٩٣وإذ أخذنا ميثاقكم . . . . . ولأن في قصة الطور ذكر توليهم عما أمروا به ، من قبول التوراة وعدم رضاهم بأحكامها اختياراً ، حتى ألجئوا إلى القبول اضطراراً ، فدعواهم الإيمان بما أنزل إليهم غير مقبولة . ثم في قصة الطور تذييل لم يتقدم ذكره . والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء أو تعظيمه ، كررته . وفي هذا التكرار أيضاً من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم اللّه عليهم ونقمه منهم ، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف . {وَاسْمَعُواْ } أي : اقبلوا ما سمعتم ، كقوله :{ سَمِعَ اللّه لِمَنْ } ،أو { الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ } ،أو { اللّه وَأَطِيعُواْ} لأن فائدة السماع الطاعة ، قاله المفضل . والمعنى في هذه الأقوال الثلاثة قريب . قال الماتريدي : معنى اسمعوا : افهموا . وقيل : اعملوا ، ووجهه أن السمع يسمع به ، ثم يتخيل ، ثم يعقل ، ثم يعمل به إن كان مما يقتضي عملاً . ولما كان السماع مبتدأ ، والعمل غاية ، وما بينهما وسائط ، صح أن يراد بعض الوسائط ، وصح أن يراد به الغاية .{ قَالُواْ } : هذا من الالتفات ، إذ لو جاء على الخطاب لقال : قلتم { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } : ظاهره أن كلتا الجملتين مقولة ، ونطقوا بذلك مبالغة في التعنت والعصيان . ويؤيده قول ابن عباس : كانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا :{ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا :{ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وقيل : القول هنا مجاز ، ولم ينطقوا بشيء من الجملتين ، ولكن لما لم يقبلوا شيئاً مما أمروا به ، جعلوا كالناطقين بذلك . وقيل : يعبر بالقول للشيء عما يفهم به من حاله ، وإن لم يكن نطق . وقيل : المعنى سمعنا بآذاننا وعصنيا بقلوبنا ، وهذا راجع لما قاله الزمخشري ، قال : قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك . فإن قلت : فكيف طابق قوله جوابهم ؟ قلت : طابقه من حيث أنه قال لهم اسمعوا ، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة ، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة ، انتهى كلامه . والقول الأوّل أحسن ، لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره ، لا سيما إذا لم يقم دليل على خلافه .{ وَاشْرَبُواْ } : عطف على قالوا سمعنا وعصينا . فيكون معطوفاً على قالوا ، أي خذوا ما آتيناكم بقوّة ، قلتم كذا وكذا وأشربتم ، أو عطف مستأنف لا داخل في باب الالتفات ، بل إخبار من اللّه عنهم بما صدر منهم من عبادة العجل ، أو الواو للحال ، أي وقد أشربوا والعامل قالوا ، ولا يحتاج الكوفيون إلى تقدير قد في الماضي الواقع حالاً ، والقول الأول هو الظاهر .{ فِى قُلُوبِهِمْ } : ذكر مكان الإشراب ، كقوله :{ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ}{ الْعِجْلَ } : هو على حذف مضافين ، أي حب عبادة العجل من قولك : أشربت زيداً ماء ، والإشراب مخالطة المائع الجامد ، وتوسع فيه حتى صار في اللونين ، قالوا : وأشربت البياض حمرة ، أي خلطتها بالحمرة ، ومعناه أنه داخلهم حب عبادته ، كما داخل الصبغ الثوب ، وأنشدوا : إذا ما القلب أشرب حب شيء فلا تأمل له عند انصرافاً وقال ابن عرفة : يقال أشرب قلبه حب كذا ، أي حل محل الشراب ومازجه . انتهى كلامه . وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل ، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها ، ولهذا قال بعضهم : جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي فأصبح لي عن كل شغل بها شغل وأما الطعام فقالوا : وهو مجاور لها ، غير متغلغل فيها ، ولا يصل إلى القلب منه إلا يسير ، وقال : تغلغل حبّ عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير وحسن حذف ذينك المضافين ، وأسند الإشراب إلى ذات العجل مبالغة كأنه بصورته أشربوه ، وإن كان المعنى على ما ذكرناه من الحذف . وقيل : معنى اشربوا : أي شدّ في قلوبهم حب العجل لشغفهم به ، من أشربت البعير : إذا شددت حبلاً في عنقه . وقيل : هو من الشرب حقيقة ، وذلك أنه نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم : اشربوا ، فشرب جميعهم . فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه ، وهذا قول يردّه في قوله : { فِى قُلُوبِهِمْ} وروي أن الذين تبين لهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن . وبناؤه للمفعول في قوله : وأشربوا ، دليل على أن ذلك فعل بهم ، ولا يفعله إلا اللّه تعالى . وقالت المعتزلة : جاء مبنياً للمفعول لفرط ولوعهم بعبادته ، كما يقال : معجب برأيه ، أو لأن السامري وإبليس وشياطين الأنس والجنّ دعوهم إليه ، ولما كان الشرب مادّة لحياة ما تخرجه الأرض ، نسب ذلك إلى المحبة ، لأنها مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال .{ بِكُفْرِهِمْ } : الظاهر أن الباء للسبب ، أي الحامل لهم على عباده العجل هو كفرهم السابق ، قيل : ويجوز أن يكون الباء بمعنى مع ، يعنون أن يكون للحال ، أي مصحوباً بكفرهم ، فيكون ذلك كفراً على كفر . {قُلْ } يا محمد ، أو قل يا من يجالهم .{ بِئْسَمَا مَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ } : تقدم الكلام في بئس ، وفي المذاهب في ما ، فأغنى عن إعادته . وقرأ الحسن ومسلم بن جندب : بهو إيمانكم ، بضم الهاء ووصلها بواو ، وهي لغة ، والضم في الأصل ، لكن كسرت في أكثر اللغات لأجل كسرة الباء ، وعني بإيمانهم الذي زعموا في قولهم :{ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } ، وأضاف الأمر إلى إيمانهم على طريق التهكم ، كما قال أصحاب شعيب : أصلواتك تأمرك أن نترك ؟ وقيل : ثم محذوف تقديره صاحب إيمانكم ، وهو إبليس . وقيل : ثم صفة محذوفة التقدير إيمانكم الباطل ، وأضاف : الإيمان إليهم لكونه إيماناً غير صحيح ، ولذلك لم يقل الإيمان ، قاله بعض معاصرينا رحمهم اللّه . والمخصوص بالذمّ محذوف بعدما ، فإن كانت منصوبة ، فالتقدير : بئس شيئاً يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء والعصيان وعبادة العجل ، فيكون يأمركم صفة للتمييز ، أو يكون التقدير : بئس شيئاً شيء يأمركم به إيمانكم ، فيكون يأمركم صفة للمخصوص بالذمّ المحذوف ، أو يكون التقدير : بئس شيئاً ما يأمركم ، أي الذي يأمركم ، فيكون يأمركم به إيمانكم . والمخصوص مقدر بعد ذلك ، أي قتل الأنبياء ، وكذا وكذا . فيكون ما موصولة ، أو يكون التقدير : بئس الشيء شيء يأمركم به إيمانكم ، فيكون ما تامّة . وهذا كله تفريع على قول من جعل لما وحدها موضعاً من الإعراب . {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ،قيل : إن نافية ، وقيل : شرطية . قال الزمخشري : تشكيك في إيمانهم ، وقدح في صحة دعواهم . انتهى كلامه . و قال ابن عطية : وقد يأتي الشرط ، والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين ، كما قال اللّه عن عيسى عليه السلام :{ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } ، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله ، وكذلك { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين ، لكنه أقام حجة لقياس بين . انتهى كلامه ، وهو يؤول من حيث المعنى إلى نفي الإيمان عنهم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي إن كنتم مؤمنين ، فلا تقتلوا الأنبياء ، ولا تكذبوا الرسل ، ولا تكتموا الحق . وتقدير الحذف الأول أعرب وأقوى . |
﴿ ٩٣ ﴾