٩٥

ولن يتمنوه أبدا . . . . .

فعلم اليهود صدقه ، فأحجموا عن تمنيه فرقاً من اللّه .

{وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } : هذا من المعجزات ، لأنه إخبار بالغيب ، ونظيره من الإخبار بالمغيب قوله :{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } ، وظاهره أن من ادّعى أن الجنة خالصة له دون الناس ممن اندرج تحت الخطاب في قوله :{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِندَ اللّه خَالِصَةً } ، لا يمكن أن يتمنى الموت أبداً ، ولذلك كان حرف النفي هنا لن الذي قد ادّعى فيه أنه يقتضي النفي على التأييد ، فيكون قوله : أبداً ، على زعم من ادعى ذلك للتوكيد .

وأما من ادعى أنه بمعنى لا ، فيكون أبداً إذ ذاك مفيداً لاستغراق الأزمان . ويعني بالأبد هنا : ما يستقبل من زمان أعمارهم .

وفي المنتخب ما نصه : وإنما قال هنا :{ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ } ، وفي الجمعة { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ } ، لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك ، لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية ، لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، ولن أبلغ في النفي من لا ، فجعلها النفي الأعظم . انتهى كلامه . قال المهدوي في { كتاب التحصيل} من تأليفه : وهذه المعجزة إنما كانت على عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ثم ارتفعت بوفاته صلى اللّه عليه وسلم. ونظير ذلك رجل يقول لقوم حدثهم بحديث : دلالة صدقي ، أن أحرّك يدي ولا يقدر أحد منكم أن يحرّك يده ، فيفعل ذلك ، فيكون دليلاً على صدقه ، ولا يبطل دلالته أن حركوا أيديهم بعد ذلك . انتهى كلامه ، وقد قاله غيره من المفسرين .

قال ابن عطية : والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمني الموت ، إنما كانت أياماً كثيرة عند نزول الآية ، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة ، انتهى كلامه . وكلا القولين ، أعني قول المهدوي وابن عطية ، مخالف لظاهر القرآن ، لأن أبدأ ظاهره أن يستغرق مدة أعمارهم ، كما بينا . وهل امتناعهم من تمني الموت ، كان لعلمهم أن كل نبي عرض على قومه أمراً وتوعدهم عليه بالهلاك فردوه تكذيباً له ، فإن ما توعدهم به واقع لا محالة ؟ أو لعلمهم بصدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأنه لا يقول على اللّه إلا الحق ؟ أو لصرف اللّه إياهم عن ذلك ، كما قيل في عدم معارضة القرآن بالصرفة ؟ أقوال ثلاثة . والظاهر أن ذلك معلل { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} والذي قدمته أيديهم : تكذيبهم الأنبياء ، وقتلهم إياهم ، وقولهم :{ أَرِنَا اللّه جَهْرَةً } ، وقولهم :{ اجْعَلْ لَّنَا إِلَاهًا } ، وقولهم :{ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ } ، واعتداؤهم في السبت ، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم . وهذا التمني الذي طلب منهم ، ونفي عنهم ، لم يقع أصلاً منهم ، إذ لو وقع لنقل ، ولتوفرت دواعي المخالفين للإسلام على نقله .

وقد تقدّمت الأقوال في تفسير التمني ، والظاهر أنه لا يعني به هنا العمل القلبي ، لأنه لا يطلع عليه ، فلا يتحدى به ، وإنما عنى به القول اللساني كقولك : ليت الأمر يكون . ألا ترى أنه يقال لقائل ذلك : تمني ؟ وتسمى ليت كلمة تمنّ ، ولم ينقل أيضاً أنهم قالوا : تمنينا ذلك بقلوبنا ، ولا جائز أن يكون امتناعهم من الإخبار أنهم تمنوا بقلوبهم ، كونهم لا يصدّقون في

ذلك ، لأنهم قد قاولوا المسلمين بأشياء لا يصدقونهم فيها ، من الافتراء على اللّه ، وتحريف كتابه ، وغير ذلك . وقال الماتريدي ما مخلصه : أن المؤمن يقول : إن الجنة له ، ومع ذلك ليس بتمني الموت . وأجاب : بأنه لم يجعل لنفسه من المنزلة عند اللّه من ادعاء بنوّة ومحبة من اللّه لهم ما جعلته اليهود ، لأن جميع المؤمنين ، غير الأنبياء ، لا يزول عنهم خوف الخاتمة . والخاطىء منهم مفتقر إلى زمان يتدارك فيه تكفير خطئه . فلذلك لم يتمن المؤمنون الموت . ولذلك كان المبشرون بالجنة يتمنونه . وذكروا في ما من قوله : { بِمَا قَدَّمَتْ } ، أنها تكون مصدرية ، والظاهر أنها موصول ، والعائد محذوف ، وهي كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة . ونسب التقديم لليد مجازاً ، والمعنى بما قدّموه ، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفاً في الخير والشر . وكثر هذا الاستعمال في القرآن :{ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } ،{ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } ،{ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}

وقيل : المراد اليد حقيقة هنا ، والذي قدّمته أيديهم هو تغيير صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان ذلك بكتابة أيديهم .

{وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } : هذه جملة خبرية ، ومعناها : التهديد والوعيد ، وعلم اللّه متعلق بالظالم وغير الظالم . فالاقتصار على ذكر الظالم يدل على حصول الوعيد .

وقيل : معناه مجازيهم على ظلمهم ، فكنى بالعلم عن الجزاء ، وعلق العلم بالوصف ليدل على العلية ، والألف واللام في الظالمين للعهد ، فتختص باليهود الذين تقدّم ذكرهم ، أو للجنس ، فتعم كل ظالم . وإنما ذكر الظالمين ، لأن الظلم هو تجاوز ما حدّ اللّه ، ولا شيء أبلغ في التعدّي من ادعاء خلوص الجنة لمن لم يتلبس بشيء من مقتضاتها ، وانفراده بذلك دون الناس .

﴿ ٩٥