٩٦

ولتجدنهم أحرص الناس . . . . .

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواةٍ } : الخطاب هنا للنبي صلى اللّه عليه وسلم. ووجد هنا متعدّية إلى مفعولين : أحدهما الضمير ، والثاني أحرص الناس . وإذا تعدّت إلى مفعولين كانت بمعنى علم المتعدّية إلى اثنين ، كقوله تعالى :{ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} وكونها هنا تعدّت إلى مفعولين ، هو قول من وفقنا على كلامه من المفسرين . ويحتمل أن يكون وجد هنا بمعنى لقي وأصاب ، ويكون انتصاب أحرص على الحال ، لكن لا يتم هذا إلا على مذهب من يرى أن إضافة أفعل التفضيل ليست بمحضة ، وهو قال الفارسي . وقد ذهب إلى ذلك من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن عصفور . أما من قال بأنها محضة ، ولا يجيز في الحال أن تأتي معرفة ، فلا يجوز عنده في أحرص النصب على الحال . وأحرص هنا هي أفعل التفضيل ، وهي مؤولة . بمعنى من ، وقد أضيف إلى معرفة ، فيجوز فيها الوجهان :

أحدهما : أن يفرد مذكره ، وإن كانت جارية على فرد ومثنى ومجموع ، ومذكر ومؤنث .

والثاني : أن يطابق ما قبلها . فمن الوجه الأول أحرص الناس ولو جاء على المطابقة ، لكان أحارص الناس ، أو أحرصي الناس . ومن الوجه الثاني قوله : أكابر مجرميها ، كلا الوجهين فصيح . وذكر أبو منصور الجواليقي أن المطابقة أفصح من الإفراد . وذهب ابن السراج إلى تعين الإفراد ، وليس بصحيح . وإذا أضيفت إلى معرفة ، كهذين الموضعين ، فشرط ذلك أن يكون بعض ما يضاف إليه ، ولذلك منع البصريون يوسف أحسن إخوته ، على أن يكون أحسن أفعل التفضيل ، وتأولوا ما ورد مما يشبهه ، وشذ نحو قوله :

يا رب موسى أظلمي وأظلمه

يريد : أظلمنا حيث لم يضل أظلم إلى ما هو بعضه . والضمير المنصوب في ولتجدنهم عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت ، أو على جميع اليهود ، أو على علماء بني إسرائيل أقوال ثلاثة . وأتي بصيغة أفعل من الحرص مبالغة في شدّة طلبهم للبقاء ودوام الحياة . والناس : الألف واللام للجنس فتعم ، أو للعهد . إما لأن يكون المراد جماعة من الناس معروفين غلب عليهم الحرص على الحياة ، أو لأن يكون المراد بذلك المجوس ، أو مشركي العرب ، لأن أولئك لا يوقنون ببعث ، فليس عندهم إلا نعيم الدنيا ، أو بؤسها ، ولذلك قال بعضهم : تمتع من الدنيا فإنك فان

من النشوات والنسا الحسان

وقال آخر : إذا انقضت الدنيا وزال نعيمها

فما لي في شيء سوى ذاك مطمع

{عَلَى حَيَواةٍ } : قدروا فيه أنه على حذف مضاف ، أي على طول حياة ، أو على حذف صفة ، أي على حياة طويلة . ولو لم يقدر حذف لصح المعنى ، وهو أن يكون أحرص الناس على مطلق حياة ، لأن من كان أحرص على مطلق حياة ، وهو تحققها بأدنى زمان ، فلأن يكون أحرص على حياة طويلة أولى ، وكانوا قد ذموا بأنهم أشد الناس حرصاً على حياة ، ولو ساعة واحدة .

وقرأ أبي : على الحياة ، بالألف واللام .

قال الزمخشري ما معناه : قراءة التنكير أبلغ من قراءة أبي ، لأنه أراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة . انتهى . وقد بينا أنه لا يضطر إلى هذه الصفة .

{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } يجوز أن يكون متصلاً داخلاً تحت أفعل التفضيل ، فيكون ذلك من الحمل على المعنى ، لأن معنى أحرص الناس : أحرص من الناس . ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحذف ، أي وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف أحرص لدلالة أحرص الأول عليه . والذين أشركوا : المجوس ، لعبادتهم النور والظلمة .

وقيل : النار ، أو مشركو العرب لعبادتهم الأصنام واتخاذهم آلهة مع اللّهأو قوم من المشركين كانوا ينكرون البعث ، كما

قال تعالى :{ يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ أَءذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} وعلى هذه الأقوال يكون :{ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } تخصيصاً بعد تعميم ، إذا قلنا : إن قوله أحرص الناس عام ، ويكون في ذلك أعظم توبيخ لليهود ، إذ هم أهل كتاب يرجون ثواباً ويخافون عقاباً ، وهم مع ذلك أحرص ممن لا يرجو ذلك ولا يؤمن ببعث . وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العقاب ، فكانوا أحب الناس في البعد منه ، لأن من توقع شراً كان أنفر الناس عنه ، فلما كانت الحياة سبباً في تباعد العقاب ، كانوا أحرص الناس عليها . وعلى هذا الذي تقرّر من اتصال ، ومن الذين أشركوا بأفعل التفضيل ، فلا بد من ذكر من ، لأن أحرص الناس جرى على اليهود ، فلو عطفت بغير من لكان معطوفاً على الناس ، فيكون في المعنى : ولتجدنهم أحرص الذين أشركوا ، فكان أفعل يضاف إلى غير ما اندرج تحته ، لأن اليهود ليسوا من المشركين ، أعني المشركين الذين فسر بهم الذين أشركوا هنا ، لا إذا قلنا : إن الثواني في العطف يجوز فيها ما لا يجوز في الأوائل ، فإنه يصح ذلك .

وأما قول من زعم أن قوله :{ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } معطوفاً على الضمير في قوله : ولتجدنهم ، أي ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير . فهو معنى يصح ، لكن اللفظ والتركيب ينبو عنه ويخرجه عن الفصاحة ، ولا ضرورة تدعو إلى أن يكون ذلك من باب التقديم والتأخير ، لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة .

وهذا البحث كله على تقدير أن تكون الواو في :{ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } لعطف مفرد على مفرد ،

وأما إذا كانت لعطف الجمل ، فيكون إذ ذاك منقطعاً من الدخول تحت أفعل التفضيل ، ويكون ابتداء ، إخبار عن قوم من المشركين يودون طول الحياة أيضاً . وتقدّم أن المعنيّ بالذين أشركوا : أهم المجوس ؟ أم مشركو العرب ؟ أم قوم من المشركين في الوجه الأول ؟

وأما على أن يكون استئناف إخبار ، ف

قال ابن عطية : هم المجوس ، لأن تشميتهم للعاطس بلغتهم معناه : عش ألف سنة . وفي هذا القول تشبيه لبني إسرائيل بهذه الفرقة من المشركين . انتهى كلامه .

قال الزمخشري : والذين أشركوا على هذا ، أي على أنه كلام مبتدأ ، مشاربه إلى اليهود ، لأنهم قالوا عزير ابن اللّه . انتهى كلامه .

فعلى هذا القول ، يكون قد أخبر أن من هذه الطائفة التي اشتدّ حرصها على الحياة من { يَوَدُّ } لو عمرألف سنة ، فيكون ذلك نهاية في تمني طول الحياة ، ويكون الذين أشركوا من وقوع

الظاهر المشعر بالعلية موقع المضمر ، إذ المعنى : ومنهم قوم يود أحدهم ، ويود أحدهم صفة لمبتدأ محذوف ، أي ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم ، وهذا من المواضع التي يجوز حذف الموصوف فيها ، كقوله تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } ،{ وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } ، وكقول العرب : منا ظعن ومنا أقام ، وعلى أن تكون الواو في { وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } لعطف المفرد على المفرد ، قالوا : ويكون قوله :{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } جملة في موضع الحال ، أي وادًّا أحدهم ، قالوا : ويكون حالاً من الذين ، فيكون العامل أحرص المحذوف ، أو من الضمير في أشركوا ، فيكون العامل أشركوا . ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المنصوب في ولتجدنهم ، أي ولتجدنهم الأحرصين على الحياة وادًّا أحدهم ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار عنهم يبين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة .

{أَحَدِهِمْ } : أي واحد منهم ، وليس أحد هنا هو الذي في قولهم ما قام أحد ، لأن هذا مستعمل في النفي أو ما جرى مجراه . والفرق بينهما أن أحداً هذا أصوله همزة وحاء ودال ، وأصول ذلك واو وحاء ودال . فالهمزة في أحدهم بدل من واو ، ولا يراد بقوله :{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } أي يود واحد منهم دون سائرهم ، وإنما أحدهم هنا عام عموم البدل ، أي هذا الحكم عليهم بودهم أن يعمروا ألف سنة ، هو يتناول كل واحد واحد منهم على طريقة البدل . فكان المعنى أنك إذا نظرت إلى حرص واحد منهم ، وشدّة تعلق قلبه بطول الحياة ، وجدته لو عمر ألف سنة .{ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } : مفعول الودادة محذوف تقديره : يود أحدهم طول العمر . وجواب لو محذوف تقديره : لو يعمر ألف سنة لسر بذلك ، فحذف مفعول يود لدلالة لو يعمر عليه ، وحذف جواب لو لدلالة يود عليه . هذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان . وذهب بعض الكوفيين وغيرهم في مثل هذا إلى أن لو هنا مصدرية بمعنى أن ، فلا يكون لها جواب ، وينسبك منها مصدر هو مفعول يود ، كأنه قال : يود أحدهم تعمير ألف سنة . فعلى هذا القول لا يكون في الكلام حذف ، وعلى القول الأول لا يكون لقوله :{ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } محل إعراب . وعلى القول الثاني محله نصب على المفعول ، كما ذكرنا ، والترجيح بين القولين هو مذكور في علم النحو .

قال الزمخشري :

فإن قلت : كيف اتصل لو يعمر بيود أحدهم ؟

قلت : هو حكاية لودادتهم ، ولو في معنى التمني ، وكان القياس لو أعمر ، إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله : يود أحدهم ، كقولهم : حلف باللّه ليفعلنّ . انتهى كلامه . وفيه بعض إبهام ، وذلك أن يود فعلى قلبي ، وليس فعلاً قولياً ، ولا معناه معنى القول . وإذا كان كذلك ، فكيف تقول هو حكاية لودادتهم ؟ إلا أن ذلك لا يسوغ إلا على تجوّز ، وذلك أن يجري يود مجرى يقول ، لأن القول ينشأ عن الأمور القلبية ، فكأنه قال : يقول أحدهم عن ودادة من نفسه لو أعمر ألف سنة . ولا تحتاج لو ، إذا كانت للتمني ، إلى جملة جوابية ، لأن معناها معنى : يا ليتني أعمر ، وتكون إذ ذاك الجملة في موضع مفعول على طريق الحكاية . فتلخص بما قررناه في لو ثلاثة أقوال : أن تكون حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأن تكون مصدرية ، وأن تكون للمتني محكية . ومعنى ألف سنة : العمر الطويل في أبناء جنسه ، فيكون ألف سنة كناية عن الزمان الطويل ، ويحتمل أن يزيد ألف سنة حقيقة ، وإن كان يعلم أنه لا يعيش ألف سنة ، لأن التمني يقع على الجائز والمستحيل عادة أو عقلاً ، فيكون هذا معناه أنهم لشدة حرصهم في ازدياد الحياة يتعلق تمنيهم في ذلك بما لا يمكن وقوعه عادة .

{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } : الضمير من قوله : وما هو عائد على أحدهم ، وهو اسم ما ، وبمزحزحه خبر ما فهو في موضع نصب ، وذلك على لغة أهل الحجاز . وعلى ذلك ينبغي أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك ، وأن يعمر فاعل بمزحزحه ، أي وما أحدهم مزحزحه من العذاب تعمير . وجوّزوا أيضاً في هذا الوجه ، أعني : أن يكون الضمير عائداً على أحدهم ، أن يكون هو

مبتدأ ، وبمزحزحه خبر . وأن يعمر فاعل بمزحزحه ، فتكون ما تميمية . وهذا الوجه ، أعني أن تكون ما تميمية هو الذي ابتدأ به ابن عطية . وأجازوا أن يكون هو ضميراً عائداً على المصدر المفهوم من قوله : { لَوْ يُعَمَّرُ } ، وأن يعمر بدل منه ، وارتفاع هو على وجهيه من كونه اسم ما أو مبتدأ .

وقيل : هو كناية عن التعمير ، وأن يعمر بدل منه ، ولا يعود هو على شيء قبله . والفرق بين هذا القول والذي قبله ، أن مفسر الضمير هنا هو البدل ، ومفسره في القول الأول هو المصدر الدال عليه الفعل في لو يعمر . وكون البدل يفسر الضمير فيه خلاف ، ولا خلاف في تفسير الضمير بالمصدر المفهوم من الفعل السابق . فهذا يفسره ما قبله ، وذاك يفسره ما بعده . وهذا الذي عنى الزمخشري بقوله : ويجوز أن يكون هو مبهماً ، وأن يعمر موضحه . يعني : أن يكون هو لا يعود على شيء قبله ، وأن يعمر بدل منه وهو مفسر . وأجاز أبو علي الفارسي في الحلبيات أن يكون هو ضمير الشأن ، وهذا ميل منه إلى مذهب الكوفيين ، وهو أن مفسر ضمير الشأن ، وهو المسمى عندهم بالمجهول ، يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسناداً معنوياً نحو : ظننته قائماً زيد ، وما هو بقائم زيد ، فهو مبتدأ ضمير مجهول عندهم ، وبقائم في موضع الخبر ، وزيد فاعل بقائم . وكان المعنى عندهم : ما هو يقوم زيد ، ولذلك أعربوا في : ظننته قائماً زيد ، الهاء ضمير المجهول ، وهي مفعول ظننت ، وقائماً المفعول الثاني ، وزيد فاعل بقائم . ولا يجوز في مذهب البصريين أن يفسر إلا بجملة مصرّح بجزأيها سالمة من حرف جر . قال ابن عطية ،

وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : هو عماد . انتهى كلامه ، ويحتاج إلى تفسير ، وذلك أن العماد في مذهب بعض الكوفيين يجوز أن يتقدّم مع الخبر على المبتدأ ، فإذا

قلت : ما زيد هو القائم ، جوّزوا أن تقول : ما هو القائم زيد . فتقدير الكلام عندهم ، وما تعميره هو بمزحزحه . ثم قدم الخبر مع العماد ، فجاء : وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، أي تعميره ، ولا يجوز ذلك عند البصريين ، لأن شرط الفصل عندهم أن يكون متوسطاً . وتلخص في هذا الضمير : أهو عائد على أحدهم ؟ أو على المصدر المفهوم من يعمر ؟ أو على ما بعده من قوله أن يعمر ؟ أو هو ضمير الشأن ؟ أو عماد ؟ أقوال خمسة ، أظهرها الأول .

{وَاللّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } : قرأ الجمهور يعملون بالياء ، على نسق الكلام السابق .

وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب بالتاء ، على سبيل الالتفات والخروج من العيبة إلى الخطاب . وهذه الجملة تتضمن التهديد والوعيد ، وأتى عنا بصفة بصير ، وإن كان اللّه تعالى متنزهاً عن الجارحة ، إعلاماً بأن علمه ، بجميع الأعمال ، علم إحاطة وإدراك للخفيات . وما : في بما ، موصولة ، والعائد محذوف ، أي يعملونه . وجوّزوا فيها أن تكون مصدرية أي بعملهم ، وأتى بصيغة المضارع ، وإن كان علمه تعالى محيطاً بأعمالهم السالفة والآتية لتواخي الفواصل .

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة الامتنان على بني إسرائيل وتذكارهم بنعم اللّه ، إذ آتى موسى التوراة المشتملة على الهدى والنور ، ووالى بعده بالرسل لتجديد دين اللّه وشرائعه ، وآتى عيسى الأمور الخارقة ، من إحياء الأموات ، وإبراء الأكمة والأبرص ، وإيجاد المخلوق ، ونفخ الروح فيه ، والإنباء بالمغيبات ، وغير ذلك . وأيده بمن ينزل الوحي على يديه ، وهو جبريل عليه السلام . ثم مع هذه المعجزات والنعم كانوا أبعد الناس عن قبول ما يأتيهم من عند اللّه ، وكانوا بحيث إذا جاءهم رسول بما لا يوافقهم ، بادروا إلى تكذيبه ، أو قتلوه ، وهم غير مكترثين بما يصدر منهم من الجرائم ، حتى حكي أنهم في أثر قتلهم الجماعة من الأنبياء ، تقوم سوق البقل بينهم ، التي هي أرذل الأسواق ، فكيف بالأسواق التي تباع فيها الأشياء النفيسة ؟ ثم نعى تعالى عليهم أنهم باقون على تلك العادة من تكذيب ما جاء من عند اللّه ، وإن كانوا قبل مجيئه به يذكرون أنه يأتيهم من عند اللّه . فحين وافاهم ما كانوا ينتظرونه ويعرفونه ، كفروا به ، فختم اللّه عليهم باللعنة . وأن سبب طردهم عن رحمة اللّه هو ما سبق من كفرهم ، وأن إيمانهم كان قليلاً ، إذ كانوا قبل مجيء الكتاب يؤمنون بأنه سيأتي كتاب . ثم أخذ في ذكر ذمهم ، أن باعوا أنفسهم

النفيسة بما يترتب لهم على كفرهم بآيات اللّه من المآكل والرّياسات المنقضية في الزمن اليسير ، وأن الحامل على ذلك هو البغي والحسد ، لأن اختص اللّه بفضله من شاء من عباده ، فلم يرضوا بحكمه ولا باختياره ، فباؤا بالغضب من اللّه ، وأعد لهم في الآخرة العذاب الذي يذلهم ويهينهم . إذ كان امتناعهم من الإيمان ، إنما هو للتكبر والحسد وعدم الرّضا بالقدر ، فناسب ذلك أن يعذبوا العذاب الذي فيه صغار لهم وذلة وإهانة .

ثم أخبر تعالى عنهم ، أنهم إذا عرض عليهم الإيمان بما أنزل اللّه ، أجابوا أنهم يؤمنون بالتوراة ، وأنهم يكفروا بما سواها . هذا والكتب المنزلة من عند اللّه سواء ، إذ كلها حق يصدق بعضها بعضاً . فالكفر ببعضها كفر بجميعها . ثم أخبر تعالى بكذبهم في قولهم : { نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } ، وذلك بأنهم قتلوا الأنبياء ، والتوراة ناطقة باتباع الأنبياء والاقتداء بهم ، فقد خالف قولهم فعلهم . ثم كرر عليهم ، توبيخاً لهم ، أن موسى الذي أنزل عليه التوراة ، وأنهم يزعمون أنهم آمنوا بها ، قد جاءهم بالأشيائ الواضحة والمعجزات الخارقة ، من نجاتهم من فرعون ، وفلق البحر وغير ذلك ، ومع ذلك ، اتخذوا من بعد ذهابه إلى مناجاة ربه إلهاً من أبعد الحيوان ذهناً وأبلدها ، وهو العجل المصنوع من حليهم ، المشاهد إنشاؤه وعمله ، وموسى لم يمت بعد ، وكتاب اللّه طري نزوله عليهم ، لم يتقادم عهده . وكرر تعالى ذكر رفع الطور عليهم ليقبلوا ما في التوراة ، وأمروا بالسمع والطاعة ، فأجابوا بالعصيان . هذا وهم ملجؤن إلى الإيمان ، أو كالملجئين ، لأن مثل هذا المزعج العظيم من رفع جبل عليهم ليشدخوا به جدير بأن يأتي الإنسان ما أمر به ، ويقبل ما كلف به من التكاليف . وتأبيهم لذلك ، وعدم قبولهم ، سببه أن عبادة العجل خامرت قلوبهم ومازجتها ، حتى لم تسمع قبولاً لشيء من الحق ، والقلب إذا امتلأ بحب شيء لم يسمع سواه ولم يصغ إلى ملام ، وأنشدوا : ملأت ببعض حبك كل قلبي

فإن ترد الزيادة هات قلبا

ثم ذمهم تعالى على ما أمرهم به إيمانهم ، ولا إيمان لهم حقيقة ، بل نسب ذلك إليهم ، على سبيل التهكم من عبادة العجل واتخاذه إلهاً من دون اللّه . ثم كذبهم في دعواهم أن الجنة هي خالصة لهم ، لا يدخلها أحد سواهم ، فأمرهم بتمني الموت ، لأن من اعتقد أنه يصير إلى سرور وحبور ولذة دائمة لا تنقضي ، يؤثر الوصول إلى ذلك ، وانقضاء ما هو فيه من الذلة والنكد . وأخبر تعالى أن تمني الموت لا يقع منهم أبداً ، وأن امتناعهم من ذلك هو بما قدّمت أيديهم من الجرائم ، فظهر كذبهم في دعواهم بأنهم أهل الجنة . ثم أخبر ترشيحاً لما قبله من عدم تمنيهم الموت ، أنهم أشدّ الناس حرصاً على حياة ، حتى أنهم أحرص من الذين لا يؤمنون بالدار الآخرة ، ولا يرجون ثواباً ، ولا يخافون عقاباً . ثم ذكر أن أحدهم يودّ أن يعمر ألف سنة ، ومع ذلك فتعميره ، وإن طال ، ليس بمنجيه من عذاب اللّه .

ثم ختم الآيات بأن اللّه تعالى مطلع على قبائح أفعالهم ، ومجازيهم عليها . وتبين بمجموع هذه الآيات ما جبل عليه اليهود من فرط كذبهم ، وتناقض أفعالهم وأقوالهم ، ونقص عقولهم ، وكثرة بهتهم ، أعاذنا اللّه من ذلك ، وسلك بنا أنهج المسلك .

﴿ ٩٦