٩٤قل إن كانت . . . . . {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِندَ اللّه خَالِصَةً } : نزلت فيما حكاه ابن الجوزي عندما قالت اليهود : إن اللّه لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه . وقال أبو العالية والربيع : سبب نزول هاتين الآيتين قولهم :{ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا } ، و { نَحْنُ أَبْنَاء اللّه } ، و { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ } ، الآيات ، وروي مثله عن قتادة . والضمير في قل ، إما للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وإما لمن ينبغي إقامة الحجة عليهم منه ومن غيره . وفسروا الدار الآخرة بالجنة ، قالوا : وذلك معهود في إطلاقها على الجنة . قال تعالى :{ تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الاْرْضِ وَلاَ فَسَاداً} ومعلوم أن ما يجعل لهؤلاء هو الجنة ، { وَلَلدَّارُ الاْخِرَةُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} والأحسن أن يكون ذلك على حذف مضاف دل عليه المعنى ، أي نعيم الدار الآخرة وحظوتها وخيرها ، لأن الدار الآخرة هي موضع الإقامة بعد انقضاء الدنيا . وسميت آخرة لأنها متأخرة عن الدنيا ، أو هي آخر ما يسكن وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله : { وَهُم بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ومعنى : عند اللّه ، أي في حكم اللّه ، كقوله تعالى :{ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللّه } أي في حكمه { هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقيل : المراد بالعندية هنا : المكانة والمرتبة والشرف ، لا المكان . ومعنى خالصة : أي مختصة بكم ، لا حظ في نعيمها لغيركم . واختلفوا في إعراب خالصة ، فقيل : نصب على الحال ، ولم يحك الزمخشري غيره ، فيكون لكم إذ ذاك خبر كانت ، ويكون العامل في الحال هو العامل في المجرور ، ولا يجوز أن يكون الظرف إذ ذاك الخبر ، لأنه لا يستقل معنى الكلام به وحده . وقد وهم في ذلك المهدوي وابن عطية ، إذ قالا : ويجوز أن يكون نصب خالصة على الحال ، وعند اللّه خبر كان . وقيل : انتصاب خالصة على أنه خبر كان ، فجوز في لكم أن يتعلق بكانت ، لأن كان يتعلق بها حرف الجر ، ويجوز أن يتعلق بخالصة . ويجوز أن تكون للتبين ، فيتعلق بمحذوف تقديره : لكم ، أعني نحو قولهم :{ أَحْلَلْنَا لَكَ } إذ تقديره : لك أدعو . {مّن دُونِ النَّاسِ } : متعلق بخالصة ، ودون هنا لفظ يستعمل للاختصاص ، وقطع الشركة . تقول : هذا ولي دونك ، وأنت تريد لا حق فيه لك معي ولا نصيب . وفي غير هذا المكان يأتي لمعنى الانتقاص في المنزلة أو المكان أو المقدار . والمراد بالناس : الجنس ، وهو الظاهر لدلالة اللفظ وقوله : خالصة . وقيل : المراد النبي صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون . وقيل : المراد به النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قاله ابن عباس : قالوا ، ويطلق الناس ، ويراد به الرجل الواحد ، وهذا لا يكون إلا على مجاز وتنزيل الرجل الواحد منزلة الجماعة .{ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ } : أي سلوه باللسان فقط ، وإن لم يكن بالقلب ، قاله ابن عباس . أو تمنوه بقلوبكم واسألوه بألسنتكم ، قاله قوم . أو فسلوه بقلوبكم على أردإ الحزبين من المؤمنين أومنهم . وروي عن ابن عباس وغيره ، وقرأ الجمهور : فتمنوا الموت ، بضم الواو ، وهي اللغة المشهورة في مثل : اخشوا القوم . ويجوز الكسر تشبيهاً لهذه الواو بواو : ولو استطعنا ، كما شبهوا واو لو بواو اخشوا ، فضموا ، فقالوا : لو استطعنا . وقرأ ابن أبي إسحاق : فتمنوا الموت بالكسر ، وحكى أبو علي الحسن بن إبراهيم بن يزداد ، عن أبي عمرو ، أنه قرأ : فتمنوا الموت ، بفتح الواو ، وحركها بالفتح طلباً للتخفيف ، لأن الضمة والكسرة في الواو يثقلان . وحكى أيضاً عن أبي عمرو : واختلاس ضمة الواو . {وَإِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في دعواكم أن الجنة لكم دون غيركم . وجواب الشرط محذوف ، أي فتمنوا الموت . وعلق تمنيهم على شرط مفقود ، وهو كونهم صادقين ، وليسوا بصادقين في أن الجنة خالصة لهم دون الناس ، فلا يقع التمني : والمقصود من ذلك التحدي وإظهار كذبهم ، وذلك أن من أيقن أنه من أهل الجنة ، اختار أن ينتقل إليها ، وأن يخلص من المقام في دار الأكدار ، وأن يصل إلى دار القرار . كما روي عمن شهد له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالجنة ، كعثمان ، وعليّ ، وعمار ، وحذيفة ، أنهم كانوا يختارون الموت ، وكذلك الصحابة كانت تختار الشهادة . وفي الحديث الصحيح أنه قال صلى اللّه عليه وسلم : { ليتني أحيا ثم أقتل ثم أحيا فأقتل} . لما علم من فضل الشهادة . وقال ، لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة : { يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل} . وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال : حبيب جاء على فاقة . وعن عمار ، لما كان بصفين قال : غداً نلقى الأحبة ، محمداً وصحبه . وعن عليّ أنه كان يطوف بين الصفين بغلالة ، فقال له ابنه الحسن : ما هذا بزي المحاربين ، فقال : يا بنيّ لا يبالي أبوك ، أعلى الموت سقط ، أم عليه سقط الموت . وكان عبد اللّه بن رواحة ينشد ، وهو يقاتل الروم : يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها وفي قصتي قتل عثمان وسعيد بن جبير ما يدل على اختيارهما الشهادة ، وذلك أن عثمان جاءه جماعة من الصحابة فقالوا له : نقاتل عنك ؟ فقال لهم : لا ، وكان له قريب من ألف عبد ، فشهروا سيوفهم لما هجم عليهم ، فقال : من أغمد سيفه فهو حرّ . فصبر حتى قتل . وأما سعيد ، فإن الموكلين به ، لما طلبه الحجاج ، لما شاهدوا من لياذ السباع به وتمسحها به ، قالوا : لا ندخل في إراقة دم هذا الرجل الصالح ، قالوا له : طلبك ليقتلك ، فاذهب حيث شئت ، ونحن نكون فداء . فقال : لا واللّه ، إني سألت ربي الشهادة ، وقد رزقنيها ، واللّه لا برحت . وروي عن النبي / صلى اللّه عليه وسلم : { لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي} . وذلك أن اللّه أمر نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت ، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات . ففعل النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك ، |
﴿ ٩٤ ﴾