قال الفرّاء يجوز أن تكون ما مع بئس بمنزلة كلما ، فظاهر هذين النقلين أن ما لا موضع لها من الإعراب ، وذهب الجمهور إلى أن لها موضعاً من الإعراب . واختلف ، أموضعها نصب أم رفع ؟ فذهب الأخفش إلى أن موضعها نصب على التمييز ، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة ، وفاعل بئس مضمر مفسر بما ، التقدير : بئس هو شيئاً اشتروا به أنفسهم ، وأن يكفروا هو المخصوص بالذم ، وبه قال الفارسي في أحد قوليه ، واختاره الزمخشري . ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص بالذم محذوفاً ، واشتروا صفة له ، والتقدير : بئس شيئاً شيء اشتروا به أنفسهم ، وأن يكفروا بدل من ذلك المحذوف ، فهو في موضع رفع ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو أن يكفروا . وذهب الكسائي في أحد قوليه إلى ما ذهب إليه هؤلاء ، من أن ما موضعها نصب على التمييز ، وثم ما أخرى محذوفة موصولة هي المخصوص بالذم ، التقدير : بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم . فالجملة بعدما المحذوفة صلة لها ، فلا موضع لها من الإعراب . وأن يكفروا على هذا القول بدل ، ويجوز على هذا القول أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو كفرهم . فتلخص في قول النصب في الجملة بعدما أقوال ثلاثة : أن يكون صفة لما هذه التي هي تمييز فموضعها نصب ، أو صلة لما المحذوفة الموصولة فلا موضع لها ، أو صفة لشيء المحذوف المخصوص بالذم فموضعها الرفع ، وذهب سيبويه إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل بئس ، فقال سيبويه : هي معرفة تامة ، التقدير : بئس الشيء ، والمخصوص بالذم على هذا محذوف ، أي شيء اشتروا به أنفسهم . وعزى هذا القول ، أعني أن ما معرفة تامة لا موصولة ، إلى الكسائي . وقال الفراء والكسائي ، فيما نقل عنهما : أن ما موصولة بمعنى الذي ، واشتروا : صلة ، وبذلك قال الفارسي ، في أحد قوليه ، وعزى ابن عطية هذا القول إلى سيبويه قال : فالتقدير على هذا القول : بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ، كقولك : بئس الرجل زيد ، وما في هذا القول موصولة . انتهى كلامه ، وهو وهم على سيبويه . وذهب الكسائي فيما نقل عنه المهدوي وابن عطية إلى أن ما وبعدها في موضع رفع ، على أن تكون مصدرية ، التقدير : بئس اشتراؤهم . قال ابن عطية : وهذا معترض ، لأن بئس لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير . انتهى كلامه . وما قاله لا يلزم إلا إذا نص على أنه مرفوع ببئس ، أما إذا جعله المخصوص بالذم ، وجعل فاعل بئس مضمراً والتمييز محذوفاً ، لفهم المعنى . التقدير : بئس اشتراء اشتراؤهم ، فلا يلزم الاعتراض ، لكن يبطل هذا القول الثاني عود الضمير في به على ما ، وما المصدرية لا يعود عليها ضمير ، لأنها حرف على مذهب الجمهور ، هذا الأخفش يزعم أنها اسم . والكلام على هذه المذاهب تصحيحاً وإبطالاً يذكر في علم النحو . اشتروا هنا : بمعنى باعوا ، وتقدم أنه قال : شرى واشترى : بمعنى باع ، هذا قول الأكثرين . وفي المنتخب إن الاشتراء هنا على بابه ، لأن المكلف ، إذا خاف على نفسه من العقاب ، أتى بأعمال يظن أنها تخلصه ، وكأنه قد اشترى نفسه بها . فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم ، ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم ، فذمهم اللّه عليه . قال : وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ من الأول ، يعني بالأول أن يكون بمعنى باع ، وهذا الذي اختاره صاحب المنتخب ، يرد عليه قوله تعالى : { بَغْيًا أَن يُنَزّلُ اللّه مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } ، فدل على أن المراد ليس اشتراؤهم أنفسهم بالكفر ، ظناً منهم أنهم يخلصون من العقاب ، بل ذلك كان على سبيل البغي والحسد ، لكونه تعالى جعل ذلك في محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فاتضح أن قول الجمهور أولى . {أَن يَكْفُرُواْ } : تقدم أن موضعه رفع ، إما ، على أن يكون مخصوصاً بالذم عند من جعل ما قبله من قوله :{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ } غير تام ، وفيه الأعاريب التي في المخصوص بالذم ، إذا تأخر ، أهو مبتدأ ، والجملة التي قبله خبر مبتدأ محذوف على ما تقرر قبل ؟ وأجاز الفراء على هذا التقدير أن يكون بدلاً من الضمير في به ، فيكون في موضع خبر .{ بِمَا أنزَلَ اللّه } : هو الكتاب الذي تقدّم ذكره ، وهو القرآن . وفي ذلك من التفخيم إن لم يحصل مضمر ، بل أظهر موصولاً بالفعل الذي هو أنزل المشعر بأنه من العالم العلوي ، ونسب إسناده إلى اللّه ، ليحصل التوافق من حيث المعنى بين قوله :{ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّه } وبين قوله :{ بِمَا أنزَلَ اللّه} ويحتمل أن يراد به التوراة والإنجيل ، إذ كفروا بعيسى وبمحمد صلوات اللّه وسلامه عليهما ، والكفر بهما كفر بالتوراة . ويحتمل أن يراد الجميع من قرآن وإنجيل وتوراة ، لأن الكفر ببعضها كفر بكلها .{ بَغِيّاً } : أي حسداً ، إذ لم يكن من بني إسرائيل ، قاله قتادة وأبو العالية والسدّي . وقيل : معناه ظلماً ، وانتصابه على أنه مفعول من أجله وظاهره أن العامل فيه يكفروا ، أي كفرهم لأجل البغي . وقال الزمخشري : هو علة اشتروا ، فعلى قوله يكون العامل فيه اشتروا . وقيل : هو نصب على المصدر لا مفعول من أجله ، والتقدير : بغوا بغياً ، وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه . {أَن يُنَزّلُ اللّه} : أن : مع الفعل بتأويل المصدر ، وذلك المصدر المقدر منصوب على أنه مفعول من أجله ، أي بغو التنزيل اللّه . وقيل : التقدير بغياً على أن ينزّل اللّه لأن معناه حسداً على أن ينزّل اللّه ، أي على ما خص اللّه به نبيه من الوحي ، فحذفت على ، ويجيء الخلاف الذي في أنّ وأن ، إذا حذف حرف الجر منهما ، أهما في موضع نصب أم في موضع خفض ؟ وقيل : أن ينزّل في موضع جر على أنه بدل اشتمال من ما في قوله : بما أنزل اللّه ، أي بتنزيل اللّه ، فيكون مثل قول الشاعر : أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص وقرأ أبو عمرو وابن كثير : جميع المضارع مخففاً من أنزل ، إلا ما وقع الإجماع على تشديده ، وهو في الحجر ، { وَمَا نُنَزّلُهُ } ، إلا أن أبا عمرو شدد على أن ننزل آية في الأنعام ، وابن كثير شدد { وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء } ،{ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا } ، وشدد الباقون المضارع حيث وقع إلا حمزة والكسائي فخففا ، { وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ } ، في آخر لقمان ، { وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ } ، في الشورى . والهمزة والتشديد كل منهما للتعدية . وقد ذكروا مناسبات لقراآت القراء واختياراتهم ولا تصح .{ مِن فَضْلِهِ } : من لابتداء الغاية ، والفضل هنا الوحي والنبوة . وقد جوّز بعضهم أن تكون من زائدة على مذهب الأخفش ، فيكون في موضع المفعول ، أي أن ينزل اللّه فضله .{ عَلَى } من يشاء . على متعلقة بينزل ، والمراد بمن يشاء : محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم ، وكان من العرب ، وعز النبوة من يعقوب إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام كان في إسحاق ، فختم في عيسى ، ولم يكن من ولد إسماعيل نبي غير نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فختمت النبوة على غيرهم ، وعدموا العز والفضل . و { مِنْ } هنا موصولة ، وقيل نكرة موصوفة . و { يَشَاء } على القول الأول : صلة ، فلا موضع لها من الإعراب ، وصفة على القول الثاني ، فهي في موضع خفض ، والضمير العائد على الموصول أو الموصوف محذوف تقديره يشاؤه .{ مِنْ عِبَادِهِ } : جار ومجرور في موضع الحال ، تقديره كائناً من عباده ، وأضاف العباد إليه تشريفاً لهم ، كقوله تعالى :{ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } ،{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} {فباؤوا } : أي مضوا ، وتقدم معنى باؤوا .{ فَبَاءو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } : أي مترادف متكاثر ، ويدل ذلك على تشديد الحال عليهم . وقيل : المراد بذلك : غضبان معللان بقصتين : الغضب الأول : لعبادة العجل ، والثاني : لكفرهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، قاله ابن عباس . أو الأول : كفرهم بالإنجيل ، والثاني : كفرهم بالقرآن ، قاله قتادة . أو الأول : كفرهم بعيسى ، والثاني : كفرهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، قاله الحسن وغيره ، أو الأول : قولهم عزير ابن اللّه ، وقولهم يد اللّه مغلولة ، وغير ذلك من أنواع كفرهم ، والثاني : كفرهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم.{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } : الألف واللام في الكافرين للعهد ، وأقام المظهر مقام المضمر إشعاراً بعلة كون العذاب المهين لهم ، إذ لو أتى ، ولهم عذاب مهين ، لم يكن في ذلك تنبيه على العلة ، أو تكون الألف واللام للعموم ، فيندرجون في الكافرين . ووصف العذاب بالإهانة ، وهي الإذلال ، قال تعالى :{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ} وجاء في الصحيح ، في حديث عبادة ، وقد ذكر أشيائ محرّمة فقال : { فمن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له} . فهذا العذاب إنما هو لتكفير السيئات ، أو لأنه يقتضي الخلود خلوداً لا ينقطع ، أو لشدته وعظمته واختلاف أنواعه ، أو لأنه جزاء على تكبرهم عن اتباع الحق . وقد احتج الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر ، لأنه ثبت تعذيبه ، واحتج بها المرجئة على أن الفاسق لا يعذب لأنه ليس بكافر . |
﴿ ٩٠ ﴾